samedi 10 juin 2017


هزيمة حزيران 1967 بعيون معاصريها
بدرالدين عرودكي
كنا على وشك الدخول في العام العشرين لذكرى وقوع نكبة فلسطين حين جاءت حرب الخامس من حزيران 1967 صاعقة وكشّافة. صاعقة، لأن أحداً لم يتوقع ولا كان قادراً على أن يتوقع هول ومدى وسرعة الكارثة التي حلت في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم قبل خمسين عاماً. وكشافة، لأن كل ما كان محجوباً بفعل أيديولوجيات وإعلام التعمية قد عُرِّي فجأة وعلى غير انتظار: لا على صعيد البنى العسكرية القيادية التي لم يكن بوسع أحد أن يخفيها أو أن يحجب سوأتها من شدة هول ما أصابها فحسب، بل كل البنى الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي شاركت بصورة أو بأخرى في الإعداد لهذه الكارثة التي لا يزال العالم العربي كله يعيش آثارها حتى اليوم.
 ومنذ ذلك الحين، كتبت مئات المقالات والدراسات التي حاولت فهم ما حدث أو تحليله والبحث عن أسبابه. لكن ما سنتعرض له هنا، هو بعض ما كتب ونشر خلال السنوات التي تلت مباشرة هذه الكارثة التي لم تنته آثارها ــ كما كان مأمولاً ــ مع حرب 6 تشرين الأول 1973، تلك التي بدت كما لو أنها جاءت مرة أخرى وبغير قصد لتثبت في آن واحد أسباب حرب حزيران والمعاني التي انطوت عليها.
ويبدو أن أكثر ما كتب في الفترة المشار إليها دلالة كان ما كتبه السوريان صادق العظم في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة (1969)، وياسين الحافظ في كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة (1967 ـ 1977).
استأثر كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة بالاهتمام العام الذي حمل ناشره على طبعه ثلاث طبعات متوالية خلال أقل من سبعة أشهر. كان أول بحث متكامل ينشر حول حرب حزيران، وأول من كسر الخطاب الرسمي حولها، في سورية وفي مصر معاً، سواء في استبداله كلمة الهزيمة بالنكسة توصيفاً لها، أوفي تجاوزه الأسباب المباشرة، أي الهزيمة العسكرية المحضة، إلى الأسباب الأعمق، السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم فقد كان طبيعياً وقد خرج على الخط العام الذي وسم مجمل الكتابات حول الهزيمة أياً كان مصدرها، أن يفاجئ الجميع بنظرة مختلفة جذرياً عن الطابع الذي ساد الخطابات العربية عموماً في تلك الفترة ولا يزال للأسف يسودها حتى اليوم.
وهو يستعرض عدداً من الكتابات حول الهزيمة، يستخلص صادق العظم ما تتقاسمه من أوهام أو أخطاء، وأحياناً من جهل، في ضروب التحليل التي تقدمها، عاملاً على تفكيكها وبيان مواضع الخلل فيها. فوصْفُ الحربٍ بالعدوان، والحديث بمناسبتها عن الغدر والمفاجأة، يشي لا بمحاولات "هزيلة لإزاحة المسؤولية عن النفس ورفع المعنويات فحسب، بل يبين أن العرب دخلوا الحرب وعقلية الفروسية في القتال لا تزال تسيطر على عقولهم وردود فعلهم". كما يجد بأن كل تقصير أو عجز أو خطأ كشفته حرب حزيران في التنظيم والاستعداد والتخطيط العربي كان يُنسَبُ لدى بعض العرب إلى الاستعمار والإمبريالية الدولية، بحيث يتم إسقاط مسؤولية الهزيمة دفعة واحدة  على الاستعمار بعد أن يقوموا بإزاحتها عن أنفسهم. طبيعي والحالة هذه أن يتساءل المرء: ولكن، "ألم يكن العرب على وعي تام بأن إسرائيل مرتبطة ارتباطاً عضوياً ووثيقاً بالاستعمار؟". هكذا يستمر الخطاب العام في تبرير الهزيمة وفي إزاحة المسؤولية ولاسيما على سبيل المثال، بسرد الرأي الذي شاع آنئذ بأنه "لو اتخذت القيادة المصرية زمام المبادرة في بدء المعركة وضربت سلاح الطيران الإسرائيلي على نحو ما فعلته إسرائيل بالطيران المصري لانعكست الآية وانتصر العرب"، كما لو أن الوضع العربي كان سليما  من كل النواحي وأن الهزيمة لم تحدث إلا بفعل ظروف قاهرة وتافهة وطارئة لم تؤخذ بعين الاعتبار.
كما يشير صادق العظم، في معرض استعراضه هذه الكتابات حول الهزيمة، إلى كل ما اعتُمِدَ فيها، سواء في التعليل أو في التبرير، بوصفه إما أخطاء في التحليل أو في الفهم، أو جهلاً بالوقائع، أو أيضاً ما يمكن اعتباره استعادة أساطير. ومن ذلك مثلاً، أسطورة "سيطرة الصهيونية على العالم"، أو سيطرتها على الاقتصاد في العالم، بحيث يؤدي ذلك إلى التأثير لا على سياسات مختلف الدول الغربية فحسب بل كذلك على سياسة القوة الأعظم في العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية. يحاول العظم تفنيد ذلك اعتماداً على مفهوم المصالح العليا التي تفرض نفسها أولوية مطلقة على سياسات الدول. أما الأخطاء التي ارتكبها العرب فيمكن الإشارة إلى عدد منها مثل الاستخفاف الشديد بقوة العدو؛ والتقدير العربي المبالغ فيه للصهيونية وطاقاتها و" تضخيم قوتها ونفوذها إلى حد صبغها بقدرات أسطورية فائقة تجعلها سيدة النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي ومجرى التاريخ مرة واحدة"؛ وكذلك تعليل سياسة أمريكا بسبب الأصوات اليهودية ونفوذ الأقلية اليهودية. كل ذلك كان ينحرف بتحليل ما حدث في حزيران عن هدف الفهم الموضوعي بعيداً عن الأساطير والأوهام.
كان لابد للعظم أيضاً من التطرق إلى سمات وجوانب أخرى في الحياة العربية كانت قمينة بأن تولد مثل هذه الهزيمة. فهناك ما سماه عالم الاجتماع حامد عمار الشخصية الفهلوية والتي يراها تطبع السلوك العربي: البحث عن أقصر الطرق وأسرعها لتحقيق هدف أو غاية ما، مع تجنب العناء والجد المطلوبين عادة وكذلك تجنب استخدام الوسائل الطبيعية لتحقيقها. وهي صفات تجعل ممن يتحلى بها عاجزاً عن المبادرة، مثلما تجعله غير قادر على الانضباط في محاولته الدائمة لحفظ ماء الوجه.
وهناك أيضاً القصور الفاضح في المكانة التي يحتلها العلم والتكنولوجيا في الحياة الثقافية والتربوية العربية: قصور المناهج التعليمية، ضآلة الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، ندرة المعاهد المختصة بالدراسات العلمية..وينتهز فرصة الحديث عن ذلك كي يقارن الكيفية التي استجابت بها دول أخرى عندما واجهت وضعاً كارثياً مماثلاً للذي واجهه العرب في حزيران 1967، كروسيا السوفياتية والولايات المتحدة الأمريكية. ولا يقل أهمية عن ذلك وضع المرأة في المجتمع العربي وغياب فعاليتها شبه الكامل عن النشاط السياسي والاجتماعي والعلمي، لا في بلدان الأنظمة التي كانت تصنف آنذاك بالرجعية، بل بتلك التي كانت تعتبر أنظمة اشتراكية وتقدمية وفي مقدمتها مصر وسورية.
وعلى ما اعتور كتابَ النقد الذاتي بعد الهزيمة من بعض علامات التسرع والارتباك الذي أشار إليه صادق العظم نفسه في مقدمة طبعته الأخيرة التي صدرت عام 2007، إلا أن ذلك لا يقلل على الإطلاق من أهميته التي تكمن في تناولِهِ الهزيمة تناولاً نقدياً وعقلانياً ولما تتلاشى الآثارُ الشعورية التي خلفتها الكارثة لدى العرب في طول العالم العربي وعرضه. وما كان لهذا البحث أن يجد طريقه حين نشْرِهِ إلى قطاعات واسعة من القراء لو لم يتناول بالتحليل وبالنقد الصارميْن للأوضاع العربية التي أدت إلى الهزيمة وكذلك لمختلف الكتابات التي حاولت على عجلٍ تفسيرَها أو تبريرَها.   
أما كتاب ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، فقد نُشِرَ بعد تسع سنوات من نشر كتاب صادق العظم. لا يعني ذلك أن ياسين الحافظ قد انتظر كل هذه السنوات كي يتناولَ هزيمة حزيران بالتحليل وبالنقد. ذلك أنه نشر دراسة كتبها بين آب وتشرين أول 1967 تحت عنوان هزيمة حزيران جذورها وأسبابها ونتائجها، وأعاد نشرها في هذا الكتاب بعد مراجعتها وتنقيحها. لكنه بنشره لها هنا إنما يضعُها في سياق عددٍ آخرَ من الدراسات سبق له أن كتبها قبل حزيران 1967، وأخرى كتبها بعده، كي يمكن قراءتها ضمن المنظور الشامل الذي أراده لكتابه وعبر عنه بالعنوان الذي وضعَهُ له. فمتابعتُه الحثيثة وقائعَ ومساراتِ الأيديولوجيات التي عرفتها بلدان المشرق العربي خلال النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن الماضي (الماركسية من جهة في مختلف قراءاتها، والقومية في صيغتيْها البعثية والناصرية)، جعلته أكثر استعداداً على صعيد التكوين السياسي والفكري والاجتماعي لقراءةٍ سياسية شاملة لموضوع الهزيمة التي باتت تؤلف، منذ عام 1948، عنوانَ وطابعَ الحياة العربية.
يرى ياسين الحافظ في هذه الدراسة أن حربَ حزيران تجدُ جذورَها، على الصعيد السياسي المحض، في انهيار الوحدة السورية المصرية، وفي ما تلاها من مزاوداتٍ بدأها رجالُ البعث خلال فترة الانفصال. ففي عام 1962 تحديداً، أي قبل خمس سنوات من حرب حزيران، تحدّى أكرم الحوراني "عبد الناصر أن يضعَ شعارَ تحرير فلسطين في أمر اليوم، وأن ينتقل إلى استراتيجيةٍ وتكتيكاتٍ هجومية على إسرائيل، بدءاً بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ بلا مواربة".  لكن ياسين الحافظ عارض آنئذٍ توجهاتِ الحوراني هذه، واعتبر منذ ذلك الحين أن "شعار تحرير فلسطين في ظل ميزان القوى غير المؤاتي للعرب (...) بمثابة عملية انتحار للعرب، وتسليم بقية فلسطين لإسرائيل، وتوريط مصر في هزيمة عسكرية". وكتب في نهاية مقاله آنذاك: "الحقد موجِّهٌ سيءٌ في السياسة. ليت الأستاذ الحوراني أن يجعل من عبد الناصر وقوداً لتحرير فلسطين، لكنه يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقوداً لإحراق عبد الناصر". (حول بعض قضايا الثورة العربية، دار الطليعة، 1965).
لم تكن هذه القراءة البصيرة والمبكرة لهزيمة قادمة بدأت، على وجه التحديد، بسحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ، مجرد نبؤة بقدر ما كانت نتيجةَ تحليلٍ لواقعِ الوضع العربي في فترة الستينيات. وشأن صادق العظم، ينتقد ياسين الحافظ الكتابات التي ألفت ردود الفعل إزاء الهزيمة، والتي كانت، كما كتب، "تتراوح بين امتثاليةٍ تقليدية، وهذا حالُ الأكثرية الساحقة، وثوريةٍ لاعقلانية فُصَامية، وهذا حالُ الأقلية القليلة." وأنَّ "كلا الفريقين كان يتجنب، أو يعجز في البحث عن الأسباب العميقة والأصلية للهزيمة، ناهيك عن نظرتهما وحيدة الجانب إلى السياق الذي وقعت فيه الهزيمة".
لكن كتاب ياسين الحافظ يختلف جذرياً عن كتاب صادق العظم. فهو لم يحصر بحثه في الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهزيمة حزيران 1967 وحدها، بل يعود إلى جذور الهزيمة العربية التي يؤلف قيام إسرائيل أصلاً وما تلاه من هزائم وصولاً إلى الهزيمة الحزيرانية حلقات متتالية في "سيرورة متصلة من المواجهات والمعارك على مختلف الصعد، السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الحربية".
ومع أخذ ما سبق بعين الاعتبار، يمكن النظر في دراسته التي كتبت ونشرت قبل كتاب صادق العظم. فهو يعتبر بادئ ذي بدء أن حرب الأيام الستة جاءت حصيلة تآمر إمبريالي صهيوني رجعي وأن "القنبلة الزمنية التي انفجرت صبيحة الخامس من حزيران إنما أشعل فتيلها منذ عهد الانفصال. " ومن ثم فإذا كان الهدف المباشر للعدوان إعادة فتح خليج العقبة، فإن الهدف الضمني كان رأس عبد الناصر العربي، أي محتوى سياسته العربية، وبالتالي فهدف إسرائيل كان تحقيق "انكفاء مصر داخل حدودها، وعرقلة الوحدة العربية" مما يضمن لها تفوقاً على العرب المحيطين بها ماداموا يعيشون أسرى التخلف والتجزئة. أما هدف الإمبريالية الأمريكية، فإن سقوط عبد الناصر يعني القضاء على مصدر التهديد والإزعاج لأمنها ومصالحها في المنطقة العربية. ذلك ما أدركته الجماهير العربية بحسها السليم يوم رفضت تنحي عبد الناصر عن السلطة. أما المعنى الأعمق لحرب حزيران فلا يجب البحث عنه في مجرد الهزيمة العسكرية بل في ما أتاحته من وضع كل المنجزات العربية منذ قيام إسرائيل  على المحك: كانت "اختباراً حقيقياً لبنى المجتمع العربي وهياكله وحركته وسير تطوره" أي اختباراً للاشتراكية، وللتنمية، وللمجتمع الجديد، وللثورات، ومن ثم للأيديولوجيا التي توجه هذه الثورات وللطبقات التي نهضت بها وقادتها. وهو ما يحيل إلى فحص البنى العربية في التجربة أو جذر الهزيمة. فهزيمة كتلة بشرية تعدادها ثلاثين مليوناً أمام كتلة أخرى تعدادها مليونين ونصف، يشير بما لا يقبل الشك إلى خلل في التوازن مصدره شلل الكتلة الكبرى وحيوية الصغرى. شلل مرده التخلف، وكذلك التفتت الذي تعيشه البنى العربية.
أدت الهزيمة، كما كتب ياسين الحافظ، إلى ولادة أدب سياسي نقدي ما كان له أن يرى النور لولاها. وهو أدب سلط الأضواء على مدى كفاية ما تحقق بالنسبة إلى ما هو ممكن في مجال التنمية الاقتصادية والزراعية، والذي يكشف عن رخاوة وهشاشة ما تحقق فعلاً. فالتخلف عملية تاريخية لا يمكن أن تتحقق في نظره إلا عبر ثورة اشتراكية حقيقية، شاملة وجذرية، لا تتيح الخروج من التخلف فحسب بل تسمح باختراقه حين تصفي رواسبه بقضائها على الفقر والجهل وبتحطيمها بنى المجتمع التقليدي الاجتماعية والأيديولوجية.
بكثير من الإيجاز لدى صادق العظم، وبكثير من التفصيل لدى ياسين الحافظ، كان تحليل هزيمة حزيران لدى هذين المفكرين يتجاوز الهزيمة العسكرية في ذاتها بحثاً عن الأسباب الأعمق التي جعلتها ممكنة. وإذا كانت طريقة العظم قد اعتمدت التفنيد، فإن طريقة ياسين الحافظ خاضت غمار تحليل متعدد المجالات: التاريخي، والاجتماعي، والثقافي، والتكويني. لكنهما كلاهما، لم يمض في نقد العسكريتاريا بعيداً رغم أنها كانت إلى حد كبير المسؤولة الأولى عن الهزيمة لا لقصورها ميدانياً فحسب بل لضيق أفقها وثقافتها ورؤيتها كما برهنت على ذلك تطورات الأحداث منذ أول انقلاب عسكري في سورية ..


** ورقة قدمت في ندوة "نصف قرن على حرب حزيران 1967، التي نظمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة بمدينة برلين يومي 10 و 11 حزيران/يونيو 2017.

https://www.youtube.com/watch?v=wnwiCUpxyPA&t=212s




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire