samedi 30 mars 2019


حول السوريين والهجرة

 بدرالدين عرودكي

  


1.    لماذا اخترتم باريس؟ وكيف قررتم الهجرة؟

الواقع أنني لم أقرر الهجرة إلى باريس في البداية. كانت الذهاب إليها ومتابعة التحصيل العلمي فيها حلمًا راودني منذ نهاية دراستي الثانوية دون التفكير بالهجرة أو بالإقامة فيها نهائيًا. لكنني لم أتمكن من تحقيقه إلا بعد نهاية دراساتي الجامعية في الحقوق والآداب بجامعة دمشق، حين قبلت في بعثة إلى باريس للحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع ومن ثم العودة للتدريس في الجامعة التي درستُ فيها. لكنني مع مرور السنوات (وكان ذلك في مطلع السبعينيات) كنت أتابع كيف كان رعيل الأساتذة الكبار الذين كانوا لا يزالون يعملون فيها يعانون المرّ بسبب هيمنة أجهزة الأمن المتزايدة على عملهم وعلى مجمل الحياة الجامعية، وهو ما كان ينعكس تدهورًا مستمرًّا في مستوى التعليم الجامعي ويعني لي أن الطريقة التي كنت أنوي ممارسة تدريس علم الاجتماع فيها سوف تواجَه قطعًا بالرفض ــ كما أكَّدَ لي أحد كبار أساتذتي في قسم الفلسفة، نظرًا لأن مفهوم التعليم في مجال هذه المادة كان مقتصرًا على مجال الدراسات النظرية والتاريخية دون تجاوزها إلى مجال الدراسات التطبيقية التي لن يُسمح بها على أية حال. ولذلك ما إن حصلت على درجة الدكتوراه التي أوفدت من أجلها حتى طلبت إجازة دراسية لمتابعة دراسة ابنتي البالغة من العمر آنئذ عشر سنوات والتي قبلت يومئذ في المعهد الوطني العالي للموسيقى (كونسرفاتوار) بباريس لمتابعة دراسة العزف على البيانو. وحين رفض طلبي، اعتذرت عن العودة وسددت للحكومة التي أوفدتني ضعف ما صرف عليَّ أثناء دراستي، مستعيدًا بذلك حريتي من الالتزام بالعودة للتدريس، ومن ثمَّ البقاء بباريس..

2.    هل كانت باريس عاصمة جاذبة للمثقفين السوريين في القرن الماضي؟ لماذا؟ 

لم تكن باريس تجذب المثقفين السوريين وحدهم بل المثقفين من كل أنحاء العالم. لنذكر كيف أن كبار الكتاب الأمريكيين في بدايات القرن الماضي، ومنهم مثلًا إرنست همنغواي وهنري ميللر وتوماس وولف، كانوا يعتبرون الحج إلى باريس والعيش فيها فترة من الزمن ضرورة لا غنى عنها لتنمية تجربتهم في الكتابة والثقافة والحياة. لقد جذبت باريس بوصفها كما اشتهرت "عاصمة النور" الكثير من المثقفين أو طلبة الدراسات العليا من السوريين منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فمنهم من درس الفلسفة ومنهم من درس الاجتماع أو الفنون المسرحية أو السينما.. وكانوا عند عودتهم إلى سورية يؤلفون نخبة المثقفين والمبدعين فيها. ذلك أن ما تتيحه باريس لا يقتصر على الانفتاح على ثقافات العالم كله فحسب بل كذلك اللقاء بكل من يعيش فيها من أبناء الثقافات الأخرى جزءاً من حياته، وبالتالي الاغتناء بتجاربهم وبأفكارهم وبإبداعاتهم.  

3.    كيف تلخصون تجربتكم في باريس، وكيف تصفون الجالية السورية هناك (الفئة المثقفة، والفئة المرغمة على اللجوء هربا من ويلات الحرب)

لا أظن أن تجربتي تختلف في خطوطها العامة عن تجربة سواي من السوريين. كانت السنوات الثلاث الأولى من إقامتي بباريس شديدة الصعوبة ماديًّا ومعنويًّا، هذا على الرغم من أنني كنت آنئذ أتكلم الفرنسية نسبيًا وسبق لي أن زرت باريس قبل انتقالي إليها للدراسة. وعلى أني قررت الانصراف كليًا إلى الدراسة مما جعلني أنجز منذ السنة الأولى لوصولي الرسالة الضرورية للحصول على ما يعادل الماجستير في علم الاجتماع، وأن أنجز في نهاية السنة الثانية دبلوم الدراسات المعمقة الذي سمح لي بالتسجيل لنيل الدكتوراه تحت إشراف جاك بيرك الذي كنت أتابع دروسه في الكوليج دو فرانس منذ وصولي باريس، إلا أنني تابعت نشاطًا آخر خارج الدراسة وهو متابعة فعاليات الحياة الثقافية بباريس وكتابة الرسالة الثقافية الشهرية التي كان صاحب دار الآداب ورئيس تحرير مجلتها ببيروت قد كلفني بها مثلما كلفني في الوقت نفسه بترجمة كتاب لأنور عبد الملك نشره في عام 1974. كانت الدراسة والكتابة والترجمة تتقاسم حياتي اليومية حتى حصولي على الدكتوراه في عام 1981، وهي السنة التي قررت خلالها البقاء بباريس والعمل في المجال الصحفي مع تأسيس مجلة اليوم السابع الأسبوعية، وفي المجال الثقافي خصوصًا إثر التحاقي للعمل بمعهد العالم العربي الذي عملت فيه تسعة وعشرين عامًا من ناحية، مع الاستمرار في الكتابة وفي الترجمة جنبًا إلى جنب، من ناحية أخرى.
كان معظم السوريين المتواجدين بباريس حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي مقتصرًا بصورة عامة على طلبة الدراسات العليا خصوصًا وعلى كبار التجار الذين كانوا قد غادروا سورية إلى بيروت أولًا بعد قرارات التأميم أثناء الوحدة السورية المصرية ثم اضطروا إلى مغادرتها بعد بدء الحرب الأهلية عام 1975 إلى المغرب الأقصى أو إلى باريس. لم يكن بالوسع الحديث عن "جالية" سورية منظمة بباريس آنئذ. كان الطلبة السوريون ينخرطون في نشاطات ثقافية واجتماعية مختلفة لم تكن بالضرورة قاصرة على السوريين وحدهم، وكان في مقدمتها العمل من أجل القضية الفلسطينية على سبيل المثال. كان عدد من هؤلاء الطلبة قد قرر البقاء في فرنسا مع نهاية السبعينيات فعمل بعضهم في الجامعات الفرنسية، وبعضهم الآخر في مؤسسات ثقافية مختلفة، ونشط عدد كبير منهم، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في التعبير ثقافيًا عن أنفسهم من خلال ناد ثقافي كان إطارًا ينظمون من خلاله الأنشطة الاجتماعية أو الثقافية كالأمسيات الشعرية أو المحاضرات..
بعد قيام الثورة السورية واضطرار ملايين السوريين إلى النزوح أو الهجرة، ازداد بالطبع عدد السوريين الذين قدموا إلى فرنسا. سوى أنهم، بفعل صفتهم كلاجئين، لم يتواجدوا بالضرورة بباريس بل اضطروا إلى الإقامة بعيدًا عنها في المدن الفرنسية الأخرى. ومع قيام الثورة عام 2011، أخذ نشاط السوريين بباريس ولاسيما بفضل الوافدين الجدد، وبعضهم من العاملين في مختلف المجالات الفنية كالمسرح والفن التشكيلي والسينما.. بالازدياد وبالتنوع: من الندوات إلى المحاضرات إلى المعارض إلى العروض السينمائية.. إلخ. ولاشك أن الثيمة الطاغية كانت ثيمة الحدث السوري في جوانبه المختلفة: الاستبداد والقمع والقتل والنزوح والتهجير والتدمير..

4.    هل ما زال المشهد الثقافي السوري في باريس كما كان عليه في السابق؟

لا يزال موجودًا بل وأكثر من أي وقت مضى ولكن ــ كما أرى ــ مع كثير من الاختلاف في طبيعة الفعاليات والنشاطات التي  نظمت ولا تزال تنظم نتيجة الثورة ومآلات الحدث السوري منذ ثمانية سنوات. ولا ننسَ أن باريس عاصمة كبرى للثقافة العالمية.. ومن الطبيعي أن تبدو أية فعالية، مهما كبر حجمها، ضئيلة بالنسبة إلى مجموع ما يبرز ضمن المشهد الثقافي الباريسي يوميًا. لكن السوريين والفرنسيين المتعاطفين مع الشعب السوري باتوا يعرفون عناوين هذه النشاطات التي كان آخرها معرض فني كبير شارك فيه عشرون فنانًا سوريًا تدور مبدعاته كلها حول المأساة السورية، وحمل عنوان "أين بيت صديقي"..

5.    قبل بدء النزاع السوري، كانت هجرة السوريين عادة ضمن شريحة المثقفين والمفكرين، هجرة العقول. وشريحة كبيرة من الذين قرروا الهجرة استقروا في باريس، وقد تكون تحولت خلال القرن الماضي إلى عاصمة الثقافة السورية في المهجر. بعد بدء النزاع السوري، زادت موجة اللجوء، وتوزع السوريون بين دول العالم. يعيش اليوم ٣٦ الفا منهم في برلين. وعندما زرت برلين آخر العام الماضي، وقابلت مجموعة من المثقفين والناشرين والفنانين، شعرت بأن برلين قد تكون اصبحت هي عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد، عوضا عن باريس. هل تتفقون مع هذه الفرضية ؟ ولماذا؟

لا يمكن القول إن "برلين قد تكون أصبحت عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد عوضًا عن باريس". ذلك أن  باريس تبقى ملتقى معظم ثقافات العالم ومنها السورية بالطبع. أرى أن من الأفضل القول إن برلين أصبحت عاصمة أخرى وكبيرة للثقافة السورية في المهجر. وذلك بكل تأكيد نتيجة العديد من الفعاليات والنشاطات التي ينظمها السوريون بدعم ومشاركة من المؤسسات الألمانية وكل المتعاطفين مع قضية الشعب السوري، وربما أيضًا وكما لاحظت لأن كثرة من المؤسسات السورية غير المتواجدة في ألمانيا بالضرورة تعمل على تنظيم العديد من نشاطاتها ذات الصبغة الدولية (كالندوات الكبرى أو المؤتمرات) ببرلين وذلك لانخفاض كلفة مختلف جوانب التنظيم ببرلين عما هي عليه بباريس.

** تحقيق رنيم حنوش عن السوريين والهجرة نشر مختصرًا في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 30 آذار/مارس 2019.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire