الجزائر، وعْدٌ جديد؟
بدرالدين عرودكي
حين
حذر أحمد أويحي، رئيس الوزراء الجزائري أمام نواب البرلمان من أن تؤول الأمور في
الجزائر كما آلت إليه في سورية قائلًا: "هكذا بدأت الأوضاع في سورية بالسلمية
والورد وانتهت بالدم"، كان يعلم تمام العلم من الذي بدأ بالورد ومن انتهى ــ
أو بالأحرى أمَرَ ــ بالدم. وحين ذكَّرَ وزير الدفاع الجزائري بفضيلة الاستقرار
والأمن الذي تنعم بهما الجزائر منذ سنوات الجمر، كان هو الآخر يعلم أن مطلب
الجماهير التي خرجت في معظم المدن الجزائرية يتجاوز الاستقرار والأمن الذي تعيشه
إلى ما يتوق إليه كل مواطن جزائري من ضرورة المشاركة الفعلية في تقرير أمور حياته
اليومية والمستقبلية. سوى أنهما كانا بذلك يؤكدان من حيث لا يريدان ما أثبتته هذه السنوات
الثماني منذ أن أضرم بوعزيزي بتونس النار في نفسه مُطلِقًا، هو الآخر من حيث لا
يدري، شرارات الحراك الثوري العربي بدءًا من تونس وليس انتهاء بسورية. ولابد أن
الذين سارعوا قبل أسابيع، على غرار الأمين العام للجامعة العربية، إلى إعلان الربيع
العربي "مسؤولًا عن تدمير الدول العربية وقتل مئات الألاف من العرب" بقفزهم
البهلواني على وقائع التاريخ ودلالات أحداثه، وكانوا يُعبّرون بالتالي عن فرحتهم
بـ"انتهائه"، يجدون أنفسهم مرة أخرى في مواجهة استمرار هذا الحراك
العربي، في السودان ثم اليوم في الجزائر. لم ينتبه هؤلاء إلى أن القاسم المشترك
الأعظم بين البلدان العربية، على خصوصية كل منها، هو هذه السلطة الاستبدادية التي
تمارَسُ صراحة أو تتستر بلباس الدين أو التراث أو تتخذ لها وجه شخصية ذات تاريخ
وإنجاز بعد فقدانه القدرة على المبادرة والقيادة.
ما
يحدث في الجزائر اليوم، على خصوصية هذا البلد العربي، أيًا كان المآل الذي اخذت
الأصوات "الخبيرة" في فرنسا خصوصًا في تحديد معالمه "السلبية"
ما إن بدأ، يذكّر، إن نفعت الذكرى، بأن ما انطلق قبل ثماني سنوات لم ينته بعد،
لاسيما وأن أحد دروس الثورات في التاريخ، التي يتجاهلها الكثيرون كما يبدو، يقول إن
أعمارها لا تقاس بأعمار من يقوم بها، وأن لكلٍّ منها قوانينها ومعاييرها المستمدة
من ثقافة المجتمعات التي تنطلق فيها وشروطها الموضوعية.
فالجزائر
التي نالت استقلالها بعد مائة وثلاثين عامًا من الاحتلال والاستيطان ومحاولات الفرْنَسَة
لقاء ثورات متوالية دفعت خلالها مليونًا من الشهداء، وبدت بلدًا واعدًا في المنطقة
العربية والأفريقية بما تملكه من ثروات ومصادر طبيعية وبنى تحتية متطورة وثروات
بشرية ونخب قيادية، سارت على ذات الدروب التي سلكتها من قبلها بلدان عربية أخرى.
وكما خرج شباب تونس وسورية ومصر وليبيا واليمن يطالبون بنهاية الاستبداد وعهود
التوريث والجمهوريات المزيفة، كذلك يخرج شباب الجزائر اليوم كي يعلن من خلال رفض
العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة رفض النظام الذي أدى إلى أن تكون ثمة عهدة ثالثة
ورابعة وربما خامسة، لاسيما وأن الجيل الذي خرج يطالب بالتغيير لم يعرف غير هذا
النظام وهذا الرئيس.
ذلك
أن ما توحي به المظاهر المتمثلة في تعددية القوى السياسية وحرية الصحافة والفرص
المتاحة من أجل الترشح لرئاسة الجمهورية، على سبيل المثال لا الحصر، لم تعد تقنع
هذا الجيل الشاب الذي بات يؤلف ما يقارب نصف سكان الجزائر اليوم الذين نيَّفَ عددهم
على الأربعين مليوناً. وأخالُ أن من خرج منهم في هذه المظاهرات منادين بإلغاء
العهدة الخامسة يطرحون سؤالًا ينطوي على نصف الإجابة كما يقال: من يتكلم باسم من؟ ولماذا التركيز على شخص
بوتفليقة ثم الوعد بدعوة سريعة إلى انتخابات رئاسية من دون مشاركته؟ هل هو،
شخصيًّا، المشكلة فعلًا؟ لنلاحظ أن أحدًا لم ينادِ بسقوطه. إذ أن الجزائريين
يذكرون له أنه وضع في بداية عهدته الأولى حدًّا لسنوات الجمر التي ذكَّر بها وزير
الدفاع مؤخرًا، لكنهم بالمقابل يعرفون جميعًا أنه لم يعد قادرًا صحيًا على القيام
بمهماته، وأن استخدام حضوره من قبل من يمسكون بزمام السلطة الحقيقية عبر صورته، لا
يسيء له ولتاريخه فحسب بل يسيء أيضًا للجزائريين جميعًا بما يعنيه هذا الترشيح
الصوري من استخفافٍ بعقولهم وبإراداتهم. وهو استخفاف رد عليه المتظاهرون بالإصرار
على إلغاء العهدة الخامسة رغم الوعد بانتخابات جديدة خلال أقل من عام. ردٌّ أنيق
على مناورة تنضح إساءة أخرى للرجل ولتاريخه.
على
أن التساؤل مع ذلك، لن يقتصر الآن، في ضوء تصريحات رئيس الوزراء أو وزير الدفاع، على
طبيعة استجابة النظام القائم لمطالب يتم التعبير عنها من خلال مظاهرات سلمية تعَبِّرُ
بحرية عن مطالب المشاركين فيها. فالخيارات التي يفرضها الطرف الأقوى عادة ليست
كثيرة بعد مفاجأة المظاهرات التي لم يكن أحدٌ من الفاعلين في الفضاء السياسي
الجزائري يتوقعها بمثل هذه الكثافة وهذا الإصرار. لكن لابدّ لأي منها من أن يأخذ
بعين الاعتبار، بصورة أو بأخرى، مطالب شعب آن له أن يعيش استقلاله في البلد الذي
لم يتوقف عن التضحية من أجل كرامته فيه طوال ما يقارب القرنيْن. لكن ذلك يتطلب
سرعة القرار والمبادرة. إذ أن هناك من يمكن في الداخل أن يعمل على الاستثمار في
المظاهرات لمصالح آنية وضيقة؛ وهناك أيضًا من يمكن أن يدفع بها وبمطالبها في اتجاه
أو أكثر يختلف جذريًا عن ذلك الذي اتخذته حتى الآن سلوكًا وشعارات ومطالب. كما أنه
لا يمكن، من ناحية أخرى، تصوُّر أن تبقى القوى الإقليمية والدولية مكتوفة الأيدي
وأن تتلافى التدخل بصورة أو بأخرى في ما يجري على الأرض الجزائرية رغم معرفتها
المسبقة بحساسية الجزائريين، سلطة وشعبًا، إزاء كل تدخل أجنبي بشؤونهم. فهناك مِنْ
بينها من يخشى المآل الأسوأ لما يجري، وخصوصًا في فرنسا، خوفًا من موجات هجرة على
غير انتظار؛ وهناك من بدأ العمل حثيثًا للحيلولة دون وقوع ما يخل بالتوازن
الجغرافي السياسي نظرًا إلى موقع الجزائر الهام متوسطيًا وأفريقيًا وعربيًا.
يبقى
أن حلًا يقوم على هدي ما اختارته الثورات المضادة في البلدان العربية الأخرى،
ويستهدف القفز على المطلب الأساس لهذه الأجيال الشابة التي خرجت متظاهرة تعلن
رفضها العهدة الخامسة بكل ما تعنيه، يمكن أن يرتدَّ آجلًا أو عاجلًا وبالًا على من
يتبناه.
يذكر التاريخ أن الجزائر هي البلد العربي الوحيد
الذي استطاع شعبه بقواه وبإرادته وبتضحياته التحرّرَ من احتلال استيطاني دام ثلاثة
عشر عقدًا من السنين. وإذا كان الأمل الذي ولد لدى الجزائريين يوم خرجوا يرقصون مع
إعلان الاستقلال فرحًا به، قد تضاءل حتى تلاشى، فإنه يعود مع هذه المظاهرات
الغاضبة من جديد أكثر نبضًا بالحياة بعد ضروب المعاناة التي عاشها الجزائريون في
بلد يملك على الصُّعد كلها كل ما هو ضروري لكي ينعم بالكرامة والحياة النبيلة. ومن
يدري، لعل شعلة الربيع العربي تبرهن لكل من كان أعمى البصر والبصيرة أن منطلقها
كان ولا يزال بناء الحياة التي تليق بالعربي، وأن التدمير لم يأت إلا من أعداء هذه
الحياة.
** نشر على موقع جيرون يوم الخميس
7 آذار/مارس 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire