عن "مصير العرب ومصيرنا"
بدرالدين عرودكي
قلما
كان الأكاديميون الغربيون يغامرون، قبل بضع عشرات السنين، في تناول مختلف جوانب
راهن عالمنا العربي، ومن بينها علاقاته مع الغرب. لسبب أساس. فهي موضوعات قيد
التحقق، لم تستكمل دورتها كي توضع على رفوف التاريخ ومقاعد الدرس. ولا يمكن
بالتالي امتلاك كافة العناصر الضرورية من الوثائق والمعطيات التي تتيح إنجاز دراسة
رصينة لا تشكو التعميم أو الاختصار أو ضروب التشويه التي تسم بطبيعة الحال معظم
الكتابات الصحفية حين تتناول مثل هذه الموضوعات.
لكن
التاريخ العربي الراهن هو ما كان خيار جيل جديد من الأكاديميين الغربيين، منهم جان
بيير فيليو، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في معهد العلوم السياسية بباريس. وربما
يعود ذلك، فيما يخصه، إلى تجربة مباشرة عاشها دبلوماسياً في عدد من البلدان
العربية (سوريا والأردن وتونس) فضلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي درّس في
جامعاتها أيضًا، وعاملاً قريباً من مراكز القرار في فرنسا في ظل الحكومات
الاشتراكية (وزير الداخلية أو رئيس مجلس الوزراء) قبل أن ينصرف إلى العمل الجامعي
أستاذا وكاتباً، وأن ينشر مع مئات المقالات والدراسات في الصحافة الفرنسية العامة
والمختصة مجموعة من الكتب تناول فيها جميعها قضايا الساعة في المشرق العربي
والإسلامي، بدءاً بكتابه عن ميتيران وفلسطين مروراً بكتبه عن جبهات
الجهاد ـ حيوات القاعدة التسع، الثورة العربية ـ عشرة دروس من
الانتفاضة الديمقراطية، الشرق الأوسط الجديد ـ الشعوب زمنَ الثورة السورية،
وأخيراً، كتابيه الذي حمل أولهما عنوان مصيرالعرب ومصيرنا ـ تاريخ تحرّر، و
مرآة دمشق ـ سورية تاريخنا، اللذين صدرت ترجمتهما إلى العربية مؤخرًا عن
دار ميسلون. كتب تنهل من الوثائق التاريخية بقدر ما تنهل من تجربته المعيشة. وإذا
كانت الهموم الكامنة خلف موضوعاته المختارة همومًا عربية، إلا أنها تعالج انطلاقًا
من الغرب تحديدًا بوصفها بعض همومه وبعض هموم فرنسا بالدرجة الأولى وبالعلاقة
معها، وصولًا إلى المماهاة في المصير وفي التاريخ.
كان
جاك بيرك يلخص تاريخ العلاقات الفرنسية العربية على امتداد تاريخها بكلمتيْن: "القرابة
والخصومة (Affinité et altercation)". وإذ يستشهد
جان بيير فيليو في الصفحات الأولى من كتابه مصير العرب ومصيرنا بما كتبه
رفاعة رافع الطهطاوي حول عناصر القربى بين الفرنسيين والعرب كما لاحظها ولاسيما "المروءة
وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال"، فكأنما يؤكد نسبيًّا ما سبق لبيرك أن
عناه بأولى الكلمتين المذكورتيْن، القرابة. أما الكلمة الثانية، الخصومة، فحديثها يطول وإن كان فيليو، وهو يهدي كتابه،
يضفي معنى على محنة الضربات الإرهابية التي عاشتها فرنسا في بداية عام 2015 "باستعادة
الزمن الطويل للتحرر" وبالإشارة إلى من سقطوا مؤخرًا من العرب وهم يدافعون عن
الحرية "لأننا لن نكون أحرارًا حقًا إذا لم يكونوا هم أيضًا كذلك".
وربما
لذلك يفتتح كتابه بالإشارة إلى أربع لحظات ذات دلالة في تاريخ العلاقات الفرنسية
العربية و يؤسس بها أطروحة بحثه، تعود أولاهما، كما يذكر العرب خصوصاً، إلى بداية
القرن التاسع الميلادي (802 و 807) حين أرسل هارون الرشيد خلالهما سفارتين إلى
شارلمان. تليها اللحظة الأخرى المتمثلة عام 1270 في مقبرة لويس التاسع الذي قاد
آخر حملة صليبية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر والموجودة في الضاحية
الشمالية لمدينة تونس التي مات فيها. ثم عام
1536 الذي شهد تحالف فرنسوا الأول مع السلطان العثماني سليمان القانوني. وأخيراً
عام 1680، حين دعا الفارس لوران دارفيو، قنصل فرنسا بحلب، إلى طرد الأتراك من حلب
بفضل وحدة الأمراء المسيحيين وبمعونة العرب الذين لم يكونوا يمحضون الأتراك حبهم
كما لاحظ آنذاك.
تلك
لحظات متفرقات خلال عشرة قرون من تاريخ هذه القرابة والخصومة. لكن اللحظة الحاسمة
بل والصادمة كانت عام 1798 بما ستنطوي عليه من مفارقات في مبناها كما هو الأمر في
آثارها القريبة والبعيدة، ونعني بها حملة نابليون في مصر وما أدت إليه على
الصعيدين السياسي والثقافي، لا في علاقة فرنسا بالعالم العربي عبر بوابته المصرية
فحسب بل كذلك في بداية ما بات يؤرخ له بوصفه النهضة العربية أو عصر التنوير العربي
مع بدايات القرن التاسع عشر.
جرت
العادة في أدبيات المشرق العربي، الشامي خصوصًا، على تأريخ بداية عصر النهضة
العربي مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي بداية قامت في جوهرها على عناصر غليان
ثقافي وفكري تمثل في تجديد اللغة العربية وآدابها مع ومن خلال الانفتاح على آداب
الأمم الأخرى. لكن جان بيير فيليو لا يرى الأمر كذلك، شأنه في ذلك شأن العديد من
المفكرين العرب في مصر وفي بلدان المغرب العربي. إذ أنه يحدّد معهم بدايات النهضة
ببدايات القرن التاسع عشر على إثر الهزة التي سبَّبتها حملة بونابرت على مصر (التي
كانت عدوانًا استعماريًّا ومشروعًا ثقافيًا في آن واحد) والتي دفعت مصر والعرب إلى
النضال في اتجاهين معًا: الخلاص من الهيمنة العثمانية ومقاومة الغزو الاستعماري
الأوربي.
استعادة
عاجلة لتاريخ العالم العربي خلال قرنين يمكن أن يوضح، اعتبارًا من فرنسا
وللفرنسيين، مسارات العرب للخروج مما يطلقون عليه عصور الانحطاط التي تلت سقوط
الخلافة العباسية وسقوط غرناطة. يرى فيليو في النهضة العربية معادل عصر التنوير
الأوربي. وكان مسارها في أقطابها الثلاثة خلال القرن التاسع عشر: الدولة التحديثية
بمصر والبناء الدستوري بتونس والفوران الثقافي في بلاد الشام، مسارَ صعود وهبوط،
بل وانكسار أحيانًا، لكنه كان في الوقت نفسه فاتحة بدء وعي العرب بأنفسهم كأمة
وكثقافة. ولن يختلف هذا المسار في العمق خلال القرن العشرين عما كان عليه في القرن
التاسع عشر. ستتوالى المراحل بآمالها وبانكساراتها: اعتبارًا من 1922 نصف قرن من
الاستقلال، ثم نهاية الحياة البرلمانية التي دامت عقودًا وبدء الانقلابات العسكرية
خلال الربع الثالث من القرن الماضي، والوصول أخيرًا إلى ما يسميه فيليو هيمنة النموذج
اللينيني في "جمعه بين رئيس ذى زعامة وحزب منضبط ومنظمات جماهيرية ذات ديمقراطية زائفة".
وقد تمثلت هذه البنى "بدرجات مختلفة فى مصر لدى الإخوان المسلمين عام 1928
وفى تونس فى الدستور الجديد عام 1934، أو فى سوريا مع حزب البعث: قطيعة مع
الممارسة البرلمانية". سيعرف العالم العربي لحظات مضيئة في تاريخه: أول
مظاهرة نسائية بحلب عام 1899 احتجاجًا على اعتقال عبد الرحمن الكواكبي، مقاومة
الاستعمار البريطاني في مصر عبر حملة مبهرة من العصيان المدني (قبل غاندي بوقت
طويل)، عام 1919. لكنه سيعيش أيضًا لحظات
مأسوية عنيفة: سحق الانتفاضات الشعبية في العراق تحت الاستعمار البريطاني عام 1920،
وفي سورية تحت الانتداب الفرنسي عام 1926، وفي ليبيا تحت الاستعمار الإيطالي عام
1931، ثم في فلسطين تحت الاستعمار البريطاني عام 1939. لكن خيانة النهضة كانت قد
"تمت بواسطة القوى الاستعمارية أثناء الحرب العالمية الأولى" ولم تكن
الاستقلالات التالية عليها إلا تحريرًا خادعًا. ذلك أن الديكتاتوريات التي دعمها
الغرب حلت محل الاستعمار وحرمت الشعوب من ثمرات كفاحها.
سيزيد توالي الكوارث بعد هزيمة 1967 من ترسيخ النظم
الاستبدادية في مختلف بلدان العالم العربي، بل وسيؤدي إلى الكارثة الأكبر: انضمام
المستبدين العرب ــ الذين استثمروا في الإرهاب حفاظًا على مواقعهم ــ إلى الحرب التي
أعلنها الغرب ضد الإرهاب. هكذا وجد العالم العربي نفسه في وضع يكاد يتفوق في سوئه
على الوضع الذي عرفه تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة: يكتب فيليو: "لم يعد النظام"
إذن مجرد جهاز قمع سياسى، وإنما يتسلل إلى الفضاءات الأكثر حميمية لاسترقاق الفرد،
ولجعله مدينًا بكفاءاته الخاصة، أو إجباره
على التسول كى يعيش، أو على الفساد كى يكسب راتبا. كان "آباء الأمة" قد
قننوا نهب ثروات الأمة لصالح عصبتهم. واستحوذ تابعوهم ، الذين ازدادوا طمعًا بسبب
أرباح عمليات "الخصخصة"، إراديًا، على عمل رعاياهم". أما فرنسا
والعالم أمام هذا المشهد التراجيدي، فلم يعودوا يهتمون بالعرب إلا من أجل السهر على استقرار الأنظمة التى تقمعهم. "مسار
السلام" يدور فى الفراغ فى الشرق الأوسط، ولا يتم ذلك دون تغذية شريحة من ذوى
الأعمال أو البيروقراطيين، من "سادة السلام"، بينما الاستيطان
الإسرائيلى يتقدم، وفلسطين غزة تتحدى فلسطين الأخرى فى رام الله. مبارك فى مصر
والقذافى فى ليبيا وصالح فى اليمن يجهزون أبنائهم للجلوس على العرش الرئاسى، على
نموذج الديكتاتورية الوراثية لآل الأسد فى سوريا."
هذا الواقع، بإيجاز شديد، هو
الذي كان سائدًا في العالم العربي حين هب ملايين الشباب فيه قبل ثمانية سنوات، من
المغرب حتى الخليج، ينادون بحق الوجود في بلادهم أحرارًا. لكن الثورات المضادة
وبدعم من الغرب، سوف تؤدي مهامها. ذلك أن مأساة التحرر العربي كما يقول فيليو:
"تستثير فى مجتمعنا رفضًا أكثر من التعاطف، ويأساً أكثر من البصيرة. وهذا
تحديدًا هو الهدف الذى يسعى إليه اليوم المستبدون العرب، على غرار "متخذى
القرار" الجزائريين قبل ذلك بعقدين: دفعنا إلى ألا نرغب بعد ذلك في أن نرى
ولا أن نفهم المآسى التى تحدث فى جنوب المتوسط، وجعل الشعور بالرعب يشل فهمنا،
وإضفاء السواد في ظل المجازر على المعنى العميق لهذا القتال من أجل الحريات."
لاشك أن "الجلادين لا
يرحلون من تلقاء أنفسهم" كما يقول. لابد من إسقاطهم. "يعرف العرب ذلك،
ونظرًا لغياب مساعدتنا فهم يتطلعون على الأقل لتفهمنا.. وهو ما ينطبق على مستقبلنا
المشترك وحريتنا معًا".
**
نشر على موقع جيرون يوم الخميس 31 كانون الثاني/يناير 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire