vendredi 31 août 2018



حنا مينه، أو البطل الأسير

بدرالدين عرودكي 
بين حوارين أجريتهما معه، الأول بدمشق ونشرته مجلة "الطليعة" السورية عام 1970، والثاني بباريس ونشرته مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية عام 1984، لم يكن متوقعًا أن يغيِّر حنا مينه رأيه في روايته التي بقيت، على مر السنين وتكاثر رواياته من بعدها، روايته المفضلة التي يقول، إنها "المرأة التي تزوجتُها في عنفوان الصبا ونضوج الغلمة"، وأن كل رواياته الأخرى، "قياسًا إليها بنات راهبات"! فرق شاسع، في الحقيقة، سرديًا وفنيًا وبناءً روائيًا، بين روايته الأولى المصابيح الزرق التي نشرها عام 1954 وهو في الثلاثين من عمره، وروايته الثانية الشراع والعاصفة التي صارت جوهرة عقد رواياته، والتي كتبت خلال سنوات "نضوج الغلمة" بين الثلاثين والأربعين، أي خلال السنوات الأربع التالية على الأولى، لكن مخطوطها ضاع ثلاث مرات، قبل أن تنشر في طبعتها الأولى بعد اثنتي عشر سنة من نشر روايته الأولى، أي في عام 1966. وعلى أن عدد رواياته المنشورة قارب اليوم أربعين رواية؛  لكن هذه الرواية بالذات، التي استقبلت يوم صدورها كنسمة عليلة في صيف حارّ، على غرار أولى الروايات المؤسِّسَة التي عرفتها سورية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كروايتي مطاع صفدي جيل القدر (1959) وثائر محترف (1961)، ورواية شكيب الجابري (ولم تكن أولى رواياته) وداعًا يا أفاميا (1960)، ورواية هاني الراهب المهزومون (1961) ورواية صدقي إسماعيل العصاة (1964)، بوجه خاص بين  محاولات أخرى، لم تحظ بالانتشار الذي عرفته، على الصعيد العربي في خمسينيات القرن الماضي، روايات نجيب محفوظ أو يوسف إدريس خصوصًا. وكان لابد من انتظار أكثر من عشرين سنة على صدورها حتى يصل اسمها واسم مؤلفها إلى عدد محدود من القراء في البلدان العربية الأخرى.
إذ على أنها الرواية التي أسست سمعة كاتبها بوصفه روائي البحر في أدب الرواية العربية، والتي كانت في صرامة بنائها الفني وفي أسلوبها قمينة أن تكون جوهرة في عقد الروايات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى أن حنا مينة كان أحد نوادر الكتاب العرب الذين انصرفوا إلى الرواية كليًا بالدرجة الأولى وفي المقدمة منهم نجيب محفوظ، إلا أن الاختلاف بين الكاتبين من ناحية، وجوهرتي عقد روايات حنا مينة المتمثلة في الشراع والعاصفة، وروايات نجيب محفوظ، أي ثلاثية بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية، من ناحية أخرى، سرعان ما يبرز واضحًا على هذين الصعيديْن. كان نجيب محفوظ قد بدأ مشروعًا روائيا تمثل في رواياته التاريخية الثلاث، لكنه سرعان ما تخلى عنه إلى مشروع رصد تطور وتدهور الطبقة الوسطى في المجتمع المصري المعاصر اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، كان يعمل على إنجازه روائيًا في سيرورة روائية حركية تتلاءم في تطورها مع ثيمات كل رواية ومع الإشكالات التي تطرحها. وكان عماده في ذلك ما تتيحه الرواية الحديثة، منذ القرن التاسع عشر في الغرب، من قواعد في مقدمتها حرية شخوص الرواية التي يتيحها السياق والموقف في العمل الروائي من دون أي تدخل مباشر أو غير مباشر من الروائي. وهي قواعد ظل محفوظ مخلصًا لها مثلما ظل يتابع تحقيق مشروعه طوال حياته روائيًا وقصصيًا.
هذا في حين بدأ حنا مينة الكتابة مهمومًا بالكتابة والقص أساسًا لكي يسرد بواسطتهما هموم المجتمع الذي يعيش فيه انطلاقًا من مقولات مُبسّطة ومبتسرة كانت تستخدم في حلقات الحزب الشيوعي السوري عند منتصف القرن الماضي وتسلل بعضٌ منها إلى أولى رواياته. ولئن كان قد ورث موهبة القصّ عن والده، الذي عاش حياته مشرّدًا معذبًا وكان يروي كل خبر يسمعه في صيغة قصة بكل ما تتطلبه من إيقاع وتشويق، كما بدا ذلك واضحًا في روايته الأولى، إلا أنه كان مع ذلك يحتاج آنئذ، كي يروي القصص كتابة، إلى ما هو أكثر من الموهبة. وربما هذا ما يفسر، لا غياب المشروع بالمعنى الذي سعى إليه نجيب محفوظ فحسب، بل كذلك الفارق الكبير المُشار إليه، على صعيد البناء والكتابة، بين روايتيْه، الأولى الثانية. ففي الأولى، يتعثر الخيط القصصي من دون غاية محددة بين الشخصية الرئيسة والتطور الحدثي، والشخصيات الأخرى، والوصف لمدينة سورية خلال الحرب وتحت الاحتلال... هذا من دون الحديث عن الخطابات الأيديولوجية الفجّة والمقحمة فيها إلى حد التعسف؛ أما الثانية، فهي تنتظم وفق بناء شديد الصرامة والدقة والشفافية؛ وهو بناء يسمح بقراءات متعددة لكل منها مسوغها الخاص. ومع ذلك فهذا الفارق الذي يتجلى واضحًا بين الروايتيْن على صعيد البناء والسرد، سرعان ما يتلاشى على صعيد الخطاب الأيديولوجي الذي اختلفت طريقة التعبير عنه وبدت أكثر نضجًا في الشراع والعاصفة عن تلك التي رأيناها في المصابيح الزرق. بعبارة أخرى، حاول حنا مينة في روايته الثانية هذه، مخلصًا للمقولات الأيديولوجية التي كان يرى مجتمعه من خلالها، أن يتلافى المباشرة والفجاجة من خلال طبيعة علاقة أقامها بين شخصيتين في الرواية: الطروسي وكامل.
نعلم أن الشراع والعاصفة تقوم على مشروع الطروسي، البحار والربان، للعودة إلى البحر الذي اضطر للابتعاد عنه بسبب غرق سفينته. وهو مشروع يسوغ الرواية بقدر ما يسوغ شخصية الطروسي فيها على النحو الذي صُوِّرَت وفقه على امتداد صفحات الرواية، باستثناء نهايتها: رجل اشتهر بإنجازاته كبحار، اغتنى بمعارف كانت تزداد طوال سنوات حياته مع البشر وفي البحر؛ تجسدت فيه قوة الطبيعة في عنفوانها وأريحيتها وانعتاقها، في فهمه العفوي للحرية وللعدالة وللصدق، فكان لابد من أن يصير في الرواية مصدرًا للقيم النبيلة في مجتمع يرزح تحت الاحتلال وهيمنة الجشع والاستغلال. أما كامل، فهو معلم ومثقف شاب؛ مناضل شيوعي مرهف يحاول أن يغني معارفه النظرية بالتجربة التي يتيح لها أن تكيّف شخصيته وتعمق نضاله. حين يلتقي الطروسي به، يشعر نحوه بالإعجاب لأنه رأى فيه تمام وحدة السلوك والعقيدة. لكن كاملًا كان هو الآخر مأخوذًا بالطروسي الذي كانت شخصيته تزيد من توقه إلى إغناء تجربته النضالية حين يلتقي مثلاً أعلى مجسَّدًا. وإذا كان الطروسي، الذي يفيض أريحية وصدقًا وإخلاصًا، يجسِّدُ الطبيعة في نقائها وعذريتها الأخلاقية واقعًا وتاريخًا، فإن كامل كان لا يزال تنظيرًا "صناعيًا" للطبيعة، يتوق إلى أن يصير الطروسي! من يمكن أن يكون من بينهما، في هذه الحالة، مصدر القيم للآخر؟ منطق العلاقة كما رسمت في الرواية يؤدي إلى أن يكون الطروسي هو هذا المصدر. لكن منطق الروائي، وهو يتعسف في الحدّ من حرية بطله، جعل من الشاب كامل مصدر القيم لمن كان يفترض أن يكون في نظره مثله الأعلى !
لم يوافق حنا مينة على هذه القراءة حين طرحتها عليه سؤالًا خلال حوارنا الثاني عام 1984. كنت أتوقع والحق يقال إجابة تعتمد النص الروائي نفسه الذي اعتمدته هذه القراءة، لا التفسيرات التي جاءت تعكس مقاصده لا منجزه. إذ أنه بقي في إجابته ــ وهي منشورة ــ، حبيس المفاهيم الأيديولوجية والنظرية التي حاول من قبلُ انطلاقًا منها واعتمادًا عليها رسم ــ وبالتالي تأطير ــ شخوص روايته التي كانت، على غير إرادة منه، كما هو واضح، قادرة، بين الحين والآخر، على أن تفلت من أطرها وتسير حرّة في طريقها ووفق منطقها. كان حنا مينة أثناء مثل هذه الحالات، القليلة والحق يقال في أعماله الروائية، يستسلم لطبعه ــ أو لطبيعته إن شئنا، كما فعل في رواية الياطر على سبيل المثال. لكنه الاستثناء الذي كان يؤكد القاعدة التي لا يمكن لقارئ أن يخطئها في جوهرة عقد رواياته وأحبها إليه: الشراع والعاصفة.

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 31 آب / أغسطس 2018.


jeudi 30 août 2018




سوزان بريسّو التي صارت
 سوزان طه حسين 
بدرالدين عرودكي
بعد ستة وخمسين عامًا من حياة مشتركة، حافلة بضروب السعادة والنجاح والخيبة والبهجة والألم، تجلس سوزان، بعد أن رحل عنها طه حسين، رفيق عمرها الذي حملت اسمه لقبًا لها، تهمس له بكلمات الحب الذي عاشته يوم كان إلى جانبها ولا يزال حيًا في كيانها:
"يقلقني عجزي عن إعادتك إلى قربي ويقنطني. أعرف أنكَ تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرفُ أنَّ بوسعي أن أخاطبك، وأنَّ بوسعكَ أن تجيبني، لكنكَ تفلتُ مني، وتفلتُ من نفسك، آه، ما أبعدكَ يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلبَ على هذا الضيق الذي يثقل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركتُ نفسي لهواها لبكيت دون توقف. كنت في الحديقة بصحبة كتاب. ولم يغيِّر ذلك من الأمر شيئاً. ولقد ألقيتُ نظرة مكتئبة على الممشى الصغير الذي كنتُ قد هيّأته لكَ لتجلسَ فيه عصرَ ذات يوم؛ كان ضيِّقاً، وارفَ الظلِّ مزهراً، وكنتُ أفكرُ أننا سنقضي فيه لحظات هادئة لكنّك لم ترغب في النزول إليه."
كانت في التاسعة والسبعين من عمرها حين كتبت هذه الكلمات التي سيضمها الكتاب الوحيد الذي ستكتبه والذي سيحمل مع ذلك اسميهما: سوزان طه حسين، مَعَكَ.  كتاب تختم به قصة حب وصداقة انطوى عليهما زواج قلَّ أن عرف التراث العربي مثيله. كتاب لم يكن يخطر في خيالها أن تكتب مثيله من قبل، لولا أنَّ أصدقاءها الذين أعجبوا بمسار هذين الزوجين، وعاشوه عيانًا وشهودًا في السرّاء وفي الضرّاء، كانوا قد ألحوا عليها في ضرورة سرد قصتها وحياتها، وفي مقدمتهم صديق الزوجيْن، عالم الاجتماع ومترجم القرآن إلى اللغة الفرنسية، جاك بيرك، الذي شاركهم إلحاحهم، بل وأوحى لها ببنية الكتاب. فقد كان كثيرًا ما يلتقيهما في نهاية الرحلة التي يقومان بها كل عام، يعبران البحر المتوسط من مصر إلى فرنسا مرورًا بإيطاليا. مثل هذه الرحلة يمكن أن تشبه تلك التي قامت بها هي، من فرنسا إلى مصر، وعاشتها طوال ستة وخمسين عامًا بصحبة رجل خفق قلبها نحوه منذ لقائها الأول به، من دون أن تبدي له أو لسواه، أو حتى لنفسها، ما انتابها حين جاءت بصحبة أمها ترشح نفسها كي تكون القارئة التي أعلن عن حاجته إليها. يقترح عليها جاك بيرك أن تكتب رحلتها مع طه حسين، وأن تكثر من تفاصيل لا يمكن لسواها أن يحكيها عن هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس منذ أن خرج على العالم العربي، خلال الربع الأول من القرن الماضي، بكتابه الأول عن رائد العقلانية العربية: أبو العلاء المعري، وكان رسالته التي نال عليها درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية، ثمَّ بكتابه الثاني عن الشعر الجاهلي الذي كتبه بعد عودته من فرنسا وممارسته التدريس في الجامعة التي كان قد درس فيها، وحتى وفاته عام 1973. ووعدها بيرك: إن هي كتبت هذا الكتاب، فسوف يعهد بترجمته إلى العربية إلى كاتب سوري كي يؤكد، بوجود اسمه على الغلاف، على البعد العربي لطه حسين، وإلى كاتب مصري تقدمي لمراجعة الترجمة، كي يؤكد على بعده المستقبلي. وكنتُ المترجمَ مع محمود أمين العالم المراجع، مَنِ اقترحهما جاك بيرك على مؤنس طه حسين.
تنصرف سوزان إلى الكتابة. ويخامرها الشك في قدرتها على أداء ما يعمر كيانها: "ليغفر لي، حبيبي، ضعفَ الصورة التي تقدمها هذه القصة وشحوبها، تلك الصورة التي ستكون بعيدة كلّ البعد عن الصورة الحقيقية لما كان." لكنها، مع ذلك، تستمر في ما عزمت عليه؛ وتعود بعد أشهر، تلقي بمخطوطها إلى ابنها مؤنس الذي اكتشف في أمه، ذات التاسعة وسبعين ربيعًا، كاتبة كاملة الأوصاف، كما لو أن الكتابة كانت على الدوام حرفتها وهواها، وفي المخطوط، بين يديه، أنشودة حب وحياة تقول كل ضروب الجمال في شخصين جمعهما القدر على كل ما بينهما من اختلاف: في المنشأ، وفي التربية، وفي الثقافة، وفي الدين، وفي الانتماء الجغرافي والثقافي والحضاري. وسأكتشف بدوري، حين بدأت قراءة النص الذي عُهِدَ إليَّ بترجمته، هذا البوح الذي لا يقول اسمه في أسلوب مرهف يعكس في كل كلمة صدق وعمق الحب الذي محضته هذه الفتاة شابًّا مصريًّا أراد له القدر أن يحتل مكانة رفيعة في تاريخ الثقافة التي ينتمي إليها وأن يأسر قلبها منذ بداية هذه القصة الفريدة.
كان قدرهما الحاني لهما بالمرصاد: إذ منذ أول لقاء جمعهما في 12 أيار/مايو 1915 بمدينة مونبلييه (وقد صار من بعد عيدهما السنوي)، بدا لسوزان أن مصيرها قد تقرر! لم تكن قد تكلمت مع أعمى من قبل لقائها به. لكن أعمى آخر، كان يدرسه اللغة اللاتينية، سيقول له بعد أن رآها معه: "سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك".
لن تعترف سوزان بحبها لطه حين قال لها ذات يوم ببراءة شابٍّ غرّ: " اغفري لي، لا بدّ من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبّك". لكنها تجيبه بفظاظة تكاد تقول صراحة ما تخفيه في أعماقها: "ولكني لا أحبك!" كانت تعني الحب الطبيعي بين رجل وامرأة. ويجيبها يائسا، منكرًا، هو الآخر، حدسه الذي سيصدقه: " آه، إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل".
لن يمض وقت طويل على ذلك حين اعترفت لأهلها برغبتها الزواج من طه حسين. وكان رد الفعل صاعقًا: "كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شكّ أنكِ جننتِ تماماً!".
كيف كان من الممكن، في أوائل القرن العشرين، لعائلة فرنسية شديدة المحافظة، أن تملك القدرة على تجاوز ثلاث عقبات كبرى في نظرها أمام هذا الزواج؟ بل كان ثمة ما هو أكثر غرابة من مثل هذا التساؤل، أتيح لنا معرفته حين قرأنا ما قاله حرفيًا عن هذا الزواج واحدٌ من أهلها قبل أن يصير روائيًا شهيرًا، ميشيل تورنييه، الذي كان قد التقى سوزان وطه حسين في شبابه مرات عدّة، وكتب في مذكراته عنهما: " كانت ابنة خالة أمي قد عرفت بباريس طالباً شاباً مصرياً كان أعمى. وقد ارتبطت به وصارت بمعنى من المعاني عصاه البيضاء. وقد انتهت إلى الزواج منه (...). يوحي إليّ العميان بضرب من إرهاب مقدس. لقد اكتشفتُ ذلك طفلاً في حضور الكاتب المصري طه حسين الذي كانت زوجته ابنة خالة أمي (...) وإني لعلى قناعة أن العمى في نظري سيكون انتحاراً فورياً..".  لكن عمها القسيس، الأب إدوار غوستاف فورنييه، كان أكثر حكمة. إذ سوف يجعل هذه العقبات تتلاشى بعد ساعتيْن قضاهما بصحبة طه يتنزهان في حقول جبال البيرينيه، حين قال لها بعد هذه الجولة: "بوسعكِ أن تنفذي ما عزمتِ عليه.. لا تخافي. بصحبة هذا الرجل، يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنّه سيتجاوزكِ باستمرار". لكنه، في الحقيقة، سيحبها باستمرار، وستصير بالنسبة له الزوجة والحبيبة والصديقة والمآل الآمن الذي يعود إليه، مثلما أضحت أيضًا وخصوصًا، العينين اللتين بات يرى العالم بمعونتهما. كان أحمد لطفي السيد، المفكر والصحفي وصديق الزوجيْن، يقول: "إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيدًا عن زوجته، ذلك أن قلبه لا يكون معهّ"! ويعلق طه حسين في رسالته إلى زوجته حين غابت عنه مع ولديها ثلاثة أشهر قضتهما في فرنسا: " أي نعم! ولا كذلك عقلي، ولعلّ سكرتيري قد ضحك في نفسه، فهذا الشاب لا يؤمن بالحب، ولم أكن أنا نفسي لأؤمن به من قبل؛ إلى أن جاء، فلم أعد أنا نفسي ما كنتُهُ من قبل".
 طوال سنوات أربع قضاها في فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه، لم تكن قد قرأت معه وله كل ما كان عليه أن يقرأه أو يعود إليه وهو يدرس اللاتينية والإغريقية ويعمق معارفه باللغة الفرنسية فحسب، بل فتحت أمامه عالمًا ما كان له أن يكتشفه مبكرًا لولاها:  عالمًا كان حتى لقائه بها مغلقًا أمامه، عالم الصوت عبر الموسيقى، والألوان عبر اللوحات الفنية التي كانت تصفها له بدقة خبير وذواقة. وبعد أن كان قبل لقائها شديد الانطواء على نفسه، صار بصحبتها يفيض حيوية وحبًا بالحياة وما فيها من جمال كانت تتفنن في جعله يكتشفه ويتذوقه. هو الذي حرم من رؤية اللوحات الفنية في المتاحف صار يسعه الذهاب لشراء لوحة يختارها بعناية لتكون هديته لها في عيد ميلادها. هكذا صارت سوزان لا القرينة التي لا يطيق ابتعادها عنه بل توزأم نفسه، وها هو يعبر في رسائله إليها، حين اضطرت إلى الغياب عنه مع ولديها ثلاثة أشهر، يكتب ما لم يكن لأي قارئ لكتبه أن يتوقع صدوره عنه. يكتب لها بعد أن رافقها حتى صعودها السفينة التي ستبحر بها إلى فرنسا:
"أودّ لو أصف لكِ ضيقي عندما تركت السفينة، عندما رجعت إلى القاهرة، عندما عدتُ من فوري إلى البيت: فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها... ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كلّ ما بوسعهم لتسليتي. لقد التقيت في المحطة بفريد (الرفاعي) والزناتي. وتناولت العشاء مع مصطفى (عبد الرازق)... عندما عدتُ، واجهت هذا الفراغ، والسرير الذي لا يزال على حاله، وسرير الصغيرة المغطى، والمهد الغائب... كان ذلك أمراً رهيباً. وكنت بحاجة للشجاعة لأقوم بخلع ملابسي... ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ من يُعنى بكِ؟. لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وألبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع!".
وتعلق سوزان: "هذه اللفتات التي كانت تصدر عن ذلك الذي لا يستطيع أن يقوم بالكثير منها، كنتُ أنظر إليها باحترام."
وتذوب حنانًا عندما تقرأ ما يكتبه من بوح أليم:
"يستحيل عليَّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كلّ مكان دون أن أعثر عليك... كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك ــ سأقبلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليَّ أن أزورها كلّ يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك...
"لنقل إنني في القاهرة في سبيل حماقة ما. إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري... هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقويني؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرّية؟ ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنك تعلمين جيداً أن الكتابة غير التحدّث، وأنّ قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيداً أنني كثيراً ما لا أقول شيئاً وإنما أتناول يدك وأضع رأسي على كتفك... ثلاثة أشهر... ثلاثة أشهر... فترة رهيبة. لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق؛ وكان لابدّ لي من أن أكتب لك لكي تتبدّد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرة كنتِ أم غائبة؟. قبِّلي الطفلين وحدّثيهما عني كثيراً فذلك يسعدني. وعندما تروق لكِ البيرينيه أو يروق لكِ أيّ مشهد آخر ففكري بي بهدوء وجذل. فكري أنني إلى جانبك وأنني أرى بعينيْكِ وأنني أعاني كلّ ما تعانيه".
وحين يشكو لها بعض ثقيلي الظل من "أصدقاء" يزعمون الترويح عنه فيقيمون بلا حرج في البيت، لا ينسى همومه الأخرى:
"بلطف زائد ـ في زعمهم ـ بلطف زائد كما ترين ـ تماماً كإنجلترا التي تحاول أن توطد احتلالها لمصر بإعطائه اسم الاستقلال، واستيلاءها على بلاد ما بين النهرين بإعطائه اسم الانتداب"! ولا يجد هذا المجادل العنيف حرجًا في أن يكتب لها:
"لو قارنت نفسي بشيء ما، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل في مصر العليا، تلك الأرض التي ما إن يلمسها المرء، ولو مجرّد لمسة خفيفة، حتى يتفجّر الماء منها".
"لم يكن ممكناً لي أن أدخل غرفتك دون أن أضع يدي على صدري بشكل غريزي، كما لو أن قلبي سيفرّ مني.. فأنا لا أراكِ، ولا أرى صورتك، ولا أستطيع أن أكتب إليكِ بنفسي.. آه! ومع ذلك فإني لا أحب أن أفكر في مثل هذه الأشياء".
"أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار"...
أكبر الظن أنه ما كان بوسع طه حسين أن يتمكن من تفجير إمكاناته كلها لولا هذا الحب العميق الذي محضته إياه بإخلاص وتفان امرأة أدركت قدرها معه منذ النظرة الأولى. وكان حدسها الأنثوي قد دلها على هذا الرجل الفريد. إذ أن ما كان بينهما كان يتجاوز كل شيء مما تعارف عليه الناس وتواضعوا في الحياة الاجتماعية: قدر كبير من النبل، وتجسيد معنى احترام الآخر، واحترام حريته على وجه الخصوص.
**   ***   **
كانت ترجمة الكتاب متعة متعددة الأبعاد. بعد أن وضعت نصها بين يدي مؤنس طه حسين، ثم التقيته بعد أيام، أثنى على النص العربي، وأعلمني أن محمود أمين العالم سيقرؤه، وأن صهره، الدكتور محمد حسن الزيات، الذي كان وزير الخارجية المصرية آنئذ، سوف يتابع طبع الكتاب والإشراف عليه.
وصدر الكتاب، وأرسلت لي سوزان طه حسين نسخة منه مع بطاقة شكر منها أدركت مما كتبته أنها سعيدة أن رأت الكتاب منشورًا وقد كانت تخشى الرحيل قبل صدوره. لكني أكتشف أن اسمينا، محمود أمين العالم واسمي، لم يكونا على غلاف الكتاب ولا على الغلاف الداخلي، بل كتبا ببنط صغير في أسفل الصفحة التاليه على هذا الأخير! ثم نشر من الكتاب بعض فصوله في أول عدد من مجلة أكتوبر مع تغييب اسم المترجم أو المراجع معًا، حتى أن مجلة عربية أسبوعية تصدر بباريس يوم ذاك نوهت بذلك تحت عنوان طريف: الوحدة السورية المصرية تعود من خلال تغييب اسم المترجم والمراجع في كتاب "معك" لسوزان طه حسين! هكذا لم تتحقق رغبة جاك بيرك في ربط اسم المترجم والمراجع باسم طه حسين. كان الناشر يومها، رئيس مجلس إدارة دار المعارف، هو نفسه مؤسس ورئيس تحرير مجلة "اكتوبر": أنيس منصور. لم يكن يعرف عني شيئًا، لكنه كان يعرف محمود أمين العالم جيدًا، ولم تكن الصداقة على ما يبدو هي ما يربط بينهما. وحين يُعرف السبب، يبطل العجب.
سوى أنني أمكنني، في الطبعة الجديدة التي أرادها الدكتور جابر عصفور، مدير المركز القومي للترجمة عام 2008، أن أضع اسميْنا، كما رغب وأراد جاك بيرك، ثم أمكنني أيضًا وضعهما على الطبعة الأخيرة التي صدرت عن مؤسسة هنداوي عام 2015 وقد أغنيتها بهوامش الطبعة الفرنسية التي نشرت للمرة الأولى بعد سبعة وثلاثين عامًا من نشر الترجمة العربية، والتي قدمت للقارئ الفرنسي قصة حب نادرة المثال بين شاب مصري وفتاة فرنسية..

** النصوص المستشهد بها هي من كتاب "معك" في ترجمته العربية الصادرة عام 2015 عن مؤسسة هنداوي بالقاهرة، ويمكن تحميل هذا الكتاب مجانًا على الرابط التالي:

** نشرت في المجلة الفصلية: "الثقافية" التي تصدر عن سفارة المملكة العربية السعودية بلندن بإشراف الصديق د. خلدون الشمعة، أيلول/سبتمبر 2018.




jeudi 23 août 2018



في مغالطات المفاهيم 
بدرالدين عرودكي 
في سورية المنكوبة في كل مجال، لا يزال يحلو لبعض العاملين في حقل السياسة من السوريين خصوصًا، تذاكيًا أو خبثًا، ممارسة القفز على حبال بعض المفاهيم في حركات استعراضية لما يظنونه قدراتهم البهلوانية، يودون بها إثارة انتباه  جمهور يعتقدون أنه يهيم بحثًا عن مخرج ليس بوسع سواهم رسم الطريق إليه. ذلك، دون أن ينتبهوا إلى أنهم هم، قبل غيرهم، آخر من يصدق ما يقولونه، بما أنهم ــ ربما بلا وعي لما يفعلون ــ يكذبون بكلمة تالية ما أرادوا تأكيده في كلمة سابقة عليها.
كيف يمكن اليوم ــ على سبيل المثال ــ قول الوجود الإيراني والروسي والتركي والأمريكي في سورية؟ أو، ما الذي يعنيه تعبير "الواقعية السياسية" في مجال "التفاوض" حول الوضع السوري الراهن أو القادم؟ أو أيضًا، ما الذي يعنيه استخدام مفهوم "السلطات السورية الشرعية" من قبل سياسي يزعم انتماءه إلى صفوف "المعارضة"، وكيف يسعنا فهم طبيعة ومصدر "الشرعية" التي يسبغها على النظام الأسدي؟ وما الذي يمكن أن يترتب على، أو يؤدي إليه، أيّ قول في هذا المجال على صعيد الفعل الراهن أو القادم في  واقع سورية، ولاسيما إذا صدر مثل هذا القول عن بعض من يتصدون لزعامة ما يسمى "المعارضة" السورية بأطيافها ومنصاتها وهيئاتها ومجالسها؟
لا يمكن لمن يقرأ ما يكتبه بعض هؤلاء حول الحدث السوري إلا أن يتساءل، لا عن مدى ثقافتهم أو خبرتهم في المجال السياسي بل، على الأقل، عن جدّية نظرتهم إلى السياسة أو النضال أو الثورة، هذا إن لم يكن من أجل طرح سؤال آخر ربما ينطوي على نصف الإجابة، حول غايتهم الشخصية من خروجهم إلى الفضاء العام ومحاولتهم ممارسة العمل السياسي، ولاسيما منذ بداية الثورة السورية!
لكن المشكلة أن ألف باء السياسة، الذي يقوم على إدراك أن قوام هذه الأخيرة هو اللغة ــ كما كان أنطون مقدسي يكرر في توضيحه لمفهومها الإغريقي الذي ورثه الغرب واعتمده ــ ، لا يزال كما يبدو مجهولًا لدى معظم من تصدى للعمل في ميدانها. ومن ثم فإن الاستهتار بالمفاهيم الفاعلة في السياسة ــ وامتدادًا إلى حقول فضائها الأخرى كالديبلوماسية مثلًا ــ يجعل من يمارسه في أفضل الأحوال هزأة لا في نظر دهاتها فحسب، بل في عيون من هم موضوعها وغايتها: أي عموم الناس. هذه اللغة، سياسة، قمينة بالكشف عن جملة التناقضات التي يقع فيها من يسيء استخدامها أو من يستهتر بفاعليتها.
فحين يستنكر البعض، من موقع "المعارضة" بالطبع، "اعتبار الوجود الروسي احتلالًا، لأنه جاء بناء على دعوة من السلطات السورية الشرعية"، يؤكد من حيث يدري أو لا يدري، الخلل الأساس في الممارسات السياسية لمجمل من تصدوا لتمثيل انتفاضة السوريين قبل سبع سنوات، عندما قبلوا اعتماد هذه التسمية: المعارضة. إذ أن هذا القبول ينطوي، شئنا أم أبينا، على الاعتراف بالطرف الآخر المُقابل: السلطة الحاكمة، التي تصير آنئذ، بفعل هذا الاعتراف الضمني، "السلطة الشرعية". على هذا النحو، اضطرت مختلف الهيئات التي حملت هذه الصفة منذ البداية إلى الجلوس في مواجهة ممثلي "النظام السوري"، بعد أن تعاملت القوى الدولية والإقليمية معها على هذا الأساس، وحملتها على تبنّي ما بات منذ ذلك الحين يطلق عليه "الحل السياسي" الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بتعاون الطرفين: النظام والمعارضة. لكن هذا الاستخدام، وهو يؤكد الخلل، كان أيضًا يكشف لا عن استهتار واستخفاف بأهمية التسمية ومدلولاتها فحسب، بل كذلك عن ضرب من النفاق السياسي الذي طبع سلوك وأفعال معظم "المعارضين" أفرادًا وهيئات، ممن لم يجرؤوا يومًا على تسمية الأشياء بأسمائها، وصولًا إلى فقدان قدراتهم على النطق كما نشهد هذه الأيام، منذ سقوط الغوطة الشرقية والجنوب السوري، ووصولًا إلى انتظار ما سيجري في إدلب التي جُمِعَت فيها مختلف الجماعات المسلحة التي أرغمت على الاستسلام بالقوة تحت وطأة القوة النارية الروسية، كما لو أنه تجميع أريد به أن يكون تمهيدًا ليوم حساب أخير قادم.
لكن توصيف الوجود الروسي بالاحتلال لا ينفي ولا يجب أن ينفي الاحتلال الإيراني ــ وهو أشد خبثًا وسوءًا وخطورة من سواه، نظرًا لأنه يتمدد كالسرطان في النسيج الاجتماعي السوري ــ والاحتلال التركي والاحتلال الأمريكي اللذين يسيطران على أجزاء جغرافية محدودة، بخلاف الاحتلال الروسي الذي باتت في يده مع سماء سورية وأرضها وما يظنه مستقبلها، مفاتيح الحلّ والعقد في سورية السياسية والعسكرية والأمنية، برضا وموافقة الجميع إقليميًا ودوليًا.
ولكن، ما الغاية من وراء الدعوة إلى اعتماد توصيف آخر للوجود الروسي يستبدل"الوصاية الروسية" بالاحتلال الروسي، لأن الروس، كما يقول من يفعل ذلك، تجاوزوا مطالب "السلطات السورية الشرعية" التي جاؤوا لدعمها والعمل على بقائها إلى ممارسة صلاحيات أخرى عسكرية وأمنية وسياسية؟
ليست المسألة شكلانية محضة كما يوحي من استنكر التوصيف بالاحتلال، لاسيما وأنه يدعو إلى التوصيف الآخر؛ إذ من الواضح أن مفهوم "الوصاية الروسية" يقتضي قبول "الأمر الواقع" الذي أنشأه التدخل الروسي، والتعامل مع من فرضه، مادام الواقع السوري يتلخص اليوم في "دولة ومجتمع مفككيْن"، وما دام موقف السوريين من كل القوى التي تحتل أرضهم "ليس مهمًا إطلاقًا"، وأنما المهم هنا وفي هذا المجال بالذات، هو "الموقف الدولي" الذي ينتهي آخر الأمر "لمصلحة الطرف الروسي". من المؤكد أن تقريرَ ــ لكنه، في حقيقة الأمر، افتراض ــ الغياب الكامل للسوريين أو نفيَ قدراتهم على التأثير بصورة أو بأخرى على مجرى الأحداث أيًا كانت، لا يمكن أن يؤدي، في هذه الحالة، إلا إلى قبول الاحتلال، وتوصيفه بما يخفف من أثره بجعله وصاية، لم يزعمها حتى المعنيّ بالأمر نفسه! ذلك أن التوصيف بالاحتلال الروسي يقتضي مبدئيًا وأخلاقيًا وسياسيًا رفضه على كل الصعد وبكل الوسائل، وهذا يتطلب، بالفعل، التحقق، قبل إلقاء الكلام على عواهنه، من أن السوريين قد كفوا كليًا عن الوجود بصورة أو بأخرى، وأنهم باتوا عاجزين عن أية مبادرة أو رد فعل، وأن نخبهم استقالت أو أقرت بعجزها هي الأخرى عن الاستجابة لهذا الواقع الساحق! فهل هذا هو واقع السوريين فعلًا؟ وهل يمكن القول، كما يبدو ظن البعض الذين يستعجلون الأمور، "قضي الأمر" وبات الروس أسياد الرهان والمآل؟
سيلجأ البعض هنا، كالعادة وباستعجال، إلى مفهوم "الواقعية السياسية" الذي يبدو أنه يمكن أن يجد فيه منقذًا من أية تهمة بالعمالة أو الخيانة من جهة، أو بالتطرف أو بالغباء السياسي من جهة أخرى. لكن التاريخ السياسي، تاريخنا وتاريخ الأمم الأخرى، يقدم لنا ما لا يُحصى من الأمثلة على ممارسات هذا المفهوم ضمن أطر مبدئية وأخلاقية حظيت بالإعجاب والتقدير، او خارج هذه الأطر كليًا فوسمت الممارسة بالخيانة التاريخية. أحد أقرب الأمثلة إلينا وأشدها بلاغة انتصار ألمانيا النازية على فرنسا عام 1940 واحتلالها عاصمتها وتقسيمها إلى جزء محتل كليًّا وأخر "تحت قيادة الحكومة التي اعترفت بالهزيمة" والذي اختير له عاصمة أخرى هي فيشي. فهم الجنرال بيتان "الواقعية السياسية" على أنها اعتراف بالأمر الواقع وقبل الاعتراف بالهزيمة والتعاون مع المحتل رغم ماضيه العسكري المجيد. في حين فهم الجنرال شارل ديغول " الواقعية السياسية" على أنها رفض الاحتلال والتقسيم والعمل على مقارعته بكل الوسائل، مطلقًا نداءه الشهير في 18 حزيران من إذاعة لندن لتحرير فرنسا من الاحتلال.
نعلم اليوم مآل الخيار الأول مثلما نعلم مآل الخيار الثاني على صعيد التقويم التاريخي والواقعي، بمعزل عن كل معيار آخر.
هل بنا حاجة إلى أمثلة أخرى؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 23 أيلول/سبتمبر 2018.