ميشيل كيلو: السياسي
روائيًا..
قبل
حوالي ثلاثين عامًا، وكان يقترب من عمر الخمسين عامًا، كتب ميشيل كيلو روايتيْن: دير
الجسور و مزار الدبّ. مُطلقًا على كل منهما صفة: رواية قصيرة. لم تنشر
الرواية الأولى إلا بعد ثلاثين عامًا من كتابتها، أما الثانية فلا تزال مخطوطًا
تنقصه بعض الصفحات ضمن مخطوطات أخرى لم يتمكن قبل رحيله إتمام العمل على إعدادها
للنشر كما سبق وفعل مع كتابه: من الأمة إلى الطائفة، ومن قبله الكتاب الذي
نشر باسم مستعار: حوار حول سورية.
كما
لو أنه، بعد ثمانية عشر عامًا من انقلاب عسكري هيًا له وأراده صاحبه أن يكون
الانقلاب العسكري الأخير في تاريخ سورية، عثر على الشكل الأمثل للتعبير عما كان
يعيشه في ظل الدولة الأسدية: الرواية. لا كما فهمها ومارس كتابتها معظم من صاروا
منذ نيف وأربعة عقود يكتبون الرواية في عالمنا العربي اليوم، بل كما عرفناها في
مبدعات كبار الروائيين مشرقًا ومغربًا، أي بما هي تأمل في الطبيعة الإنسانية ضمن
سياق ما، لا كما يفعل العالم أو الفيلسوف، بل عبر السؤال والتحري والدهشة، أو إن
شئنا، بما هي الشكل الوحيد الذي يسعه أن يقول ما يريد الكاتب قوله.
دير
الجسور، هي رواية تقول الدولة الأمنية التي كان
حافظ الأسد يرسخ أسسها تدريجيًا والتي أراد ميشيل كيلو وهو يعيش في ظلها بل ويعاني،
مثله مثل ملايين السوريين، وقع قوانينها الخاصة على حياته مواطنًا، وفردًا حرًّا،
ومثقفًا..
وهي
رواية غير مسبوقة، شكلًا وموضوعًا وإنجازًا ، في الرواية العربية.
وتتجلى
فرادتها لا في موضوعها فحسب، أي عالم الدولة الأمنية، الأسدية خصوصًا بطبيعة
الحال، كبنية سياسية من خلال مناهجها وأساليب عملها وطرق تحقيق أهدافها، بل في
تصوير مادي لعالمها وتحليل نفسي للعاملين في خدمتها ولضحاياها بدا وكأنه حلقة
جهنمية مفرغة يتواجد فيها الجميع، الجلادون بإرادتهم، والضحايا على الرغم منهم،
ولا مناص من الخروج منها إلا بفعل تاريخي حقيقي، فاصل وقاطع.
في
بدء العالم كانت الكلمة، وفي بدء عالم الأمن الأسدي كان التقرير. لم يكن قبله شيء،
وسيصير بدء كل شيء. تسعة تقارير ترفع حسب التسلسل الهرمي في دولة الأمن بدءًا من
التقرير الذي أرسله المُخبر المُوكل بأحد باصات نقل المسافرين، أي التقرير الذي
ألمح إلى وجود المشكلة الأمنية الخطيرة، وانتهاء بتقرير لجنة الفرع الخاصة التي
تفصل كل عمليات التحقيق والوسائل المختلفة المستخدمة من ضروب فنون التعذيب فضلًا
على الإهانات للحصول على الاعترافات بما في ذلك دس بعض موظفي الأمن بين المتهمين
للحصول على المعلومات التي يرفضون تقديمها.
خُصِّصَ
لهذه التقارير ما يزيد قليلًا على خمس صفحات الرواية. أما صفحات القسم الثاني
والأخير منها فيشير عنوانها "من تحقيقات العقيد عاصي الخالد في بلدة دير
الجسور" إلى أنها غيض من فيض أو زبدة التحقيقات ذات الدلالة. لكن العقيد عاصي
الخالد سوف يتيح لنا من خلال تحقيقاته أن نشهد بصحبته وهو داخلها هذه الحلقة
الجهنمية المغلقة والمفرغة التي لن يتمكن من الخروج منها، شأنه في ذلك شأن رفاقه
جميعًا، على غير وعي منه ومنهم، كما ل أنها قدرهم إذ يحاولون التلاعب به وهم يجرون
ضحاياهم إلى داخلها. مهمته في دير الجسور التي لا تكاد لا توجد على خريطة البلاد
أن يدرس "الخلفيات ا لاجتماعية التي أنجبت واحدًا من عتاة المتآمرين، المدعو
عربي الجسري، والملقب بعرباوي".
سيكتشف
على غير انتظار أن هذا "العرباوي المتآمر" يتواجد في قرى وفي مدن أخرى.
يكاد أن يكون كائنًا غير منظور في بلد فُرِّغ من كل عنصر للحياة فيه.. لكنه وهو
يحاول وضع اليد عليه، لا يصل إلا إلى وضع يده على كيانه نفسه: يقول: "لأمرٍ
ما، كثَّفت صورة عربي أو العرباوي علاقتي بالفرع وبذاتي".. ثم يطرح السؤال
الذي سوف يودي به من حيث لا يدري إلى التهلكة: "هل تصدق، أنت المحقق العارف،
هذه الا ستمارات والأضابير؟ وهل تؤمن بصحة المعلومات التي تضمها؟ وهل تلخص استمارة
ما، كائنًا ما كان مبلغ كمالها ودقتها، حياة إنسان، وتبين مراحل عمره المختلفة وما
يعتنقه ويحمله أو لا يحمله من سير وتواريخ؟
لكنه
السؤال الوحيد الذي سيخرجه ربما، من هذه الحلقة الجهنمية المفرغة.. والذي سيحملنا،
نحن، على العمل للخروج منها..
** كلمة ألقيت في التأبين
الذي نظمته ندوة وطن التي بثت عبر اليوتوب يوم 26 حزيران/يونيو 2021.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire