سورية حسان عباس الموسيقية
بدرالدين عرودكي
لكي يقول سورية التاريخية وسورية اليوم معًا، اختار حسان عباس أن يضع
كتابًا حول موضوع يقولها بمنتهى البلاغة: الموسيقى التقليدية في سوريا، وهو
ما صار عنوان ومضمون كتابه الذي صدر عن منظمة اليونسكو قبل ما يقارب السنتين، في
إطار مشروعها الذي يستهدف "الصون
العاجل للتراث الثقافي السوري" تحت وطأة المأساة الكبرى التي تعيشها سورية
والسوريون والتي تعصف ببلادهم وبتراثهم المادي واللامادي. وهو موضوع استثنائي،
عابر للأزمنة، وللأمكنة، وللأنظمة السياسية، وللأيديولوجيات، بما أنه التعبير
الأسمى عن أعمق المشاعر الإنسانية روحًا ومادة. موضوع تفاعلي أيًا كانت طبيعته،
وعفوي لا يحتاج إلى اعتراف منظومة أو مؤسسة بما أنه يمس شغاف القلوب، البصيرة منها
بوجه خاص: ذلك أنه ، يؤثِّرُ ويتأثر، يُغْني ويَغْتَني، وينتهي إلى أن يجمع ولا
يفرِّق.
والحق أنه لم يكن ثمة أجمل من هذا الخيار للتعبير عن سمة جوهرية بل
ومركزية في التكوين التاريخي والإنساني لبلاد الشام. هذه المنطقة الجغرافية التي
عرفها العالم بوصفها مسقط رأس حضاراته على اختلافها وفي مقدمتها أول أبجدية في الكتابة، بل وكذلك أول مدونة موسيقية عرفتها الإنسانية حتى اليوم، بلاد الشام، أو سوريا
الطبيعية التي باتت سورية الحالية تقولها بقدر ما تمثلها: سمة التعددية الثقافية
التي تجلت عبر مختلف المراحل التاريخية سياسيًا من خلال الدول ــ المدن قبل آلاف
السنين، أو في طبيعة تكوين الإمبراطوريات ذاتها، الطارئة عليها أو المنطلقة منها،
وكذلك من خلال الشعوب العديدة التي لجأت إليها أو سكنتها في مراحل مختلفة من
التاريخ القديم والحديث، فصارت الثقافة والتقاليد التي حملوها معهم بعد تفاعلها مع
التقاليد والثقافة المحلية جزءًا من الثقافة السورية الأوسع والأشمل.
كثيرة هي الكتب أو الدراسات التي تناولت الموسيقى في سورية، إلا أنَّ معظمها كان يتناول إما هذا الضرب أو ذاك من الموسيقى الإتنية
أو الشعبية، أو كان أقرب إلى التوثيق التاريخي للموسيقيين، من ملحنين أو عازفين،
أو مغنيات ومغنين. ولعل أكثرها شمولًا في هذا المجال الكتاب الذي وضعه صميم الشريف
والذي يقول عنوانُهُ مضمونَه: الموسيقا في سورية، أعلام وتاريخ، الذي صدر
في عام 1991، وأعيدت طباعته في عام 2011. سوى أن كتاب حسان عباس كان يستهدف غرضًا
آخر يختلف كليًا عن محض أغراض التوثيق أو السير الذاتية أو الاقتصار على هذا النوع
أو ذاك من الموسيقى كالتي قدمتها الكتابات الأخرى. نحن هنا أمام عرضٍ للموسيقى في
ذاتها التي عرفتها سورية والتغيرات التي طرأت على ممارسات بعض ضروب منها، سواء من
خلال تجلياتها المختلفة كالموسيقى الدينية أو الموسيقى الإتنية، أو في ارتباطها مع
الغناء في أجناسه العديدة، أو مع الحياة الاجتماعية، أو مع العمل، أو مع ضروب
الرقص التي عرفتها سورية، وأخيرًا الآلات الموسيقية التي كانت تؤديها وصناعتها. ولأنه
عرضٌ مفصّلٌ تاريخي وتحليلي وتوثيقي في آن معًا، فإنه بات يؤلف سجلًّا غير مسبوق
لمجمل أنواع وقوالب الموسيقى والغناء التي عرفتها سورية خلال تاريخها الطويل.
هذا التنوع، ولاسيما في المجال الإتني، يلتقي ويمتزج في مواطن كثيرة
مع المجال الديني، ذلك أن "الموسيقى الدينية المسيحية للسريان ــ على سبيل
المثال ــ ليست موسيقى دينية فقط بل هي موسيقى إتنية أولًا، لأنها موسيقى الشعب
الآرامي الذي كان يسكن في سوريا الكبرى (سورية ولبنان وفلسطين والأردن) وهي موسيقى
دينية مسيحية سريانية، ثانيًا". ذلك يعني أن الموسيقى في سورية لم تكن على مرِّ
العصور تتماهى مع تاريخها وتاريخ السوريين منذ مئات السنين فحسب، بل كانت أيضًا ولا
تزال صورة تقولهم بما أنها طبق الأصل عنهم.
سنرى أن حسان عباس قد راعى في كتابه تقسيم فصوله حسب ضروب الموسيقى
الدينية، مسيحية وإسلامية، وكذلك حسب ضروب الموسيقى الإتنية، عربية وكردية
وإيزيدية وشركسية وأرمنية. على أننا سرعان
ما سنكتشف أن الإتني في الموسيقى لا يعني ــ في سورية خصوصًا وفي المشرق العربي عمومًا
ــ بأي حال انتماءً إلى عرق أو جنس محدد أيًا كان. إذ سرعان ما يردّنا الحديث عن
الموسيقى العربية على سبيل المثال إلى الأصول التي نهلت منها مقوّماتها والتي تمتد
في عمق التاريخ السوري، سواء على صعيد الآلات الموسيقية المستخدمة أو على صعيد طبيعة
الألحان التي تطورت واغتنت على مر العصور في الكنائس مثلما تنوعت في مختلف ميادين
الحياة الاجتماعية. يسري ذلك أيضًا على
الموسيقى السريانية التي أثرت في الموسيقى البيزنطية مثلما تأثرت بها من دون أن
تتماهى أي منهما في الأخرى. ولعل الأناشيد الدينية الإسلامية، من مدائح وموشحات
نبوية، سواء اقتصرت في أدائها على الصوت بمرافقة آلة موسيقية كالطبل أو الدف لتوقيع
الإيقاع أم لم تقتصر، كانت قد نهلت من التراث المحلي في حلب أو في دمشق، ولاسيما
التراتيل الكنسية الجماعية. لا بل إن
تلاوة القرآن خلال مختلف المناسبات الدينية أو الاجتماعية اعتمدت مقامات الموسيقى
الشرقية (نهاوند، صبا، حجاز) في أدائها التي كانت جودتها تتوقف على قدرة القراء
ومواهبهم، شأن أداء الأذان للصلاة الذي كان عدد كبير من المؤذنين الموهوبين
يتفنّنون في استخدام المقامات الموسيقية لأدائه، ومنهم مؤذنو الجامع الأموي بدمشق
الذين انفردوا بأداء الأذان الجماعي.
على أن تنوع الموسيقى في سورية لا يقتصر بطبيعة الحال على المجاليْن
الديني أو الإتني. ففيما وراءهما، إنما يتجلى التنوع في أبلغ معانيه وأكثرها ثراء عبر
استعراض قوالب الغناء الشعبي وتجلياته في مختلف المناطق السورية شرقأ وغربًا،
شمالًا وجنوبًا. ولا شك أن قوالب الغناء التسعة عشر التي يستعرضها الكتاب هي التي
تعبر عن أو تقول روح السوريين كالموال، والعتابا، والميجانا، والزجل، والنايل،
والسويحلي، والدلعونا، والروزانا، وياحنيّنا، وأبو الزلف وموليا، والهويدلي،
وعاللا لا ولالا ولالا، والهوليّة، والجوفية، والحداء، والسحجة أو الدحّة،
والزلغوطة/ والزغرودة، والفراقيات، والغناء الجزراوي. تنتشر هذه القوالب في مختلف
المناطق السورية التي يختص بعضها بهذا القالب أو ذاك. لكنها تجسِّد عمق فن بات صنو
السوريين وثقافتهم في الثراء وفي التنوع، وتعبيره البليغ عنهم. وعلى أن هذا التنوع
قد تعايش عبر العصور وحتى منتصف القرن العشرين مع تنوع الأديان والطوائف
والمعتقدات والإتنيات، إلا أنه، في جانب منه، لم يتمكن من الحفاظ على لون كان
السوريون يحرصون عليه، وهو الموال السياسي الذي
كان ــ كما يكتب حسان عباس ــ "شائعًا جدًّا في بدايات ومنتصف القرن العشرين،
وواكب الأحداث الخطيرة التي عرفتها سورية في تلك الأوقات، وخاصة في المرحلة
الديمقراطية (1954 ـ 1958). لكن في العقود الأخيرة، بدأ يتراجع بقوة، وازداد
تراجعه بدءًا من السبعينيات مع عملية سحب السياسة من الشارع"[1]. وحدها
خلال العصور كلها، عقود الاستبداد الأخيرة إذن هي التي قامت بالاعتداء، بين ما لا
يحصى من اعتداءاتها، على قريحة السوريين وعلى لون من ألوان إبداعهم الحر.
ذلك أن هذه الموسيقى بأنواعها وقوالبها المختلفة ترافق السوريين في
ميادين حياتهم اليومية كلها، الاجتماعية والدينية، مثلما تتواجد في احتفالاتهم
الخاصة والعامة. وكما يفصِّلُ حسان عباس في كتابه، من الكنيسة والمسجد والبيت حتى
الشوارع والأسواق، نرى تجسيد الموسيقى، آلة أو صوتًا، في بلد تعايشت فيه أديان
السوريين وطوائفهم ومذاهبهم وإتنياتهم على اختلافها قبل أن يخطف الاستبداد هذا
التعايش منهم، وقبل أن يعمل على تدمير بلدهم وتراثهم المادي وغير المادي.
من هنا أهمية هذا الكتاب الذي شارك حسان عباس فيه عدد من الموسيقيين
السوريين الذين ــ كما كتب ــ استجابوا لطلبه "بوضع دراساتهم الفريدة التي
أغنت هذا العمل، مثل خالد الجرماني الذي كتب عن الموسيقى العربية، وغني ميرزو الذي
كتب عن الموسيقى الكردية والموسيقى الإيزيدية، وفواز باقر الذي كتب عن صناعة
الآلات الموسيقية في سورية، ونوري إسكندر الذي كتب عن الموسيقى السريانية،
بالإضافة إلى المصور الفوتوغرافي هشام زعويط الذي أغنت صوره الكتاب".
** نشر هذا المقال في الكتاب الجماعي "حسان عباس بعيون معاصرة" بإشراف وتقديم الصديق فايز ساره، تكريمًا للدكتور حسان عباس، والذي صدر مؤخرًا.
[1] حسان
عباس، الموسيقا التقليدية في سوريا، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة،
اليونسكو 2018، ص. 135.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire