samedi 27 octobre 2018




جمال خاشقجي
 بين الكَتَبَةُ والكُتّاب 
 بدرالدين عرودكي
لم يكن جمال خاشقجي في عالمنا العربي المعاصر أول صحفي أو كاتب رأي يقتل اغتيالًا بسبب آرائه. فقد سبق أن اغتيل عدد من الصحفيين الغربيين، خلال السنة الأولى من الثورة السورية وفي سورية، الفرنسي جيل جاكيه (كانون الثاني 2012) والأمريكية ماري كولفين (شباط/فبراير 2012) ومن قبلُ في لبنان، اللبنانيين سمير قصير (حزيران 2005) وجبران تويني (كانون أول/ديسمبر 2005). لم يثر قتل هؤلاء، وهم الأشهر بين مئات الصحفيين والكتاب والإعلاميين الذين قتلوا خلال السنوات الأخيرة، ما أثاره مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي خصوصًا من استنكار وبلا توقف منذ نيف وثلاثة أسابيع حتى الآن. أسباب عديدة وراء هذا الاهتمام غير المسبوق، قد يكون مهمًا بكل تأكيد الإشارة إلى بعضها وإن لم يكن ذلك غرض هذا المقال: هناك بلا شك شخصية القتيل وجنسيته السعودية وصفته ككاتب معارض لحكومة بلده، ودعم صحيفة أمريكية شهيرة، واشنطن بوست، التي كان أحد كتابها؛ هناك أيضًا الطريقة التي اغتيل بها عن طريق استدراجه وقتله بل وتقطيع جسده إربًا كما يبدو؛ بل لعل أبرز هذه الأسباب أنها المرة الأولى التي يكاد يقبض فيها بالجرم المشهود على دولة بارتكاب جريمة موصوفة في مجال حقوق الإنسان.
شهدنا وتابعنا العاصفة الكاسحة وغير المسبوقة التي أثارها مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي. إذ سرعان ما عبرت حكومات الدول الكبرى في الدائرة الديمقراطية عن مواقفها في أسئلة طرحتها على الدولة المسؤولة التي حدثت الجريمة في قنصليتها لدى دولة أجنبية، والتي أنكرت في البدء ارتكاب الجريمة داخل جدرانها؛ وتراكم كمٌّ هائل، على وجه الخصوص، من التعليقات والتفسيرات والتأويلات، سواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر الصحافة المكتوبة والمرئية والإلكترونية، وهي المعنية هنا. كان من الممكن، منذ يوم اقتراف الجريمة، تصنيف مؤلفي التعليقات والتحليلات في العالم العربي (ممن لا ينتمون إلى الدولة المعنية) على الأقل ضمن فئات خمس نقرأ ما تكتبه أو نسمع ما تدلي به عبر وسائل الإعلام الصوتية والمرئية: فئة أولى كانت تردد من دون أي محاولة للتحليل أو التساؤل، وبصورة شبه حرفية، ما كانت وسائل إعلام الدولة المعنية تذيعه، كما لو أن مؤلفيها جعلوا من أنفسهم ناطقين باسمها، لا هوية لهم إلا هوية مُستَخدميهم. تنطوي كتاباتهم على يقين قاطع وحاسم يحول دون أي نقاش في المبدأ أو في التفاصيل. وهو يقين يستمد قوته ــ أو يجهد في بيان ذلك ــ من "قوة" السلطة التي يقول خطابها. أما مداخلاتهم الشفهية في مواجهة الطرف الآخر، فنادرًا ما تصمد أمام قوة حجج هذا الأخير، وتبدو على وجه المغلوب على أمره منهم  آثار الحرج أو الضيق، في حين يستمر من اعتاد منهم الخنوع في القيام بوظيفته طمعًا في الحصول على أجره دون تأخير.
 أما مؤلفو الفئة الثانية فهم يرددون ، في مواجهة مؤلفي الفئة الأولى، كل ما يمكن أن يفتت حججها ويلغي صلاحيتها؛ ولقد يبدو أنهم لا يستهدفون في كتاباتهم أو عبر مداخلاتهم سوى قول الحق أو الوصول إلى الحقيقة. لكن التأمل في طبيعة خطابهم يحيل دومًا ــ حتى وإن بدا أنهم لا يجانبون الحق أو يستهترون بالحقيقة ــ إلى طبيعة خطاب سلطة أخرى تواجه السلطة الأولى، أو هي في حالة حرب سياسية علنية معها. وهو ما يثير الشك في صلاحية ما يكتبون أو ما يقولون مادامت كتاباتهم لا تقول بالضرورة آراءهم ولا تعتمد حججهم الشخصية بقدر ما تكرر بصور متباينة، هي الأخرى، خطاب "السلطة" المقابلة.
تضم الفئة الثالثة كتّابًا عمدوا، قصدًا أو اضطرارًا، إلى اعتماد  ضروب من صمت يشي بالحرج أو بالخوف من أو استحالة قول الرأي ونشره في وسائل إعلامية تمولها الدولة المتهمة. وربما كان الذين قصدوا الصمت يفضلون، أمام فيض الكذب، والمعلومات المزيفة، وتغلب كمِّ ما لا يقال على كمِّ ما يقال، اعتمادَ ذلك حجة في العزوف عن الإدلاء برأيهم، وهو ما يظنون أنه كافٍ في آن واحد للمحافظة على شرف مهنتهم وعلى مصادر رزقهم. أما الصمت الاضطراري فهو إما نتيجة استحالة قول الرأي الحرّ في وسيلة إعلامية لا تملك استقلالها ولا قِبَلَ لها بالخروج على خطاب سلطة الدولة التي تمولها أو التي ينتمي إليها ممولها. هكذا اقتصرت مثل هذه الوسائل على تكرار الأخبار التي تذيعها وسائل الإعلام الرسمية وانتقاء ما يناسب خطاب هذه الأخيرة من وسائل الإعلام الأخرى، واختفت منها مقالات الرأي على شهرة كتابه فيها وقدراتهم.
لكن الفئة الرابعة التي تتمثل في ما بات مقبولًا انتماء مجموع أفرادها إلى اليسار فاقد الذاكرة، رأت في جريمة الاغتيال، مثلما رأت في ثورات الربيع العربي مؤامرة الإمبريالية العالمية وحلفائها في المنطقة العربية، مناسبة استثنائية لتكرار ضخ صيغها الجاهزة المماثلة. ولن يعدم هؤلاء فرصة يتعرضون فيها لشخص القتيل لتجريده من أية صلاحية تسمح باعتبار اغتياله كبتًا لحرية التعبير، وتهديدًا دائمًا لكل الكتاب الأحرار والمعارضين داخل البلاد وخارجها بما أن يد الاستبداد قادرة على الوصول إلى معارضيه والقضاء عليهم، وهو المعنى الأول الذي ينبض به حدث اغتيال جمال خاشقجي.   
أما كتاب الفئة الخامسة فهم، في واقع الأمر، أكثر المثقفين غيرة على حرية تفكيرهم وقلمهم، وأشدهم حرصًا على استقلالهم عن أية سلطة أو حكومة أو دولة. كان هؤلاء يبرهنون على ذلك حين كانوا، بمناسبة هذا الحدث ،لا يأبهون لموقف هذه الدولة أو تلك إلا بمقدار ما يكشف عن بعدٍ أو أكثر من أبعاد حدث كانت تفاصيله المادية وظروف ولحظات حدوثه تتكشف يومًا بعد يوم. كان همّهم ينصب أساسًا على ما يقع حصرًا ضمن فضاء اختصاصهم بوصفهم مثقفين أحرارًا، وخصوصًا في ما يحمله الحدث نفسه، أو يصدر عنه، من دلالات المعنى والرمز والأبعاد.  
هذا العرض السريع للفئات الخمس من "الكتبة" و "الكتاب" حسب طبيعة مواقفهم من اغتيال كاتب وإعلامي لا يملك إلا قلمه يحيلنا إلى ما كشفت عنه الثورة السورية بوجه خاص في مجال ضحالة الثقافة السياسية لعدد كبير من "المثقفين" و "الكتبة" من "المعارضين"، ولا سيما في مماهاتهم مفهوم النظام السياسي مع مفهوم الدولة. فإذا كانت الأنظمة الاستبدادية العربية تعتمد في خطاباتها هذه المماهاة دفاعًا عن نفسها، فإن قيام معارضيها بذلك يكشف إما الغباء أو ضحالة التجربة والفهم السياسييْن. ذلك أن اغتيال جمال الخاشقجي أتاح لنا أيضًا أن نرى هذه الضحالة ذاتها لدى العديد من الكتبة العرب المستأجرين لخدمة السلطات القائمة الذين كانوا يماهون، هم أيضًا، بين الدولة والنظام.
مقتل الخاشقجي اغتيالًا يطرح أكثر من أي وقت مضى وبقوة المسألة الأساس الخاصة بالنظم الاستبدادية، ملكية وجمهورية سواء بسواء، أي مسألة حرية التعبير.

** نشر على موقع جيرون يوم السبت 27 تشرين أول/أكتوبر 2018.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire