أنور
عبد الملك
بدرالدين عرودكي
في
هذا اليوم بالذات، تكتمل خمس سنوات على رحيل واحد من أهم المفكرين الاجتماعيين العرب
في النصف الثاني من القرن العشرين: أنور عبد الملك.
تدعو
هذه المناسبة، إلى الوقوف قليلاً عند أعماله الفكرية والنظرية، من أجل إلقاء نظرة
إجمالية وسريعة على منطلقاتها التي تناولت دراسة مرحلتيْ النهضة منذ القرن التاسع
عشر في مصر خصوصاً، ومآلاتها في ضوء الوضع العربي اليوم، ولاسيما بعد ثورة 25
يناير 2011 في مصر ومثيلاتها في عدد من بلدان العالم العربي، والتي يجري إجهاضها
منذ انطلاقتها، وتحت أنظارنا، بوسائل تختلف من بلد إلى آخر، لكنها تتحد في الغاية
والمرام. نظرة إجمالية لابد أن تستدعي نظرة تفصيلية ونقدية لاسيما وأن إسهاماته
العديدة في ميادين عدة من العلوم الاجتماعية، وفي مناقشة أهم القضايا العربية التي
فرضت أولوياتها منذ خمسينيات القرن الماضي وعلى صعد محلية وإقليمية ودولية، والتي،
على أهميتها القصوى، لم تحظ للأسف بما تستحق من الاهتمام النقدي والسجالي في
العالم العربي، بخلاف ما كانت تثيره خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من
اهتمام ومتابعة في أوربا عموماً، وفي فرنسا خصوصاً.
منذ
مغادرته مصر إلى فرنسا في عام 1959، بعد قضائه ثلاثة عشر شهراً في سجن أبي زعبل (نيسان 1955 ـ أيار 1956) مع
عدد من رفاقه المناضلين اليساريين، وكان قد بدأ خلالها وبعدها في التفكير والكتابة
حول الأسس النظرية لأعماله القادمة، حرص على أن ينشر بالعربية معظم ما كان يكتبه
وينشره بالفرنسية. وكانت فاتحة هذه الأعمال أول وأهم كتاب نشر عن ثورة 23
تموز/يوليو 1952، وهو الكتاب الذي أسيئت ترجمة عنوانه إلى العربية ــ وللعناوين
دلالاتها كما نعلم ــ أو هكذا أراد لها الناشر العربي أن تكون. فبدلاً من مصر
مجتمع عسكري كما نشر بالفرنسية عام 1962، صار العنوان بالعربية في طبعته
الأولى: مصر مجتمع يحكمه العسكريون قبل أن تعاد ترجمته تحت العنوان الذي
كان مؤلفه قد أراده كما يبدو أساساً من قبل: المجتمع المصري والجيش. وكان
كذلك، وبعد سنوات طوال، على إثر من عُرِفوا بمفكري النهضة، أول من استعاد هذه
العملية التاريخية التي عاشتها مصر ومن حولها العالم العربي، أي عملية النهضة،
وذلك في كتابه المؤسس الآخر: الأيديولوجية والنهضة الوطنية، مصر الحديثة (1969)،
الذي ترجم إلى العربية ونشر بإشرافه عام 1983 تحت عنوان نهضة مصر. أما
كتابه الثالث المؤسس، فهو كتاب الجدلية الاجتماعية الذي صدر عام 1972،
والذي ضمَّ بين دفتيْه أول بحث في الاستشراق، سبق به كتاب إدوار سعيد حول الموضوع
نفسه بسنوات، حمل عنوان الاستشراق في أزمة، وكان قد سبق له نشره في مجلة ديوجين
عام 1963.
كان
كتاب مصر مجتمع عسكري أول بحث جدي متكامل حول مصر بين عام 1952 حين استيلاء
الضباط الأحرار على السلطة وعام 1962. يرى عبد الملك أن ثلاث أطوار كبرى، أو مشكلات،
وسمت حتى ذلك الحين مسار النظام العسكري المصري خلال هذه السنوات العشر: مشكلة
الأرض، البناء الصناعي، وتفكيك البورجوازية
القديمة، تمهيدًا من ثمَّ لاستقرار السلطة الجديدة في مصر. سوى أن الكتابات التي
قرأت هذه الأطوار من قبل، اقتصرت على رؤيتها من الزاوية السياسية. في حين أن
الوقائع الأساس فرضت حضورها وإيقاعها منذ الأيام الأولى لحركة الانقلاب. ومن ثم
فما فعله في كتابه إنما استهدف العمل على "إضاءة العناصر المكونة، أو البنى
السفلى إن صح التعبير، التي سوف تحدد طرح المشكلة ذاته ــ الطبيعة الاجتماعية للنظام
العسكري في مصر ــ والحلّ المقترح لها في الكتاب. وبعد استعراض وتحليل هذه
المشكلات والطرق التي تبنتها السلطة العسكرية في حلها، يصل عبد الملك إلى الملاحظة
المؤلمة التالية: "كان بالوسع العمل أكثر من ذلك، وبأسرع من ذلك بكثير،
وخصوصًا دون إعدام الديمقراطية الوليدة بهذا العمق. لكن التكوين الأيديولوجي
والتاريخي لهيئة الضباط، وحذرهم إزاء الأحزاب ، ونفورهم من الدولية الاشتراكية ومن
الثقافة الأوربية المدموغة بالإمبريالية والكونية، وإرادتهم البقاء وحدهم أسياد السلطة، المصممة كأساس
وقاعدة انطلاق المجموع العربي ــ كانت كلها عوامل طبعت الحركة باتجاه سلطوي كان
يتفاقم بالتدريج. هكذا، يتحقق التقدم وفق إيقاع تتحطم وفقه الحريات". ومن ثم
فلابد لتجاوز هذه الأزمة من أن يتجسد بصورة حتمية مطلب الحرية.
أما
في كتابه نهضة مصر، فقد حدد أنور عبد الملك مرحلتيْ النهضة تاريخيًا على
النحو التالي: الأولى 1805 مع اختيار محمد علي واليًا على مصر، و1892، أي بعد عشر
سنوات على الاحتلال البريطاني، وهي السنة التي تعد إيذانًا بفتح مرحلة تاريخية
ثانية، أي المرحلة الثانية لنهضة مصر، "رغم الانكسارين الضاربين في قلب
العملية في 1840 و 1967. لكن كتابه اقتصر،
مع ذلك، على دراسة المرحلة الأولى التي رأى فيها نموذجاً غنياً للريادة الفكرية،
وللإبداع الفكري، وللتحديث الوطني الجذري، ولما أطلق عليه "العروة
الوثقى" بين مختلف طلائع الشعب وجيشه التي كانت سمة المرحلتين على كل حال
وأداتهما في آن، بحيث كانت هذه النهضة الأولى، على أنها كسرت عام 1840، مثلاً
يحتذى، لا في تركيا التي سارت على خطاها حركة الإصلاح فيها فحسب، بل وفي اليابان التي
حذت على نحو مذهل حذوها بواسطة حركة تجديد الإمبراطور ميجي. أما أهمية الكتاب على
الصعيد النظري، فقد تجلت في الطريقة التي اتبعها التحليل في طرحٍ تاريخي ـ عياني
للمشكلة النظرية سمح بإعداد جدلية الخصوصيّ والعام، وفي اعتماد ثلاث درجات: الطبقة
الاجتماعية، والواقع الوطني، والإطار الثقافي والحضاري.
في
مقدمته للطبعة العربية من كتابه التي صدرت عام 1983، يَعْتّبِرُ أنور عبد الملك أنّ
كتابه هذا يؤلف "جزءًا من سلسلة الأعمال الفكرية التكوينية المصرية"
ككتاب في أصول المسألة المصرية لصبحي وحيدة، وكتاب شخصية مصر، دراسة في
عبقرية المكان لجمال حمدان، وكتاب حسين فوزي سندباد مصري وكلها كتبت
بين 1952 و1970، "أي في اللحظة التاريخية التي احتلتها ثورة مصر الوطنية
بقيادة جمال عبد الناصر وصحبه".
وعلى
أنه لم يرَ في ثورة 25 يناير 2011 إلا أنها استكمالٌ لمسيرة النهضة الثانية التي
جسدت ذروتها حركة الضباط الأحرار، فإنه، وقد شهد عملية الإجهاض المنتظمة التي بدأت
بعد رحيل عبد الناصر، لم يشهد تجسيدها الأفظع في الثورة المضادة التي كانت تعكس
محلياً ما كان يراه على كل حال بوادرها على الصعيد العالمي في ما أطلق عليه الجديد
في لعبة الشطرنج الكبرى عبر سلسلة من المقالات كتبها في صحيفة الأهرام بين
2010 و2011.
ويمكن
النظر إلى الكتاب الثالث، الجدلية الاجتماعية، بوصفه الكتاب النظري الأهم
في أعمال أنور عبد الملك. فهو كما يقول في افتتاحيته "يؤلف في آن واحد حسابًا
ختاميًا للعمل النظري الذي تم منذ عام 1960 من باريس، انطلاقًا من التحضيرات التي
بدأت عام 1940،ثم توبعت بمصر حتى عام 1959، ومدخلاً وافتتاحية لعمله النظري
عامة.
يضم
هذا الكتاب مجموعة من الدراسات كتبت بين عامي 1961 و1971، ومن بينها دراسته التي أثارت
حين نشرها عام 1963 هزة في الأوساط الأكاديمية الفرنسية والبريطانية خصوصًا: الاستشراق
في أزمة. يفتتح أنور عبد الملك هذه الدراسة باستشهاد لعالم الكيمياء الحيوية
ومؤلف الأبحاث الشهيرة حول تاريخ التقنيات في الصين، جوزيف نيدهام، يقول فيه:
"مما لا غنى عنه أن تُرى أوربا من الخارج، أن يُرى تاريخ أوربا، و ضروب عجز
أوربا كما نجاحاتها، بعيون هذا الجزء الواسع من الإنسانية الذي تؤلفه شعوب آسيا وأفريقيا". ويحدد من
ثمَّ غاية دراسته: إعادة النظر والتقويم النقدييْن في المفهوم العام والمناهج
والأدوات التي كانت وسيلة الغرب إلى معرفة الشرق، ولاسيما منذ بداية القرن التاسع
عشر، على كافة الصُّعد وفي كل الميادين.
كانت
الأزمة تضرب، كما رآها عبد الملك آنئذ، قلب الاستشراق. إذ لم يعد ميدانها هو الذي
يفلت منها منذ عام 1945 فحسب، بل البشر الذين كانوا بالأمس موضوع دراسة وصاروا
اليوم فاعلين ذوي سيادة. وبموازاة ذلك، بدأ ميدان علوم الإنسان نفسه في الشعور
بالحاجة الماسة إلى التغيير وإعادة البناء والتوسع. في ضوء ذلك، وبعد تقديمه عرضاً
مكثفًا للمفهوم العام للاستشراق، أي رؤية الاستشراق التقليدي للشرق وللشرقيين، ثم
للأدوات المستخدمة من قبله في الدراسة والبحث، يستعرض عبد الملك في مقالته الاستشراق
الجديد كما كان يتجلى في فرنسا وفي العالم الأنكلوساكسوني من خلال الدرس الافتتاحي
الذي ألقاه جاك بيرك في الكوليج دو فرانس عام 1956، من جهة، وتقرير لجنة هايتر
بلندن (Hayter)، من جهة أخرى. ثم يخصص جزءاً من المقالة لدراسة منجزات الاستشراق
الجديد أيضًا في القطاع الاشتراكي، دولاً وحركات، في أوربا، كي يحدد، في النهاية،
الشروط الضرورية لعمل المستشرق على صعيد التكوين العلمي في كل مجال، من لغة
الثقافة التي اختص بها إلى مختلف عناصر الواقع العياني والتجربة الميدانية
المباشرة. ما هو مهم في النهاية هو الوصول إلى نزع الطابع الاستشراقي عن الدراسات
الخاصة بالثقافات الأخرى في آسيا وفي أفريقيا، سواء في التاريخ، أو في الاجتماع،
أو في الآداب، أو في الاقتصاد، أو في علم اللغات، كي تعاد كل دراسة إلى وضعها
الطبيعي ضمن الفرع العلمي الذي تنتمي إليه، ووفق مناهجه في البحث أو في الاستقصاء أو في التحليل.
هكذا،
بقي أنور عبد الملك، في ذلك كله، مخلصًا لمصره ولعروبته وطنًا وثقافةً. لم تنل من
عزيمته ومن تفاؤله سنوات إقامته بعيدًأ عن مصر، لاسيما وهو يعيش في قلب ما أطلق
عليه "اللحظة التاريخية": "كي لا يضيع الخيط، وتتشعب التفسيرات، بل
وتتفرد الأعمال، وكأنها بلا ماض ولا حاضر، وبالتالي بلا وجهة".
** نشر على موقع جيرون يوم
الخميس 15 حزيران 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire