jeudi 31 janvier 2019



عن "مصير العرب ومصيرنا"

بدرالدين عرودكي





قلما كان الأكاديميون الغربيون يغامرون، قبل بضع عشرات السنين، في تناول مختلف جوانب راهن عالمنا العربي، ومن بينها علاقاته مع الغرب. لسبب أساس. فهي موضوعات قيد التحقق، لم تستكمل دورتها كي توضع على رفوف التاريخ ومقاعد الدرس. ولا يمكن بالتالي امتلاك كافة العناصر الضرورية من الوثائق والمعطيات التي تتيح إنجاز دراسة رصينة لا تشكو التعميم أو الاختصار أو ضروب التشويه التي تسم بطبيعة الحال معظم الكتابات الصحفية حين تتناول مثل هذه الموضوعات.
لكن التاريخ العربي الراهن هو ما كان خيار جيل جديد من الأكاديميين الغربيين، منهم جان بيير فيليو، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في معهد العلوم السياسية بباريس. وربما يعود ذلك، فيما يخصه، إلى تجربة مباشرة عاشها دبلوماسياً في عدد من البلدان العربية (سوريا والأردن وتونس) فضلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي درّس في جامعاتها أيضًا، وعاملاً قريباً من مراكز القرار في فرنسا في ظل الحكومات الاشتراكية (وزير الداخلية أو رئيس مجلس الوزراء) قبل أن ينصرف إلى العمل الجامعي أستاذا وكاتباً، وأن ينشر مع مئات المقالات والدراسات في الصحافة الفرنسية العامة والمختصة مجموعة من الكتب تناول فيها جميعها قضايا الساعة في المشرق العربي والإسلامي، بدءاً بكتابه عن ميتيران وفلسطين مروراً بكتبه عن جبهات الجهاد ـ حيوات القاعدة التسع، الثورة العربية ـ عشرة دروس من الانتفاضة الديمقراطية، الشرق الأوسط الجديد ـ الشعوب زمنَ الثورة السورية، وأخيراً، كتابيه الذي حمل أولهما عنوان مصيرالعرب ومصيرنا ـ تاريخ تحرّر، و مرآة دمشق ـ سورية تاريخنا، اللذين صدرت ترجمتهما إلى العربية مؤخرًا عن دار ميسلون. كتب تنهل من الوثائق التاريخية بقدر ما تنهل من تجربته المعيشة. وإذا كانت الهموم الكامنة خلف موضوعاته المختارة همومًا عربية، إلا أنها تعالج انطلاقًا من الغرب تحديدًا بوصفها بعض همومه وبعض هموم فرنسا بالدرجة الأولى وبالعلاقة معها، وصولًا إلى المماهاة في المصير وفي التاريخ.
كان جاك بيرك يلخص تاريخ العلاقات الفرنسية العربية على امتداد تاريخها بكلمتيْن: "القرابة والخصومة (Affinité et altercation)". وإذ يستشهد جان بيير فيليو في الصفحات الأولى من كتابه مصير العرب ومصيرنا بما كتبه رفاعة رافع الطهطاوي حول عناصر القربى بين الفرنسيين والعرب كما لاحظها ولاسيما "المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال"، فكأنما يؤكد نسبيًّا ما سبق لبيرك أن عناه بأولى الكلمتين المذكورتيْن، القرابة. أما الكلمة الثانية، الخصومة، فحديثها يطول وإن كان فيليو، وهو يهدي كتابه، يضفي معنى على محنة الضربات الإرهابية التي عاشتها فرنسا في بداية عام 2015 "باستعادة الزمن الطويل للتحرر" وبالإشارة إلى من سقطوا مؤخرًا من العرب وهم يدافعون عن الحرية "لأننا لن نكون أحرارًا حقًا إذا لم يكونوا هم أيضًا كذلك".
وربما لذلك يفتتح كتابه بالإشارة إلى أربع لحظات ذات دلالة في تاريخ العلاقات الفرنسية العربية و يؤسس بها أطروحة بحثه، تعود أولاهما، كما يذكر العرب خصوصاً، إلى بداية القرن التاسع الميلادي (802 و 807) حين أرسل هارون الرشيد خلالهما سفارتين إلى شارلمان. تليها اللحظة الأخرى المتمثلة عام 1270 في مقبرة لويس التاسع الذي قاد آخر حملة صليبية في النصف الثاني من القرن الثالث عشر والموجودة في الضاحية الشمالية لمدينة تونس التي مات فيها. ثم  عام 1536 الذي شهد تحالف فرنسوا الأول مع السلطان العثماني سليمان القانوني. وأخيراً عام 1680، حين دعا الفارس لوران دارفيو، قنصل فرنسا بحلب، إلى طرد الأتراك من حلب بفضل وحدة الأمراء المسيحيين وبمعونة العرب الذين لم يكونوا يمحضون الأتراك حبهم كما لاحظ آنذاك.
تلك لحظات متفرقات خلال عشرة قرون من تاريخ هذه القرابة والخصومة. لكن اللحظة الحاسمة بل والصادمة كانت عام 1798 بما ستنطوي عليه من مفارقات في مبناها كما هو الأمر في آثارها القريبة والبعيدة، ونعني بها حملة نابليون في مصر وما أدت إليه على الصعيدين السياسي والثقافي، لا في علاقة فرنسا بالعالم العربي عبر بوابته المصرية فحسب بل كذلك في بداية ما بات يؤرخ له بوصفه النهضة العربية أو عصر التنوير العربي مع بدايات القرن التاسع عشر.
جرت العادة في أدبيات المشرق العربي، الشامي خصوصًا، على تأريخ بداية عصر النهضة العربي مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي بداية قامت في جوهرها على عناصر غليان ثقافي وفكري تمثل في تجديد اللغة العربية وآدابها مع ومن خلال الانفتاح على آداب الأمم الأخرى. لكن جان بيير فيليو لا يرى الأمر كذلك، شأنه في ذلك شأن العديد من المفكرين العرب في مصر وفي بلدان المغرب العربي. إذ أنه يحدّد معهم بدايات النهضة ببدايات القرن التاسع عشر على إثر الهزة التي سبَّبتها حملة بونابرت على مصر (التي كانت عدوانًا استعماريًّا ومشروعًا ثقافيًا في آن واحد) والتي دفعت مصر والعرب إلى النضال في اتجاهين معًا: الخلاص من الهيمنة العثمانية ومقاومة الغزو الاستعماري الأوربي.
استعادة عاجلة لتاريخ العالم العربي خلال قرنين يمكن أن يوضح، اعتبارًا من فرنسا وللفرنسيين، مسارات العرب للخروج مما يطلقون عليه عصور الانحطاط التي تلت سقوط الخلافة العباسية وسقوط غرناطة. يرى فيليو في النهضة العربية معادل عصر التنوير الأوربي. وكان مسارها في أقطابها الثلاثة خلال القرن التاسع عشر: الدولة التحديثية بمصر والبناء الدستوري بتونس والفوران الثقافي في بلاد الشام، مسارَ صعود وهبوط، بل وانكسار أحيانًا، لكنه كان في الوقت نفسه فاتحة بدء وعي العرب بأنفسهم كأمة وكثقافة. ولن يختلف هذا المسار في العمق خلال القرن العشرين عما كان عليه في القرن التاسع عشر. ستتوالى المراحل بآمالها وبانكساراتها: اعتبارًا من 1922 نصف قرن من الاستقلال، ثم نهاية الحياة البرلمانية التي دامت عقودًا وبدء الانقلابات العسكرية خلال الربع الثالث من القرن الماضي، والوصول أخيرًا إلى ما يسميه فيليو هيمنة النموذج اللينيني في "جمعه بين رئيس ذى زعامة وحزب منضبط ومنظمات جماهيرية ذات ديمقراطية زائفة". وقد تمثلت هذه البنى "بدرجات مختلفة فى مصر لدى الإخوان المسلمين عام 1928 وفى تونس فى الدستور الجديد عام 1934، أو فى سوريا مع حزب البعث: قطيعة مع الممارسة البرلمانية". سيعرف العالم العربي لحظات مضيئة في تاريخه: أول مظاهرة نسائية بحلب عام 1899 احتجاجًا على اعتقال عبد الرحمن الكواكبي، مقاومة الاستعمار البريطاني في مصر عبر حملة مبهرة من العصيان المدني (قبل غاندي بوقت طويل)، عام 1919.  لكنه سيعيش أيضًا لحظات مأسوية عنيفة: سحق الانتفاضات الشعبية في العراق تحت الاستعمار البريطاني عام 1920، وفي سورية تحت الانتداب الفرنسي عام 1926، وفي ليبيا تحت الاستعمار الإيطالي عام 1931، ثم في فلسطين تحت الاستعمار البريطاني عام 1939. لكن خيانة النهضة كانت قد "تمت بواسطة القوى الاستعمارية أثناء الحرب العالمية الأولى" ولم تكن الاستقلالات التالية عليها إلا تحريرًا خادعًا. ذلك أن الديكتاتوريات التي دعمها الغرب حلت محل الاستعمار وحرمت الشعوب من ثمرات كفاحها.
سيزيد توالي  الكوارث بعد هزيمة 1967 من ترسيخ النظم الاستبدادية في مختلف بلدان العالم العربي، بل وسيؤدي إلى الكارثة الأكبر: انضمام المستبدين العرب ــ الذين استثمروا في الإرهاب حفاظًا على مواقعهم ــ إلى الحرب التي أعلنها الغرب ضد الإرهاب. هكذا وجد العالم العربي نفسه في وضع يكاد يتفوق في سوئه على الوضع الذي عرفه تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة: يكتب فيليو: "لم يعد النظام" إذن مجرد جهاز قمع سياسى، وإنما يتسلل إلى الفضاءات الأكثر حميمية لاسترقاق الفرد، ولجعله مدينًا بكفاءاته الخاصة،  أو إجباره على التسول كى يعيش، أو على الفساد كى يكسب راتبا. كان "آباء الأمة" قد قننوا نهب ثروات الأمة لصالح عصبتهم. واستحوذ تابعوهم ، الذين ازدادوا طمعًا بسبب أرباح عمليات "الخصخصة"، إراديًا، على عمل رعاياهم". أما فرنسا والعالم أمام هذا المشهد التراجيدي، فلم يعودوا يهتمون بالعرب إلا  من أجل السهر على استقرار الأنظمة التى تقمعهم. "مسار السلام" يدور فى الفراغ فى الشرق الأوسط، ولا يتم ذلك دون تغذية شريحة من ذوى الأعمال أو البيروقراطيين، من "سادة السلام"، بينما الاستيطان الإسرائيلى يتقدم، وفلسطين غزة تتحدى فلسطين الأخرى فى رام الله. مبارك فى مصر والقذافى فى ليبيا وصالح فى اليمن يجهزون أبنائهم للجلوس على العرش الرئاسى، على نموذج الديكتاتورية الوراثية لآل الأسد فى سوريا."
هذا الواقع، بإيجاز شديد، هو الذي كان سائدًا في العالم العربي حين هب ملايين الشباب فيه قبل ثمانية سنوات، من المغرب حتى الخليج، ينادون بحق الوجود في بلادهم أحرارًا. لكن الثورات المضادة وبدعم من الغرب، سوف تؤدي مهامها. ذلك أن مأساة التحرر العربي كما يقول فيليو: "تستثير فى مجتمعنا رفضًا أكثر من التعاطف، ويأساً أكثر من البصيرة. وهذا تحديدًا هو الهدف الذى يسعى إليه اليوم المستبدون العرب، على غرار "متخذى القرار" الجزائريين قبل ذلك بعقدين: دفعنا إلى ألا نرغب بعد ذلك في أن نرى ولا أن نفهم المآسى التى تحدث فى جنوب المتوسط، وجعل الشعور بالرعب يشل فهمنا، وإضفاء السواد في ظل المجازر على المعنى العميق لهذا القتال من أجل الحريات."
لاشك أن "الجلادين لا يرحلون من تلقاء أنفسهم" كما يقول. لابد من إسقاطهم. "يعرف العرب ذلك، ونظرًا لغياب مساعدتنا فهم يتطلعون على الأقل لتفهمنا.. وهو ما ينطبق على مستقبلنا المشترك وحريتنا معًا".

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 31 كانون الثاني/يناير 2019.

vendredi 25 janvier 2019



مفكرة المترجم


 بدرالدين عرودكي
كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
** صدفة محضة. طلب إلي ذات يوم أن أترجم قصيدة رامبو "الحَدّاد" لنشرها في مجلة الطليعة السورية الأسبوعية،. ترجمت القصيدة. ولم تكن النتيجة، كما يبدو، شديدة السوء. إذ لم يعترض على الترجمة أحد كبار العارفين السوريين بشعر رامبو، صدقي إسماعيل، الذي خصص له أحد كتبه. هكذا بدأت العمل كاتبًا وصحفيًا حين عرض علي رئيس التحرير الانضمام إلى أسرة تحرير المجلة. وحين غادرت سورية لمتابعة الدراسات العليا بباريس، طلب إلي الدكتور سهيل إدريس أن أقوم بكتابة رسالة شهرية لمجلة الآداب عن النشاط الثقافي في فرنسا، ثم ما لبث أن طلب إليَّ إعداد وترجمة كتاب كان أنور عبد الملك يريد نشره لديه. وكان كتابُه الذي أعددته وترجمته، الفكر العربي في معركة النهضة، الصادر عن دار الآداب عام 1974، أولَ كتاب أترجمه.
ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
** أنهيت قبل شهريْن ترجمة كتاب قضيت من أجل إنجازه سنة كاملة، وأعني به كتاب "الحرب المقدسة، الاستشهاد والإرهاب ــ أشكال العنف المسيحية في الغرب" لفيليب بوك، أستاذ تاريخ القرون الوسطى في جامعة فيينا. ومن المنتتظر أن يصدر الكتاب قريبًا جدًّا عن مركز حرمون للدراسات والنشر ودار ميسلون. لم أبدأ ترجمة كتاب آخر لأنني لازلت أتابع إعداد الكتاب المشار إليه للطبع.
ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
** من الممكن الإشارة إلى بعض أهم العقبات التي تواجه المترجم العربي وموضوع الترجمة نفسه مشروعًا وتخطيطًا وتنفيذًا: 1) مشكلة المصطلحات اللغوية التي لا تزال موضع اختلاف كبير بين مختلف البلدان العربية؛ 2) غياب التخطيط  بل وحتى التنسيق بين دور النشر العربية العاملة في حقل الترجمة، العامة منها والخاصة، من أجل عمل يستهدف التكامل بدلًا من الفوضى القائمة الآن؛ 3) غياب تقنين موحَّد لحقوق المترجم المادية والمعنوية في مختلف البلدان العربية.  
هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
** لا أدري إن كان هناك من يحرر الترجمات لدى دور النشر العربية. ما أعرفه أن ثمة من يقوم بالتدقيق اللغوي، وهو أمر طبيعي ومطلوب، من أجل تلافي الأخطاء المطبعية أو الهفوات النحوية. لكني أرفض بالطبع أي محاولة لتحرير الترجمة التي تعني إعادة كتابة نصها الذي أرسلته للناشر لسبب بسيط، هو أنني أقوم شخصيًا بهذه المهمة التي أخصّص لها ما يكفي من الوقت قبل إرسال المخطوط للنشر. يحدث أثناء التدقيق اللغوي أن تطرح عليَّ أسئلة خاصة بهذه الكلمة أو تلك.. وقد لاحظت أن الأسئلة التي يطرحها عليَّ المدققون كانت تتناول غالبًا أخطاء مطبعية شابت كتابة بعض الكلمات، مما أدى إلى تغيير معناها أو جعل الجملة الواردة فيها غامضة غير مفهومة..
 كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
** علاقة ممتازة مع معظم الناشرين الذين نشروا ترجماتي. لقد سبق لي أن اقترحت كتبًا بعد قيامي بترجمتها وقبلها الناشر، ككتاب فن الرواية لميلان كونديرا ثم كتابيه الآخرين حول الموضوع نفسه وهي الكتب الثلاثة التي صدرت بالقاهرة في مجلد واحد عن المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان ثلاثية حول الرواية، أو كتاب جان بودريار حول روح الإرهاب؛ كما سبق أن كان الناشر هو من يقترح عليَّ عناوين بعض الكتب التي يرغب بنشرها مترجمة، فكنت أقرأها قبل الموافقة على ترجمتها.
هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
** الاعتبارات السياسية موجودة بالطبع. كان يهمني مثلًا أن أترجم مجموعة الكتيبات التي أصدرها جان بودريار إثر تفجيرات نيويورك في 11 أيلول عام 2011، بل قمت بنشر أحدها في عدة صحف أو مجلات عربية تصدر بالقاهرة وببيروت وبلندن مجانًا لرغبتي في أن يقرأها القارئ العربي الذي لا يتكلم الفرنسية. لم يحدث لي أن ترجمت كتابًا أقف على النقيض من طروحاته السياسية. لكن ذلك محض صدفة. ولو حدث وكان هناك كتاب لا أتفق مع طروحاته أو مع مواقف كاتبه السياسية ورأيت أن الكتاب ينطوي على أهمية معرفية هامة لما ترددت في القيام بترجمته، وكنت بالطبع سأترجم الكتاب، ثمَّ أقوم بنقد طروحات مؤلفه.. لماذا أحرم القارئ العربي بسبب عدم إتقانه اللغة التي أترجم عنها من إمكان قراءة كتاب يمكنني أن أقرأه بلغته الأصلية؟
كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
** ربطتني بمعظم الكتاب الذي ترجمت لهم، حين كان ذلك ممكنًا، صداقة جميلة وأحيانًا عميقة على الصعيد الفكري: أنور عبد الملك، سوزان طه حسين، ميلان كونديرا، فيليب روجيه، نيللي آلار، آن سالمون، وأخيرًا فيليب بوك، على سبيل المثال لا الحصر.
كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
** علاقة بين عالمين منفصليْن! فخلال اليوم الذي أترجم فيه، لا أكتب؛ وفي اليوم الذي أكتب فيه، لا أترجم. لكل عالم حاله ووضعه وقوانينه والاستعداد النفسي الضروري له.  حين أترجم، أحاول أن أكون كاتب الكتاب كما لو كان هو نفسه يقوم بترجمته إلى العربية؛ وحين أكتب، أستعيد نفسي كليًا لاسيما وأن ما أريد كتابته ليس وليد اللحظة، بل يكون قد مرَّ بمراحل من التفكير والإعداد والاختمار قبل البدء بالكتابة الفعلية.
كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
** من المؤكد أنها تسعِدُ من يحصل عليها من المترجمين. لكن الجوائز في عالمنا العربي، أيًّا كان موضوعها، لا تزال تشكو من ضروب تنظيم تبتعد بها عن غاياتها التي يفترض بها تحقيقها. ألاحظ مثلًا أنها غالبًا أسيرة مفاوضات بين أصحاب المصلحة على اختلافهم باستثناء مصلحة موضوع الجائزة بالذات!
الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
** بالتأكيد هي مشاريع أفراد، مترجمين و/أو ناشرين. أما المؤسسات المختلفة (وعدد الفعّال منها لا يتجاوز ثلاثة مؤسسات في العالم العربي) فهي تعاني من انعدام التنسيق فيما بينها على صعيد الخطط والتكامل. فضلًا عن أنها تعاني من نقص التمويل أو من اضطرابه، مما لا يتيح إمكان وضع خطط عمل مشتركة تأخذ على عاتقها تجاوز النقص الخطير الذي تفتقر إليه المكتبة العربية اليوم، ولاسيما أمهات الكتب في العلوم الإنسانية والاجتماعية فضلًا عن العلوم الدقيقة.
ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
** مبدأ أساس: احترام النص الأصلي ومحاولة نقله إلى القارئ العربي بأكبر قدر ممكن من الدقة لغويًا وثقافيًا وجماليًّا.
كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
** كل الكتب التي ترجمتها كانت إما من اقتراحي أو بعد موافقتي إذا كانت من اقتراح الناشر ــ بما أنني قرأتها ووافقتُ على ترجمتها ــ، وبالتالي فلم يحدث أن ندمت على كتاب ترجمته!
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
** أتمنى للترجمة إلى اللغة العربية أن تشمل أخيرًا كبرى المبدعات الفكرية والأدبية في العالم شرقًا وغربًا، في ترجمات محكمة، وأن تعيش دور النشر على إيقاع العصر فتنقل إلى القارئ العربي ما يتيح له أن يعيش عصره كأي قارئ في أوربا أو في اليابان. أما حلمي كمترجم فهو أن أرى ترجمة عربية للأعمال الكاملة لأحد كبار روائيي القرن التاسع عشر: ستندال، وكذلك أن تُعاد ترجمة كافة روايات ميلان كونديرا (في ترجمة محكمة) إلى العربية كما نشرت في الطبعة الفرنسية الأخيرة التي أشرف عليها بنفسه ضمن سلسلة لابلياد، كي يكتشف القارئ العربي عبقرية هذا الروائي المعاصر.

** نشرت في صحيفة العربي الجديد يوم الجمعة 25 كانون الثاني/يناير 2019.


jeudi 17 janvier 2019



مشهد ديمقراطية في أزمة 
بدرالدين عرودكي 
صحيح أن تاريخ الديمقراطيات الغربية الطويل شهد أزمات متفاوتة في خطورتها وكان أهمها وأشدها خطورة تلك التي أطاحت في بداية الثلث الثاني من القرن الماضي بنظمها وأدت إلى حروب طاحنة في أوربا خصوصًا. ولعل ما تشهده بعض الديمقراطيات الغربية اليوم، وبفضلها، من صعود حثيث فيها لليمين المتطرف الذي يمكن أن يقضي عليها ما إن يتمكن من ناصية الحكم، هو من بعض آيات هذه الأزمة التي تجتازها والتي لامناص للقوى الديمقراطية فيها من العمل على مواجهتها بكل الوسائل التي يجب أن تبقى ضمن إطار الديمقراطية نفسها. ولم تكن طبيعة الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي جرت قبل سنة ونصف تخرج عن هذا المناخ العام والذي كانت فيها القوى الشعبوية قاب قوسين أو أدنى من سدة الرئاسة، والتي انتهت آخر الأمر إلى ما يشبه تفكك كل القوى السياسية التقليدية يمينًا ويسارًا، وانتخاب رئيس من خارج الأطر السياسية التقليدية، بدا وكأنه يعِدُ بالكثير مما لم يكن بوسع منافسيه جميعًا أن يعدوا به.
لذلك، لم يكن أحد من الفاعلين في المشهد السياسي الفرنسي يتوقع أن تتحول حركة انطلقت تطالب في البداية بإلغاء قرار رفع أسعار الوقود إلى حركة سياسية واسعة وفاعلة جعلت فرنسا، حكومة ومجتمعًا، تعيش أزمة حادّة غير مسبوقة في طبيعتها وفي اتساعها وفي تطلعاتها. لم تتوانَ قوى المعارضة السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين عن القيام بمحاولات اختراق هذه الحركة الشعبية عن طريق تبني مطالبها ومحاولات تجذيرها سرّا وعلانية. وكان من الواضح من تصريحات أفراد ارتدوا السترات الصفراء على عجل ترديدَهم لمطالب يجهرُ بها صراحة مسؤولون لدى حزبي المعارضة المتطرفيْن: اليساري واليميني في آن معًا. كما لم يتوان أفرادٌ عُرِفوا بانتماءاتهم إلى اليمين المتطرف عن اختراق الحركة بارتداء السترات الصفراء والقيام بأعمال التخريب والنهب التي طالت المتاجر والرموز المعمارية الوطنية، فضلًا عن الاعتداء على قوات الشرطة والدرك والعمل على تحويل شوارع المدن الكبرى إلى ساحات حرب أسبوعيًّا خلال مظاهرات السبت، في محاولة لوسم الحركة بالعنف، وربما إلى دفعها بالفعل إلى هذا الطريق بعد أن اعتبر البعض أن العنف وحده قمينٌ بحمل الحكومة على الخضوع.
ومع ذلك، باستمرارها وبتصميم أصحابها واتساعها، تمكنت حركة السترات الصفراء في فرنسا شيئًا فشيئأ، وبفضل النظام الديمقراطي نفسه، من دخول المشهد السياسي الفرنسي بوصفها حركة مختلفة، خارج أطر البنى السياسية والاجتماعية التقليدية القائمة من أحزاب ونقابات وبعيدًا عنها. ونجحت تدريجيًا في وضع النقاط على الحروف بالنسبة إلى ما بات يُعرف بمطالبها الأساس على الصعيدين الاقتصادي والسياسي: العدالة الاجتماعية في مجالي الأجور والضرائب من ناحية، وطبيعة وطرق الممارسة الديمقراطية عبر تعديل نظام الديمقراطية التمثيلية واعتماد الديمقراطية المباشرة من ناحية أخرى. وها هي اليوم تسجل أولى نجاحاتها عبر دفع السلطة التنفيذية لا إلى الاستجابة المباشرة لأولى مطالبها (إلغاء رفع أسعار الوقود، زيادة الحد الأدنى للأجور، إلخ) فحسب، بل إلى استجابة أشمل لمجمل تطلعاتها من خلال الدعوة إلى نقاش وطني شامل تشارك فيه مختلف الفئات الشعبية في جميع المناطق الفرنسية، بما فيهم بطبيعة الحال أصحاب السترات الصفراء، وإلى وضع آليات هذا النقاش التي ستبدأ برسالة يخاطب بها رئيس الجمهورية المواطنين الفرنسيين ويقترح فيها ما يراه الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن يتناولها النقاش، مع فتح الباب أمام طرح أية مسألة أخرى تتناول هذا الجانب أو ذاك على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
سنلاحظ خلال كل ذلك أن أحزاب المعارضة يمينها ويسارها بقيت على هامش هذه المعركة الديمقراطية. لاشك أن استقصاءات الرأي قد لعبت دورًا حاسمًا في تعديل مسار الطرفين فيها: السترات الصفراء والسلطة التنفيذية. فالتأييد الشعبي لمطالب الحركة الذي تجاوز السبعين بالمائة والذي انخفض قليلًا بعد حوادث العنف التي جرت بباريس خصوصًا، حمل أصحاب السترات الصفراء، وهم يستمرون في مظاهراتهم وفي تجذير مطالبهم الاجتماعية والسياسية، على النأي بأنفسهم عن كل من يمارس العنف مستغلًّا المظاهرات، وعلى الابتعاد والتميز عن الأحزاب التي لم تتوقف عن محاولاتها استيعابَ حركتهم وتوجيهها. كما أنه من جهة أخرى دفع الحكومة إلى محاولة اتباع سياسة من أجل السيطرة على العنف من ناحية، والاعتراف بشرعية المطالب التي ترفعها الحركة والبحث عن طرق الاستجابة لها. وهو ما فتح المجال، على الأقل في الوقت الراهن، لبدء الخروج من عنق الزجاجة الذي بدا وكأن الديمقراطية التمثيلية قد حُبِسَت فيها. فلأول مرة منذ عام 1789، عام الثورة الفرنسية، كما كتب المفكر الفرنسي إدغار موران، سوف "يتم التعبير في مناخ مأزوم لا بالتصويت بل بالأمنية"، خلال فترة حددتها السلطة التنفيذية بثلاثة أشهر، وقدمت إطارًا مفتوحًا لها تضمنتها رسالة رئيس الجمهورية.
طبيعي أن تؤدي أحزاب المعارضة المختلفة دورها أو ما تعتبره وظيفتها: الاعتراض بحجة أن المطالب المطروحة في الشوارع واضحة ولا تحتاج إلى نقاش أو تأجيل : رفع الأجور وخفض الضرائب، على الصعيد الاجتماعي، وتبني الديمقراطية المباشرة التي تشرك المواطنين في اعتماد القوانين الخاصة بالقضايا السياسية والاجتماعية التي تمسُّ حياتهم. بل وأن يذهب الطرفان، أقصى اليمين وأقصى اليسار، إلى المطالبة بحل المجلس الوطني وإجراء انتخابات جديدة آملين الوصول بذلك إلى السلطة التي فاتهم الوصول إليها في الانتخابات الأخيرة. كان هامش المناورة أمام السلطة التنفيذية محدودًا. فحلُّ المجلس النيابي، كما فعل الجنرال ديغول إثر حركة الطلبة عام 1968، يمكن أن يؤدي بالأحرى إلى وصول اليمين أو اليسار الشعبوييْن إلى الحكم. وكان لابد، في ظل تراجع التأييد الشعبي للرئيس الحالي، من العثور على طريقة يستجيب بها إلى المطالب الجوهرية التي طرحتها حركة السترات الصفراء من جهة ومواصلة برنامج الإصلاحات الاجتماعية والسياسية التي اضطرت الحكومة إلى تأجيلها تحت ضغط حركة السترات الصفراء. هكذا، خرج الرئيس يعلن تفهمه لمطالب هذه الأخيرة، داعيًا إلى نقاش وطني عام يجري خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي ويؤدي بالنتيجة إلى اعتماد المطالب الشعبية التي ستستخلص من هذه النقاشات التي ستجري في كل المناطق والمدن والقرى الفرنسية.
بعد الرسالة التي وجهها الرئيس إلى المواطنين، ووضع آليات النقاش الوطني وضماناته القانونية والتنظيمية وتسمية المسؤولين على الإشراف على النقاش وضمان حريته وشفافيته،  افتتحت أول جلسة نقاش بحضور الرئيس ودعي إليها ستمائة عمدة لمدن وقرى منطقة الأور (النورماندي). دامت الجلسة ما يقارب سبع ساعات، كان خلالها ممثلون منتخبون، على مرأى من المواطنين الفرنسيين جميعًا الذين كان يسعهم متابعة هذه الجلسة على شاشات التلفزيون مباشرة، يقدمون لرئيس الجمهورية مطالب السكان الذين يمثلونهم ويطرحون عليه مباشرة وفي غياب أي تنسيق أو إعداد مسبق، كل الأسئلة ــ بما فيها الأسئلة التي تتناول الموضوعات الحساسة ــ التي كانت من قبلُ مطروحة بين أصحاب السترات الصفراء والتي تتناول حاجات من يمثلونهم من السكان وتطلعاتهم بصورة بالغة الشفافية، منتقدين بعض القوانين التي صدرت في العهود السابقة أو منذ انتخابه، أو مقترحين بعض الإجراءات التي تسهم في تحسين شروط معاشهم في المناطق الريفية والزراعية. وحرص رئيس الجمهورية على أن يرد على كل سؤال طرح عليه، بهدوء وبشفافية، أمام الفرنسيين جميعًا. سيلاحظ المشاهدون/الشاهدون أن الرئيس حظي، حين دخوله القاعة، ببعض التصفيق الخجول، وأنه، في نهاية الساعات السبع، حظي بتصفيق الجميع وقوفًا!
لا يسع كل من تابع هذا النقاش غير المسبوق، على الأقل خلال السنوات الستين من عمر الجمهورية الخامسة، إلا أن يقف بإعجاب أمام مشهد لا يمكن لأي نظام آخر غير نظام الديمقراطية أن يتيحه ــ وذلك ضمن القواعد التي تفرضها هذه الأخيرة ــ من حقوق للجميع في الاختلاف والاعتراض والمطالبة والمحاججة. كلٌّ في مكانه وحسب موقعه: رئيس الجمهورية وممثلو السكان المحليين. وغدًا مع مواطنين لا يحملون عبء أي مسؤولية عامة. كلٌّ في موقعه وفي إطار وحدود هذا الموقع وما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
لا يستطيع أحدٌ اليوم أن يتنبأ اليوم بمآل الأزمة التي فجرتها حركة السترات الصفراء. قد يؤدي هذا النقاش الوطني العام إلى الخروج منها. وذلك يعني نجاح الديمقراطية في عبور عنق الزجاجة عن طريق تجديد نفسها خصوصًا. وقد يؤدي أيضًا إلى استفحالها. وهو ما قد يعني فتح الأبواب أمام اليمين الشعبوي، أي أمام المجهول.
يبقى أن فرنسا، منذ السابع عشر من شهر تشرين أول/أكتوبر الماضي، تقدم درسًا غير مسبوق في ممارسة الديمقراطية..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 17 كانون الثاني 2019.


jeudi 3 janvier 2019



قتلة الربيع العربي 
بدرالدين عرودكي 
لم  يكن من قبيل الصدفة وقد بدأ الانتقال من القول إلى الفعل في إعادة تأهيل النظام الكيمياوي في سورية بدءًا بدول العالم العربي، أن يقوم الأمين العام للجامعة العربية ووزير خارجية مصر السابق، وهو يتحدث في محاضرة له بجامعة القاهرة مؤخرًا عن تجربته دبلوماسيًا ووزيرًا، بالقول، أخيرًا، وبالفم الملآن ما كان الكثير من عمداء الثورات المضادة ومحلليها الاستراتيجيين في العالم العربي يحجمون عن قوله حياء، أو خشية، أو، وهو الأرجح، خبثًا:
"هناك خطأ يجب أن نقف في وجهه ونقوّمه، موجودٌ حاليًا، أدى إلى انتشار موجات التطرف والإرهاب، وهو ما يسمى بثورات الربيع العربي". ويضيف لمزيد من التوضيح: "إن تدمير الدول العربية وقتل مئات الآلاف من العرب لا يمكن أن يسمى ربيعا عربيا، فثورات الدول العربية لم تكن ربيعا، بل كانت دمارا لكونها أدت إلى انتشار الإرهاب والتطرف". وكذلك، لكي يبدو أكثر واقعية: "كان هناك حاجة للتغيير ليس في مصر ولكن في العالم العربي، وكان لابد أن نسلم بها وندعمها ونعطيها الفرصة، ولكن المشكلة هي كيفية إدارة التغيير دون القتل وإهدار الدماء والمليارات، وهو ما حدث بالفعل".
لنلاحظ أولًا أنه بهذه الصيغ: "ما يسمى بثورات الربيع العربي"؛ "ثورات الدول العربية"، ثم بعد تسجيل هذه الاختصارات ــ التي باتت أداة كل الناطقين باسم أو المدافعين عن الثورات المضادة في العالم العربي ــ في قفزه البهلواني فوق الوقائع والتاريخ والأشخاص والجماعات، لكي يؤكد الغاية التي يسعى إليها: مسؤولية الدمار، وقتل الآلاف من العرب تقع حصرًا على "ما يسمى" الربيع العربي. ينكر السيد الأمين العام تسمية ما حدث في عام 2011 بـ"ثورات الربيع العربي" لكي ينتقل فورًا إلى اعتبارها، بكل بساطة، "دمارًا" وسببًا في "انتشار الإرهاب والتطرف". ولم يلاحظ سيادته حين يستخدم تعبير "ثورات الدول العربية" أن الدول، عادة، لا تثور، وأن من ثار بالتالي لم تكن الدول العربية بل شعوبها، لتخليص هذه الدول من براثن النظم الاستبدادية على اختلافها التي كانت تهيمن عليها.  أما "الحاجة إلى التغيير" التي كان يجب التسليم بها ودعمها، فلا ضرورة لدى السيد الأمين العام أن يذكر لماذا تأخرت الاستجابة إلى هذه الحاجة عمليًا أكثر من ثلاثين عامًا على الأقل ومن المسؤول، ودون أن يقول، ثانية، من الذي أدار طريقة الاستجابة إلى مطلب التغيير، ومن الذي مارس القتل ومن أهدر الدماء والمليارات!
وإذا لم يكن من الممكن لأحدٍ سليم العقل والوجدان عاش، منذ عام 2011 على الأقل، ما حدث في العالم العربي يوما بعد يوم، إلا أن يتجاوز اختصارات السيد الأمين العام وأن يفهم أن المقصودَ بـ"الربيع العربي" على لسانه، ــ وهو يختصر متجاهلًا الحقائق عامدًا متعمدًا ــ كان ملايين الذين خرجوا في تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية يطالبون بالحرية وبالكرامة، فما القول بالنسبة للذين عاشوا ورزحوا طوال النصف الثاني من القرن العشرين تحت حكم العسكر، أو شهدوا توالي الانقلابات العسكرية تحت مسميات مختلفة تتراوح بين الثورة والحركة التصحيحية وما أدت إليه من دمار اجتماعي وثقافي وسياسي حقيقي لم يشر إليه السيد الأمين العام، أو محاولات عدد من رؤساء "الجمهورية" خلال تلك الفترة توريث السلطة للأبناء كما لو كانت بلد كل منهم مزرعة عائلية خاصة، كما حدث في سورية؟  
نعلم أن الأمين العام للجامعة العربية لم يكن أول من يُجرِّمُ "الربيع العربي"، لكن لتجريمه، نظرًا لموقعه الوظيفي، دلالة خاصة. فقادة الثورة المضادة كانوا، بانقلاباتهم العسكرية خصوصًا، قد جرموه قبلَه بالفعل لا بالقول؛ وآخرون منهم لم يعدموا وسيلة إلا واستخدموها للقضاء عليه. ولا يزال مثال سورية قائمًا أمام أعيننا. لكن موعد حصاد نتائج الثورات المضادة يبدو الآن، بعد ثمانية سنوات من الاعتقالات والتغييب القسري والقتل والتهجير وبدء ما يسمى إعادة تأهيل القتلة على أيدي المحتل الأكبر وشركائه المتواطئين معه غربًا وشرقًا، كما لو أنه صار يبيح انطلاق الألسنة "الرسمية" كي تقول صراحة وعلنًا ما كان سادتها، أعداء الثورة، يفعلونه في الميدان، وفي مقدمتها أكثرها رمزية على صعيد التعميم، أي أمين عام جامعة الدول العربية!
لن يكون غريبًا والحالة هذه أن يرمي مشروع قادة الثورة المضادة لعام 2019 إلى التكريس الرسمي لـ"نهاية الربيع العربي"، بعد تجريمه وتحميله مسؤولية الدمار الذي "أدى إليه في البلدان التي وقع فيها". لكن العبرة على كل حال بالخواتيم كما يقال. والخواتيم لا تزال، أيًّا كانت المظاهر، مجرد رغبات لدى هؤلاء القادة تتلوها محاولاتهم التي تشارك فيها معظم القوى الدولية الفاعلة، والإقليمية، العربية وغير العربية، التي وقفت ضد ثورات الشعوب العربية ودعمت سياسيًا وماليًا وعسكريًا الثورات المضادة. ذلك أنه لا يمكن بقرار ما ــ رغم كل ما شهدناه ونشهده من محاولات الخنق والتخوين والتجريم بل والدفن ــ اعتبار الهزة السياسية والاجتماعية والثقافية التي حدثت في عام 2011 قد انتهت، ما دامت ارتداداتها لم تحدث بعد. وما مشروع التكريس المشار إليه إلا محاولة طمس ما لا يُطمَس من عدد هام من الوقائع: أن ثورة الشعوب في العالم العربي ممكنة؛ أن هذه الثورات ليست مؤامرات خارجية بدليل أن "الخارج" المتهم بها هو من يدعم القضاء عليها؛ أن من قاموا بهذه الثورات على وعي بأن ما ارتكبوا من أخطاء كانت نتيجة حرمانهم من ممارسة السياسة بمعناها النبيل هو الذي حال دون الوصول بثوراتهم إلى الهدف المنشود؛ أن مطالب الشعوب العربية خلال هذه الثورات، من تونس إلى سورية، كانت واحدة؛ أن من قاموا بالثورة في هذا البلد العربي أو ذاك كانوا يتابعون ما يجري في البلدان الأخرى ويحاولون تجنب الأخطاء؛ أن الذين أسرعوا باللحاق بالثورات أو حاولوا ركوب قطاراتها من المخضرمين في عالم السياسة والنضال، كانوا أحد فريقيْن: إما فريق تخلى عنها لدى أولى عثراتها، وإما فريق عجز عن القيام بالمهمة التي تصدى لها حين التحاقه بها؛ أن الثورة ليست عملية انقلاب عسكري ينجح أو يفشل، بل هي عملية اجتماعية عميقة تستمر ما استمرت الأسباب الداعية إليها، وهي أسباب تفاقمت اليوم بفعل الثورات المضادة، ومن ثمَّ فهي لا تزال راهنة أكثر من أي وقت مضى؛  أن انفجار الثورات لا يحدث بناء على قرار أو مرسوم، بل هو كالعاصفة تعلن عن نفسها حين تحدث، وتجرف كل ما يقف في طريقها بلا تمييز.
هذه الثورات، التي عرفت بثورات الربيع العربي، لم تنته بعد.. وهي لم تنته لأنها لم تؤتِ أكلها المنتظر. ذلك أن خطأ أمين عام جامعة الدول العربية في حديثه عنها وفي توصيفها يكمن لا في اختصارات الاستغباء التي لجأ إليها فحسب، بل، خصوصًا، في استخدامه صيغة الماضي عن حدث لا يزال يتفاعل أمام عينيْه في طول العالم العربي وعرضه.
ومن الأجدر له ألا ينسى: يضحك كثيرًا من يضحكُ أخيرًا.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 3 كانون الثاني/يناير 2019.