samedi 30 mars 2019


حول السوريين والهجرة

 بدرالدين عرودكي

  


1.    لماذا اخترتم باريس؟ وكيف قررتم الهجرة؟

الواقع أنني لم أقرر الهجرة إلى باريس في البداية. كانت الذهاب إليها ومتابعة التحصيل العلمي فيها حلمًا راودني منذ نهاية دراستي الثانوية دون التفكير بالهجرة أو بالإقامة فيها نهائيًا. لكنني لم أتمكن من تحقيقه إلا بعد نهاية دراساتي الجامعية في الحقوق والآداب بجامعة دمشق، حين قبلت في بعثة إلى باريس للحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع ومن ثم العودة للتدريس في الجامعة التي درستُ فيها. لكنني مع مرور السنوات (وكان ذلك في مطلع السبعينيات) كنت أتابع كيف كان رعيل الأساتذة الكبار الذين كانوا لا يزالون يعملون فيها يعانون المرّ بسبب هيمنة أجهزة الأمن المتزايدة على عملهم وعلى مجمل الحياة الجامعية، وهو ما كان ينعكس تدهورًا مستمرًّا في مستوى التعليم الجامعي ويعني لي أن الطريقة التي كنت أنوي ممارسة تدريس علم الاجتماع فيها سوف تواجَه قطعًا بالرفض ــ كما أكَّدَ لي أحد كبار أساتذتي في قسم الفلسفة، نظرًا لأن مفهوم التعليم في مجال هذه المادة كان مقتصرًا على مجال الدراسات النظرية والتاريخية دون تجاوزها إلى مجال الدراسات التطبيقية التي لن يُسمح بها على أية حال. ولذلك ما إن حصلت على درجة الدكتوراه التي أوفدت من أجلها حتى طلبت إجازة دراسية لمتابعة دراسة ابنتي البالغة من العمر آنئذ عشر سنوات والتي قبلت يومئذ في المعهد الوطني العالي للموسيقى (كونسرفاتوار) بباريس لمتابعة دراسة العزف على البيانو. وحين رفض طلبي، اعتذرت عن العودة وسددت للحكومة التي أوفدتني ضعف ما صرف عليَّ أثناء دراستي، مستعيدًا بذلك حريتي من الالتزام بالعودة للتدريس، ومن ثمَّ البقاء بباريس..

2.    هل كانت باريس عاصمة جاذبة للمثقفين السوريين في القرن الماضي؟ لماذا؟ 

لم تكن باريس تجذب المثقفين السوريين وحدهم بل المثقفين من كل أنحاء العالم. لنذكر كيف أن كبار الكتاب الأمريكيين في بدايات القرن الماضي، ومنهم مثلًا إرنست همنغواي وهنري ميللر وتوماس وولف، كانوا يعتبرون الحج إلى باريس والعيش فيها فترة من الزمن ضرورة لا غنى عنها لتنمية تجربتهم في الكتابة والثقافة والحياة. لقد جذبت باريس بوصفها كما اشتهرت "عاصمة النور" الكثير من المثقفين أو طلبة الدراسات العليا من السوريين منذ ثلاثينيات القرن الماضي. فمنهم من درس الفلسفة ومنهم من درس الاجتماع أو الفنون المسرحية أو السينما.. وكانوا عند عودتهم إلى سورية يؤلفون نخبة المثقفين والمبدعين فيها. ذلك أن ما تتيحه باريس لا يقتصر على الانفتاح على ثقافات العالم كله فحسب بل كذلك اللقاء بكل من يعيش فيها من أبناء الثقافات الأخرى جزءاً من حياته، وبالتالي الاغتناء بتجاربهم وبأفكارهم وبإبداعاتهم.  

3.    كيف تلخصون تجربتكم في باريس، وكيف تصفون الجالية السورية هناك (الفئة المثقفة، والفئة المرغمة على اللجوء هربا من ويلات الحرب)

لا أظن أن تجربتي تختلف في خطوطها العامة عن تجربة سواي من السوريين. كانت السنوات الثلاث الأولى من إقامتي بباريس شديدة الصعوبة ماديًّا ومعنويًّا، هذا على الرغم من أنني كنت آنئذ أتكلم الفرنسية نسبيًا وسبق لي أن زرت باريس قبل انتقالي إليها للدراسة. وعلى أني قررت الانصراف كليًا إلى الدراسة مما جعلني أنجز منذ السنة الأولى لوصولي الرسالة الضرورية للحصول على ما يعادل الماجستير في علم الاجتماع، وأن أنجز في نهاية السنة الثانية دبلوم الدراسات المعمقة الذي سمح لي بالتسجيل لنيل الدكتوراه تحت إشراف جاك بيرك الذي كنت أتابع دروسه في الكوليج دو فرانس منذ وصولي باريس، إلا أنني تابعت نشاطًا آخر خارج الدراسة وهو متابعة فعاليات الحياة الثقافية بباريس وكتابة الرسالة الثقافية الشهرية التي كان صاحب دار الآداب ورئيس تحرير مجلتها ببيروت قد كلفني بها مثلما كلفني في الوقت نفسه بترجمة كتاب لأنور عبد الملك نشره في عام 1974. كانت الدراسة والكتابة والترجمة تتقاسم حياتي اليومية حتى حصولي على الدكتوراه في عام 1981، وهي السنة التي قررت خلالها البقاء بباريس والعمل في المجال الصحفي مع تأسيس مجلة اليوم السابع الأسبوعية، وفي المجال الثقافي خصوصًا إثر التحاقي للعمل بمعهد العالم العربي الذي عملت فيه تسعة وعشرين عامًا من ناحية، مع الاستمرار في الكتابة وفي الترجمة جنبًا إلى جنب، من ناحية أخرى.
كان معظم السوريين المتواجدين بباريس حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي مقتصرًا بصورة عامة على طلبة الدراسات العليا خصوصًا وعلى كبار التجار الذين كانوا قد غادروا سورية إلى بيروت أولًا بعد قرارات التأميم أثناء الوحدة السورية المصرية ثم اضطروا إلى مغادرتها بعد بدء الحرب الأهلية عام 1975 إلى المغرب الأقصى أو إلى باريس. لم يكن بالوسع الحديث عن "جالية" سورية منظمة بباريس آنئذ. كان الطلبة السوريون ينخرطون في نشاطات ثقافية واجتماعية مختلفة لم تكن بالضرورة قاصرة على السوريين وحدهم، وكان في مقدمتها العمل من أجل القضية الفلسطينية على سبيل المثال. كان عدد من هؤلاء الطلبة قد قرر البقاء في فرنسا مع نهاية السبعينيات فعمل بعضهم في الجامعات الفرنسية، وبعضهم الآخر في مؤسسات ثقافية مختلفة، ونشط عدد كبير منهم، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في التعبير ثقافيًا عن أنفسهم من خلال ناد ثقافي كان إطارًا ينظمون من خلاله الأنشطة الاجتماعية أو الثقافية كالأمسيات الشعرية أو المحاضرات..
بعد قيام الثورة السورية واضطرار ملايين السوريين إلى النزوح أو الهجرة، ازداد بالطبع عدد السوريين الذين قدموا إلى فرنسا. سوى أنهم، بفعل صفتهم كلاجئين، لم يتواجدوا بالضرورة بباريس بل اضطروا إلى الإقامة بعيدًا عنها في المدن الفرنسية الأخرى. ومع قيام الثورة عام 2011، أخذ نشاط السوريين بباريس ولاسيما بفضل الوافدين الجدد، وبعضهم من العاملين في مختلف المجالات الفنية كالمسرح والفن التشكيلي والسينما.. بالازدياد وبالتنوع: من الندوات إلى المحاضرات إلى المعارض إلى العروض السينمائية.. إلخ. ولاشك أن الثيمة الطاغية كانت ثيمة الحدث السوري في جوانبه المختلفة: الاستبداد والقمع والقتل والنزوح والتهجير والتدمير..

4.    هل ما زال المشهد الثقافي السوري في باريس كما كان عليه في السابق؟

لا يزال موجودًا بل وأكثر من أي وقت مضى ولكن ــ كما أرى ــ مع كثير من الاختلاف في طبيعة الفعاليات والنشاطات التي  نظمت ولا تزال تنظم نتيجة الثورة ومآلات الحدث السوري منذ ثمانية سنوات. ولا ننسَ أن باريس عاصمة كبرى للثقافة العالمية.. ومن الطبيعي أن تبدو أية فعالية، مهما كبر حجمها، ضئيلة بالنسبة إلى مجموع ما يبرز ضمن المشهد الثقافي الباريسي يوميًا. لكن السوريين والفرنسيين المتعاطفين مع الشعب السوري باتوا يعرفون عناوين هذه النشاطات التي كان آخرها معرض فني كبير شارك فيه عشرون فنانًا سوريًا تدور مبدعاته كلها حول المأساة السورية، وحمل عنوان "أين بيت صديقي"..

5.    قبل بدء النزاع السوري، كانت هجرة السوريين عادة ضمن شريحة المثقفين والمفكرين، هجرة العقول. وشريحة كبيرة من الذين قرروا الهجرة استقروا في باريس، وقد تكون تحولت خلال القرن الماضي إلى عاصمة الثقافة السورية في المهجر. بعد بدء النزاع السوري، زادت موجة اللجوء، وتوزع السوريون بين دول العالم. يعيش اليوم ٣٦ الفا منهم في برلين. وعندما زرت برلين آخر العام الماضي، وقابلت مجموعة من المثقفين والناشرين والفنانين، شعرت بأن برلين قد تكون اصبحت هي عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد، عوضا عن باريس. هل تتفقون مع هذه الفرضية ؟ ولماذا؟

لا يمكن القول إن "برلين قد تكون أصبحت عاصمة الثقافة السورية في المهجر الجديد عوضًا عن باريس". ذلك أن  باريس تبقى ملتقى معظم ثقافات العالم ومنها السورية بالطبع. أرى أن من الأفضل القول إن برلين أصبحت عاصمة أخرى وكبيرة للثقافة السورية في المهجر. وذلك بكل تأكيد نتيجة العديد من الفعاليات والنشاطات التي ينظمها السوريون بدعم ومشاركة من المؤسسات الألمانية وكل المتعاطفين مع قضية الشعب السوري، وربما أيضًا وكما لاحظت لأن كثرة من المؤسسات السورية غير المتواجدة في ألمانيا بالضرورة تعمل على تنظيم العديد من نشاطاتها ذات الصبغة الدولية (كالندوات الكبرى أو المؤتمرات) ببرلين وذلك لانخفاض كلفة مختلف جوانب التنظيم ببرلين عما هي عليه بباريس.

** تحقيق رنيم حنوش عن السوريين والهجرة نشر مختصرًا في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 30 آذار/مارس 2019.



jeudi 21 mars 2019



في انتظار موسم الحصاد 
بدرالدين عرودكي 
لم تكن صدفة، وقبل أن تحلّ الذكرى الثامنة لانطلاق ثورات الربيع العربي، أن تكثر الأحاديث والتصريحات والمقالات "التحليلية" حول نهاية هذا الربيع الذي أدّى في نظر أصحابها إلى "التدمير والفوضى التي تُرَى اليوم ماثلة في سورية وليبيا واليمن". كما لو أن جميع الناطقين باسم الثورات المضادة كانوا يتهيأون للاحتفال بتثبيت جرائم أسيادهم. لكن جماهير السودان، ثم جماهير الجزائر، لم تسعفهم حين بدَّدت آمالهم في هذا المشروع فخرجت تنادي بنهاية النظام هنا أو تعلن رفضها العهدة الخامسة هناك، معلنة بذلك، على غير انتظار من هؤلاء، أن الربيع العربي لا يزال قائمًا بل ولا يزال مزهرًا، وكذلك حين حملت السلطة في كلٍّ من البلدين على اللجوء إلى التهويل بما جرى في سورية أو على التذكير بمآل الشعوب التي تخرج عن طاعة حكامها إلى الدمار والتشريد. وكما جرى من قبل في بلدان الربيع العربي قبل ثماني سنوات، حاولت السلطة الحاكمة في الجزائر كما في السودان، بالحيلة عبر استجابة شكلية تارة، أو بالوعيد وبالتهديد عبر إعلان حالة الطوارئ تارة أخرى، امتصاص الغضب الشعبي. لكنها في البلدين لم تنجح، حتى الآن، في ترسيخ فكرة "مؤامرة خارجية" وراء هذه الاحتجاجات. وهو ما حمل روسيا التي عرف السوريون دورها المجرم وشبه الحاسم في خنق ثورتهم باسم الشرعية ومكافحة الإرهاب، أن تهرع إلى تكرار الأغنية المملة حول "الاستقرار" في ظل سلطات الاستبداد حين صرَّحَ وزير خارجيتها بما لم تجرؤ حتى سلطات البلد ذاتها التصريح به، قائلًا إن روسيا ترى في احتجاجات الشعب الجزائري "محاولة لزعزعة استقرار البلاد". وهكذا، مع استحالة اتهام المتآمرين الخارجيين، لم يبق أمام الآخرين خصوصًا سوى اتهام الشعب نفسه بالتآمر وتأليب السلطة الحاكمة عليه!
لا يمكن لمثل هذا التصريح الصفيق أن يثير سوى السخرية والغضب في آن واحد لدى شعب يعرف موقعه من ومقامه في تاريخ نضال الشعوب من أجل حريتها. لكن المشكلة الحقيقية تتجسَّدُ مكان آخر: في عزوف سلطات البلدين، على غرار سلطات بقية بلدان الربيع العربي، عن رؤية حقيقة دامغة وماثلة للعيان: وهي أن الثورات العربية التي انطلقت قبل ثمانية سنوات لم تؤتِ أكُلها بعد. هذا يعني أنها لم تنتهِ بعد، رغم كل المظاهر التي يُرادُ لها، بتسليط الضوء عليها حصرًا، أن تثبت عكس ذلك.
لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن يكثر الحديث عن نهاية الربيع العربي من خلال التنديد به، أو عبر اعتباره مؤامرة شاركت في تدبيرها القوى الإقليمية أو الدولية في الوقت الذي كانت هذه الأخيرة هي ذاتها التي عملت بكل وسائل الخداع والتمويه، على القضاء عليه عبر دعم رجال الثورة المضادة وتثبيت حكمهم، أو عبر الحيلولة بالوسائل ذاتها دون الوصول إلى إجماع وطني في هذا البلد أو ذاك، كما يحدث في ليبيا أو في اليمن، أو بالعمل على استخدام رأس نظام مجرم واجهة لتحقيق سياساتها في البلد الذي قامت باحتلاله. وليس صدفة أيضًا أن "نهاية الربيع العربي" تطرح صيغة في أغلب الأحيان بلا إشارة استفهام، كما لو كانت أمرًا مقضيًّا، أو كما لو كان يراد له أن يُطرح عبرها على هذا النحو بوصفه كذلك. يساعد على ذلك بالطبع ما يبدو مشهدَ عالم عربي حافل بقروح جراحات لم تندمل، وبدماء لم تجف، وبعذابات لا يزال أنينها يملأ فضاءاته، وبدمار ماديٍّ لمدنه ولقراه، وسياسي واقتصادي لدوله، ونفسيّ واجتماعيّ لشعوبه.
سوى أن خروج الجماهير السودانية والجزائرية على امتداد أسابيع عديدة، رغم ذلك كله، وأيًا أكانت النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها، بالنسبة إلى مطالبها، سلبية أم إيجابية، ليس إلا دلالة حاسمة على أن الربيع العربي لم ينته بعد، وأن على الذين صدقوا أنفسهم وهم يعلنون نهايته أن يعودوا إلى تاريخ الثورات كي يتعلموا شيئا من دروس كيفياتها وتطوراتها ومآلاتها ونتائجها.
في ضوء ذلك، ألا يمكن القول بعبارة أخرى، إن المشهد العربي المشار إليه، وعلى ما يبدو للجميع، مشهد عالم لم يتوقف منذ عقديْن على الأقل عن إعادة النظر والبحث في مجمل السنوات التي عاشها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي على صعد السياسة والاقتصاد والاجتماع، استقلالًا وحروبًا وانقلابات وتقلبات؟ إذ رغم محاولات النظم الاستبدادية الهيمنة الكاملة لا على السلطة فحسب بل على السياسة والاقتصاد والمجتمع، إلا أن ثورات الربيع العربي التي يُراد الإعلان عن نهايتها قلبت الوضع رأسًا على عقب حين استعادت السياسة خصوصًا وأعادتها إلى مكانها الطبيعي في المجتمعات العربية، وهذا على الرغم من محاولات القمع والقسر التي تلجأ إليها نظم الثورة المضادة اليوم والتي لا يمكن عمليًّا إلا أن تنتهي إلى الفشل فيما تسعى إلى تحقيقه في زمن فجرت فيه وسائط التواصل الاجتماعية كل الحدود والقيود، وجعلت من السياسة خبز جماهيرها المقموعة اليومي. أكثر من ذلك. كان من بعض أهم ما حققته ثورات الربيع العربي، فتح المجال للبحث في كل ما كان يعتبر من المحرم الخوض فيه دراسة أو بحثًا خارج الأطر الفكرية أو الأيديولوجية المرسومة سلفًا: لا في ميدان المكونات التاريخية الاجتماعية والإثنية والطائفية في مختلف المجتمعات العربية فحسب، بل كذلك في مجال ثلاثي المحرّمات الكلاسيكية الشهير: الجنس والدين والسياسة!  وهو ما أدى إلى إطلاق قدرات أصوات شابة كانت مقموعة أو مجهولة، معبرة عن طاقات أصحابها الإبداعية، بلا رقابة أو حدود، سواء في مجالات الكتابة والفكر والبحث أو في ميدان الفنون، التشكيلية منها أو السمعية البصرية. يكفي أن نتصفح على سبيل المثال لا الحصر الكتب أو الدراسات أو الأبحاث التي صدرت حول الحدث السوري: حول الثورة والحرب والقمع من ناحية، أو حول المجتمع والتاريخ والقضايا الإثنية والطائفية، من ناحية أخرى، سواء عن دور النشر الكلاسيكية الجديدة التي نشأت بعد الثورة أو نشرت في مواقع إلكترونية أو في مواقع مراكز البحث العديدة التي تأسست بعد قيام الثورة السورية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر موقع "الجمهورية" ومركز "حرمون"، كي نتبين إلى أي مدى بلغته محاولات دراسة وتقويم الفضاء السياسي والاجتماعي خلال العقود الخمسة الماضية في سورية فضلًا عن مختلف جوانب واقع الحدث السوري الراهن. ألا يدل ذلك على أن الربيع العربي يمتد إلى بلدان عربية أخرى كما في السودان والجزائر ويؤكد حضوره في الدول الأخرى كما في سورية بطرق مختلفة، معرفية خصوصًا، تسهم في تكوين أجيال لا تزال تتطلع إلى تحرير بلادها وتعمل من أجل هذا التحرير بكل طاقاتها؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 21 آذار/مارس 2019.



jeudi 7 mars 2019



الجزائر، وعْدٌ جديد؟ 
بدرالدين عرودكي 
حين حذر أحمد أويحي، رئيس الوزراء الجزائري أمام نواب البرلمان من أن تؤول الأمور في الجزائر كما آلت إليه في سورية قائلًا: "هكذا بدأت الأوضاع في سورية بالسلمية والورد وانتهت بالدم"، كان يعلم تمام العلم من الذي بدأ بالورد ومن انتهى ــ أو بالأحرى أمَرَ ــ بالدم. وحين ذكَّرَ وزير الدفاع الجزائري بفضيلة الاستقرار والأمن الذي تنعم بهما الجزائر منذ سنوات الجمر، كان هو الآخر يعلم أن مطلب الجماهير التي خرجت في معظم المدن الجزائرية يتجاوز الاستقرار والأمن الذي تعيشه إلى ما يتوق إليه كل مواطن جزائري من ضرورة المشاركة الفعلية في تقرير أمور حياته اليومية والمستقبلية. سوى أنهما كانا بذلك يؤكدان من حيث لا يريدان ما أثبتته هذه السنوات الثماني منذ أن أضرم بوعزيزي بتونس النار في نفسه مُطلِقًا، هو الآخر من حيث لا يدري، شرارات الحراك الثوري العربي بدءًا من تونس وليس انتهاء بسورية. ولابد أن الذين سارعوا قبل أسابيع، على غرار الأمين العام للجامعة العربية، إلى إعلان الربيع العربي "مسؤولًا عن تدمير الدول العربية وقتل مئات الألاف من العرب" بقفزهم البهلواني على وقائع التاريخ ودلالات أحداثه، وكانوا يُعبّرون بالتالي عن فرحتهم بـ"انتهائه"، يجدون أنفسهم مرة أخرى في مواجهة استمرار هذا الحراك العربي، في السودان ثم اليوم في الجزائر. لم ينتبه هؤلاء إلى أن القاسم المشترك الأعظم بين البلدان العربية، على خصوصية كل منها، هو هذه السلطة الاستبدادية التي تمارَسُ صراحة أو تتستر بلباس الدين أو التراث أو تتخذ لها وجه شخصية ذات تاريخ وإنجاز بعد فقدانه القدرة على المبادرة والقيادة.
ما يحدث في الجزائر اليوم، على خصوصية هذا البلد العربي، أيًا كان المآل الذي اخذت الأصوات "الخبيرة" في فرنسا خصوصًا في تحديد معالمه "السلبية" ما إن بدأ، يذكّر، إن نفعت الذكرى، بأن ما انطلق قبل ثماني سنوات لم ينته بعد، لاسيما وأن أحد دروس الثورات في التاريخ، التي يتجاهلها الكثيرون كما يبدو، يقول إن أعمارها لا تقاس بأعمار من يقوم بها، وأن لكلٍّ منها قوانينها ومعاييرها المستمدة من ثقافة المجتمعات التي تنطلق فيها وشروطها الموضوعية.
فالجزائر التي نالت استقلالها بعد مائة وثلاثين عامًا من الاحتلال والاستيطان ومحاولات الفرْنَسَة لقاء ثورات متوالية دفعت خلالها مليونًا من الشهداء، وبدت بلدًا واعدًا في المنطقة العربية والأفريقية بما تملكه من ثروات ومصادر طبيعية وبنى تحتية متطورة وثروات بشرية ونخب قيادية، سارت على ذات الدروب التي سلكتها من قبلها بلدان عربية أخرى. وكما خرج شباب تونس وسورية ومصر وليبيا واليمن يطالبون بنهاية الاستبداد وعهود التوريث والجمهوريات المزيفة، كذلك يخرج شباب الجزائر اليوم كي يعلن من خلال رفض العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة رفض النظام الذي أدى إلى أن تكون ثمة عهدة ثالثة ورابعة وربما خامسة، لاسيما وأن الجيل الذي خرج يطالب بالتغيير لم يعرف غير هذا النظام وهذا الرئيس.
ذلك أن ما توحي به المظاهر المتمثلة في تعددية القوى السياسية وحرية الصحافة والفرص المتاحة من أجل الترشح لرئاسة الجمهورية، على سبيل المثال لا الحصر، لم تعد تقنع هذا الجيل الشاب الذي بات يؤلف ما يقارب نصف سكان الجزائر اليوم الذين نيَّفَ عددهم على الأربعين مليوناً. وأخالُ أن من خرج منهم في هذه المظاهرات منادين بإلغاء العهدة الخامسة يطرحون سؤالًا ينطوي على نصف الإجابة كما يقال: من يتكلم باسم من؟ ولماذا التركيز على شخص بوتفليقة ثم الوعد بدعوة سريعة إلى انتخابات رئاسية من دون مشاركته؟ هل هو، شخصيًّا، المشكلة فعلًا؟ لنلاحظ أن أحدًا لم ينادِ بسقوطه. إذ أن الجزائريين يذكرون له أنه وضع في بداية عهدته الأولى حدًّا لسنوات الجمر التي ذكَّر بها وزير الدفاع مؤخرًا، لكنهم بالمقابل يعرفون جميعًا أنه لم يعد قادرًا صحيًا على القيام بمهماته، وأن استخدام حضوره من قبل من يمسكون بزمام السلطة الحقيقية عبر صورته، لا يسيء له ولتاريخه فحسب بل يسيء أيضًا للجزائريين جميعًا بما يعنيه هذا الترشيح الصوري من استخفافٍ بعقولهم وبإراداتهم. وهو استخفاف رد عليه المتظاهرون بالإصرار على إلغاء العهدة الخامسة رغم الوعد بانتخابات جديدة خلال أقل من عام. ردٌّ أنيق على مناورة تنضح إساءة أخرى للرجل ولتاريخه.
على أن التساؤل مع ذلك، لن يقتصر الآن، في ضوء تصريحات رئيس الوزراء أو وزير الدفاع، على طبيعة استجابة النظام القائم لمطالب يتم التعبير عنها من خلال مظاهرات سلمية تعَبِّرُ بحرية عن مطالب المشاركين فيها. فالخيارات التي يفرضها الطرف الأقوى عادة ليست كثيرة بعد مفاجأة المظاهرات التي لم يكن أحدٌ من الفاعلين في الفضاء السياسي الجزائري يتوقعها بمثل هذه الكثافة وهذا الإصرار. لكن لابدّ لأي منها من أن يأخذ بعين الاعتبار، بصورة أو بأخرى، مطالب شعب آن له أن يعيش استقلاله في البلد الذي لم يتوقف عن التضحية من أجل كرامته فيه طوال ما يقارب القرنيْن. لكن ذلك يتطلب سرعة القرار والمبادرة. إذ أن هناك من يمكن في الداخل أن يعمل على الاستثمار في المظاهرات لمصالح آنية وضيقة؛ وهناك أيضًا من يمكن أن يدفع بها وبمطالبها في اتجاه أو أكثر يختلف جذريًا عن ذلك الذي اتخذته حتى الآن سلوكًا وشعارات ومطالب. كما أنه لا يمكن، من ناحية أخرى، تصوُّر أن تبقى القوى الإقليمية والدولية مكتوفة الأيدي وأن تتلافى التدخل بصورة أو بأخرى في ما يجري على الأرض الجزائرية رغم معرفتها المسبقة بحساسية الجزائريين، سلطة وشعبًا، إزاء كل تدخل أجنبي بشؤونهم. فهناك مِنْ بينها من يخشى المآل الأسوأ لما يجري، وخصوصًا في فرنسا، خوفًا من موجات هجرة على غير انتظار؛ وهناك من بدأ العمل حثيثًا للحيلولة دون وقوع ما يخل بالتوازن الجغرافي السياسي نظرًا إلى موقع الجزائر الهام متوسطيًا وأفريقيًا وعربيًا.
يبقى أن حلًا يقوم على هدي ما اختارته الثورات المضادة في البلدان العربية الأخرى، ويستهدف القفز على المطلب الأساس لهذه الأجيال الشابة التي خرجت متظاهرة تعلن رفضها العهدة الخامسة بكل ما تعنيه، يمكن أن يرتدَّ آجلًا أو عاجلًا وبالًا على من يتبناه.
يذكر التاريخ أن الجزائر هي البلد العربي الوحيد الذي استطاع شعبه بقواه وبإرادته وبتضحياته التحرّرَ من احتلال استيطاني دام ثلاثة عشر عقدًا من السنين. وإذا كان الأمل الذي ولد لدى الجزائريين يوم خرجوا يرقصون مع إعلان الاستقلال فرحًا به، قد تضاءل حتى تلاشى، فإنه يعود مع هذه المظاهرات الغاضبة من جديد أكثر نبضًا بالحياة بعد ضروب المعاناة التي عاشها الجزائريون في بلد يملك على الصُّعد كلها كل ما هو ضروري لكي ينعم بالكرامة والحياة النبيلة. ومن يدري، لعل شعلة الربيع العربي تبرهن لكل من كان أعمى البصر والبصيرة أن منطلقها كان ولا يزال بناء الحياة التي تليق بالعربي، وأن التدمير لم يأت إلا من أعداء هذه الحياة.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 7 آذار/مارس 2019.