سورية بين وعود
السياسة وفنونها
بدرالدين عرودكي
يُنسب
إلى هنري كوي، أحد رؤساء الوزراء الفرنسيين في عهد الجمهورية الثالثة، قوله:"لا تلزم الوعود إلا من يسمعها".
وقوله أيضاً: "ليست السياسة فن حلِّ المشكلات بل هي إسكات أؤلئك الذين
يطرحونها"! تلك بعض فنون ممارسة السياسة في الديمقراطيات الغربية التي باتت
من تقاليدها العريقة.
كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال
حملته الانتخابية، قد أعلن موقفه من رأس
النظام الأسدي حين اعتبره عدوِّ الشعب السوري، وأعلن عن أنَّ أي عودة إلى استخدام
السلاح الكيمياوي من قبله ضد شعبه سوف تحمله، إذا ما انتخب رئيساً للجمهورية، على
إرسال القوات الفرنسية لضربه؛ بحيث ذهبت الصحف إلى اعتباره يقوم بالإعداد لحرب قادمة
في سورية. كان في ذلك، مع مرشح الحزب الاشتراكي بنوا آمون، وبخلاف مرشحيْ اليمين واليسار
المتطرفين، ماري لوبن وميلانشون، يسير على خطى الحكومة الفرنسية السابقة المبدئي
إزاء النظام الأٍسدي، رغم تغيير أولوياتها بعد العمليات الإرهابية بباريس ونيس خلال
العاميْن الماضيين.
لم
يتوقف أحد في فرنسا، على ما نعلم، عند جدوى هذا التصريح الذي بدا آنئذ وكأنه شديد
الإيجابية إزاء الثورة السورية، في الوقت الذي لم يكن، والحق يقال، يختلف في رؤيته
للشأن السوري عن جوهر الرؤية الأمريكية الضبابية، رغم التصريحات الرنانة التي تصدر
بين الحين والآخر عن كبار المسؤولين الأمريكيين، بما فيها تلك التي تجسَّدت ــ
استثناءً واستعادة للخط الأحمر الذي كان أوباما قد تناساه غداة 21 آب 2013 ــ في
ضرب مطار الشعيرات بتسعة وخمسين صاروخاً، عقاباً على قصف خان شيخون بالسلاح
الكيمياوي في شهر نيسان الماضي، من دون إهمال إخطار الروس الذين بادروا بدورهم إلى
إخطار حليفيهم الأسدي والإيراني وميليشياتهما قبل موعد الضربة بست ساعات.
سوى
أن ماكرون وقد صار رئيساً للجمهورية الفرنسية، سرعان ما سار في الشأن السوري على
خطى من سبقه من السياسيين الفرنسيين في مسألة الوعود التي يقطعونها توسلاً
للناخبين. ففي لقاء نشرته ثمانية صحف فرنسية وأوربية يوم 21 من الشهر الحالي،
وتحدث فيه عن عدد من القضايا الأوربية والعالمية الراهنة وموقف فرنسا في عهده
منها، كان من بينها موقفه من رأس النظام الأسدي ضمن الحل السياسي المنشود في
سورية. فقد توقفت وكالات الأنباء والصحف عند الجملة الجديدة التي وضع فيها الجملة
التي سبق له أن قالها أثناء حملته الانتخابية في سياق جديد: "لكن بشار الأسد
ليس عدونا، إنه عدو الشعب السوري"!
بمعزل
عن كل ضروب النوايا، الطيبة أو الخبيثة، في السياسة عامة، لم يكن سياق الحديث في
اللقاء المشار إليه يبرر بأي حال مثل هذه الجملة الجديدة الساذجة، كي لا نقول
الغبية. لكنها ربما بسبب ذلك، تكشف، من حيث لا يدري قائلها، عن بعض الهشاشة في خبرته
الدبلوماسية، إذا ما نظرنا إلى مضمون ومرامي السياق الذي قيلت فيه. فقد انتقل
الصحفيون بأسئلتهم من رؤيته لأوربا إلى الشأن السوري في ضوء طبيعة العلاقة
الفرنسية الروسية التي يرمي إليها، لاسيما وأن معظم منافسيه كانوا ينادون بعلاقة
مميزة مع الرئيس الروسي، ومن ثم بعلاقة طبيعية مع رأس النظام الأسدي. يعود إمانويل
ماكرون في إجابته إلى غداة 21 آب عام 2013 حين استخدم الأسد السلاح الكيمياوي،
معتبراً أن "ما أضعف فرنسا هو تحديد خط أحمر سياسياً وعدم استخلاص النتائج
المترتبة على اختراقه"، وأن ما حرر بوتين، بالتالي، على مسارح العمليات
الأساس في نظره: أوكرانيا وسورية، ملاحظته أن ثمة "أناس في مواجهته وضعوا
خطوطاً حمراء لكنهم لم يعملوا على فرض احترامها".
هناك
في نظره إذن ضرورة أولى تتمثل في فرض احترام فرنسا على العالم انطلاقاً من
احترامها هي نفسها لكلمتها. لكنه يمضي إلى أبعد من ذلك حين يريد تفسير المواقف
الروسية "العنيدة" عبر تحليل أراد أن يجعل منه تفسيراً لموقفه الجديد في
الشأن السوري. فهو يرى أن بوتين يواجه الإرهاب مثل فرنسا، وأن روسيا "تواجه أيضاً
على حدودها التمرد والهويات الدينية العنيفة التي تهددها"؛ وأن لدى بوتين "هاجسين: مقاومة الإرهاب
وتلافي انهيار الدولة". وأنه هو، إمانويل ماكرون، يرى أن التقارب مع بوتين في
ضوء ذلك ممكن، مما يحمله في سبيل ذلك على إزالة العقبة التي كانت في نظره تقف في
طريق أي حل سياسي: أي بقاء بشار الأسد في السلطة. وهو ما يقوده إلى استخلاص هذه النتيجة
"العبقرية": "لكن بشار ليس عدونا بل هو عدو الشعب السوري"، كي
يعلن ضرورة النجاح في العمل مع روسيا حول سورية من أجل "النضال ضد الإرهاب
والوصول إلى مخرج حقيقي من الأزمة" كما يقول. بعبارة أخرى، رغم الصرامة التي
واجه بها كما يقول ماكرون ضيفَه بوتين حين استقبله في أيار الماضي بفرساي، هاهو
يضيف الجملة السحرية التي كان بوتين ينتظرها والتي يصر عليها منذ بداية الثورة
السورية: شخص رأس النظام الأسدي.
هكذا
تنضم فرنسا، أخيراً، إلى سلسلة الدول الأخرى التي انضمت إلى إعادة تأهيل الأسد، بدعوى
غياب أي بديل حقيقي أو مصنوع يمكن أن يكون مقبولاً في نظر القوى الدولية
والإقليمية الفاعلة. وربما سيكون من السذاجة محاولة مناقشة هذا الموقف الفرنسي
"الجديد" انطلاقاً من "خيانة مبادئ الثورة الفرنسية"، أو
السير على نهج "الواقعية السياسية" التي ينادي بها وزير الخارجية الأسبق
فيدرين والتي يملأ أنصارها قصر الإليزيه.
إذ يكفي استعادة وقائع السنة الأخيرة من عمر الثورة السورية كي نرى المآلات التي
ترسم لها بهدوء لا في غياب الشعب السوري
أو من يمثله من مختلف ضروب المعارضة المسلحة أو السياسية فحسب، بل حتى في غياب
ممثلي النظام الأسدي الذي بات رأسه دمية ضرورية وإن لم يكن لها حول أو قوة سوى أداء
الدور المرسوم لها سلفاً من قبل من يزرقها بما يديم حياتها.
هي
ذي الخاتمة المرتجاة لمسار طويل في مواجهة ثورة الشعب السوري. ذلك أن المشكلة
الأساس، ثورة السوريين، نقلت تدريجياً، على مستويي المعنى والتأويل، وتحت إملاءات
ردود الفعل المختلفة إزاءها على الصعيد الإقليمي والدولي، بحِرَفيّة بالغة. فما
كان ثورة شعب ينتصر لكرامته ولِحَقِّهِ في الحرية، استحال مؤامرة على ألسنة ممثلي
النظام وحلفائه الذين صاروا، من بعدُ، حُماتهُ ثم ولاة أمره ثم القائمين مقامه؛ ثم
ما لبثت أن عُمِّدَت إرهاباً ما لبث الشرق الروسي والغرب بوجهيْه الأمريكي
والأوربي أن وجدوا فيه ضالتهم، فصار حجتهم الكبرى وأولوية سياساتهم الخارجية. وخلال
ذلك كله، تم تجسيد الإرهاب في مختلف الجماعات التي ساعد النظام الأسدي وحماته على
تكاثر بعضها أو على اختراق بعضها الآخر، بحيث بدت وجهه الآخر في ممارساته وفي أداء
الوظائف التي لم يكن يستطيع أداءها بوجه مكشوف، وخصوصًا تلك التي ارتكبتها داعش
داخل سورية وخارجها. هكذا أزيح النظام الأسدي بوصفه الإرهابي الأول عن مقدمة
المشهد كي تحتل مكانه، لا هذه الجماعات التي اقتصر عملها على الداخل السوري من أجل
تشتيت وتفتيت الثورة السورية وتشويه أهدافها ومسالكها، بل داعش التي لم يقتصر
عملها في الداخل على قتال الثوار الحقيقيين المعادين للنظام الأسدي فحسب تجاوزه
إلى تثبيت مقولة النظام الأسدي وحلفائه حول الإرهاب، حين مسَّت بعملياتها
الإرهابية الدول الغربية كي تحملها على وضع
الإرهاب أولوية في سياساتها، وهو ما تحقق خلال السنتيْن الأخيرتيْن.
هكذا،
وفي نجاح تغييب جرائم النظام الأسدي لصالح إبراز جرائم الإرهاب في الغرب خصوصاً،
بات من السهل على حلفاء النظام من الروس والإيرانيين تسويق دميتهم، باسم الحفاظ
على الدولة وباسم غياب البديل الحقيقي له. ذلك ما كان يتم العمل من أجله منذ مؤتمر
جنيف الأول. وهاهم جميعاً، "أصدقاء" سورية ومحتلوها، يتفقون على أن الحل
السياسي يجب أن يقود إلى بقاء النظام الأسدي ورأسه.
إذ
من يصدق اليوم أن "الدولة" السورية" لا زالت قائمة؟ ومن يستطيع من
بين كل القوى على الأرض السورية أن يزعم أنه ينطق باسم الشعب السوري؟
** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 29 حزيران 2017.