السخرية وفن الرواية الأوربية
بدرالدين عرودكي
لم
تعرف "السخرية"، لفظاً ومصطلحاً، سمعة حسنة على الدوام، لا في قديم
الثقافة العربية ولا في حديثها! لا بل إن قواميس لغتها العريقة ثبَّتت هذه السمعة الملتبسة
فيما بعد، لفظاً واصطلاحاً، باعتمادها المعنى السلبي المُضفى عليها في العديد من
الآيات في القرآن: "ويصنع
الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما
تسخرون" (هود، 38)؛ "وإذا رأوا آية يستسخرون" (الصافات، 14). هذا
على الرغم من أن السخرية يمكن أن تكون فعلاً إلهياً: "والذين لا يجدون الا
جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم" (التوبة، 79). يرد في
القرآن أيضاً الاستهزاء، أي ما يفيد إحدى دلالات السخرية: "ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين
سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون"(الأنعام، 10، الأنبياء 41). وعلى إثر كل
هذا، سار الفقهاء واللغويون حين قاموا بتثبيت معنى اللفظين في القرآن فقهياً، كما
هو قول ابن تيمية: "الاستهزاء هو السخرية؛ وهو حمل الأقوال والأفعال على
الهزل واللعب لا على الجدِّ والحقيقة. فالذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم
وأفعالهم ذمًّا يخرجها عن درجة الاعتبار".
تهدف السخرية بطبيعة الحال، من بين ما تهدف إليه،
إلى الضحك وهو، بالمعنى القرآني هنا، معادل للحياة في الوقت الذي يكون فيه البكاء
معادلاً للموت، كما تبين الآية: "وأنه أضحك وأبكى، وأنه أمات
وأحيا" (النجم، 43/44)؛ لكنها
لا تقف عنده، ولاسيما حين تمسُّ الإنسان بما هو إنسان، أي في ماهيته الجسدية أو
الوجودية، فتتجاوزه على هذا النحو إلى التحقير، أي إلى ما يجعل منه هجاء وتسفيهاً.
ومن هنا كان النهي عنها، بهذا المعنى، في القرآن واضحاً وصريحاً: "يا أيها
الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن
يكن خيراً منهن" (الحجرات، 49).
تختلف السخرية في معناها الأول والأساس عن
الدعابة أو الفكاهة أو المزاح أو العبث أو الظرف أو اللعب. لكن الكتاب والأدباء في
الثقافة العربية الكلاسيكية عملوا على الاستحواذ على اللفظ كي يضفوا عليه بالتدريج
معاني ودلالات بتحميله وظائف أخرى تتجاوز بها المعنى الأول، ولاسيما حين تجعله
يتناول الأفعال أو الأقوال في السلوك خصوصاً. وكان أول هؤلاء قاطبة أبو عثمان عمرو
بن بحر الجاحظ (150 هـ /767 م ــ 256 هـ/
869 م) ولاسيما في كتابه الشهير البخلاء وكتابه الأقل شهرة التربيع
والتدوير والذي يدور حول شخصية واحدة تحمل اسم محمد بن عبد الوهاب. وقد سار
على نهجه ابن قتيبة (213 هـ/828 /276 هـ/889م) في كتابه عيون الأخبار، وأبو
حيان التوحيدي (310 هـ/922م ــ 414هـ/1023م) في الإمتاع والمؤانسة، وابن
الجوزي (508 هـ/1114م ــ 597 هـ/1201م) في كتابه الأذكياء، وسواهم من بعده،
من دون أن ننسى كتاب ابن المقفع المؤسِّس (105 هـ/724م ــ 141 هـ/759م) كليلة
ودمنة.
بفضل
هؤلاء الرواد الأوائل، اغتنت السخرية بدلالاتها ووظائفها الجديدة، واستحالت، منذ
القرن الثاني الهجري والقرن الثامن الميلادي، أداة فعالة في النقد الاجتماعي والسياسي،
سيستخدمها ورثة هذا التقليد الذي بات راسخاً في الثقافة العربية من الكتاب المعاصرين
الذين استعادوها، من طه حسين إلى عباس محمود العقاد مروراً بمصطفى صادق الرافعي
وأحمد أمين وإبراهيم المازني وأحمد حسن الزيات.
لن تختلف
الثقافة الأوربية في اعتمادها السخرية أداة نقد اجتماعي أو سياسي عن الثقافة
العربية ولاسيما إذا ما نظرنا إلى جذورها الثقافية الإغريقية، أي منذ أن اعتبر
أرسطو في كتابه فن الشعر أنَّ "الملهاة، على غرار المأساة، تطهر
النفس". لكنها ستذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير في تطهير النفس هذا عن طريق الضحك، من
خلال السخرية، بوصفها أفضل وسيلة يمكن أن يعتمدها الكاتب كي يستفيد من الحرية التي
تتيحها له. ذلك أن قوامها الأساس وضع
مسافة بين ما يقال وبين ما يجب أن يفهم من القول، مما يجعل منها أداة مثلى لا لإثارة
الضحك فحسب، بل لتوظيف هذا الضحك وصولاً إلى تحقيق أهداف فردية أو جماعية، تستهدف
الدفاع عن حقوق مستلبة أو التنديد بسلطة غاشمة أو في عرض حماقات المجتمع أو العصر.
وحين صارت السخرية اعتباراً من القرن السادس عشر
على يدي الكاتب الفرنسي فرنسوا رابليه (1494 ـ 1553) قوام الرواية الغربية التي
كانت تخرج وليدة إلى العالم حينئذ، اكتسبت بذلك معاني ودلالات أخرى لم تكن معروفة
من قبل. في روايته تحت عيني الغرب، يقول جوزيف كونراد (1857 ـ 1924) على
لسان ثوري روسي: "تذكر يا رازوموف أن النساء والأطفال يكرهون السخرية، نفي كل
الغرائز الكريمة، كل إيمان، كل إخلاص، كل فعل!". ليس ذلك بسب استخدامها التهكم
أو الهجوم، بل لأنها، كما يقول ميلان كونديرا، "تحرمنا من اليقين إذ تكشف
العالم بوصفه التباساً". لكن السخرية ليست، على كل حال، بالسهولة التي يظنها
البعض. يكفي إنعام النظر في المُبدعات الروائية الجديرة بهذا الاسم حقاً كي نرى مع
الكاتب والسياسي الإيطالي ليوناردو تشاشيا (Leonardo Sciascia) أنه "لا شيء أصعب
على الفهم، ولا شيء أصعب على التحليل من السخرية".
ولكن ما الذي جعل من السخرية عنصراً جوهرياً
مقوماً في بنية الرواية الأوربية الحديثة تحديداً؟ أو، أيضاً: كيف صارت السخرية
مثل هذا العنصر المقوم فيها؟
ربما كان أجمل ــ وأدقُّ ــ تفسير يجيب عن
السؤالين معاً، ما اقترحه ميلان كونديرا في صورة مجازية شديدة الدلالة. إذ يستوحي
من المثل اليهودي القائل "الإنسان يفكر، والإله يضحك" فكرة ولادة أول
رواية أوربية كبرى جاءت بوصفها صدىً لضحكِ الإله! يقول كونديرا: "ولكن، لِمَ
يضحك الإله أثناء رؤيته الإنسان الذي يفكر؟ لأنَّ
الإنسان يفكر والحقيقة تفلت منه. لأنّه بقدر ما يفكر البشر بقدر ما يبتعد فكر
الواحد عن فكر الآخر. وأخيراً لأنَّ الإنسان لا يكون أبداً ما يفكر أنه كينونته."
هذه الحقيقة التي تفلت من الإنسان باستمرار، أي غياب
اليقين المطلق الذي صنعه لنفسه ذلك الذي لم يسمع ضحكة الإله منه وهو يفكر، هي التي
جعلت من الرواية فناً ممكناً ولد مع غروب عصر النهضة واستمر مع توالي العصور
الحديثة. أما السخرية فقد كانت هنا التجسيد الوحيد أو الأمثل الذي يمكن أن يمثل إذ
يؤكد هذا السعي الإنساني اللاهث وراء حقيقة سيَسِمُ البحث عنها، في النهاية، جهدَه
ويمنحه معناه.
لا تتجلى السخرية المعنيّة هنا كعنصر مقوم في
الرواية، بالضرورة، من خلال التهكم أو الهجاء أو الاستهزاء، ولا يمكن، من ثمَّ، أن
تُفهمَ بوصفها كذلك. إذ أنها تُرى، بالأحرى، في شبكة العلاقات التي تتواجد في
الرواية، ومن خلال تعدد الأصوات، المتباينة أو المتناقضة، والتي تؤدي جميعها إلى
اكتشاف يقين آخر، هو اليقين بغياب كل يقين روجت له من قبل ولا تزال تروج له
الأيديولوجيات على اختلافها. ذلك أنها، في توسلها تجسيد المهزلة كي تصل بها إلى
الكشف عن اللامعنى، قد اكتسبت هنا بعداً وجودياً صريحاً آخر لم يكن ملحوظاً فيها
من قبل. وبالمقابل، لا يمكن للرواية التي تؤلف السخرية، بهذا المعنى، أحد عناصرها
المقومة أو التي، إن شئنا، تشارك السخرية في جوهرها، أن تصنف أو ينظر إليها بوصفها
مجرد رواية هزلية أو هجائية غايتها "تطهير النفس" بالفكاهة أو بالضحك.
سيبقى فن الرواية الأوربية، بمعزل عن صعوبته
الملازمة له، عسيراً أو، في أفضل الأحوال، شديد الالتباس على الفهم، ما لم يؤخذ
هذا التوصيف النقدي المحض ـ أي المجرد من أي حكم قيمة أياً كانت طبيعته ــ بعين
الاعتبار في أية مقاربة لمُبدَع روائي جدير بهذا الاسم. يسري ذلك على روايات
روّادها الأوائل، رابليه وسرفانتس، مثلما يسري أيضاً على روايات كبار ورثتهما من
روائيي أوربا خلال القرون التالية، ولاسيما في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
يمكن لنا على سبيل المثال أن نرى مع ميلان كونديرا
الذي قرأ بعيني روائي تاريخ الرواية الأوربية، ما إن نقرأ معه الجمل الأولى في رواية
رابليه غارغانتويا وبانتاغرويل التي دشنت عصر الرواية الأوربية، حول انزلاق
غارغانتويا، وكان لا يزال جنيناً في بطن أمه، في أحد عروقها كي يخرج من أذنها بدلاً
من رحِمها، أننا سنكتشف كيف كشفت الرواية كشكل فني عن قطعها كلّ صلة بمناهج العلوم
أو التاريخ أو الأساطير أو الواقع المعيش. ثمة انتقال من العالم الملموس، المباشر،
إلى عالم آخر يبدو لنا تارة مبنياً من عناصر لا تمتُّ بأية صلة إلى الأول، وتارة
أخرى مستخدماً عناصر وأدوات تكاد تكون انعكاساً له، لكنه يبقى، في الحالتين،
مستقلاً تمام الاستقلال بمعاييره وبقيمه وبقوانينه، ولا يمكن أن يقرأ أو أن يُفهم
إلا ضمن هذا الإطار.
وفي سياق هذه الرواية الافتتاحية التي دشنت تاريخ
الرواية إلى بداية منتصف القرن العشرين، نشر كونديرا نفسه أولى رواياته المزحة.
لكن كونديرا لم يسلك فيها طريق المعلم رابليه بقدر ما سار على هديه. فعلى عبارة كتبت
على بطاقة بريدية يمزح بها لودوفيك، بطل الرواية، مع صديقته: "التفاؤل أفيون
الجنس البشري. والعقل السليم ينفث الحماقة. يعيش تروتسكي!"، يبني عالم روايته
من عناصر تبدو للوهلة الأولى مقتطفة من يوميات الواقع الحي في تشيكوسلوفاكيا عند
منعطف النصف الثاني من القرن الماضي في ظل الحكم الشيوعي، لكنها تتكشف عبر معمارها
رواية الكوميديا الإنسانية، ورهانات الحب والصدفة، والآلام، والأفعال التي لا يمكن
الرجوع عنها، وعدم فهم الكائنات البشرية، والتي تؤدي جميعها إلى خيبات أمل
قاسية. ذلك أن هذه الرواية التي لم تُقرَأ
عند صدورها، سواء في بلد الكاتب الأصلي أو في فرنسا، البلد الذي هاجر إليه عام
1975، إلا بوصفها رواية سياسية لمجرد وجود مفردات وعناصر الواقع السياسي
التشيكوسلوفاكي. ولم ينتبه كثير من النقاد، التشيكيون منهم والغربيون، إلى أن هذه
الأخيرة لم تكن إلا عناصر معمار أعيد توظيفها في بناء عالم مختلف، يهيمن فيه أجلاف
سبق لرابليه أن شكا من شراستهم ضده، هم الذين لا يعرفون الضحك وينبذون الفكاهة
والمزاح، عالم رواية تتكشف فيه عبر سخرية مريرة وقاسية هشاشة المصائر الإنسانية في
الحياة الفردية والجماعية.
مع بداية القرن العشرين، كانت هناك أيضاً روايات
فرنز كافكا (1883 ـ 1924)، التي جسّدت في جوهر معمارها مفهوم فن الرواية الأوربية بامتياز،
وتمكنت ــ وهو أمر ندر أن عرفه تاريخ الآداب ــ من أن تصير مصدر مفهوم خاص بها بات
يعرف اليوم تحت مُسَمَّى: الكافكاوية.
ستقود قراءة روايات كافكا اليوم، مثلما قادت في
حياة كاتبها ثم بعد وفاته، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الحكم
الشيوعي، إلى اعتماد هذا الوصف للعالم الذي تقدمه في مظاهره المختلفة. بحيث صارت
توصف به أوضاعٌ مختلفة في الحياة اليومية أو في قصص واقعية يعيشها بشر حقيقيون.
ذلك ما جعل ميلان كونديرا يكتب: "ثمة مراحل في التاريخ تشبه فيها الحياة روايات كافكا!". وهو ما يحمل هنا على سرد ما يمكن
وصفه بامتياز "حكاية كافكاوية"، رغم أنها ليست في الأصل حكاية تخييلية
بل حكاية حقيقية، ورغم أن كاتبها ليس كافكا بل جوزيف
سكفورسكي، أحد أصدقاء
ميلان كونديرا، الذي رواها نقلاً عنه في الفصل الخامس من كتابه فن الرواية
الذي يحمل عنوان في مكان ما،هناك:
"دُعِيَ
مهندس من مدينة براغ للاشتراك في ندوة علمية تعقد في لندن. وقد ذهب وشارك في
الجلسات ثمَّ عاد إلى براج. وبعد ساعات من عودته، تناول في مكتبه صحيفة رود برافو
ـ وهي صحيفة الحزب الرسمية ـ وقرأ فيها: قرر مهندس تشيكي ـ كان قد نُدِبَ للمشاركة
في ندوة لندن ـ بعد أن أطلق تصريحاً أمام الصحافة الغربية شتم فيه وطنه الاشتراكي،
أن يبقى في الغرب.
ليست
الهجرة غير المشروعة التي يرافقها مثل هذا التصريح أمراً تافهاً. إذ أنها تعني
عشرين سنة في السجن. لم يكن بوسع مهندسنا أن يصدق عينيه. وحين دخلت سكرتيرته
مكتبه، ذهلت لدى رؤيتها له قائلة: يا إلهي، كيف عدت! غير معقول؛ ألم تقرأ ما كتب
عنك؟
رأى
المهندس الخوف في عينيْ سكرتيرته. ماذا يسعه أن يفعل؟ هرع إلى إدارة تحرير رود
برافو. وهناك عثر على المحرّر المسؤول عن نشر الخبر. وقد اعتذر له هذا
الأخير فعلاً، إذ المسألة مزعجة حقاً، لكنه، هو المحرّر، لا دخل له في الموضوع.
فقد تلقى نصّ الخبر مباشرة من وزارة الشؤون الداخلية.
ذهب
المهندس إلى الوزارة إذن. وهناك قيل له: نعم، صحيح. إنه ولا شك خطأ قد وقع. لكنهم،
في الوزارة، لا دخل لهم في الأمر. فقد تلقوا التقرير عن المهندس من إدارة
الاستعلامات في السفارة بلندن. طلب المهندس نشر تكذيب للخبر، فقيل له: التكذيب غير
ممكن. لكنهم أكدوا له أنه لن يتعرض لشيء، وأنّ بوسعه الاطمئنان.
لكن
المهندس لم يطمئن. إذ سرعان ما انتبه، على العكس، إلى أنه يخضع لرقابة صارمة، وإلى
أن محادثاته الهاتفية قيد التسجيل، وإلى أنه ملاحق في الشوارع. لم يعد يسعه النوم،
ثم صار نومه حافلاً بالكوابيس إلى أن جاء يوم لم يعد يحتمل فيه هذا الضغط؛ فغامر،
معرضاً نفسه لأشدِّ المخاطر، كي ما يترك البلد بطريقة غير مشروعة. لقد صار بذلك
مهاجراً فعلاً."
وعلى
أن هذه القصة تبدو أشبه بحكاية مضحكة أو بمزحة ثقيلة، إلا أنه لا شيء في ظاهر سردها
ما يشي بأي ضرب من السخرية المباشرة. غير أن من الممكن ببساطة أن نستخلص السخرية
السوداء القاسية من تماسك وتفاعل عناصر هذه الحكاية التي لن تضحِكَ على الأغلب
أحداً حين تقرأ على جمع من الناس، مثلما كان أصدقاء كافكا يضحكون عندما كان يقرأ
عليهم فصولاً من رواياته. ذلك لأنها ليست تخييلاً، بل واقعاً يمكن تشبيهه بالتخييل،
وفي المجال المعنيِّ هنا، التخييل الكافكاوي حصراً. ذلك ما رآه كونديرا في هذه
القصة التي حملته بعد سردها إلى تفصيل بعض مظاهر الكافكاوية التي تقدمها والتي
تنطوي عليها بامتياز هذه المرة روايات كافكا المختلفة، ومنها روايتا القصر
أو القضية.
لن يتسع المجال للاستشهاد، في ما وراء هذه
الأمثلة الثلاثة، بأمثلة لا تحصى من الروايات التي صمدت حتى يومنا هذا في مواجهة امتحان
الأزمنة المتعاقبة منذ قرون أربعة. على أنه لا بد من الانتباه إلى أن معظم ما
تلفظه مطابع أوربا كل يوم على أنها روايات لا يمكن اعتبارها إلا روايات خارج تاريخ
الرواية كما يقول كونديرا: "اعترافات روائية، تحقيقات روائية، تصفية حسابات
روائية، سير ذاتية روائية، تشهيرات روائية، دروس سياسية روائية، احتضار الزوج
روائياً، احتضار الأب روائياً، احتضار الأم روائياً، ولادات روائية، روايات إلى ما
لانهاية، حتى نهاية الزمن، لا تقول شيئاً جديداً، ولا تملك أيَّ طموح جمالي، ولا
تحمل أيّ تغيير لا لفهمنا للإنسان ولا إلى الشكل الروائي، تشبه الواحدة منها
الأخرى، تستهلك صباحاً وتُرمى تماماً في المساء.". ذلك أن المبدعات الكبرى لا يمكن "أن تولد
(...) إلا في تاريخ فنها وفي مشاركتها في هذا التاريخ. ولا يمكننا إلا داخل
التاريخ أن ندرك ما هو جديد وما هو
مكرَّر، ما هو اكتشاف وما هو تقليد، وبعبارة أخرى، لا يمكن لمبدع أن يوجد بوصفه
قيمة يسعنا تمييزها وتقويمها إلا داخل التاريخ." هذا التاريخ بدأ على وجه التحديد مع رابليه
وسرفانتس.
لم
يكن الكاتب إميل ميشيل سيوران (1911 ـ 1995) مخطئاً في هذا المجال حين سمى المجتمع
الأوربي "مجتمع الرواية"، وتكلم عن الأوربيين بوصفهم "أبناء
الرواية".
** نشر في مجلة روافد، الإمارات العربية المتحدة، ملف العدد 237، أيار/مايو
2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire