samedi 27 octobre 2018




جمال خاشقجي
 بين الكَتَبَةُ والكُتّاب 
 بدرالدين عرودكي
لم يكن جمال خاشقجي في عالمنا العربي المعاصر أول صحفي أو كاتب رأي يقتل اغتيالًا بسبب آرائه. فقد سبق أن اغتيل عدد من الصحفيين الغربيين، خلال السنة الأولى من الثورة السورية وفي سورية، الفرنسي جيل جاكيه (كانون الثاني 2012) والأمريكية ماري كولفين (شباط/فبراير 2012) ومن قبلُ في لبنان، اللبنانيين سمير قصير (حزيران 2005) وجبران تويني (كانون أول/ديسمبر 2005). لم يثر قتل هؤلاء، وهم الأشهر بين مئات الصحفيين والكتاب والإعلاميين الذين قتلوا خلال السنوات الأخيرة، ما أثاره مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي خصوصًا من استنكار وبلا توقف منذ نيف وثلاثة أسابيع حتى الآن. أسباب عديدة وراء هذا الاهتمام غير المسبوق، قد يكون مهمًا بكل تأكيد الإشارة إلى بعضها وإن لم يكن ذلك غرض هذا المقال: هناك بلا شك شخصية القتيل وجنسيته السعودية وصفته ككاتب معارض لحكومة بلده، ودعم صحيفة أمريكية شهيرة، واشنطن بوست، التي كان أحد كتابها؛ هناك أيضًا الطريقة التي اغتيل بها عن طريق استدراجه وقتله بل وتقطيع جسده إربًا كما يبدو؛ بل لعل أبرز هذه الأسباب أنها المرة الأولى التي يكاد يقبض فيها بالجرم المشهود على دولة بارتكاب جريمة موصوفة في مجال حقوق الإنسان.
شهدنا وتابعنا العاصفة الكاسحة وغير المسبوقة التي أثارها مقتل الخاشقجي على الصعيد الإعلامي. إذ سرعان ما عبرت حكومات الدول الكبرى في الدائرة الديمقراطية عن مواقفها في أسئلة طرحتها على الدولة المسؤولة التي حدثت الجريمة في قنصليتها لدى دولة أجنبية، والتي أنكرت في البدء ارتكاب الجريمة داخل جدرانها؛ وتراكم كمٌّ هائل، على وجه الخصوص، من التعليقات والتفسيرات والتأويلات، سواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر الصحافة المكتوبة والمرئية والإلكترونية، وهي المعنية هنا. كان من الممكن، منذ يوم اقتراف الجريمة، تصنيف مؤلفي التعليقات والتحليلات في العالم العربي (ممن لا ينتمون إلى الدولة المعنية) على الأقل ضمن فئات خمس نقرأ ما تكتبه أو نسمع ما تدلي به عبر وسائل الإعلام الصوتية والمرئية: فئة أولى كانت تردد من دون أي محاولة للتحليل أو التساؤل، وبصورة شبه حرفية، ما كانت وسائل إعلام الدولة المعنية تذيعه، كما لو أن مؤلفيها جعلوا من أنفسهم ناطقين باسمها، لا هوية لهم إلا هوية مُستَخدميهم. تنطوي كتاباتهم على يقين قاطع وحاسم يحول دون أي نقاش في المبدأ أو في التفاصيل. وهو يقين يستمد قوته ــ أو يجهد في بيان ذلك ــ من "قوة" السلطة التي يقول خطابها. أما مداخلاتهم الشفهية في مواجهة الطرف الآخر، فنادرًا ما تصمد أمام قوة حجج هذا الأخير، وتبدو على وجه المغلوب على أمره منهم  آثار الحرج أو الضيق، في حين يستمر من اعتاد منهم الخنوع في القيام بوظيفته طمعًا في الحصول على أجره دون تأخير.
 أما مؤلفو الفئة الثانية فهم يرددون ، في مواجهة مؤلفي الفئة الأولى، كل ما يمكن أن يفتت حججها ويلغي صلاحيتها؛ ولقد يبدو أنهم لا يستهدفون في كتاباتهم أو عبر مداخلاتهم سوى قول الحق أو الوصول إلى الحقيقة. لكن التأمل في طبيعة خطابهم يحيل دومًا ــ حتى وإن بدا أنهم لا يجانبون الحق أو يستهترون بالحقيقة ــ إلى طبيعة خطاب سلطة أخرى تواجه السلطة الأولى، أو هي في حالة حرب سياسية علنية معها. وهو ما يثير الشك في صلاحية ما يكتبون أو ما يقولون مادامت كتاباتهم لا تقول بالضرورة آراءهم ولا تعتمد حججهم الشخصية بقدر ما تكرر بصور متباينة، هي الأخرى، خطاب "السلطة" المقابلة.
تضم الفئة الثالثة كتّابًا عمدوا، قصدًا أو اضطرارًا، إلى اعتماد  ضروب من صمت يشي بالحرج أو بالخوف من أو استحالة قول الرأي ونشره في وسائل إعلامية تمولها الدولة المتهمة. وربما كان الذين قصدوا الصمت يفضلون، أمام فيض الكذب، والمعلومات المزيفة، وتغلب كمِّ ما لا يقال على كمِّ ما يقال، اعتمادَ ذلك حجة في العزوف عن الإدلاء برأيهم، وهو ما يظنون أنه كافٍ في آن واحد للمحافظة على شرف مهنتهم وعلى مصادر رزقهم. أما الصمت الاضطراري فهو إما نتيجة استحالة قول الرأي الحرّ في وسيلة إعلامية لا تملك استقلالها ولا قِبَلَ لها بالخروج على خطاب سلطة الدولة التي تمولها أو التي ينتمي إليها ممولها. هكذا اقتصرت مثل هذه الوسائل على تكرار الأخبار التي تذيعها وسائل الإعلام الرسمية وانتقاء ما يناسب خطاب هذه الأخيرة من وسائل الإعلام الأخرى، واختفت منها مقالات الرأي على شهرة كتابه فيها وقدراتهم.
لكن الفئة الرابعة التي تتمثل في ما بات مقبولًا انتماء مجموع أفرادها إلى اليسار فاقد الذاكرة، رأت في جريمة الاغتيال، مثلما رأت في ثورات الربيع العربي مؤامرة الإمبريالية العالمية وحلفائها في المنطقة العربية، مناسبة استثنائية لتكرار ضخ صيغها الجاهزة المماثلة. ولن يعدم هؤلاء فرصة يتعرضون فيها لشخص القتيل لتجريده من أية صلاحية تسمح باعتبار اغتياله كبتًا لحرية التعبير، وتهديدًا دائمًا لكل الكتاب الأحرار والمعارضين داخل البلاد وخارجها بما أن يد الاستبداد قادرة على الوصول إلى معارضيه والقضاء عليهم، وهو المعنى الأول الذي ينبض به حدث اغتيال جمال خاشقجي.   
أما كتاب الفئة الخامسة فهم، في واقع الأمر، أكثر المثقفين غيرة على حرية تفكيرهم وقلمهم، وأشدهم حرصًا على استقلالهم عن أية سلطة أو حكومة أو دولة. كان هؤلاء يبرهنون على ذلك حين كانوا، بمناسبة هذا الحدث ،لا يأبهون لموقف هذه الدولة أو تلك إلا بمقدار ما يكشف عن بعدٍ أو أكثر من أبعاد حدث كانت تفاصيله المادية وظروف ولحظات حدوثه تتكشف يومًا بعد يوم. كان همّهم ينصب أساسًا على ما يقع حصرًا ضمن فضاء اختصاصهم بوصفهم مثقفين أحرارًا، وخصوصًا في ما يحمله الحدث نفسه، أو يصدر عنه، من دلالات المعنى والرمز والأبعاد.  
هذا العرض السريع للفئات الخمس من "الكتبة" و "الكتاب" حسب طبيعة مواقفهم من اغتيال كاتب وإعلامي لا يملك إلا قلمه يحيلنا إلى ما كشفت عنه الثورة السورية بوجه خاص في مجال ضحالة الثقافة السياسية لعدد كبير من "المثقفين" و "الكتبة" من "المعارضين"، ولا سيما في مماهاتهم مفهوم النظام السياسي مع مفهوم الدولة. فإذا كانت الأنظمة الاستبدادية العربية تعتمد في خطاباتها هذه المماهاة دفاعًا عن نفسها، فإن قيام معارضيها بذلك يكشف إما الغباء أو ضحالة التجربة والفهم السياسييْن. ذلك أن اغتيال جمال الخاشقجي أتاح لنا أيضًا أن نرى هذه الضحالة ذاتها لدى العديد من الكتبة العرب المستأجرين لخدمة السلطات القائمة الذين كانوا يماهون، هم أيضًا، بين الدولة والنظام.
مقتل الخاشقجي اغتيالًا يطرح أكثر من أي وقت مضى وبقوة المسألة الأساس الخاصة بالنظم الاستبدادية، ملكية وجمهورية سواء بسواء، أي مسألة حرية التعبير.

** نشر على موقع جيرون يوم السبت 27 تشرين أول/أكتوبر 2018.


jeudi 18 octobre 2018



الحريّة المستباحة.. 
بدرالدين عرودكي 
كما لو أن الحرية في عالمنا المعاصر، والعربي أولًا وبوجه خاص، باتت، في ممارستها الحقيقية اليومية، وهمًا، يُضاف إلى كمٍّ من الأوهام التي تحفل بها جوانب حياتنا العربية المختلفة، لا يزال يتضخم حجمه ووزنه، ويتسع فضاء جغرافيته، العربية خصوصًا،  يومًا بعد يوم. ليس الأمر جديدًا بكل تأكيد. لكنه لم يكن يومًا على هذا النحو من الاتساع والعمق والشمول. كانت هوامش من الممارسة الواقعية والحقيقية للحرية في الفضاء السياسي أو الفكري المتاحة تسمح بتجاوز الشعور بالاختناق البطيء، وتحمل المبدعين أو الناشطين في مختلف المجالات على الاستفادة من هذه الهوامش بهذا القدر أو ذاك، عبر إنتاج مبدعات أصيلة في الميدان الثقافي، أو اتخاذ مواقف نقدية صلبة في الميدان السياسي. إلا أن هذه الهوامش بدأت، منذ خمسين عامًا، تتلاشى بالتدريج. في السياسة أولًا ثم في الثقافة. وتحول ثالوث المحرمات (الدين والسياسة والجنس) الذي كان من قبل سائدًا كعرْفٍ تفرضه المواضعات الاجتماعية، إلى شبه قانون سرعان ما اعتمدته السلطات السياسية الرسمية ذات الاتجاه الشمولي، فضلًا عن السلطات الدينية غير الرسمية فيما يخصها، فصارت هيمنته أكثر عمقًا وشمولًا من أي وقت مضى.
وبصورة ضمنية وتدريجية، أعادت السلطات الاستبدادية العربية تحديد مفهوم الحرية نفسه وكيفيّات ممارستها في الفضاء السياسي خصوصًا والاجتماعي عمومًا. فحُدِّدَ السقف الذي يمكن ممارستها تحته أو في ظله، ووضعت قوانين تحدد طرق ممارستها ومختلف العقوبات في حال الخروج عليها. فإذا كانت حدود فضاء الحرية تحددها قوانين الدول الديمقراطية التي وضعها ووافق عليها ممثلو الأمة ديمقراطيًا بما يكفل للمواطن حرية التعبير، ولم يؤدّ تطبيقها يومًا إلى أن يُساق كاتب أو فنان أو ناشط سياسي إلى المحكمة فالسجن بجريمة التعبير الحر عن رأيه  أيًا كان موضوعه،  فإن النظم الاستبدادية في عالمنا العربي التي وإن اعتمدت ما يشبه هذه القوانين في صوغها، إلا أنها لم تتبنَّ طرق اعتمادها أو وضعها موضع التنفيذ، أدّت إلى وضع هجين، ظاهره حرية في الممارسة وفي التعبير السياسيين والفكرييْن، وباطنه رقابة صارمة أودت ولا تزال تودي بصاحبها إلى السجن إن لم يكن إلى القتل في بعض الأحيان. إذ في الوقت الذي يمارس فيه القضاء في النظم الديمقراطية الرقابة على تطبيق القوانين بوصفه المرجع الأول والأخير، صارت الدوائر الأمنية في النظم الاستبدادية هي التي تقوم بهذا الدور. لم تعد الحرية في هذه الأخيرة تعني، بين ما تعنيه، أن يكتب أو يقول المواطن ما يراه من سلبيات في شؤون البلد، أو من مشكلات في برامج وممارسات حكومته، بل في أن يكون المنافحَ عنها والمروِّجَ لمحاسن أفعالها. هكذا ولد الكاتب والمثقف المنضوي، والموظف غالبًا لدى الدوائر الأمنية التي ستستخدمه أولًا، مثالًا حيًا على ممارسة الحرية التي حددت مفهومها، وثانيًا، في الرقابة على كل من يرفض الانضواء تمهيدًا لترويضه أو للجمه.
انفجر ذلك كله في العالم العربي مع ثورات الشباب العربي قبل ثمانية أعوام، وفي سورية خصوصًا هذه المرة. كان من أولى الآثار الفورية لهذه الثورات، انطلاق أصواتٍ لم تكن من قبل مسموعة، وبروز أسماء لم تكن معروفة، ولاسيما في أوساط الشباب. وفي كل مجالات التعبير، السياسي والأدبي والفني والإعلامي. ذلك ما أثار حفيظة الأنظمة الاستبدادية التي سارعت إلى كمِّ الأفواه بالسجن أو بالقتل أو بالدفع إلى مغادرة البلد، كما حدث في سورية منذ الأشهر الستة الأولى للثورة. لكن الثورات أدت، في الوقت نفسه، إلى ظهور فئة من المثقفين والكتاب والإعلاميين المرتزقة، سوف يتزايد عدد أفرادها مع انتصار الثورات المضادة في مختلف بلدان الربيع العربي، ومع التغلغل الإيراني في النسيج الاجتماعي لأربعة بلدان عربية. فقد امتلأت بكتاباتهم الصحف الموالية سواء للنظم الاستبدادية، أو لإيران الولي الفقيه؛ وباتوا الطرف الآخر في نقاشات كل برنامج تلفزيوني أو إذاعي  تبثه الفضائيات العربية أو الأجنبية الناطقة بالعربية: "محللون استراتيجيون"، أو "خبراء سياسيون"، أو "مختصون بالجماعات الجهادية أو الإرهابية"، يرددون بلا تعب أو كلل، وبصفاقة ترسمها البسمات الصفراء في وجوههم، خطابات ومزاعم الأنظمة الاستبدادية وأكاذيبها؛ هذا على أنهم إما لم يعيشوا في ظلها ولم يكتووا بنار استبدادها، أو أنهم كانوا من كبار المنتفعين فيها ومنها. وككل المنافقين، لا يجدون أي حرج في التغاضي عن الجرائم التي يرتكبها النظام الذي يدافعون عنه، ولا في تجاهل المشكلة الأساس موضوع النقاش، أو في التركيز على تفاصيل لا تمت إليها بصلة هربًا من المواجهة.
هكذا استعيدت استباحة الحرية كما كانت مستباحة قبل عام ثورات الربيع العربي.
في سورية مثلًا، لا يزال الوضع على حاله في المناطق التي يسيطر عليها النظام الأسدي: كتّاب ومثقفون موالون أو منضوون، كما كانوا من قبل، أو سواهم ممن اختاروا الصمت بوصفه نهجَ أضعف الإيمان. لكن استباحتها كانت أكثر عنفًا وصفاقة في المناطق التي سيطرت عليها الجماعات "الجهادية"، على اختلاف انتماءاتها ومزاعمها "الدينية"، وهي تحاول إقامة "نظام" لا يقل عنفًا عن النظام الذي تزعم مواجهته وتطمح إلى الحلول مكانه. كما أعيد استباحة الحرية مجدّدًا أيضًا، لا داخل بلدان الربيع العربي فحسب، بل في عموم المساحة العربية. فقد أعيد لجمها ضمن أطر تلائم النظم الجديدة التي أنجبتها الثورة المضادة في الأولى، وتم التشديد بصرامة على لجمها في البلدان الأخرى، العريقة أساسًا في كبت الحريات كلها وفي كل الميادين.
على هذا النحو، صارت ممارسة حرية التعبير من جديد، كما كانت من قبل، لا تتاح إلا في المنفى، عبر فضاءات محدودة، ولكن تحت طائلة الانتقام ممن يمارسها بصورة أو بأخرى. والأمثلة في هذا المجال لا حصر لها.  شهدنا بعضها من قبل خارج وداخل سورية، مثلًا، طوال السنوات الثمانية الماضية، حيث تجاوز عدد ضحايا الاغتيال أو الاعتقال أو القتل من الإعلاميين الثلاثمائة؛ مثلما شهدنا ولا نزال نشهد أيضًا بعضها الآخر ممن دفعوا حياتهم ثمنًا للتعبير عن آرائهم.
على أن فضيحة قمع الحرية بالقتل، أيًا كانت دوافع استغلالها أو استثمارها إعلاميًا وسياسيًا، تبقى شهادة ودليلًا بيد من يناضلون من أجل حرية تعبير بلا ضفاف.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 18 تشرين أول 2018.


vendredi 12 octobre 2018



المثقف أو الكاتب الرَّجيم 
 بدرالدين عرودكي 
من الواضح أن من يعرف أبعاد الكلمة وآثارها حق المعرفة، ويخشاها ما دام إيقاعها أو وقعها لا يستجيب إلى هواه، هو كل من جعل من نفسه حاكمًا مطلقًا بأمره. ذلك جنس من البشر عرفته بلدان العالم المختلفة منذ أقدم العصور، لكنه اليوم أكثر انتشارًا في مشرق عالمنا العربي وفي مغربه. ولعل هذا ما يدفع هؤلاء ما إن يستولوا على مقاليد السلطة، بالخديعة أو بالقوة أو بالوراثة، إلى العمل على ترويض وتدجين كل من يتقن فنًا من فنون الكلمة، ترغيبًا أو ترهيبًا، بوسائل شتى.
فهم يعرفون، أي الحكام، أن كلمات من تمكنوا من ترويضهم وتدجينهم هي من الخفة بحيث تذروها الرياح كما تذري الهشيم فلا يبقى منها ومنهم شيئًا. لكنهم يعلمون يقينًا ولا يروق لهم مدى سحر الكلمة الصادقة غير المهادنة ووقعها على الناس حين تعبر عن مشكلات وجودهم على صعد مختلفة. ويدركون في الوقت نفسه أن هذا الوقع وهو يتراكم، سوف يستحيل في يوم قريب غضبًا وقوة جامعة وجامحة ودافعة إلى التمرد فالثورة. ولذلك لا يجدون مناصًا لهم من الحيلولة دون وصول كلمتهم، بل والعمل على وأدها بطريقة أو بأخرى من خلال إغلاق أبواب المعاش في وجه كتابها، أو سجنهم، أو نفيهم، وصولًا إلى قتلهم حتى في منفاهم برهانًا على أن يد الحاكم يمكن أن تطالهم حيثما وجدوا، ودرسًا إن نفع الدرس لكل من تسوّل له نفسه أن يحذو حذوهم في الخروج على طاعة الحاكم والخنوع لإرادته دون أي نقد أو اعتراض.
لا يجد الحاكم حرجًا في سلوكه هذا. ولا يحول بينه وبين إقدامه على سلب ناقديه حريتهم والتضييق عليهم بل وحتى قتلهم لمجرد تعبيرهم عن عدم رضاهم عما يفعله، وقوفُ الحكومات أو المنظمات أو المؤسسات الإعلامية أو النخب الاجتماعية متسائلة أو معترضة أو شاجبة، مثلما لا يعبأ وهو يفعل ذلك بأية عقبة، دستورية أو قانونية أو أخلاقية. فإما الإنكار مع الاستنكار الغاضب من التطاول عليه والجرأة في توجيه الاتهام إليه، أو التعلل بواحدة من التهم الجاهزة دومًا: "التأمر مع القوى الأجنبية"، "ثبوت التورط في الأعمال الإرهابية"، "إضعاف ووهن نفسية الأمة"، "خيانة الوطن والتعاون مع أعدائه"، "نشر أنباء كاذبة".. إلخ: تهم يقرر الحاكم أو القاضي الذي يعمل بإمرته ثبوتها من دون أي دليل أو أدنى قرينة، مما لا يمكن لأي عقل مهما بلغت سذاجته أن يقبل بها أو يصدقها، ويصدر بها حكمًا قطعيًّا لا يقبل مراجعة أو استئنافًا.
وفي عصرنا الذي لم تعد تجدي فيه الرقابة على الكلمة أو مصادرتها أو الحيلولة دون وصولها نتيجة تطور وسائل التواصل والنشر على نطاق واسع، والذي لم يعد كذلك يتيح للأنظمة الاستبدادية على اختلاف أشكالها وتكويناتها أن تمارس انتهاكاتها لحرية التعبير، لا تزال هذه الأخيرة تتوهم قدرتها على منع هذه الصحيفة أو ذاك الكتاب من دخول أراضيها أو من تواجده في معرض تقيمه دوريًا للكتاب، في الوقت الذي بات بوسع أي مواطن في أي بقعة من بقاع العالم الحصول على أية صحيفة أو كتاب في طبعة إلكترونية خلال دقائق معدودات. وربما كان وعي القائمين على هذه الأنظمة بذلك على وجه التدقيق هو ما بات يدفعهم اليوم إلى عدم الاكتفاء بسجن أو بنفي نقادهم بل إلى أن يتغوَّلوا أكثر فأكثر وصولًا إلى ممارسة أعمال لا يمكن وصفها إلا بالبلطجة حين يقومون باستدراجهم إلى فخ ينصبونه لهم يسمح بإزاحته من المشهد كليًا، إخفاء أو قتلًا، في سريّة مطلقة. حدث هذا في الماضي، ولا يزال يحدث اليوم. كما لو أن وعي سادة هذه الأنظمة بجرائمهم وبقصورهم يجعلهم أشدَّ حساسيّة لأية كلمة تفضح سوأتهم وتعْرضَهم عراة أمام ضحاياهم، فلا يجدون مفرّا، وقد استنفذوا كل وسائل قمعها ومنعها ومصادرتها وسجن كاتبها أو نفيه، من أن يبادروا إلى قتله.
كل الذين واجهوا هذا المصير من الكتاب أو الإعلاميين كانوا يعرفون فداحة الخطر المحيق بهم بسبب ما يكتبون بالكلمة أو بالصورة. لكنهم استمروا. لا لأنهم لا يخافون؛ بل لأن خوفهم كان يتلاشى في ممارستهم اليومية للكتابة بحرية في منفاهم بعد أن حيل بينهم وبين ممارستها في بلدهم. لا سلاح لهم سواها، وهي أثمن ما بقي لهم من عزاء في وجودهم.
إذ، ما الذي يسع من لا يملك سوى عقله الحر وقلمه أو ربما حاسوبه اليوم، كي يقول كلمته في وجه الطغاة، أن يفعل في مواجهة من يسعه أن يحرِّكَ ضده قوى دولة بأكملها، أيًا كان حجم هذه الأخيرة؟ أو، ما الذي تستطيعه الكلمة في مواجهة الرصاصة أيًا كان الشكل الذي تتخذه هذه الأخيرة؟
قد يبدو السؤال شديد السذاجة. وربما كان بالفعل كذلك. لنطرح إذن سؤالًا ساذجًا آخر: ما الذي يبرر أو بأي حق يستطيع من يملك القوة أن يقتل أو أن يحكم بالسجن أو بالنفي أو بالإعدام ــ بأي صورة من الصور ــ على من يخالفه الرأي، وباسم ماذا؟
ليس الأمر جديدًا في الثقافة العربية التي عرفت شهداء الرأي منذ أقدم العصور، ولم يكن ابن المقفع أول شهيد جرأة لسانه وصراحته، وضحيّة أبي جعفر المنصور الذي لم يغفر له ما كتبه في "رسالة الصحابة" من نصح في ممارسة الحكم مبرِّرًا، فألقى به بين يدي والي البصرة آنذاك، سفيان بن معاوية، الذي كان ينتظر فرصة ينتقم بها من ابن المقفع، فقام بتنفيذ ما أراده الخليفة، وأشرف على تقطيع ابن المقفع إربًا. فقد تلاه من بعد كثير ولاسيما في عهد المأمون ثم المعتصم في العصر العباسي، خلال "محنة خلق القرآن" التي كان أحد أشهر ضحاياها محمد بن نوح ونعيم بن حماد اللذين قتلا  في السجن، وأحمد بن حنبل الذي عانى مرارة السجن والتعذيب.
كما لو أن هذه السلطة المطلقة ــ التي لا يمكن امتلاكها إلا بالخدعة أو بالقوة أو بالوراثة ــ تمنح من يملك ناصيتها ثقة لا حدود لها بالنفس لا تجعله يؤمن بقدرته على كل شيء فحسب، بل تدفعه إلى أن يجعل من المواطنين في عهده رعايا، ومن الوزراء موظفين بإمرته، ومن المثقفين والإعلاميين دعاة لا همَّ لهم سوى التصفيق له والتسبيح بفضائله. فكيف يمكن والحالة هذه أن يكون هناك مجال لكاتب حرٍّ يخرج على "الإجماع" الذي صنعه "القائد الأعلى" وأن يكتب كلمة لا يمكن لها إلا أن تكون نشازًا؟
ألم يتحدث أحدهم مؤخرًا عن "المجتمع المتجانس"؟
لا وجود للكاتب "الرَّجيم"، أو للكلمة "الرَّجيمة" إلا في ظل "السلطة المطلقة" التي هي بكل وضوح  "مفسدة مطلقة". كما قال قبل أكثر من قرن المعلم عبد الرحمن الكواكبي.. 

** نشر على موقع جيرون، الجمعة 12 تشرين أول/اكتوبر 2018



jeudi 4 octobre 2018



الاحتلال الروسي: العام الرابع! 
بدرالدين عرودكي 
يعلم السوريون أن الاحتلال الروسي الحقيقي لسورية لم يبدأ في 30 أيلول/سبتمبر 2015، بل منذ اللحظة الأولى لانطلاق الحراك الثوري السوري في آذار/مارس 2011. كانت تلك الثورة فرصة روسيا الاستثنائية لكي تثبت وجودها من جديد بعد مرور حوالي ثلاثين عامًا على انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة، ولكي تنتقم من الغرب الذي عاقبها بسبب أوكرانيا وتجاهلها كليًا في معالجته للحراك الليبي الثوري. بدت روسيا وكأنها أكثر القوى الدولية فعالية في حماية النظام الأسدي. على الصعيد الدبلوماسي أولًا، في مجلس الأمن، بحيلولتها دون صدور أي قرار يتناول المجازر والعنف الذي كان أداة النظام الأسدي في مواجهة المظاهرات السلمية أو حتى إدانته على جرائمه، التي ظهرت واضحة وموثقة للرأي العام العالمي، بعد ستة أشهر فقط من خروج السوريين يطلبون استعادة كرامتهم وحريتهم المهدورتيْن منذ نيف وأربعين عامًا، وثانيًا، على المستوى المادي والمباشر، حين تقدمت إلى ميدان المعركة الحقيقية، بادئة بإرسال قواتها الجوية في 30 أيلول/سبتمبر 2015 بحجة مواجهة الإرهاب، الذي تبين أنه كان في نظرها يتجسد في كل مَن ثار ضد النظام الأسدي، ومنتهية إلى وجودٍ برّيّ كثيف، ذي طبيعة أمنية وبوليسية بوجه خاص، يهيمن على أرض سورية بعد أن هيمن على سمائها.
وعلى أن روسيا بدت كأنها أكثر القوى الدولية فعالية في حماية النظام الأسدي، إلا أن القوى الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن أقل فعالية في هذا المجال حين كان التواطؤ بينها وبين روسيا يتجلى في صور عديدة، لم تكن أقلها الثغرات المختلفة التي حفلت بها سواء قرارات المؤتمرات المتعاقبة التي عقدت حول سورية بجنيف أو بفيينا، أو تلك التي صدرت عن مجلس الأمن، والتي تجلت خصوصًا في الحرية التي تركها صوغ هذه القرارات لكل منهما في قراءة هذه الفقرة أو تلك، بطريقة تجعل من الاختلاف في التفسير عقبة دائمة أمام انتقال القرار إلى حيِّز التنفيذ. هكذا كان الغموض علامة تواطؤ لا ينفي أو يستبعد خلافات في التفاصيل يمكن أن تقضي على الاتفاق حول تحديد طبيعة وجوهر المسألة السورية: المحافظة على أسس وطبيعة النظام القائم، بعد إجراء بعض التعديلات الضرورية التي يمكن أن توحي بالتغيير المنتظر، والتي تلوح ــ دون أي تأكيد ــ  خروج الأسد وأعوانه من المشهد السياسي السوري في نهاية العملية التي حملت اسم "الحل السياسي" الذي سيجري تنفيذه تحت إشراف دولي من خلال الأمم المتحدة.
  لم تكف السلطات الروسية، في كل خطوة من خطواتها لصوغ هذا الحل السياسي حسب رؤيتها وبمفرداتها وتحقيقًا لأهدافها في سورية، عن بذل كل جهدٍ ممكن من أجل إعادة تأهيل رأس النظام الأسدي عن طريق حمل ممثلي المعارضة السورية المدنية والعسكرية من جهة، ومختلف القوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى، على إلغاء شرط تنحيته أو عدم بقائه خلال الفترة الانتقالية إلغاءْ تامًا؛ كما لم تكف، إلى جانب ذلك عن الإعلان عن التزامها بقرارات الأمم المتحدة وبالتعاون مع المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا. وحين نظمت مؤتمرات آستانة أو مؤتمرات سوتشي لتنظيم السيطرة تدريجيًا على مختلف المناطق التي تسيطر عليها قوى "المعارضة" المسلحة، على اختلاف هوياتها وتبعياتها وأيدلوجياتها المعلنة أو الخفية، سواء بالقوة أو عن طريق التفاوض على ما أطلق عليه "مناطق خفض التصعيد"، ثم لتمهيد الطريق إلى تنفيذ "الانتقال السياسي" كما تريد له أن يكون، وبالتالي وضع تفسيرها للقرارات الأممية التي تزعم تطبيقها موضع التنفيذ. هكذا، بعد أن استخدمت كافة وسائل الترهيب والترغيب لحمل قوى المعارضة العسكرية على الموافقة على خفض التصعيد في المناطق التي تتواجد فيها، باشرت استعادة هذه المناطق واحدة بعد الأخرى، بالقوة تارة وبالمفاوضات تحت التهديد تارة أخرى؛ وها هي الآن على عتبة محاولة استعادة منطقة إدلب من خلال مناورة الاتفاق الروسي /التركي  التي يمكن، إن نجحت، أن تسمح لها السيطرة عليها بأقل الخسائر الممكنة.
لن تكون إدلب، أيًا كان مآل الاتفاق التركي الروسي الأخير حولها، نهاية المسار في الحدث السوري. فروسيا، رغم حضورها الكثيف سياسيًا وعسكريًا في سورية، ليست وحيدة في الساحة ولا سيدة الميدان بلا منازع؛ إذ ستبقى مرغمة على التعاون مع إيران، دولة الاحتلال الأولى، التي تغلغلت في عمق النسيج الاجتماعي السوري، وإن بُدِءَ بقص أجنحتها العسكرية تدريجيًا؛ ومع تركيا التي فرضت نفسها لاعبًا إقليميا في سورية؛ وأن تأخذ بالحسبان وجود الولايات المتحدة التي تناور لتكييف أي حلٍّ يمكن أن تنجح روسيا في فرضه بما يخدم مصالحها ومصالح ربيبتها إسرائيل. لكن روسيا ستسعى على الطريق الذي شقته لاحتلالها إلى أن تحتفظ بأكبر قدر مما سعت إليه أصلًا حين أرسلت قواتها الجوية يوم 30 أيلول/سبتمبر 2015. كان القضاء على الإرهاب كما أعلنت حجتها، ودعم "الحكومة الشرعية" هدفها.
وعلى أنها لم تقض على الإرهاب بقدر ما حاولت ولا تزال تحاول القضاء على معارضي النظام الأسدي المسلحين، وأنه لم يبق من هذه "الحكومة الشرعية" إلا بقايا تدعمها ميليشيات متعددة الجنسيات سعت إيران إلى استيرادها منذ البداية للحفاظ أيضًا على النظام الأسدي الذي تماهى فيها، فإن ما تسعى إليه روسيا هو الإبقاء على النظام القائم حيًّا، سواء  بوجود الأسد مادامت لم تضمن بعدُ استمرار مصالحها الحيوية في سورية أو من دونه فيما وراء ذلك: المصالح التي تتجسد ماديًا في المجال الاقتصادي، وفي قاعدتها العسكرية بطرطوس، فضلًا عن قاعدتها الجديدة في حميميم من ناحية، وفي ما حققته ولا تزال تحققه من استعراض صناعتها الحربية في مختلف ميادينها وتسويقها عبر ما حققته لها من دعاية أثناء استخدامها لها طوال السنوات الثلاث الماضية، هذا دون نسيان البعدين الداخلي والخارجي في سياستها السورية: داخليًا، بإحياء الشعور الوطني في روسيا من خلال تواجد و"مآثر" جيشها في سورية، وخارجيًا، بالتأكيد على استعادتها موقعها كقوة يُعتّدّ بها على الساحة الدولية.
على أنه لابد من الإقرار بأن روسيا سعت، ولعلها نجحت نسبيًا، رغم كل ما أشيرَ إليه في السطور السابقة، في أن تقوم بدور الثورة المضادة في سورية بوسائل ميكيافيلية كاملة الأوصاف سياسيًا وعسكريًا. لاسيما وأن المُغَيَّبُ الوحيد لا يزال، ضمن صراع القوى المحلية والدولية داخل سورية، هو الشعب السوري الذي ما فتئ للأسف من يتصدون للحديث باسمه أو يسعون إلى ذلك يختلفون على جنس الملائكة كلما كان الموضوع توحيد القوى أو تحديد الأوليات أو إعادة إبرة البوصلة التي كان الشباب السوري قد ثبَّتَ وجهتها حين خرج ينادي بالكرامة وبالحرية.  

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 4 تشرين أول/أكتوبر 2018.