jeudi 29 juin 2017


سورية بين وعود السياسة وفنونها
بدرالدين عرودكي
يُنسب إلى هنري كوي، أحد رؤساء الوزراء الفرنسيين في عهد الجمهورية الثالثة،  قوله:"لا تلزم الوعود إلا من يسمعها". وقوله أيضاً: "ليست السياسة فن حلِّ المشكلات بل هي إسكات أؤلئك الذين يطرحونها"! تلك بعض فنون ممارسة السياسة في الديمقراطيات الغربية التي باتت من تقاليدها العريقة.
كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال حملته الانتخابية، قد أعلن موقفه من رأس النظام الأسدي حين اعتبره عدوِّ الشعب السوري، وأعلن عن أنَّ أي عودة إلى استخدام السلاح الكيمياوي من قبله ضد شعبه سوف تحمله، إذا ما انتخب رئيساً للجمهورية، على إرسال القوات الفرنسية لضربه؛ بحيث ذهبت الصحف إلى اعتباره يقوم بالإعداد لحرب قادمة في سورية. كان في ذلك، مع مرشح الحزب الاشتراكي بنوا آمون، وبخلاف مرشحيْ اليمين واليسار المتطرفين، ماري لوبن وميلانشون، يسير على خطى الحكومة الفرنسية السابقة المبدئي إزاء النظام الأٍسدي، رغم تغيير أولوياتها بعد العمليات الإرهابية بباريس ونيس خلال العاميْن الماضيين.
لم يتوقف أحد في فرنسا، على ما نعلم، عند جدوى هذا التصريح الذي بدا آنئذ وكأنه شديد الإيجابية إزاء الثورة السورية، في الوقت الذي لم يكن، والحق يقال، يختلف في رؤيته للشأن السوري عن جوهر الرؤية الأمريكية الضبابية، رغم التصريحات الرنانة التي تصدر بين الحين والآخر عن كبار المسؤولين الأمريكيين، بما فيها تلك التي تجسَّدت ــ استثناءً واستعادة للخط الأحمر الذي كان أوباما قد تناساه غداة 21 آب 2013 ــ في ضرب مطار الشعيرات بتسعة وخمسين صاروخاً، عقاباً على قصف خان شيخون بالسلاح الكيمياوي في شهر نيسان الماضي، من دون إهمال إخطار الروس الذين بادروا بدورهم إلى إخطار حليفيهم الأسدي والإيراني وميليشياتهما قبل موعد الضربة بست ساعات.
سوى أن ماكرون وقد صار رئيساً للجمهورية الفرنسية، سرعان ما سار في الشأن السوري على خطى من سبقه من السياسيين الفرنسيين في مسألة الوعود التي يقطعونها توسلاً للناخبين. ففي لقاء نشرته ثمانية صحف فرنسية وأوربية يوم 21 من الشهر الحالي، وتحدث فيه عن عدد من القضايا الأوربية والعالمية الراهنة وموقف فرنسا في عهده منها، كان من بينها موقفه من رأس النظام الأسدي ضمن الحل السياسي المنشود في سورية. فقد توقفت وكالات الأنباء والصحف عند الجملة الجديدة التي وضع فيها الجملة التي سبق له أن قالها أثناء حملته الانتخابية في سياق جديد: "لكن بشار الأسد ليس عدونا، إنه عدو الشعب السوري"!
بمعزل عن كل ضروب النوايا، الطيبة أو الخبيثة، في السياسة عامة، لم يكن سياق الحديث في اللقاء المشار إليه يبرر بأي حال مثل هذه الجملة الجديدة الساذجة، كي لا نقول الغبية. لكنها ربما بسبب ذلك، تكشف، من حيث لا يدري قائلها، عن بعض الهشاشة في خبرته الدبلوماسية، إذا ما نظرنا إلى مضمون ومرامي السياق الذي قيلت فيه. فقد انتقل الصحفيون بأسئلتهم من رؤيته لأوربا إلى الشأن السوري في ضوء طبيعة العلاقة الفرنسية الروسية التي يرمي إليها، لاسيما وأن معظم منافسيه كانوا ينادون بعلاقة مميزة مع الرئيس الروسي، ومن ثم بعلاقة طبيعية مع رأس النظام الأسدي. يعود إمانويل ماكرون في إجابته إلى غداة 21 آب عام 2013 حين استخدم الأسد السلاح الكيمياوي، معتبراً أن "ما أضعف فرنسا هو تحديد خط أحمر سياسياً وعدم استخلاص النتائج المترتبة على اختراقه"، وأن ما حرر بوتين، بالتالي، على مسارح العمليات الأساس في نظره: أوكرانيا وسورية، ملاحظته أن ثمة "أناس في مواجهته وضعوا خطوطاً حمراء لكنهم لم يعملوا على فرض احترامها".
هناك في نظره إذن ضرورة أولى تتمثل في فرض احترام فرنسا على العالم انطلاقاً من احترامها هي نفسها لكلمتها. لكنه يمضي إلى أبعد من ذلك حين يريد تفسير المواقف الروسية "العنيدة" عبر تحليل أراد أن يجعل منه تفسيراً لموقفه الجديد في الشأن السوري. فهو يرى أن بوتين يواجه الإرهاب مثل فرنسا، وأن روسيا "تواجه أيضاً على حدودها التمرد والهويات الدينية العنيفة التي تهددها"؛  وأن لدى بوتين "هاجسين: مقاومة الإرهاب وتلافي انهيار الدولة". وأنه هو، إمانويل ماكرون، يرى أن التقارب مع بوتين في ضوء ذلك ممكن، مما يحمله في سبيل ذلك على إزالة العقبة التي كانت في نظره تقف في طريق أي حل سياسي: أي بقاء بشار الأسد في السلطة. وهو ما يقوده إلى استخلاص هذه النتيجة "العبقرية": "لكن بشار ليس عدونا بل هو عدو الشعب السوري"، كي يعلن ضرورة النجاح في العمل مع روسيا حول سورية من أجل "النضال ضد الإرهاب والوصول إلى مخرج حقيقي من الأزمة" كما يقول. بعبارة أخرى، رغم الصرامة التي واجه بها كما يقول ماكرون ضيفَه بوتين حين استقبله في أيار الماضي بفرساي، هاهو يضيف الجملة السحرية التي كان بوتين ينتظرها والتي يصر عليها منذ بداية الثورة السورية: شخص رأس النظام الأسدي.  
هكذا تنضم فرنسا، أخيراً، إلى سلسلة الدول الأخرى التي انضمت إلى إعادة تأهيل الأسد، بدعوى غياب أي بديل حقيقي أو مصنوع يمكن أن يكون مقبولاً في نظر القوى الدولية والإقليمية الفاعلة. وربما سيكون من السذاجة محاولة مناقشة هذا الموقف الفرنسي "الجديد" انطلاقاً من "خيانة مبادئ الثورة الفرنسية"، أو السير على نهج "الواقعية السياسية" التي ينادي بها وزير الخارجية الأسبق فيدرين والتي  يملأ أنصارها قصر الإليزيه. إذ يكفي استعادة وقائع السنة الأخيرة من عمر الثورة السورية كي نرى المآلات التي ترسم لها بهدوء لا في غياب  الشعب السوري أو من يمثله من مختلف ضروب المعارضة المسلحة أو السياسية فحسب، بل حتى في غياب ممثلي النظام الأسدي الذي بات رأسه دمية ضرورية وإن لم يكن لها حول أو قوة سوى أداء الدور المرسوم لها سلفاً من قبل من يزرقها بما يديم حياتها.
هي ذي الخاتمة المرتجاة لمسار طويل في مواجهة ثورة الشعب السوري. ذلك أن المشكلة الأساس، ثورة السوريين، نقلت تدريجياً، على مستويي المعنى والتأويل، وتحت إملاءات ردود الفعل المختلفة إزاءها على الصعيد الإقليمي والدولي، بحِرَفيّة بالغة. فما كان ثورة شعب ينتصر لكرامته ولِحَقِّهِ في الحرية، استحال مؤامرة على ألسنة ممثلي النظام وحلفائه الذين صاروا، من بعدُ، حُماتهُ ثم ولاة أمره ثم القائمين مقامه؛ ثم ما لبثت أن عُمِّدَت إرهاباً ما لبث الشرق الروسي والغرب بوجهيْه الأمريكي والأوربي أن وجدوا فيه ضالتهم، فصار حجتهم الكبرى وأولوية سياساتهم الخارجية. وخلال ذلك كله، تم تجسيد الإرهاب في مختلف الجماعات التي ساعد النظام الأسدي وحماته على تكاثر بعضها أو على اختراق بعضها الآخر، بحيث بدت وجهه الآخر في ممارساته وفي أداء الوظائف التي لم يكن يستطيع أداءها بوجه مكشوف، وخصوصًا تلك التي ارتكبتها داعش داخل سورية وخارجها. هكذا أزيح النظام الأسدي بوصفه الإرهابي الأول عن مقدمة المشهد كي تحتل مكانه، لا هذه الجماعات التي اقتصر عملها على الداخل السوري من أجل تشتيت وتفتيت الثورة السورية وتشويه أهدافها ومسالكها، بل داعش التي لم يقتصر عملها في الداخل على قتال الثوار الحقيقيين المعادين للنظام الأسدي فحسب تجاوزه إلى تثبيت مقولة النظام الأسدي وحلفائه حول الإرهاب، حين مسَّت بعملياتها الإرهابية الدول الغربية كي تحملها على وضع  الإرهاب أولوية في سياساتها، وهو ما تحقق خلال السنتيْن الأخيرتيْن.  
هكذا، وفي نجاح تغييب جرائم النظام الأسدي لصالح إبراز جرائم الإرهاب في الغرب خصوصاً، بات من السهل على حلفاء النظام من الروس والإيرانيين تسويق دميتهم، باسم الحفاظ على الدولة وباسم غياب البديل الحقيقي له. ذلك ما كان يتم العمل من أجله منذ مؤتمر جنيف الأول. وهاهم جميعاً، "أصدقاء" سورية ومحتلوها، يتفقون على أن الحل السياسي يجب أن يقود إلى بقاء النظام الأسدي ورأسه.
إذ من يصدق اليوم أن "الدولة" السورية" لا زالت قائمة؟ ومن يستطيع من بين كل القوى على الأرض السورية أن يزعم أنه ينطق باسم الشعب السوري؟



** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 29 حزيران 2017.


jeudi 22 juin 2017


الكلمة والعالم في الترجمة

بدرالدين عرودكي
قول الشيء ذاته تقريبًا.
في هذه الكلمة، "تقريبًا"، يضع الأكاديمي والروائي الإيطالي أومبرتو إيكو كل ما يريد أن يقوله في فعل الترجمة، وهو كثير. لكنه بقوله هذا يفتح في الوقت نفسه كل مجالات الإمكان والغموض. على أنه بخلاف معظم من كتبوا في الترجمة، لم يكتف بالتنظير المجرد، بل قام بما اعتبره ضرورة، أي الانطلاق من تطبيقات فعلية تقدم أمثلة عينية في الترجمة من وإلى لغات مختلفة، إلى ما يمكن أن يستخلصه منها من مفاهيم يمكن أن يصل بها إلى صوغ مفاهيم يمكن أن تؤلف عناصر من أجل نظرية في الترجمة. ذلك أن تجربته ثلاثية الأبعاد في هذا المجال تكاد قلَّ من امتلكها: مراجعة تجارب الآخرين من خلال إشرافه في عدد من دور النشر على سلاسل الكتب، وممارسته شخصيًا للترجمة الدقيقة التي اقتضت منه سنوات من العمل على ترجمة كتابين، أحدهما لريمون كنو: "تمارين في الأسلوب" وثانيهما لجيرار دو نرفال: "سيلفي"، بالإضافة إلى مراجعته ترجمة مؤلفاته النقدية أو الروائية.
يؤكد إيكو على أحد أكثر مطالب الترجمة شهرة، "الإخلاص" للنص الأصلي المراد ترجمته. ولكن كيف يمكن "ترجمة" هذه الكلمة في الواقع العياني؟ وما الذي تعنيه على وجه الدقة؟ يرى إيكو مع القديس جيروم، راعي المترجمين، أن الإخلاص لا يتجلى في ترجمة كلمة مقابل كلمة، بل في ترجمة العالم الذي سبق أن فتحه المؤلف بكلماته، ولو بكلمات مختلفة. ومن ثم، كلّ مؤلف ينطلق حين يتابع عمل مترجميه من مطلب الإخلاص ضمنياً. يكتب إيكو: "كنتُ ممزقُا بين الحاجة إلى أن تكون الترجمة "مخلصة" لما كنتُ كتبته، وبين الاكتشاف المثير للطريقة التي يستطيع بها نصّي (بل ويجب عليه أحيانًا) أن يتحوَّلَ في اللحظة التي يقالُ فيها مجدَّدًا بلغة أخرى".
جرت العادة لدى المترجمين أن يعتبروا أن الأهم هو ما يتجلى في النتيجة التي تتواجد في النص واللغة المترجم إليها. لكن مفهوم "الإخلاص" يشارك كذلك "القناعة بأن الترجمة صورة من صور التأويل الذي يجب أن يستهدف، ولو انطلاقاً من حساسية وثقافة القارئ، العثورَ لا على قصد المؤلف، بل على قصد النصّ، أي ما يقوله النص أو يوحي به بالعلاقة مع اللغة التي عبر عنه بها وفي السياق الثقافي الذي ولد فيه". يؤدي ذلك إلى ضرورة أن تقوم الترجمة على "فهم نسق اللغة الداخلي وبنية النص المعطى في هذه اللغة، وبناء نسق آخر يكون نظير النسق النصّي (...) ويمكنه أن يحدث آثارًا مماثلة لدى القارئ" على مختلف الصُّعد اللغوية والجمالية.   
هكذا كان إيكو يكتشف وهو يتابع ثمرات مترجمي عمله إلى اللغات الأخرى التي كان يتقنها كيف كان ينطوي نصّه على إمكانات لم يكن يتوقعها. يقول: "كنتُ أشعر كيف يعرض النصّ في تماسّه مع لغة أخرى إمكانات تأويلية مجهولة مني وكيف يسع الترجمة أحياناً أن "تُحَسِّنه" (أقول "تحسِّنه" على وجه الدقة بالعلاقة مع القصد الذي كان النص يكشفه فجأة بمعزل عن قصدي الأصلي كمؤلف". بذلك يؤكد هذا الاكتشاف معنىً للإخلاص يتمثل في أن يتمكن النص المترجم من إحداث الأثر نفسه الذي يحدثه النص الأساس في لغته الأصلية. ومن ثمَّ فلا بد من التخلي عن المفاهيم الكلاسيكية، مثل ضرورة "تشابه الدلالة" أو "التعادل" بين الكلمات في معانيها، لصالح مفهوم آخر: "التعادل الوظيفي"، أي أن تنتج الترجمة الأثر نفسه المستهدف في النص الأصلي. يطلق إيكو على نتيجة هذا التعادل الوظيفي "تساوي القيمة التبادلية"، وتصير في علم الترجمة، بوصفها نتيجة، موضوعًا لمفاوضة أطرافها هم، من جهة، النص الأصلي مع حقوقه المستقلة، والمؤلف حين يكون حياً ويرغب في مراقبة الترجمة، والثقافة التي ولد فيها النص الأصلي، ومن جهة أخرى، المترجم، ونص الترجمة، والثقافة التي سيظهر فيها، مع ما ينتظره القراء الجدد. مما يفرض على المترجم، بادئ ذي بدء، أن يصوغ فرضية تأويلية حول الأثر المتوقع من قبل النص الأصلي، كي يعمل على إعادة إنتاجه في ترجمته.   
على أن المفاوضة لا تفترض الوصول مسبقاً إلى التساوي في القيمة التبادلية. ومن هنا بعض الآثار التي لابد للترجمة من أن تحدثها. يقول الفيلسوف الألماني هانس جورج غادامير في كتابه "الحقيقة والمنهج": "حين نريد في ترجمتنا التأكيد على سمة النص الأصلي التي تبدو لنا هامة بوجه خاص، لا نستطيع أن نفعل ذلك إلا على حساب سمات أخرى، أو لقاء استبعادها. لكن، هو ذا على وجه الدقة الموقف الذي هو، في نظرنا، موقف التأويل (...). لكن بما أن (المترجم) ليس على الاطلاق  في وضع يمنح فيه بصورة حقيقية تعبيرا لكل أبعاد نصه، فهذا يعني (بالنسبة للمترجم) عدولًا دائمًا". هكذا تعني الترجمة في نظر إيكو دومًا "(تسحيج) بعض النتائج التي تقتضيها الكلمة الأصلية. وبهذا المعنى إنما نقول إننا بترجمتنا لا نقول الشيء نفسه. ويجب على التأويل الذي يسبق كل ترجمة أن يبيِّن كم وأية نتائج تقترحها الكلمة يمكن أن تُسْحَج. دون أن نكون أبدًا واثقين كليًّا من أننا لن نفقد قنديلًا فوق بنفسجي أو أشعة تحت حمراء".
بهذا المعنى يمكن القول إن المفاوضة في الترجمة ليست علاقة توزيع عادل للخسارة والربح بين طرفين، بل هي بالأحرى جهدٌ مستمر يقوم به المترجم لا كي يقول العالم الذي يعبر عنه النص الأصلي بلغة أخرى، بل أن ينشئ نظيراً له في هذه الأخيرة. وهو ما يعني خسائر جانبية هنا أو هناك. ويلتقي ذلك مع ما سبق أن تحدث عنه فريديريك شليرماشر (1768 ـ 1834) في كتابه "مختلف مناهج الترجمة": "إما أن يترك المترجمُ الكاتبَ أهدأ ما يمكن أن يكون، ويعمل على أن يذهب القارئ إلى لقائه، وإما أن يترك القارئ أهدأ ما يمكن أن يكون، ويحمل الكاتبَ على الذهاب إلى لقائه. الطريقان مختلفان اختلافًا كليًّا إلى درجة أنه يمكن لواحد من الاثنين أن يُتابَعَ مع أكبر قدر من الصرامة. لأن كل مزج يمكن أن يؤدي إلى نتيجة غير مرضية أبدًا بالضرورة، ولابد أن يُخشى حينها من أن يفشل اللقاء بين الكاتب والقارئ كليًا".
"قول الشيء نفسه تقريبًا" يبدو ممكنًا في الترجمة بين اللغات الأوربية التي استقى منها أومبرتو إيكو خبرته التجريبية، وصاغ مفاهيمه انطلاقًا منها. لم يكن بوسعه أن يتابع ترجمة أعماله إلى لغات أخرى غير اللغات الأوربية التي كان يتقن ستًّا منها، كاللغة العربية أو الفارسية. لربما كان سيلاحظ، لو أمكنه ذلك، أن كلمة "تقريبًا" لن تتخذ المعنى ذاته.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 22 حزيران/يونيو 2017.



jeudi 15 juin 2017


أنور عبد الملك
النهضة والعسكر والاستشراق 

بدرالدين عرودكي
في هذا اليوم بالذات، تكتمل خمس سنوات على رحيل واحد من أهم المفكرين الاجتماعيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين: أنور عبد الملك.
تدعو هذه المناسبة، إلى الوقوف قليلاً عند أعماله الفكرية والنظرية، من أجل إلقاء نظرة إجمالية وسريعة على منطلقاتها التي تناولت دراسة مرحلتيْ النهضة منذ القرن التاسع عشر في مصر خصوصاً، ومآلاتها في ضوء الوضع العربي اليوم، ولاسيما بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر ومثيلاتها في عدد من بلدان العالم العربي، والتي يجري إجهاضها منذ انطلاقتها، وتحت أنظارنا، بوسائل تختلف من بلد إلى آخر، لكنها تتحد في الغاية والمرام. نظرة إجمالية لابد أن تستدعي نظرة تفصيلية ونقدية لاسيما وأن إسهاماته العديدة في ميادين عدة من العلوم الاجتماعية، وفي مناقشة أهم القضايا العربية التي فرضت أولوياتها منذ خمسينيات القرن الماضي وعلى صعد محلية وإقليمية ودولية، والتي، على أهميتها القصوى، لم تحظ للأسف بما تستحق من الاهتمام النقدي والسجالي في العالم العربي، بخلاف ما كانت تثيره خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي من اهتمام ومتابعة في أوربا عموماً، وفي فرنسا خصوصاً.
منذ مغادرته مصر إلى فرنسا في عام 1959، بعد قضائه ثلاثة عشر شهراً  في سجن أبي زعبل (نيسان 1955 ـ أيار 1956) مع عدد من رفاقه المناضلين اليساريين، وكان قد بدأ خلالها وبعدها في التفكير والكتابة حول الأسس النظرية لأعماله القادمة، حرص على أن ينشر بالعربية معظم ما كان يكتبه وينشره بالفرنسية. وكانت فاتحة هذه الأعمال أول وأهم كتاب نشر عن ثورة 23 تموز/يوليو 1952، وهو الكتاب الذي أسيئت ترجمة عنوانه إلى العربية ــ وللعناوين دلالاتها كما نعلم ــ أو هكذا أراد لها الناشر العربي أن تكون. فبدلاً من مصر مجتمع عسكري كما نشر بالفرنسية عام 1962، صار العنوان بالعربية في طبعته الأولى: مصر مجتمع يحكمه العسكريون قبل أن تعاد ترجمته تحت العنوان الذي كان مؤلفه قد أراده كما يبدو أساساً من قبل: المجتمع المصري والجيش. وكان كذلك، وبعد سنوات طوال، على إثر من عُرِفوا بمفكري النهضة، أول من استعاد هذه العملية التاريخية التي عاشتها مصر ومن حولها العالم العربي، أي عملية النهضة، وذلك في كتابه المؤسس الآخر: الأيديولوجية والنهضة الوطنية، مصر الحديثة (1969)، الذي ترجم إلى العربية ونشر بإشرافه عام 1983 تحت عنوان نهضة مصر. أما كتابه الثالث المؤسس، فهو كتاب الجدلية الاجتماعية الذي صدر عام 1972، والذي ضمَّ بين دفتيْه أول بحث في الاستشراق، سبق به كتاب إدوار سعيد حول الموضوع نفسه بسنوات، حمل عنوان الاستشراق في أزمة، وكان قد سبق له نشره في مجلة ديوجين عام 1963.
كان كتاب مصر مجتمع عسكري أول بحث جدي متكامل حول مصر بين عام 1952 حين استيلاء الضباط الأحرار على السلطة وعام 1962. يرى عبد الملك أن ثلاث أطوار كبرى، أو مشكلات، وسمت حتى ذلك الحين مسار النظام العسكري المصري خلال هذه السنوات العشر: مشكلة الأرض، البناء  الصناعي، وتفكيك البورجوازية القديمة، تمهيدًا من ثمَّ لاستقرار السلطة الجديدة في مصر. سوى أن الكتابات التي قرأت هذه الأطوار من قبل، اقتصرت على رؤيتها من الزاوية السياسية. في حين أن الوقائع الأساس فرضت حضورها وإيقاعها منذ الأيام الأولى لحركة الانقلاب. ومن ثم فما فعله في كتابه إنما استهدف العمل على "إضاءة العناصر المكونة، أو البنى السفلى إن صح التعبير، التي سوف تحدد طرح المشكلة ذاته ــ الطبيعة الاجتماعية للنظام العسكري في مصر ــ والحلّ المقترح لها في الكتاب. وبعد استعراض وتحليل هذه المشكلات والطرق التي تبنتها السلطة العسكرية في حلها، يصل عبد الملك إلى الملاحظة المؤلمة التالية: "كان بالوسع العمل أكثر من ذلك، وبأسرع من ذلك بكثير، وخصوصًا دون إعدام الديمقراطية الوليدة بهذا العمق. لكن التكوين الأيديولوجي والتاريخي لهيئة الضباط، وحذرهم إزاء الأحزاب ، ونفورهم من الدولية الاشتراكية ومن الثقافة الأوربية المدموغة بالإمبريالية والكونية، وإرادتهم  البقاء وحدهم أسياد السلطة، المصممة كأساس وقاعدة انطلاق المجموع العربي ــ كانت كلها عوامل طبعت الحركة باتجاه سلطوي كان يتفاقم بالتدريج. هكذا، يتحقق التقدم وفق إيقاع تتحطم وفقه الحريات". ومن ثم فلابد لتجاوز هذه الأزمة من أن يتجسد بصورة حتمية مطلب الحرية.   
أما في كتابه نهضة مصر، فقد حدد أنور عبد الملك مرحلتيْ النهضة تاريخيًا على النحو التالي: الأولى 1805 مع اختيار محمد علي واليًا على مصر، و1892، أي بعد عشر سنوات على الاحتلال البريطاني، وهي السنة التي تعد إيذانًا بفتح مرحلة تاريخية ثانية، أي المرحلة الثانية لنهضة مصر، "رغم الانكسارين الضاربين في قلب العملية  في 1840 و 1967. لكن كتابه اقتصر، مع ذلك، على دراسة المرحلة الأولى التي رأى فيها نموذجاً غنياً للريادة الفكرية، وللإبداع الفكري، وللتحديث الوطني الجذري، ولما أطلق عليه "العروة الوثقى" بين مختلف طلائع الشعب وجيشه التي كانت سمة المرحلتين على كل حال وأداتهما في آن، بحيث كانت هذه النهضة الأولى، على أنها كسرت عام 1840، مثلاً يحتذى، لا في تركيا التي سارت على خطاها حركة الإصلاح فيها فحسب، بل وفي اليابان التي حذت على نحو مذهل حذوها بواسطة حركة تجديد الإمبراطور ميجي. أما أهمية الكتاب على الصعيد النظري، فقد تجلت في الطريقة التي اتبعها التحليل في طرحٍ تاريخي ـ عياني للمشكلة النظرية سمح بإعداد جدلية الخصوصيّ والعام، وفي اعتماد ثلاث درجات: الطبقة الاجتماعية، والواقع الوطني، والإطار الثقافي والحضاري.
في مقدمته للطبعة العربية من كتابه التي صدرت عام 1983، يَعْتّبِرُ أنور عبد الملك أنّ كتابه هذا يؤلف "جزءًا من سلسلة الأعمال الفكرية التكوينية المصرية" ككتاب في أصول المسألة المصرية لصبحي وحيدة، وكتاب شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان لجمال حمدان، وكتاب حسين فوزي سندباد مصري وكلها كتبت بين 1952 و1970، "أي في اللحظة التاريخية التي احتلتها ثورة مصر الوطنية بقيادة جمال عبد الناصر وصحبه".
وعلى أنه لم يرَ في ثورة 25 يناير 2011 إلا أنها استكمالٌ لمسيرة النهضة الثانية التي جسدت ذروتها حركة الضباط الأحرار، فإنه، وقد شهد عملية الإجهاض المنتظمة التي بدأت بعد رحيل عبد الناصر، لم يشهد تجسيدها الأفظع في الثورة المضادة التي كانت تعكس محلياً ما كان يراه على كل حال بوادرها على الصعيد العالمي في ما أطلق عليه الجديد في لعبة الشطرنج الكبرى عبر سلسلة من المقالات كتبها في صحيفة الأهرام بين 2010 و2011.
ويمكن النظر إلى الكتاب الثالث، الجدلية الاجتماعية، بوصفه الكتاب النظري الأهم في أعمال أنور عبد الملك. فهو كما يقول في افتتاحيته "يؤلف في آن واحد حسابًا ختاميًا للعمل النظري الذي تم منذ عام 1960 من باريس، انطلاقًا من التحضيرات التي بدأت عام 1940،ثم توبعت بمصر حتى عام 1959، ومدخلاً وافتتاحية لعمله النظري عامة.   
يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات كتبت بين عامي 1961 و1971، ومن بينها دراسته التي أثارت حين نشرها عام 1963 هزة في الأوساط الأكاديمية الفرنسية والبريطانية خصوصًا: الاستشراق في أزمة. يفتتح أنور عبد الملك هذه الدراسة باستشهاد لعالم الكيمياء الحيوية ومؤلف الأبحاث الشهيرة حول تاريخ التقنيات في الصين، جوزيف نيدهام، يقول فيه: "مما لا غنى عنه أن تُرى أوربا من الخارج، أن يُرى تاريخ أوربا، و ضروب عجز أوربا كما نجاحاتها، بعيون هذا الجزء الواسع من الإنسانية  الذي تؤلفه شعوب آسيا وأفريقيا". ويحدد من ثمَّ غاية دراسته: إعادة النظر والتقويم النقدييْن في المفهوم العام والمناهج والأدوات التي كانت وسيلة الغرب إلى معرفة الشرق، ولاسيما منذ بداية القرن التاسع عشر، على كافة الصُّعد وفي كل الميادين.
كانت الأزمة تضرب، كما رآها عبد الملك آنئذ، قلب الاستشراق. إذ لم يعد ميدانها هو الذي يفلت منها منذ عام 1945 فحسب، بل البشر الذين كانوا بالأمس موضوع دراسة وصاروا اليوم فاعلين ذوي سيادة. وبموازاة ذلك، بدأ ميدان علوم الإنسان نفسه في الشعور بالحاجة الماسة إلى التغيير وإعادة البناء والتوسع. في ضوء ذلك، وبعد تقديمه عرضاً مكثفًا للمفهوم العام للاستشراق، أي رؤية الاستشراق التقليدي للشرق وللشرقيين، ثم للأدوات المستخدمة من قبله في الدراسة والبحث، يستعرض عبد الملك في مقالته الاستشراق الجديد كما كان يتجلى في فرنسا وفي العالم الأنكلوساكسوني من خلال الدرس الافتتاحي الذي ألقاه جاك بيرك في الكوليج دو فرانس عام 1956، من جهة، وتقرير لجنة هايتر بلندن (Hayter)، من جهة أخرى. ثم يخصص جزءاً من المقالة لدراسة منجزات الاستشراق الجديد أيضًا في القطاع الاشتراكي، دولاً وحركات، في أوربا، كي يحدد، في النهاية، الشروط الضرورية لعمل المستشرق على صعيد التكوين العلمي في كل مجال، من لغة الثقافة التي اختص بها إلى مختلف عناصر الواقع العياني والتجربة الميدانية المباشرة. ما هو مهم في النهاية هو الوصول إلى نزع الطابع الاستشراقي عن الدراسات الخاصة بالثقافات الأخرى في آسيا وفي أفريقيا، سواء في التاريخ، أو في الاجتماع، أو في الآداب، أو في الاقتصاد، أو في علم اللغات، كي تعاد كل دراسة إلى وضعها الطبيعي ضمن الفرع العلمي الذي تنتمي إليه، ووفق مناهجه  في البحث أو في الاستقصاء أو في التحليل.
هكذا، بقي أنور عبد الملك، في ذلك كله، مخلصًا لمصره ولعروبته وطنًا وثقافةً. لم تنل من عزيمته ومن تفاؤله سنوات إقامته بعيدًأ عن مصر، لاسيما وهو يعيش في قلب ما أطلق عليه "اللحظة التاريخية": "كي لا يضيع الخيط، وتتشعب التفسيرات، بل وتتفرد الأعمال، وكأنها بلا ماض ولا حاضر، وبالتالي بلا وجهة".


** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 15 حزيران 2017.


samedi 10 juin 2017


هزيمة حزيران 1967 بعيون معاصريها
بدرالدين عرودكي
كنا على وشك الدخول في العام العشرين لذكرى وقوع نكبة فلسطين حين جاءت حرب الخامس من حزيران 1967 صاعقة وكشّافة. صاعقة، لأن أحداً لم يتوقع ولا كان قادراً على أن يتوقع هول ومدى وسرعة الكارثة التي حلت في الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم قبل خمسين عاماً. وكشافة، لأن كل ما كان محجوباً بفعل أيديولوجيات وإعلام التعمية قد عُرِّي فجأة وعلى غير انتظار: لا على صعيد البنى العسكرية القيادية التي لم يكن بوسع أحد أن يخفيها أو أن يحجب سوأتها من شدة هول ما أصابها فحسب، بل كل البنى الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي شاركت بصورة أو بأخرى في الإعداد لهذه الكارثة التي لا يزال العالم العربي كله يعيش آثارها حتى اليوم.
 ومنذ ذلك الحين، كتبت مئات المقالات والدراسات التي حاولت فهم ما حدث أو تحليله والبحث عن أسبابه. لكن ما سنتعرض له هنا، هو بعض ما كتب ونشر خلال السنوات التي تلت مباشرة هذه الكارثة التي لم تنته آثارها ــ كما كان مأمولاً ــ مع حرب 6 تشرين الأول 1973، تلك التي بدت كما لو أنها جاءت مرة أخرى وبغير قصد لتثبت في آن واحد أسباب حرب حزيران والمعاني التي انطوت عليها.
ويبدو أن أكثر ما كتب في الفترة المشار إليها دلالة كان ما كتبه السوريان صادق العظم في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة (1969)، وياسين الحافظ في كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة (1967 ـ 1977).
استأثر كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة بالاهتمام العام الذي حمل ناشره على طبعه ثلاث طبعات متوالية خلال أقل من سبعة أشهر. كان أول بحث متكامل ينشر حول حرب حزيران، وأول من كسر الخطاب الرسمي حولها، في سورية وفي مصر معاً، سواء في استبداله كلمة الهزيمة بالنكسة توصيفاً لها، أوفي تجاوزه الأسباب المباشرة، أي الهزيمة العسكرية المحضة، إلى الأسباب الأعمق، السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن ثم فقد كان طبيعياً وقد خرج على الخط العام الذي وسم مجمل الكتابات حول الهزيمة أياً كان مصدرها، أن يفاجئ الجميع بنظرة مختلفة جذرياً عن الطابع الذي ساد الخطابات العربية عموماً في تلك الفترة ولا يزال للأسف يسودها حتى اليوم.
وهو يستعرض عدداً من الكتابات حول الهزيمة، يستخلص صادق العظم ما تتقاسمه من أوهام أو أخطاء، وأحياناً من جهل، في ضروب التحليل التي تقدمها، عاملاً على تفكيكها وبيان مواضع الخلل فيها. فوصْفُ الحربٍ بالعدوان، والحديث بمناسبتها عن الغدر والمفاجأة، يشي لا بمحاولات "هزيلة لإزاحة المسؤولية عن النفس ورفع المعنويات فحسب، بل يبين أن العرب دخلوا الحرب وعقلية الفروسية في القتال لا تزال تسيطر على عقولهم وردود فعلهم". كما يجد بأن كل تقصير أو عجز أو خطأ كشفته حرب حزيران في التنظيم والاستعداد والتخطيط العربي كان يُنسَبُ لدى بعض العرب إلى الاستعمار والإمبريالية الدولية، بحيث يتم إسقاط مسؤولية الهزيمة دفعة واحدة  على الاستعمار بعد أن يقوموا بإزاحتها عن أنفسهم. طبيعي والحالة هذه أن يتساءل المرء: ولكن، "ألم يكن العرب على وعي تام بأن إسرائيل مرتبطة ارتباطاً عضوياً ووثيقاً بالاستعمار؟". هكذا يستمر الخطاب العام في تبرير الهزيمة وفي إزاحة المسؤولية ولاسيما على سبيل المثال، بسرد الرأي الذي شاع آنئذ بأنه "لو اتخذت القيادة المصرية زمام المبادرة في بدء المعركة وضربت سلاح الطيران الإسرائيلي على نحو ما فعلته إسرائيل بالطيران المصري لانعكست الآية وانتصر العرب"، كما لو أن الوضع العربي كان سليما  من كل النواحي وأن الهزيمة لم تحدث إلا بفعل ظروف قاهرة وتافهة وطارئة لم تؤخذ بعين الاعتبار.
كما يشير صادق العظم، في معرض استعراضه هذه الكتابات حول الهزيمة، إلى كل ما اعتُمِدَ فيها، سواء في التعليل أو في التبرير، بوصفه إما أخطاء في التحليل أو في الفهم، أو جهلاً بالوقائع، أو أيضاً ما يمكن اعتباره استعادة أساطير. ومن ذلك مثلاً، أسطورة "سيطرة الصهيونية على العالم"، أو سيطرتها على الاقتصاد في العالم، بحيث يؤدي ذلك إلى التأثير لا على سياسات مختلف الدول الغربية فحسب بل كذلك على سياسة القوة الأعظم في العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية. يحاول العظم تفنيد ذلك اعتماداً على مفهوم المصالح العليا التي تفرض نفسها أولوية مطلقة على سياسات الدول. أما الأخطاء التي ارتكبها العرب فيمكن الإشارة إلى عدد منها مثل الاستخفاف الشديد بقوة العدو؛ والتقدير العربي المبالغ فيه للصهيونية وطاقاتها و" تضخيم قوتها ونفوذها إلى حد صبغها بقدرات أسطورية فائقة تجعلها سيدة النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي ومجرى التاريخ مرة واحدة"؛ وكذلك تعليل سياسة أمريكا بسبب الأصوات اليهودية ونفوذ الأقلية اليهودية. كل ذلك كان ينحرف بتحليل ما حدث في حزيران عن هدف الفهم الموضوعي بعيداً عن الأساطير والأوهام.
كان لابد للعظم أيضاً من التطرق إلى سمات وجوانب أخرى في الحياة العربية كانت قمينة بأن تولد مثل هذه الهزيمة. فهناك ما سماه عالم الاجتماع حامد عمار الشخصية الفهلوية والتي يراها تطبع السلوك العربي: البحث عن أقصر الطرق وأسرعها لتحقيق هدف أو غاية ما، مع تجنب العناء والجد المطلوبين عادة وكذلك تجنب استخدام الوسائل الطبيعية لتحقيقها. وهي صفات تجعل ممن يتحلى بها عاجزاً عن المبادرة، مثلما تجعله غير قادر على الانضباط في محاولته الدائمة لحفظ ماء الوجه.
وهناك أيضاً القصور الفاضح في المكانة التي يحتلها العلم والتكنولوجيا في الحياة الثقافية والتربوية العربية: قصور المناهج التعليمية، ضآلة الميزانيات المخصصة للبحث العلمي، ندرة المعاهد المختصة بالدراسات العلمية..وينتهز فرصة الحديث عن ذلك كي يقارن الكيفية التي استجابت بها دول أخرى عندما واجهت وضعاً كارثياً مماثلاً للذي واجهه العرب في حزيران 1967، كروسيا السوفياتية والولايات المتحدة الأمريكية. ولا يقل أهمية عن ذلك وضع المرأة في المجتمع العربي وغياب فعاليتها شبه الكامل عن النشاط السياسي والاجتماعي والعلمي، لا في بلدان الأنظمة التي كانت تصنف آنذاك بالرجعية، بل بتلك التي كانت تعتبر أنظمة اشتراكية وتقدمية وفي مقدمتها مصر وسورية.
وعلى ما اعتور كتابَ النقد الذاتي بعد الهزيمة من بعض علامات التسرع والارتباك الذي أشار إليه صادق العظم نفسه في مقدمة طبعته الأخيرة التي صدرت عام 2007، إلا أن ذلك لا يقلل على الإطلاق من أهميته التي تكمن في تناولِهِ الهزيمة تناولاً نقدياً وعقلانياً ولما تتلاشى الآثارُ الشعورية التي خلفتها الكارثة لدى العرب في طول العالم العربي وعرضه. وما كان لهذا البحث أن يجد طريقه حين نشْرِهِ إلى قطاعات واسعة من القراء لو لم يتناول بالتحليل وبالنقد الصارميْن للأوضاع العربية التي أدت إلى الهزيمة وكذلك لمختلف الكتابات التي حاولت على عجلٍ تفسيرَها أو تبريرَها.   
أما كتاب ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، فقد نُشِرَ بعد تسع سنوات من نشر كتاب صادق العظم. لا يعني ذلك أن ياسين الحافظ قد انتظر كل هذه السنوات كي يتناولَ هزيمة حزيران بالتحليل وبالنقد. ذلك أنه نشر دراسة كتبها بين آب وتشرين أول 1967 تحت عنوان هزيمة حزيران جذورها وأسبابها ونتائجها، وأعاد نشرها في هذا الكتاب بعد مراجعتها وتنقيحها. لكنه بنشره لها هنا إنما يضعُها في سياق عددٍ آخرَ من الدراسات سبق له أن كتبها قبل حزيران 1967، وأخرى كتبها بعده، كي يمكن قراءتها ضمن المنظور الشامل الذي أراده لكتابه وعبر عنه بالعنوان الذي وضعَهُ له. فمتابعتُه الحثيثة وقائعَ ومساراتِ الأيديولوجيات التي عرفتها بلدان المشرق العربي خلال النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن الماضي (الماركسية من جهة في مختلف قراءاتها، والقومية في صيغتيْها البعثية والناصرية)، جعلته أكثر استعداداً على صعيد التكوين السياسي والفكري والاجتماعي لقراءةٍ سياسية شاملة لموضوع الهزيمة التي باتت تؤلف، منذ عام 1948، عنوانَ وطابعَ الحياة العربية.
يرى ياسين الحافظ في هذه الدراسة أن حربَ حزيران تجدُ جذورَها، على الصعيد السياسي المحض، في انهيار الوحدة السورية المصرية، وفي ما تلاها من مزاوداتٍ بدأها رجالُ البعث خلال فترة الانفصال. ففي عام 1962 تحديداً، أي قبل خمس سنوات من حرب حزيران، تحدّى أكرم الحوراني "عبد الناصر أن يضعَ شعارَ تحرير فلسطين في أمر اليوم، وأن ينتقل إلى استراتيجيةٍ وتكتيكاتٍ هجومية على إسرائيل، بدءاً بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ بلا مواربة".  لكن ياسين الحافظ عارض آنئذٍ توجهاتِ الحوراني هذه، واعتبر منذ ذلك الحين أن "شعار تحرير فلسطين في ظل ميزان القوى غير المؤاتي للعرب (...) بمثابة عملية انتحار للعرب، وتسليم بقية فلسطين لإسرائيل، وتوريط مصر في هزيمة عسكرية". وكتب في نهاية مقاله آنذاك: "الحقد موجِّهٌ سيءٌ في السياسة. ليت الأستاذ الحوراني أن يجعل من عبد الناصر وقوداً لتحرير فلسطين، لكنه يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقوداً لإحراق عبد الناصر". (حول بعض قضايا الثورة العربية، دار الطليعة، 1965).
لم تكن هذه القراءة البصيرة والمبكرة لهزيمة قادمة بدأت، على وجه التحديد، بسحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ، مجرد نبؤة بقدر ما كانت نتيجةَ تحليلٍ لواقعِ الوضع العربي في فترة الستينيات. وشأن صادق العظم، ينتقد ياسين الحافظ الكتابات التي ألفت ردود الفعل إزاء الهزيمة، والتي كانت، كما كتب، "تتراوح بين امتثاليةٍ تقليدية، وهذا حالُ الأكثرية الساحقة، وثوريةٍ لاعقلانية فُصَامية، وهذا حالُ الأقلية القليلة." وأنَّ "كلا الفريقين كان يتجنب، أو يعجز في البحث عن الأسباب العميقة والأصلية للهزيمة، ناهيك عن نظرتهما وحيدة الجانب إلى السياق الذي وقعت فيه الهزيمة".
لكن كتاب ياسين الحافظ يختلف جذرياً عن كتاب صادق العظم. فهو لم يحصر بحثه في الأسباب المباشرة وغير المباشرة لهزيمة حزيران 1967 وحدها، بل يعود إلى جذور الهزيمة العربية التي يؤلف قيام إسرائيل أصلاً وما تلاه من هزائم وصولاً إلى الهزيمة الحزيرانية حلقات متتالية في "سيرورة متصلة من المواجهات والمعارك على مختلف الصعد، السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الحربية".
ومع أخذ ما سبق بعين الاعتبار، يمكن النظر في دراسته التي كتبت ونشرت قبل كتاب صادق العظم. فهو يعتبر بادئ ذي بدء أن حرب الأيام الستة جاءت حصيلة تآمر إمبريالي صهيوني رجعي وأن "القنبلة الزمنية التي انفجرت صبيحة الخامس من حزيران إنما أشعل فتيلها منذ عهد الانفصال. " ومن ثم فإذا كان الهدف المباشر للعدوان إعادة فتح خليج العقبة، فإن الهدف الضمني كان رأس عبد الناصر العربي، أي محتوى سياسته العربية، وبالتالي فهدف إسرائيل كان تحقيق "انكفاء مصر داخل حدودها، وعرقلة الوحدة العربية" مما يضمن لها تفوقاً على العرب المحيطين بها ماداموا يعيشون أسرى التخلف والتجزئة. أما هدف الإمبريالية الأمريكية، فإن سقوط عبد الناصر يعني القضاء على مصدر التهديد والإزعاج لأمنها ومصالحها في المنطقة العربية. ذلك ما أدركته الجماهير العربية بحسها السليم يوم رفضت تنحي عبد الناصر عن السلطة. أما المعنى الأعمق لحرب حزيران فلا يجب البحث عنه في مجرد الهزيمة العسكرية بل في ما أتاحته من وضع كل المنجزات العربية منذ قيام إسرائيل  على المحك: كانت "اختباراً حقيقياً لبنى المجتمع العربي وهياكله وحركته وسير تطوره" أي اختباراً للاشتراكية، وللتنمية، وللمجتمع الجديد، وللثورات، ومن ثم للأيديولوجيا التي توجه هذه الثورات وللطبقات التي نهضت بها وقادتها. وهو ما يحيل إلى فحص البنى العربية في التجربة أو جذر الهزيمة. فهزيمة كتلة بشرية تعدادها ثلاثين مليوناً أمام كتلة أخرى تعدادها مليونين ونصف، يشير بما لا يقبل الشك إلى خلل في التوازن مصدره شلل الكتلة الكبرى وحيوية الصغرى. شلل مرده التخلف، وكذلك التفتت الذي تعيشه البنى العربية.
أدت الهزيمة، كما كتب ياسين الحافظ، إلى ولادة أدب سياسي نقدي ما كان له أن يرى النور لولاها. وهو أدب سلط الأضواء على مدى كفاية ما تحقق بالنسبة إلى ما هو ممكن في مجال التنمية الاقتصادية والزراعية، والذي يكشف عن رخاوة وهشاشة ما تحقق فعلاً. فالتخلف عملية تاريخية لا يمكن أن تتحقق في نظره إلا عبر ثورة اشتراكية حقيقية، شاملة وجذرية، لا تتيح الخروج من التخلف فحسب بل تسمح باختراقه حين تصفي رواسبه بقضائها على الفقر والجهل وبتحطيمها بنى المجتمع التقليدي الاجتماعية والأيديولوجية.
بكثير من الإيجاز لدى صادق العظم، وبكثير من التفصيل لدى ياسين الحافظ، كان تحليل هزيمة حزيران لدى هذين المفكرين يتجاوز الهزيمة العسكرية في ذاتها بحثاً عن الأسباب الأعمق التي جعلتها ممكنة. وإذا كانت طريقة العظم قد اعتمدت التفنيد، فإن طريقة ياسين الحافظ خاضت غمار تحليل متعدد المجالات: التاريخي، والاجتماعي، والثقافي، والتكويني. لكنهما كلاهما، لم يمض في نقد العسكريتاريا بعيداً رغم أنها كانت إلى حد كبير المسؤولة الأولى عن الهزيمة لا لقصورها ميدانياً فحسب بل لضيق أفقها وثقافتها ورؤيتها كما برهنت على ذلك تطورات الأحداث منذ أول انقلاب عسكري في سورية ..


** ورقة قدمت في ندوة "نصف قرن على حرب حزيران 1967، التي نظمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة بمدينة برلين يومي 10 و 11 حزيران/يونيو 2017.

https://www.youtube.com/watch?v=wnwiCUpxyPA&t=212s




بدر الدين عرودكي: هزيمة حزيران 1967 بعيون معاصريها

jeudi 8 juin 2017


بعض هموم الترجمة 
بدرالدين عرودكي 
في حوار حول ترجمة جديدة لمبدع أدبي إلى اللغة العربية سبق أن ترجم مرات عدة إليها من قبل، طرح سؤال حول مبرر الإقدام على ترجمة أخرى تضاف إلى ما سبقها. سؤال لا يمكن إلا أن يفرض نفسه بصورة عفوية، ولاسيما حين ينطلق المترجم مما يكاد يعتبره بداهة في نظره: لم تتوصل كل الترجمات السابقة إلى كنه هذا المُبدع، فكان لابد من مقاربته كي يتم تلافي "الأخطاء" أو "العثرات" عبر فهم "روح" النصِّ و "عالمه". ولكن، هل سيختلف قول أي مترجم آخر للنص ذاته عن طريقته في مقاربة النص؟ هل يستطيع أي مترجم، مهما بلغت قدراته اللغوية والثقافية، أن يزعم أن ما قام به هو القول الفصل ولا مزيد عليه؟ 
من هنا، لا يمكن اعتبار مفهوم "استحالة الترجمة"، مفهوماً عابراً، ولا تعبيرًا إنشائياً يراد به إثارة الدهشة، بقدر ما هو مفهوم معرفي يتوسل بداية إلى وضع فعل الترجمة في إطاره الصحيح، قبل الدخول في دهاليزه نظراً وتطبيقاً ومعنى. ذلك أنه قد يثير غضب البعض، حين يُفهم ــ ببعض التسرع ــ كما لو أنه دعوة إلى الكفِّ عن ممارسة هذا النشاط الذي لا يمكن من دونه قيام أي تواصل إنساني أو ثقافي. وقد يستدعي رفض البعض الآخر حين يرى فيه ضرباً من سفسطة لا تصمد أمام واقع الإنجازات في مجال الترجمة في الثقافات كلها ماضياً وحاضراً. لكن طائفة أخرى ممن يمارسون الترجمة يخرجون عن سكة هذا المفهوم كي يطرحوا مفهوماً آخر، مختلفًا جذرياً، غير عابئين بهذا الهمِّ المعرفي الذي شغل، مع ذلك، كل من مارس الترجمة بوصفها قراءة تجهد دون هوادة للتماهي، عبر لغة أخرى، مع نصٍ إبداعي، شعراً أو رواية. إذ يتحدث هؤلاء في توصيف عمل المترجم، عن "فعل إبداعي" يكاد لا يعبأ هو الآخر بالنصِّ الأصلي الذي سيبدعه في لغة مختلفة. أو، بعبارة أخرى، عبر الالتفاف على "استحالة الترجمة" عمليًا، عن طريق ما سيسميه "الإبداع"، وهو ما يعني صراحة ـ وفي غياب أي احترام للنص الأصلي ـ أن المترجم سيحل محل المؤلف كلياً في قول هذا الأخير، مادام يقوم، وهو "ينقل" هذا النصَّ إلى لغة أخرى، بفعل "إبداعي". هذا دون الحديث عن طائفة لا تعبأ بكل هذا السجال بينما تمارس الترجمة كيفما اتفق، بوصفها مهنة تضمن لأفرادها دخلاً معقولاً ـ وربما جوائز مجزية أيضاً لمن يفاجئه الحظ! ـ دون أي اعتبار لخطورة ما يقومون به على الصعيد الثقافي والأخلاقي.
ذلك يعكس بعض الإشكاليات التي تسود، بصورة أو بأخرى، فضاء الترجمة اليوم وهي تتجلى لدى المترجم هموماً حقيقية، وفي الندوات أو الكتابات، موضوعاً لا تستنفذه النقاشات ولا الآراء التي يعبر عنها الفلاسفة أو النقاد، والتي، أياً كانت طرق التعبير عنها أو المفاهيم المستخدمة لبيانها، لا تكاد تتجاوز في حقيقة الأمر العناصر المشار إليها.
على أن أي نقاش لا يعتمد الممارسة أساساً سيبقى محض فذلكات نظرية لا طائل من ورائها. هذا ما يضفي قيمة استثنائية على المقاربة التي قام بها أومبيرتو إيكو في الحديث عن تجارب الترجمة في كتابه "قول الشيء ذاته تقريباً"، وعلى تجربة سبق الحديث عنها في مكان آخر ونعني بها تلك التي عاشها ميلان كونديرا، بعد استقراره في فرنسا في سبعينيات القرن الماضي، حين اكتشف صدفة فداحة الأخطاء التي ارتكبت في ترجمة رواياته الأولى إلى اللغة الفرنسية، والتي اضطر فيها إلى أن يشرف بنفسه على إعادة ترجمة هذه الروايات من ناحية، وعلى أن يحاول فيما بعد أن يتحقق قدر ما يستطيع من الكيفية التي يقارب بها مترجموه رواياته، ثم أن يكتب في أكثر من موضع في كتبه التي كرسها لفن الرواية عن هذه التجربة خصوصاً، وكذلك عما أوحت به له تأملاته في ترجمات مبدعات أخرى إلى الفرنسية مثل تولستوي أو كافكا.
لنقدم بعض الأمثلة العملية على بعض هذه الهموم أو الإشكاليات التي تثيرها الترجمة كلما كنا بصدد عمل أدبي، شعراً أم نثراً.
المثل الأول: تحمل إحدى روايات آلان روب غرييه عنوان (La jalousie)؛ وهي كلمة يمكن أن تستخدم في معنيين: الغيرة، أو ستارة النافذة. وقد ترجمت هذه الرواية إلى العربية فعلاً مرة تحت عنوان الغيرة ومرة أخرى (نقلاً عن الترجمة الإنكليزية) تحت عنوان ستائر النوافذ الزجاجية! وعلى أن كلمة الغيرة تبدو هي الأقرب إلى المعنى المراد، إلا أن استخدام الكلمة ذاتها ضمن الرواية بما يمكن أن يوحي بالمعنيين معاً هو ما يثير الإشكال. فهل نترجم الجملة الجملة بالفرنسية: (Il la regardait à travers la jalousie): كان ينظر إليها من خلال الغيرة، أم: كان ينظر إليها من خلال الستارة؟
المثل الثاني: في ترجمة ثروت عكاشة لكتاب جبران خليل جبران النبي، يترجم الجملة التالية
“ A little while, a moment of rest upon the wind and another woman shall bear me”
على النحو التالي: "أجل، هنيهة، بل لحظة قصيرة أخلد فيها إلى السكينة على متن الريح، ثم تحمل بي امرأة أخرى"،
أما المترجم السوري جميل العابد، الذي ترجم الكتاب نفسه قبل عشر سنوات، فقد ترجم الجملة نفسها على النحو التالي:
"هنيهة، لحظة راحة على جناح الريح، ويحملني رحم آخر".
بصرف النظر عن جمالية كلٍّ من الترجمتيْن وكذلك تباين اقتصادهما في قول الجملة الإنكليزية عربياً، هناك تأويل مختلف في ترجمة كلمة woman: "امرأة" لدى ثروت عكاشة، و"رحم" لدى جميل العابد. والترجمة الأخيرة ترجمة غير صحيحة من ناحية، وتأويلية من ناحية أخرى، بما أنها تؤدي بالضرورة إلى التساؤل عن حق المترجم في تأويل ما لا يحتاج إلى تأويل. إذ، هل تقول كلمة "رحم" المرأة؟ أو، هل يمكن قصْر المرأة بوصفها كائناً إنسانياً على عضو من أعضاء جسدها مهما بلغت أهميتة أو جوهريته؟
المثل الثالث: على أن الاستحالة تتجسد حين يواجه المترجم كلمة "يكمن جمالها لا في انسجام مقاطعها، بل في تداعيات المعاني التي يوقظها رنينها" كما يقول كونديرا حول كلمة (ensevelir) التي لا يمكن ترجمتها بالعربية بغير كلمة "كفّن". وتلك مشكلة واجهتُها شخصياً حين كنتُ أترجم كتاب ميلان كونديرا، فن الرواية، الذي استوقفني فيه فصل يحمل عنوان سبعة وسبعون كلمة. كيف يمكن ترجمة هذه الكلمات / المفاتيح في روايات كونديرا من لغة تركيبية كالفرنسية التي كتب بها إلى لغة اشتقاقية كاللغة العربية التي أترجم إليها؟ لم يكن أمامي من حلٍّ سوى اللجوء إلى وضع الأصل الفرنسي إلى جانب المقابل العربي، وإلى اختيار أقرب الكلمات إلى قول المعنى الفرنسي، والقيام، كلما اقتضت الضرورة، بشرح بعض الفروق الدقيقة التي تحول دون الترجمة العربية أن تقول ما تقوله الكلمة الفرنسية. والكلمة المختارة هنا تقدم أكثر الأمثلة بلاغة في هذا المجال. يكتب كونديرا في شرح كلمته المفتاحية المشار إليها: "يبدو لي دوماً أن كلمةensevelir  تنزع بصورة رحمانية عن أكثر الأفعال إثارة للرعب جانبه المادي المرعب. ذلك أن جذر الفعل (sevel) لا يستثير فيّ شيئاً، في حين أن رنين الكلمة يحملني على الحلم: نسغ (sève) ـ حرير (soie) ـ حواء (Eve) ـ إيفلين  (Eveline) ـ مخمل (velour)؛ حجب بالحرير وبالمخمل."فإذا كانت الترجمة الدقيقة للكلمة الفرنسية هي كلمة "كفَّن"، وهي كما نلاحظ تثير الرعب ولا تنطوي على إيحاءات الكلمة الفرنسية! فهل نستخدم هذه الكلمة، أم نضع إيحاء اللغة الفرنسية "حجْب بالحرير وبالمخمل" دون أداء المعنى المباشر؟
ذلك بعضٌ من الهموم التي لا يمكن لكل من مارس أو يمارس الترجمة إلا أن يكون مسكوناً بها. ومن ثم، فالعودة إليها، ولاسيما عبر التجربة الشخصية أو تجارب كبار المترجمين، تبقى ضرورة لا مناص من العودة إليها مرارًا وتكرارًا.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 8 حزيران 2017



jeudi 1 juin 2017


الحاضرُ المُغيَّب في تأويل الثورة السورية
بدرالدين عرودكي
لم يكن ينقص تأويلات الثورة السورية، بعد إلغاء صفتها كثورة شعب ضد طغمة مستبدة استملكت البلاد والعباد طوال نصف قرن، سوى تأويل الصراع على طرق نقل منتجات الطاقة بين منتجيها من العرب والإيرانيين والروس، كما حاول اعتماده جان لوك ميلانشون، المرشح الفرنسي الرئاسي السابق، الشعبوي الهوى والطريقة، عن يسار متهافت، وكذلك كما حاوله، من بعده، أحد منتجي برامج التلفزيون على القناة الثانية الفرنسية التي بثت قبل فترة برنامجاً يحمل عنوان: "الأسباب الحقيقية للحرب في سورية".
الحرب في سورية؟
وحدها الثورة السورية لم تحظ بتوصيف "الثورة" هذا إلا من قبل من فجروها من شباب سورية الذين كان الجميع يظن، لوهلة من التاريخ، أنهم في لهو عن دنيا الكرامة وكأنهم عنها معرضون. وبخلاف الثورات العربية الأخرى، في تونس ومصر وليبيا التي لم يتوان أحد خارج هذه البلدان العربية عن توصيفها بهذا القدر أو ذاك من "الثورية": ثورة في نظر البعض، أو حراك ثوري في نظر البعض الآخر، فضلاَ عن التوصيف الصحفي الذي تبناه العالم كله من أجلها خلال عدد من الشهور: الربيع العربي، بقيت الثورة السورية وحدها التي لم يبادر أحد سوى من قاموا بها إلى توصيفها بالثورة، لا من قبل البلدان العربية الأخرى، ولا من سواها من بقية البلدان في العالم.
كما لو أن العالم أراد منذ البداية حرمان حركة هؤلاء الشباب الذين غامروا بحياتهم ــ ودفعها معظمهم في النهاية قتلاً أو سجناً أو تهجيراً ــ في سبيل حريتهم وكرامتهم، من أية شرعية يمكن أن تنطوي عليها هذه الصفة.
وكان تنظيم الطغمة الأسدية أول من دشن عملية تحويل الأنظار عن حقيقة ما كان يجري قبل نيف وست سنوات في سورية. ذلك أنه أراد منذ البداية أن ينفي حتى إمكان وجود رفض لسياساته أو تمرد عليها. فقد زعم لنفسه احتكار "المقاومة" و"الممانعة" و"معاداة الصهيونية وإسرائيل" في العالم العربي. وادّعى أنه "العلماني" الوحيد الذي يحمي المسيحيين في سورية وسواهم من الأقليات. فكان أن وسم المتظاهرين بالمندسين، ومن يقف وراءهم بالأمراء السلفيين، وأطلق عقيرة أتباعه "الحداثيين" لا للتنديد بخروج المتظاهرين من المساجد فحسب بل لاعتبار ذلك برهاناً على سلفيتهم ورجعيتهم. وحين تجاوز عدد المتظاهرين في حمص وحماه ودير الزور مئات الآلاف لم يتوان عن اللجوء إلى الكذب الصراح واعتبارها مجسمات صممتها ستوديوهات قناة الجزيرة؛ ثم انتقل إلى الحديث عن مؤامرة كونية ضده دبرتها أمركا وتنفذها دول الخليج، كي ينتهي به الأمر إلى الاستعانة بقوة إقليمية ممثلة في إيران وبقوة دولية ممثلة في روسيا اللتين احتلتا البلد أرضاً وسماء وتشاركان في كل جرائم النظام بلا استثناء.
لكن النظام الأسدي الذي اختار الحلَّ الأمني والعنف طريقة للقضاء على هذه الثورة، اختار أيضاً الدخول في معركة إعلامية على الصعيد المحلي والعربي والدولي حين جنَّدَ في الوقت نفسه، لا أتباعه في لبنان الذين باتوا يحتلون باستمرار شاشات التلفزيون العربية والأجنبية لتأويل خطاب هذه الطغمة فحسب، بل استنفر أيضاً عدداً من وكالات الإعلام الغربية، مستأجراً خدماتها لتجنيد كل من يرغب من الصحافيين الغربيين العاملين في وسائل الإعلام المكتوبة أو السمعية البصرية لتكذيب كل ما ينقل عن جرائم والمذابح التي ارتكبها النظام ومختلف الميليشيات التي هرعت لإنقاذه من إيران والعراق ولبنان.
معركتان تخوضهما الطغمة الأسدية منذ الأشهر الأولى للثورة: المعركة الأمنية القمعية بلا حدود لأدواتها وغاياتها، والمعركة الإعلامية التي تستهدف تبرئتها من كل هذه الجرائم التي تتهم بها كل الفصائل المسلحة التي أوجدتها أو التي اخترقتها، وتقديم النظام الأسدي بوصفه المنقذ والبديل الوحيد لهذه الجماعات المسلحة التي يمولها رعاة الإرهاب من القوى العربية والإقليمية. لم تبق جريمة أجمعت الشواهد والدلائل على ارتكابه لها إلا وتنصل منها، ملقياً بمسؤوليتها على ما صار يسميه "الإرهاب"، والذي عنى به منذ البداية كل من كان يقف ضده، مدنياً كان أم مسلحاً. وكان يكيِّف مفردات خطابه وتوصيفاته حسب من يستهدفه في داخل سورية أو في خارجها. الثوابت الوحيدة فيه كانت براءته من كل الجرائم التي ارتكبها، وحربه ضد الإرهاب السلفي الرجعي، وعلمانيته التي جعلت منه حامي الأقليات، ولاسيما المسيحية منها، والتي يأمل من ورائها أن ينال عطف الغرب! في كل هذه الخطابات، لا وجود للشعب السوري، القتلى منهم أو المعاقين، وقد باتوا يعدون بمئات الآلاف، ولا للذين سجنوا وعذبوا وقتلوا وأحرقت جثثهم، ولا للذين هجروا من بيوتهم، داخل سورية وخارجها، وباتوا اليوم يعدون بالملايين. فالمعركة لا تقال عسكرياً أو إعلامياً إلا بمفردات "الدولة" السورية والعصابات الإرهابية.
على أن كل هذه الخطابات، بمفرداتها وبهلوانياتها وتلفيقاتها، أخذت قبل أشهر تفقد معناها أو ما كان النظام الأسدي يظنه تأثيرها على الرأي العام الغربي، ولاسيما حين بدأت بعض الدول الغربية تتبنى تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية عن الفظاعات المرتكبة في السجون السورية أو في الحرب التي يخوضها النظام خبط عشواء مع حلفائه ضد السوريين. هذا على ما يبدو ما أتاح الفرصة لخطاب جديد في تفسير ما يحدث في سورية لم يظهر من قبل أمام الرأي العام حول "السبب الحقيقي" للحرب في سورية. فبعد استبعاد كل ما يمت إلى الثورة بصلة، ووسم كل من حمل السلاح أو لم يحمله من الثائرين على الهيمنة الأسدية بالإرهاب أو بالرجعية أو بالعمالة ــ كيفما اتفق ــ لدول الخليج أو لإسرائيل أو للدول الغربية، كان لابد من تفسير يمكن قبوله لدى الأطر السياسية والنخبة الفكرية المؤثرة، سواء في ميدان القرار السياسي أو في مجال تكوين الرأي العام. وإلا فما معنى أن يبث برنامج على قناة تلفزيونية فرنسية ثم يبث عبر اليوتوب وعبر العديد من صفحات مختلف الشبكات الاجتماعية حتى بلغ عدد من شاهده مسجلاً أكثر من 132 ألف مشاهد، دون الحديث عن عدد المشاهدين عند بثه مباشرة والذين يعدون بمئات الآلاف؟
أبطال البرنامج/الخطاب هم بالطبع بشار الأسد وحلفاؤه (روسيا، إيران، العراق، حزب الله)، وخصومه  (السعودية، قطر، تركيا، الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا). والفكرة الأساس فيه هو "مشروع" بشار الأٍسد الذي أعلن عنه عام 2009 لجمع البحار الأربعة: قزوين والبحر الأسود والخليج والبحر المتوسط ، بما أن سورية تقع وسط هذه البحار، وهي في المركز منها، ملتقاها على صعيد نقل الغاز إلى مستهلكيه في أوربا. أما سبب الحرب في سورية، فهو نتيجة تفضيل الأسد إبرام عقد نقل الغاز من إيران عبر العراق إلى سورية وصولاً إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوربا، بدلاً من انتقاله عبر سورية إلى تركيا ومنها إلى أوربا كما سبق أن اقترحه الأسد نفسه على السعودية وقطر حسب هذا البرنامج. ومن هنا ــ كما يقول البرنامج المذكور ــ الغضب السعودي/القطري/ التركي الذي دفع بهؤلاء الى قرار "إسقاط بشار الأسد" وتسليح "المتمردين" من أجل أن ينجزوا ذلك!
هكذا يقول لنا هذا الخطاب الجديد، إن ما يجري في سورية، لا علاقة له بثورة شعبية بقدر ما هو صراع موضوعه الطاقة ونقلها. فبعد أن ضمنت إيران حصتها، تمكنت روسيا، هي الأخرى، من ضمان مصالحها حين أبرمت اتفاقاً يسمح لها بالبحث عن الغاز على الشواطئ السورية من البحر المتوسط.
كثيرة هي تعليقات مشاهدي البرنامج الذين "يكتشفون" فجأة  ــ وكما كانت غاية هذا البرنامج ــ "سبب الحرب في سورية" الحقيقي!  مشاهدان اثنان أدركا، كما يبدو، مرامَ اللعبة. يقول أحدهما: "حماقة كبيرة، كالعادة. بشار يقتل شعبه ثم نبحث عن المذنبين في مكان آخر!" أما ثانيهما فيكتب: "أتريدون الآن فقط إقناعنا أن هذا الصراع مرتبط بالطاقة في المنطقة؟"   
السبب واضح بالطبع. فقد استبدلت المفردات ذات الطابع الاقتصادي في الخطاب الجديد بالمفردات الأسدية البالية. هكذا صار الخطاب الجديد ينطوي على طابع "الموضوعية" و"الحياد"، مبتعداً عن كل طابع أيديولوجي، بما أنه يعتمد الوقائع الصارخة أو، بالأحرى، ما يحاول الإيحاء به على أنه كذلك. لكن القاسم المشترك الأعظم بين الخطابات السابقة وهذا الخطاب "الجديد"، الذي يسوقه أنصار النظام الأسدي، هو ما اعتاد عليه هذا الأخير طوال السنوات الست الماضية: تغييب الشعب السوري الذي يبقى، مع ذلك، ورغم كل الخطابات التي تحاول تجاهله، حاضراً لا يزال.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 1 أيار/مايو 2017