jeudi 4 mai 2017


تطبيع التَطرُّف! 
بدرالدين عرودكي 
لم يكن التطرف الذي مارسته مختلف النظم العربية الاستبدادية على شعوبها خلال العقود الخمسة الماضية، وفي مقدمتها النظام الأسدي، يُعرف باسم الإرهاب. سوى أنه كان، مع ذلك، يتجلى يوميًا، في ممارسة مختلف ضروب القمع في كل مجال، بحيث يمكن وصفه بالإرهاب. لكنه مورس بهدوء وبتصميم وراء جدران المراكز الأمنية والسجون المنعزلة، بسرّية كاملة وبعيداً عن العيون الفضولية على اختلافها. أما ذلك الذي مارسته الحركات الإسلاموية الجهادية منذ ثمانينيات القرن الماضي فسرعان ما نُظِرَ إليه بوصفه إرهابًا. وطوال عقود، غضَّت الديمقراطيات الغربية ــ خصوصًا ــ النظر عن إرهاب النظم، وصبَّت اهتمامها على محاربة إرهاب الجماعات الإسلاموية دون أن تنظر في أي ضرب من العلاقة السببية بين الإرهابيْن، أو في سواها من العلاقات التي كان ولا يزال من الممكن ملاحظتها على مختلف الصُّعد.  
ولقد شهدت السنوات الست الماضية ضروبًا من التكيف والتعايش، كانت معظم النظم الديمقراطية الغربية تمارسها وتبررها وتروِّج لها، مع نظم الاستبداد على اختلافها في عالمنا العربي. لا بل إن بعض قياديي بعضها استمروا في دعم هذه النظم حتى بعد انطلاق الحركات الثورية في العالم العربي كما حدث في تونس حين اختصرت ميشيل آليوت ـ ماري، وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك، المظاهرات التي بدأت تعمّ أرجاء تونس وتهدد نظام بن علي، في مشكلة "حِرَفِيَّةِ قوى الأمن" التونسية! ثمَّ امتد هذا التكيف إلى ما بعد الحراكات الثورية العربية حين استعيد في العلاقات مع نظم الثورة المضادة التي سرعان ما أعادت عقارب الساعة إلى الوراء بحلول نظمٍ ظاهرها ديمقراطي وباطنها سلطوي، أو نظمٍ عسكرية في ثياب مدنية، هذا فضلاً عن تواطؤ معظمها أيضاً، بصورة أو بأخرى، مع النظام الأسدي في حربه الشرسة والمدمرة من أجل المحافظة على بقائه.
على أن يد الإرهاب الداعشي أخذت في الضرب حيث تشاء في فضاء الديمقراطيات  الغربية، لكنها تركزت بوجه خاص في فرنسا التي حملت في أوربا لواء إدانة النظام الأسدي في حربه ضد السوريين. بدا كما لو كان الهدف المنشود مزدوجاً: حَمْل الحكومة الفرنسية على محاربة داعش كأولوية بدلاً من النظام الأسدي، ودعم اليمين المتطرف، الذي يدعم النظم الاستبدادية في العالم العربي، داخل الديمقراطيات الغربية، في محاولاته الوصول إلى السلطة. سوى أن هذا الأخير لم ينتظر بالطبع داعش ومن وراءها لترسيخ أقدامه في المشهد السياسي الأوربي. إذ أنه لم يتوقف، منذ ثمانينيات القرن الماضي، عن انتهاز كل فرصة تتيحها له هوامش النظم الديمقراطية للتقدم، ولاسيما في معارك التنافس على السلطة. هكذا شهدت حقبة فرنسوا ميتران في فرنسا، ومنذ بدايتها، تقدُّمَ اليمين المتطرف الممثل بالجبهة الوطنية. ففي الوقت الذي لم يكن يحقق فيه أكثر من 44ر0% من الأصوات في الانتخابات المختلفة التي جرت عام 1973 مثلاً ، أمكنه، خلال عشر سنوات، أن يتجاوز نسبة 10 % عام 1983، وأن يتمكن بعد عقدين من ذلك، أي في عام 2002، من الوصول للمرة الأولى إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية، وذلك رغم حملات "شيطنة" الجبهة الوطنية التي تمثله والتي كان اليسار واليمين التقليدي معاً يقومان بها من أجل تحجيمه. فكان الموقف الذي اتخذته آنئذ كافة القوى السياسية، يميناً ووسطاً ويساراً، للحيلولة دون انتخاب جان ماري لوبن عام 2002، والذي جعل جاك شيراك ينتخب بنسبة 80%  مقابل 20% لزعيم الجبهة الوطنية.
بيد أن اليمين المتطرف يعود، للمرة الثانية بعد خمسة عشر عامًا، بفاعلية أشد قوة من قبل، وبنسبة تصويت غير مسبوقة، ولا سيما في عدد المناطق التي كان يتقدم فيها على كافة المرشحين في الدورة الأولى، كي يبلغ بمرشحه للرئاسة الدورة الثانية.  
يختلف هذا الانتصار الذي حققه اليمين المتطرف عن سابقه عام 2002. إذ أنها المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا التي تفشل خلالها القوى السياسية التقليدية (حزبا اليمين واليسار الرئيسيان: حزب الجمهوريين ، والحزب الاشتراكي) من بلوغ أحد ممثليها الدورة الثانية.
ولا يخفى مردُّ هذا الاختلاف على أحد. فمنذ أن حلت ماري لوبين  مكان أبيها في رئاسة الجبهة الوطنية في بداية عام 2011، عملت لا على تغيير المشروع السياسي لحزبها، بل على تطبيع التطرف الذي وسم هذا الحزب طوال فترة رئاسة أبيها، سواء في تصريحاته الخاصة بالمحرقة النازية، أو ضد المهاجرين، أو قبل ذلك كله، في ماضيه الأسود في الجزائر قبل استقلالها. ولقد أمكنها في الحقيقة تحقيق ذلك كما تُبَيّنُ بوضوح المقارنة بين مواقف القوى السياسية في الانتخابات الرئاسية عام 2002 وموقفها في العام الحالي.  موقف لا يميز قوة سياسية عن أخرى بل يشمل القوى السياسية جميعاً وبلا استثناء: يميناً ووسطًا ويسارًا.
في عام 2002، رفض جاك شيراك المشاركة في مناظرة تلفزيونية يواجه خلالها منافسه، ممثل اليمين المتطرف، جان ماري لوبين. وكان بذلك على ثقة من وقوف كل من لم يصوِّت لهذا الأخير في الدورة الأولى وراءه. وما كان بوسع إيمانويل ماكرون إلا أن يقبلَ في عام 2017 مواجهة الوريثة، ماري لوبين، في مناظرة تلفزيونية مماثلة، بعد أن شاركت، في مناظرة مشهودة، مع المرشحين جميعاً قبل الدورة الأولى. يعكس هذا القبول نجاح منافسته في حمل مجموع القوى السياسية المتواجدة على الساحة على الاعتراف بحزبها ــ ولو ضمنًا ــ  بوصفه حزباً تقليدياً مقبولاً. هذا ما أدّى إليه التطبيع مع الفاشية الجديدة التي تقدم نفسها اليوم بلباس حريري. لم يتجلَّ ذلك في تشرذم القوى السياسية التقليدية فيما بينها، وفي خسارتها، للمرة الأولى منذ بداية الجمهورية الخامسة وطوال نصف قرن، إمكان تواجد ممثل لها في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة فحسب، بل في مشهد سياسي غير مسبوق أشهَرَ مواقفها المتناقضة، داخل كلٍّ منها وفيما بينها، إزاء كيفية مواجهة ممثلة الجبهة الوطنية، التي اجتازت الدورة الأولى بنجاح، خلال الدورة الثانية الحاسمة. إذ أن خصم ماري لوبين اليوم، بخلاف ما كان عليه الوضع عام 2002، حين واجه أبوها، جان ماري لوبين، جاك شيراك، ليس إلا شخصية طارئة على المشهد السياسي الفرنسي كله، يسارًا ووسطًا ويمينًا. هكذا، وبدلاً من أن تقف كافة القوى السياسية التقليدية صفاً واحداً في وجه ممثلة اليمين المتطرف، تشرذمت المواقف في اليمين عمومًا، واهتز ميزان الأحكام والتقديرات في مواقف اليسار المتطرف خصوصًا. وسوف يؤدي ذلك، أيًّا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الحالية، إلى تجذير اليمين المتطرف في الحياة السياسية الفرنسية، وربما إلى الدفع بسواه في البلدان الأوربية الأخرى، إلى التواجد في مقدمة المشهد السياسي الأوربي.
أبرز هذا المشهد السياسي غير المسبوق في فرنسا مجموعة من العناصر تبرر فرادته: فالاتفاق بين اليسار المتطرف واليمين المتطرف يكاد يفقأ العيون، لا في الشعبوية الرخيصة التي كان ممثل كل منهما يستخدمها أداة مثلى لدغدغة مشاعر الغضب أو الرفض أو الأسى لدى الطبقات الشعبية الفقيرة التي عانت ولا تزال تعاني من نتائج الليبرالية الجديدة والجامحة التي تبناها اليسار التقليدي فحسب، بل كذلك في مجموعة من المواقف في السياسة الخارجية (الخروج من أوربا، الخروج من حلف الأطلسي، والإعجاب بمواقف بوتين) فحسب، بل كذلك في السياسة الداخلية (التقاعد في سن الستين على سبيل المثال)، وهو ما جعل ماري لوبين تتوجه صراحة إلى ناخبي هذا اليسار كي يصوتوا لها، مثلما توجهت إلى ناخبي اليمين التقليدي كي يلتحقوا بها. ولم يكن تحالف أحد ممثلي هذا اليمين، نقولا دوبون إينيان، مع ماري لوبين، أيًا كانت الدوافع إليه، إلا تتويجًا لهذا التطبيع.
خلال نصف قرن مضى، لم تكتف حكومات الدول الأوربية بالتكيف أو بالتعايش مع نظم الاستبداد في العالم العربي، بل أسهمت في زرقها بكل ما يساعد على استمرارها، كما لو أنها لا تجد مصالحها إلا في هذا الاستمرار. جسَّدَ هذا الموقف سلوكُ معظمها إزاء ثورات الربيع العربي وقبولها ــ بل ودعمها الواقعي ــ للثورات المضادة التي لا تزال تعمل على محو آثار هذا الحراك الثوري في العالم العربي. كانت بذلك تعمل في آن واحد على تكريس تطبيع التطرف مع نظم التطرف، وعلى حمل الشعوب الرازحة تحت وطأة هذه الأخيرة على قبولها. وها هي  اليوم، وعلى الرغم من الأصوات المُحذِّرة التي ترتفع هنا وهناك، تكرس اليمين المتطرف في مشهدها السياسي صوتًا مقبولًا في جوقة يمين ويسار باتا يفتقران إلى القواعد الصلبة التي سمحت لهما بالنمو وبالازدهار وبالتناوب على السلطة في ديمقراطية تبدو، كما لو أنها في وضعها الحالي، هي الأخرى، باتت تثير الكثير من الشكوك..


** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 4  أيار/مايو 2017


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire