mercredi 31 mai 2017


لقاءات مصرية (1)
توفيق الحكيم في طائرة عسكرية!


بدرالدين عرودكي
لم يخطر في مخيلتي يوماً أن ألتقي ذات يوم مَنْ كان أحد كبار كتاب العالم العربي طوال عقود وعقود من القرن الماضي . كان واحداً من ثلاثة ملأوا دنيا مصر والعالم العربي من حولها وكانوا شغلهما الشاغل طوال ما ينيف عن نصف قرن.  تركوا وراءهم تراثاً فكرياً وأدبيّاً لا يمكن لأي بلد إلا أن يزهو به: طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم.
لكن المفكر والكاتب، الصديق أنور عبد الملك، الذي ربطتني به صداقة حميمة منذ أن قمت بإعداد وترجمة كتاب له نشرته دار الآداب عام 1974 "الفكر العربي في معركة النهضة"،  يهتف لي صباح ذلك اليوم من الربيع الباريسي عام 1975، كي يدعوني إلى المجيء إلى بيته عند الساعة الرابعة بعد الظهر كي ألتقي توفيق الحكيم الذي وصل إلى باريس، وسوف يأتي لزيارته عند تلك الساعة.
اختلطت السعادة التي غمرتني لحظة إغلاق الهاتف بقلق شديد. ما الذي يسعني أن أقوله لتوفيق الحكيم بعد ساعات عدة من الآن؟ فجأة، غاب في أعماق الذاكرة كل ما قرأته له. كنت قد التهمت قبل سنوات عديدة من ذلك اليوم ثلاثاً من رواياته: عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وقرأت عددا كبيراً من مسرحياته، ولاسيما كتابه الضخم المسرح الاجتماعي. لكن تلك كانت قراءات المراهق الطموح. ستار أسود في الذاكرة كان يحول بيني وبين ما قرأت. حاولت فيما تبقى لي من الوقت أن أستعيد ما استوقفني في عودة الروح وكذلك في عصفور من الشرق..بدا لي أن ذلك هو الحل. هكذا أخذ القلق الذي انتابني بالتلاشي شيئاً فشيئاً، وأمكنني أن أتسلح بسؤاليْن حول روايتيْه، وربما بحجتيْن أيضاً يدعمانهما. سنرى.
**  **  **  **
كنت شديد الاهتمام بالثلاثي الذي ذكرت، ومن ثم فقد كنت طوال سنوات مراهقتي أتابع ما كان كلٌّ منهم يكتبه في الصحف، من يوميات العقاد في صحيفة الأخبار القاهرية، إلى طه حسين في صحيفة الجمهورية، إلى توفيق الحكيم في الأهرام. وكان أكثر ما يحز في نفسي آنئذ أنني لم أشهد أية مسرحية كتبها توفيق الحكيم على المسرح، كما كان لابد من انتظار وقت طويل قبل أن يفكر احد السينمائيين في إخراج أحد مبدعاته الروائية أو المسرحية سينمائياً.
**   **   **   **
هو ذا أمامي. كما كنت أراه في الصور التي كانت الصحافة المصرية تنشرها. البيريه على الرأس، والقامة التي بدأت تميل إلى الانحناء قليلاً.. وهن الجسد مع مرور السنين.. لكن العينيْن كانتا تشعان حيوية ومرحاً، والوجه تزينه ابتسامة لا تفارقه.
يقدمني أنور عبد الملك إليه بكرم شديد. وأبادره بما لم يكن، كما بدا لي، ينتظره: "كانت روايتك عودة الروح أول عمل أقرؤه لك حين كنت في الخامسة عشر من عمري. لكن ما صدمني فيها أنك وأنت تذكر أسماء الشعوب التي غزت مصر قديماً، تذكر العرب! فهل كان العرب في نظرك إذن غزاة لمصر؟ صديقك عباس محمود العقاد أكد في بحث له أن العرب سكنوا مصر منذ آلاف السنين وأن المصريين، بفعل ذلك، عرب أقحاح!"
سرعان ما يجيب توفيق الحكيم بلهجة فيها من الدعابة بقدر ما فيها من السخرية: "لا والله! أنا عربي خالص!" ثم يضيف:
"أنت لا تعلم حكايتي مع العروبة وما عانيته من أجلها. ذات يوم من شهر أبريل 1946، اتصل بي رئيس تحرير الأهرام يعلمني بأن هيئة التحرير أجمعت على اختياري كي أمثل الصحافة المصرية في الاحتفال بعيد الجلاء في سورية الحبيبة.
"كنتُ شديد السعادة. ذلك أنني لم أكن أعرف دمشق. وها هي فرصة تتاح لي لزيارتها. لاسيما وأنها فرصة لزيارة لبنان وسورية في الوقت نفسه، ما دمت سأسافر من الإسكندرية إلى بيروت ومنها إلى دمشق ذهاباً وإياباً.
"كنتُ أعِدُّ نفسي إذن لرحلة طويلة.
"لكن مدير الإدارة يعلمني عشية يوم الرحلة أن عليَّ أن أستعد. فالرحلة غداً، وستكون بالطائرة.
لم أكن أعرف الطائرة. ولا أحبها. بل وأخافها. كما لم يسبق لي أن اخترتها وسيلة للانتقال في كل رحلاتي لا من قبل ولا من بعد. لم يكن بوسعي الاعتذار. فكان علي أن أتوكل على الله، وأن أقرأ الفاتحة، وأن أقول: حاضر يافندم..
ويسألني وهو يواجهني بنظراته الفاحصة:
ــ وكل ذلك في سبيل ماذا؟  
هكذا أجدني أقبل القدر وما قدره لي في هذه الرحلة. لكني فوجئتُ بأحدهم، قبل ساعة من موعد الطائرة، وفي الطريق إلى المطار، يخبرني أنني لن أسافر بطائرة مدنية، بل بطائرة عسكرية. بل وبإحدى الطائرتيْن اللتين ستشاركان في احتفالات الجلاء في سورية الحبيبة.
لم يكن بيدي حيلة. ولم تكن كل مخاوفي التي ارتسمت على ملامح وجهي مجدية في دفع أحدهم إلى إعفائي من هذه المهمة. فرئيس التحرير الذي قرر إرسالي، لم يكن بالقاهرة، والذين كانوا من حولي لم تكن لهم أية صلة بمهمتي، ولم تكن لهم حيلة في الأمر.
هكذا أرغِمتُ على قبول قدري، مدارياً نفسي بأنها ستكون ولاشك تجربة فريدة في حياتي..
ويكرر وهو ينظر إليَّ بعينيه الفاحصتين ثانية:
ــ وكل ذلك في سبيل ماذا؟ 
سأعفيكَ من تفاصيل وصف الرحلة: جالساً على كرسي شديد الضيق، في طائرة تهتز كل ثانية كما لو أنها على وشك السقوط. مطبات هوائية تتوالى على الطريق. كانت أحشائي تنقلب رأساً على عقب في كل رجّة كانت تنتاب الطائرة حين تجتاز الفراغات الهوائية. ولم يكن هناك أحد من حولي يمكن أن يسعفني بكأس ماء. من حسن حظي أنني لم أتناول الفطور صباح ذلك اليوم، وإلا ..
وأتساءل في سري عن ذنب اقترفته حتى أجدني ألقى كلَّ هذا العذاب.
"لكن الأنكى من كل ذلك،  أن قائد الطيارة وهو يطمئنني أننا على وشك الوصول، أعلن لي أنه لن يتمكن من الهبوط بطائرته في المطار قبل المشاركة في العرض العسكري الذي يحضره رئيس الجمهورية ورجال حكومة الاستقلال. لأنه لو هبط بالطائرة في المطار العسكري من أجلي فلن يستطيع الإقلاع من جديد قبل إجراء الرقابة المعتادة على الطائرة، مما سيؤدي إلى التأخر في المشاركة التي أرسلت الطائرتان خصيصاً من أجلها.
"عندما أنهى قائد الطائرة تفسيره، كان قد صار في سماء دمشق. وطلب إلي أن أتأكد من ربط الحزام، وأن أتمسك جيداً بالكرسي، لأنه سيقوم ببعض الحركات البهلوانية تحية لسورية المستقلة في عيد تحررها. هكذا وجدتني على حين فجأة: رأسي إلى الأسفل وقدماي إلى الأعلى، ثم ينعكس الأمر كي تعود الطائرة إلى وضعها الطبيعي طوال ثوانٍ عدة ما تلبث بعدها أن تعيد تكرار الحركة مرات بدت لي وكأنها عذاب الأبدية!
لا تسألني عما حلّ بي. حين خرجت من باب الطائرة وقد حطت أخيراً على أرض مطار المزة العسكري، تلقفني جندي وحملني حين رأى وجهي المصفر وعينيَّ الجاحظتين رعباً.
ــ وتحمّلت ذلك كله في سبيل ماذا يا أستاذ؟ ألا ترى أنه كان في سبيل الأخوة العربية وسورية الحبيبة؟
وتأتي لتقول لي إنني ضد الوحدة العربية؟ 
**  **  **  **
أقول له ضاحكاً: الحمد لله على سلامتك!
فيلتفت إلى أنور عبد الملك ليبادره: "أنا سعيد أخيراً بلقائك. مضى زمن لم أركَ..". ثم يلتفت إلي: "هل تعلم كيف عرفت أنور؟
" في بداية الستينيات، ذات يوم في مكتبي بالأهرام، قيل لي إن فتاة أجنبية تريد أن تراني وأنها تحمل رسالة لي من صديق مصري مقيم بباريس.
"دخلت المكتب فتاة في العشرينات من عمرها، ذات جمال نادراً ما صادفته في حياتي. لاحظت من لكنتها وهي تحدثني بالفرنسية، أنها ليست فرنسية الأصل. أعلمتني أنها بولونية لكنها تعيش في فرنسا منذ عشرة أعوام. وأنها تعد رسالة دكتوراه عن المسرح في مصر. وهو ما دفعها إلى لقائي.
"قرأت الرسالة التي وضعتها بين يدي. رسالة من شخص سمعت به لكني لم أكن قد التقيته. أنور عبد الملك. سألتها إن كان أستاذها أو زميلها في الجامعة. لم أستكمل سؤالي حين رأيت عينيْها تغرورقان بالدموع.
"لم أفهم سبب البكاء. وشعرت بالحرج حين دخل القهوجي يسأل ماذا نريد من شراب. رآها تبكي، فنظر إلي يسألني بعينيه: ماذا فعلتَ لها! طلبتُ إليه أن يأتيها بكوب عصير جوافة. لا أدري لماذا اخترت لها الجوافة بدلآ من البرتقال أو المنجا مثلاً!
"وبسرعة غير مسبوقة عاد حاملاً كوب الجوافة، مع وردة حمراء! هدأ روع الفتاة وطفقت تعتذر عن بكائها.
"سألتها عن السبب. ترددت قليلاً. لكنها ما لبثت أن أعلمتني أنها تحب أنور وأن أنور تركها وتخلى عنها، وأنها مع ذلك لا تزال تحبه..
"حين رأيت أن هذه الفتاة باهرة الجمال تبكي حرقة على حبها الضائع.. قلت في نفسي: لابد أن يكون هذا الأنور كائناً استثنائياً.. ولو لم يكن كذلك، فما الذي يجعل مثل هذه الفتاة الرقيقة، نادرة الجمال، تحبه..
"أعترف. ذلك اليوم عقدت عزمي على أن ألتقي بهذا الكائن الذي يحرق، غير مبال، قلوب الفتيات الجميلات..!"
سألته بعد سماعي القصة عن روايته "عصفور من الشرق": هل كان سيكتبها اليوم كما كتبها قبل ثلاثين عاماً، أي استحالة اللقاء بين الغرب والشرق؟
لكنه بعد حكايته عن أنور والفتاة البولونية أجابني: "ألا ترى؟ أهو ده الجواب..!"..



** نشر على موقع ضفة ثالثة، يوم الأربعاء 31 أيار 2017.


jeudi 25 mai 2017


حين يكون الإرهاب سؤالاً
بدرالدين عرودكي
منذ الحادي عشر من أيلول عام 2001، يوم تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك، والعالم الغربي يشير إلى ثقافة الإرهاب بوصفها إسلامية محضة. لكنه، قبل هذا الحدث الاستثنائي، كان قد سار على طريق شيطنة الإسلام ثقافة وحضارة بعد انهيار جدار برلين، ومن ورائه ما كان يسمى الكتلة الاشتراكية، الذي أدى إلى انتهاء الحرب الباردة بين العالمين، الرأسمالي والاشتراكي، لكي تبدأ حربٌ جديدة نَظَّرَ لها منذ عام 1993 صموئيل هنتنغتون في مقالته التي نشرها وحملت آنئذ عنوان كتابه القادم صراع الحضارات الذي صدر عام 1996.
كتب هذا التنظير في لحظة كان الغرب خلالها يعيش نشوة الانتصار التاريخي في نهاية حربه الباردة مع الاتحاد السوفياتي التي بدأت غداة الحرب العالمية الثانية. وما كان لأحد أن يتوقع أن الخصم/العدو القادم للغرب سوف يكون "الإسلام" ثقافة وحضارة، في حين أن من كانوا ينتمون إليه هم أنفسهم من جندتهم وسلحتهم ثم استخدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية ضد قوات الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
وكأنما جاء حدث 11 أيلول كي يثبت نظرية الصراع هذه. أو هذا ما بدا على الأقل لكثير من الكتاب والمفكرين والمحللين الذين كانوا يتناوبون على منصات الندوات في الجامعات ومراكز البحث، وعلى صفحات الصحف أو في برامج الوسائل السمعية البصرية، ولا سيما منهم من بات بين ليلة وضحاها خبيراً بالإسلام أو بالإرهاب أو باستراتيجيات الجماعات الإرهابية الإسلامية. وكان هؤلاء من التأثير بحيث أقبل عامة الناس في الغرب على قراءة كل ما يمت إلى الإسلام بصلة. لا بل إن الترجمات الإنكليزية والفرنسية للقرآن سجلت في السنة التي تلت ذلك اليوم أكبر رقم مبيعات في البلدان الغربية!
هكذا أعلنت الحرب رسمياً على الإرهاب في أفغانستان ثم في العراق، أما اعتماد الإسلام توصيفاً له، فقد ترك أمر القيام به إلى وسائل الإعلام التي لم تكن على اختلافها بحاجة إلى تكليف رسمي من أجل ذلك.
وحين خرج بطبيعة الحال عدد من كبار المفكرين الأوربيين في تحليلاتهم وكتاباتهم عن الخط العام للخطاب الرسمي، السياسي والإعلامي، بما في ذلك خط بعض زملائهم الأمريكيين، سرعان ما اتهموا لا بتجاهل الوقائع، أو "بحجب الطبيعة الدينية للإرهاب بصورة شبه كاملة" فحسب، بل بلغ الأمر بأحدهم أن يتحدث عما سمّاه "عمى الفلاسفة"! وكان من انصبَّ عليهم النقد على هذا النحو من جهة، جاك دريدا ويورغن هابرماس في حوارهما بنييورك خلال شهري تشرين أول وكانون أول 2001 الذي أدارته جيوفانا بورّادوري، والذي نشر عام 2004 تحت عنوان: "مفهوم" 11 أيلول"، ومن جهة أخرى، جان بودريار الذي كان قد كتب سلسلة من المقالات بين 20002 و2004 حول حدث 11 أيلول، نشرت في الصحافة أولاً، ثم ضمن كتيبات تمت ترجمتها جميعاً إلى العربية تحت العنوان الذي حمله أول مقال في هذه السلسلة: "روح الإرهاب"، ونشرت بالقاهرة في كتاب جامع عام 2005.
وشأن كل ذي بصيرة، لم يكتف جميعهم، في تحليلهم للحدث، بما تستدعيه الأوصاف الخارجية من إحالات سريعة تعتمد جنسية الإرهابيين، أو دينهم، أو خطاباتهم، بل قدم كل منهم، على طريقته، وجهة نظره ورؤيته للحدث، متجاوزًا بطبيعة الحال فرقعات الصحافيين الإعلامية وخطابات السياسيين الشعبوية، عبر تحليل جاد، متماسك مفهومياً ومنطقياً. وربما كان القاسم المشترك في خطاباتهم، أن أحداً منهم لم يكن يرى أيَّ ارتباط عضوي بين الإرهاب والإسلام. لا بل إن جان بودريار يقول صراحة: "وحقيقة أن نكون قد حلمنا بهذا الحدث،  وأن يكون كل الناس دون استثناء قد حلم به لأنه لا يمكن لأحد ألا يحلم بتدمير أية قوة صارت على هذه الدرجة من الهيمنة، ذلك أمر غير مقبول في نظر الضمير الأخلاقي الغربي، لكنه مع ذلك أمر واقع يتساوى على وجه الدقة مع عنف كل الخطابات المثيرة للشفقة التي  تريد أن تمحوه. وبمعنى ما، هُمُ الذين فعلوه، لكننا نحن الذين أردناه..". ذلك أن المشكلة في تحليله تتجسد في هذا الواقع الماثل أمام الجميع: هذا التضخم الهائل للقوة الذي كان البرجان يمثلانه، ومن ثم فإنه "بصورة منطقية جداً وبصورة حتمية يستثير الإرادة لتحطيمها"، لاسيما وأن "الطاقة التي يغذيها الإرهاب لا يمكن لأي قضية، حتى لو كانت إسلامية، أن تفسرها".  ومن ثم، لم يكن الحدث " صدمة حضارات ولا صدمة أديان، كما أنه يتجاوز الإسلام وأمريكا اللذين نحاول تركيز الصراع بينهما كي ما نمنح أنفسنا وهمَ صراعٍ مرئي وحلٍّ يتم بالقوة.  إنها فعلاً خصومة أساسية، لكنها تشير عبر شبح أمريكا (التي ربما هي المركز الأساسي لكنها ليست تجسيد العولمة لوحدها) وعبر شبح الإسلام (الذي هو الآخر ليس تجسيد الإرهاب)، إلى العولمة المنتصرة في صراعها مع ذاتها. بهذا المعنى، يسعنا الحديث عن حرب عالمية، ليست هي الثالثة بل الرابعة والوحيدة التي تستحق فعلاً صفة العالمية". هذه الحرب "تلازم كل نظام عالمي، كلَّ سيطرة مهيمنة ــ ولو كان الإسلام يسيطر على العالم لوقف الإرهاب ضد الإسلام"! 
وحتى على صعيد مختلف في التحليل وكذلك في تحديد الأسباب الرئيسة فيه، يستبعد  هابرماس الدين بوصفه مصدراً للإرهاب حين يقول: "إذا كانت الأصولية الجهادية تلجأ في طرق تعبيرها إلى رمز ديني، فإنها ليست ديناً في شيء. إذ بوسعها اللجوء بدلاً عن اللغة الدينية التي تستخدمها إلى أية لغة دينية أخرى، بل إلى أية أيديولوجية تَعِدُ بعدالة الخلاص".
لكن استبعاد العامل الديني وبالتالي "الإسلام" في تحليل الإرهاب من قبل الفلاسفة الأوربيين لا يجد صدى له لدى فيلسوف أمريكي، مايكل وولزر، مؤلف كتاب الحروب العادلة والظالمة، الذي يرى على العكس منهم، أن سبب هذه "الحرب" التي يخوضها الإرهابيون ديني أساساً، (وبالتالي الإسلام بطبيعة الحال!)، ومن ثمَّ فإن من "الحماقة الأيديولوجية لوم الغرب على فظائع الحرب الدينية. (...) ففي كل بلد غزوناه كانت هناك قوى اجتماعية يسعها الانضمام إلى الديمقراطيين والليبراليين العلمانيين، وكان بوسعها النجاح لولا هذه العودة (غير المتوقعة) للدين".
الدين؟ ولكن، هل هي عودة للدين فعلاً ؟ أم أننا إزاء استخدام للدين سبباً وأداة؟ وهل هي حرب دينية فعلاً بين "السنة" و "الشيعة" تلك الجارية الآن والتي يُراد لنا أن نراها اليوم على أنها كذلك، أم هي حرب ظاهرها الدين وباطنها السياسة والاقتصاد والمطامح القومية؟ وفيما وراء الجماعات التي تمارس الإرهاب في أشكاله المختلفة، من هم الذين يوظفونها والذين يستخدمون ما تنجزه على هذا الصعيد في مواعيد وأماكن حافلة بالدلالات لكل من يحاول القراءة المتأنية؟
تحمل التطورات التي شهدها تصنيع "الإرهاب" منذ عام 2011، أي منذ انطلاق الحركات الثورية في العالم العربي، على طرح هذه الأسئلة الملحّة الأخيرة. قد تفتح إجابات جان بودريار ويورغن هابرماس إمكانات إجابات تتجاوز بكل تأكيد الصراخ الإعلامي في الغرب ومراميه، ولا تقل إلحاحاً عن الأسئلة التي تستدعيها..

** نشر على موقع جيرون الخميس 25 أيار/مايو 2017



jeudi 18 mai 2017


الإسلام بين التجديد والتلفيق!
بدرالدين عرودكي
  منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أي منذ ما جرى وصفه بعصر النهضة، حُرم الإسلام ديناً وثقافة وحضارة في عصرنا الحديث، من عقلانييه الذين أرادوا استعادته وتجديده بعد أربعة قرون من الكمون، مثلما حُرِمَ من ثمرات عملهم الدؤوب، وكذلك من إمكان استمرار هذا العمل على أيدي أبناء الأجيال التي جاءت بعدهم وتوالت منذ ذلك الحين. لكنه ابتلي أيضاً بكل ضرب من ضروب المزاودات البخسة أو الكسل العقلي أو الجهل الموصوف أو الغايات السياسية الآنية، سواء ممن زعموا المنافحة عنه وهم يدّعون العلم والمعرفة به، أو ممن ظنوا أنهم يستطيعون ببعض الحجج التلفيقية القفز لا على التاريخ فحسب، بل على الواقع المادي نفسه، الاجتماعي والثقافي، كما كان، وكما لا يزال، في عالمنا العربي، مقدمين إسلاماً على  مقاس جهلهم أو رطانتهم، يؤولون أحكامه ديناً ويلفقونه ثقافة ويشوهونه حضارة.  
وبما أن مفردة الإسلام تغطي عدداً من الدلالات في آن واحد: الدين، والثقافة، والحضارة، فقد برزت في هذا المجال، عنصراً أساساً، وإن لم يكن وحيداً، يمكن أن يميز بين هؤلاء وهؤلاء في كيفية استخدامهم مفهوم الإسلام في خطاباتهم. ففي الوقت الذي أحسن العقلانيون العرب في عصرنا التمييز في أبحاثهم بين هذه المفاهيم الثلاثة بسبب تباين مجالاتها وما يقتضيه كلٌّ منها من طرق في الفهم ومن مناهج في التحليل، كان خصومهم، سواء منهم العلماء أم الجهلة، كلاً على طريقته وحسب قدرته، يواجهونهم بمفهوم إسلام شامل وشمولي، ضاربين عرض الحائط لا بمختلف النصوص المؤسسة فحسب، بل بكل ما حفل به التاريخ القديم والحديث من وقائع عيانية، على صعيدي العمل والنظر، ولاسيما تلك التي لا تزال مخلفاتها أو عواقبها قائمة حتى اليوم.
لا تتمثل المشكلة التي تعنينا هنا في ممارسات الجهلة في هذا المجال خصوصاً. بل في بعض سلوك وعمل من هم علماء في واقع الحال، أو يُنظَرُ إليهم، خطأً أو صوابًا، بناء على هذه الصفة، أو ممن يعتبرون أنفسهم كذلك. فمن الملاحظ أنهم جميعاً، وهذا على اختلافهم في دقة الصفة، لا يتمايزون كثيرًا في الطريقة وفي الممارسة، ولاسيما وأنهم، وهم يعتمدون على النص أو النصوص المؤسسة، يستندون على الدوام إلى أقوال الفقهاء الذين توالوا على امتداد العصور الإسلامية حتى بدايات القرن الثاني عشر الميلادي أو القرن السادس الهجري.
إلا أنه لا بدَّ لكل من درس تاريخ الفقه الإسلامي في مختلف الأقطار الإسلامية أن لاحظ، وهو ينعم النظر في العصر وفي البيئة التي عاش فيهما الفقيه، أن هذا الأخير يستجيب لما يطرحه المكان والزمان، والبشر الذين يعيشون فيهما أيضاً، من أسئلة، ويحاول أن تكون إجاباته واجتهاداته لا نسخة طبق الأصل عن تلك التي قدمها أسلافه قبل قرن أو قرون، ولا إعادة كتابة لما كان مكتوبًا ومعروفًا من الخاصة والعامة، بل اجتهادًا جاء نتيجة المعرفة والخبرة المكتسبة عمومًا، وإعمال العقل تحليلًا وتفكيكًا بما لا يخرج عن روح النص العام إن وجد النص، أو بما يستقيم مع مبادئ العقل ومتطلباته. لم يخرج عن هذا المنهج العام معظم هؤلاء الذين كتبوا تاريخ الفقه باجتهاداتهم وبأبحاثهم. وعلى أنهم اختلفوا في ما بينهم في اجتهاداتهم حول هذه المسألة أو تلك، رغم اعتمادهم النص المؤسس قاعدة والعقل منهجاً، إلا أن هذا الاختلاف لم يكن نتيجة عناد أو سوء فهم من الطرفين، بل نتيجة الاستجابة للبيئة التي كان يعيش فيها كل منهما والتي لا تتطابق شروط الحياة والمعيشة فيها مع سواها في أماكن أخرى من عالم إسلامي مترامي الأطراف، خلال تلك الحقب التي شهدت ألق البحث والدراسة والاجتهاد والتفكير العقلاني الحر.
ليس هذا ديدن بعض من يتصدون اليوم للحديث في الإسلام دون أي اعتبار للمعايير اللغوية أو الدلالية، فضلاً عن الافتقار إلى أدنى مبادئ الثقافة التاريخية والاجتماعية. يكفي الاستماع إلى ما تبثه كل يوم مختلف الفضائيات أو القنوات المنتشرة كالنار في الهشيم في العالم العربي أو على الشبكات العنكبوتية، كي نسمع ضروباً من الرطانة والضحالة تتخذ من التقنية الحديثة أسبابًا لبث جهالتها دون أن تنتبه إلى التناقض المضحك في سلوكها.
لكن ثمة بعضٌ آخر لا يخرج عن المنطق التقليدي في قراءة النصوص وفي فهمها والذي ساد عصورًا، أي الوقوف عند حدود النصوص. مثال ذلك المقال الذي نشره السيد محمد حبش مؤخرًا في "جيرون"  تحت عنوان "المسكوت عنه في الإسلام"، والذي حاول فيه، مثلاً، لا الدعوة إلى قراءة جديدة أو مختلفة، بل إلى بيان الحرية التي منحتها النصوص المؤسسة للشارع اليوم من خلال "المسكوت" عنه والذي يظنه، كما يبدو، محاولة "للتجديد" في قراءتها.  
صحيح أنه مقال سريع يحاول فيه الكاتب تقديم تفسيره لهذا "المسكوت" عنه، إلا أنه جاء حافلًا بكل ما يؤخذ على ما يكتبه أو يذيعه من يتصدون للحديث في وعن الإسلام اليوم، بدءاً بالأخطاء ومرورًا بالمنهج وانتهاء بالمفاهيم. 
فلأنه مثلاً يريد تأريخ مفهوم "القياس" في الفقه الإسلامي، فإنه يبدأ بتقديم مثل عليه من القرآن. وهو ما يزعم أنه اكتشاف المسلمين، كما يكتب، أنَّ "شعبًا جديدًا لم يرد ذكره في القرآن ولا في السنة، وهو المجوس، وبعد جدل طويل بين الصحابة اختاروا موقفًا حكيمًا وهو القياس، حيث سنوا بهم سنة أهل الكتاب"! سوى أن القرآن، وهو ما يجهله كما يبدو الكاتب، ذكَرَ المجوس مرة واحدة في سورة الحج (الآية 22). إلا أنه يمضي في استنتاجه إلى أن المجوس، كما يقول، "ليسوا نهاية العالم"، وبالتالي فلا "يمكن أن يبنى قياس العالم كله والتاريخ كله على معايير الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي"!
مثل آخر يثير العجب. فالكاتب يقول إن السنة الصحيحة قد أخبرت " ــ بما يقطع الشك ــ أن الله أمر بأشياء فلا تتركوها، ونهى عن أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنها". يقفز الكاتب ببهلوانية عجيبة على معنى القول "فلا تسألوا عنها" لكي يقول إنه  لا يشارك من يقول إن سكوت الشريعة عن أمر ما نقص وضعف "بل هو كمال وحيوية"! وبذلك يتيح لنفسه أن يعدد لنا أن ما هو مسكوت عنه في القرآن والسنة جغرافيًا يمثل "95% من هذا العالم على أقل تقدير"، وأن ما ذكر من أخبار الأمم الأولى في القرآن لا يتعدى "ما كان منها بين آررات واليمن والنيل والفرات"، وأن ما يتعلق بالأمور المعيشية التي يسميها "مدني" لا يعدو خمسة بالمائة .. إلخ. وكل ذلك كي يبين لنا الكاتب، معتمداً على ما يسوقه من "نصوص"، أن "القياس" و"الاستحسان" هما "السبيل لمعرفة الأحكام والحكم على الأحداث  والشعوب والمستجدات"! كما لو أن أحداً من المعاصرين لم يعلم بعد أن "القياس" و"الاستحسان" مفهومان من مفاهيم الفقه الإسلامي منذ القرن الخامس للهجرة أو القرن الحادي عشر الميلادي! أليس من الطبيعي أن نتساءل عن القارئ الذي يتوجه الكاتب إليه؟ وكذلك عن الإضافة التي تفضل بتقديمها حول "المسكوت عنه" في القرآن والسنة والذي لا علاقة له من قريب أو بعيد بأية قراءة تسهم في الخلاص من مجمل الشعوذات والهرطقات التي تذاع وتكتب باسم الإسلام؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 18 أيار/مايو 2017.



vendredi 12 mai 2017


الرواية والشعر
بدرالدين عرودكي
إذا كانت الموسيقا بصورة أو بأخرى حاضرة في معظم الروايات الكبرى التي عرفها تاريخ الرواية الأوربية، وإذا كان قوام الشعر أساسًا، كالموسيقا، حركة وديمومة وإيقاعًا، ألا يمكن القول إن وراء كل روائي شاعر؟
ما الذي يعنيه ذلك في واقع الإبداع الروائي لدى أبناء الرواية الأوربيين كما وصفهم ميشيل سيوران؟  لابد أن كل من أتيحت له فرصة قراءة كبرى الروايات الأوربية منذ القرن التاسع عشر بلغتها الأصلية، قد لاحظ هذه العناية القصوى في استثمار الروائي إمكانات اللغة وقدراتها من أجل بناء أسلوبه. نعلم أن هذه العناية تفرض نفسها في الشعر الذي لا وجود له من دونها. إلا أن ثمة ما يتجاوز هذه الصلة، أي الترابط الذي نلحظه بين مختلف الفنون الأوربية في كل حقبة زمنية، والذي كان سمة طبعت المبدعات في كلٍّ منها. وبقدر ما يسعنا ملاحظة هذا الترابط في تاريخ الرواية الأوربية بين الرواية وفن العمارة، أو بين الرواية والموسيقا، فإننا سنلاحظه أيضًا بين الرواية والشعر بما أنهما، كلٌّ على طريقته، يجهدان في البحث عن جانب مجهول من الوجود.
ربما كان غوستاف فلوبير، من هذه الناحية، أول روائي استهدف بكتابته أن يتحمل مسؤولية أرفع متطلبات الشعر كما يقول كونديرا، أي "البحث قبل كل شيء عن الجمال": فلكل كلمة أهميتها"، ولكل جزء مهما صغر موقعه اللائق به. لذلك كانت سنة 1857 سنة استثنائية. فهي التي شهدت نشر رواية مدام بوفاري، مسجِّلة بذلك بداية "تاريخ الرواية وقد صارت شعرًا"، وهي التي شهدت، أيضاً، نشر  ديوان شارل بودلير الشهير: أزهار الشر، الذي يمثل "اكتشاف الشعر الغنائي ميدانه الخاص وجوهره" كما يقول كونديرا أيضاً. إذ هنا تتباعد الرواية لا عن الشعر، بل عن الشعر الغنائي في مفهومه العام، أي حين تُحْمَلُ الرواية على "التخلي  عن سخريتها الجوهرية، وإهمال العالم الخارجي، وتحويل الرواية إلى اعترافات شخصية، وإرهاقها بالزخارف". لذلك صار كبار الروائيين الذين صاروا شعراء في مبدعاتهم الروائية،
"معادون للغنائية بصورة عنيفة: فلوبير، جويس، كافكا، غومبروفيتش. أي الرواية بوصفها شعرًا معادٍ للغنائية".
سنخطئ لو ذهب بنا الظن إلى أن العلاقة بين الرواية والشعر تتمثل في استخدام الزخرفة الأسلوبية أو في تحقيق جمال الإيقاع، أو في الانسياب الغنائي للجُمَلِ، وهو ما يوحي بوجود ضرب من الموسيقا. ذلك أنها تتواجد على صعيد آخر يمسُّ قوام كل منهما: شكل القوْل والمعنى الذي يؤدي إليه بفعل هذا الشكل. ذلك أنه إذا كانت "الأفكار على قارعة الطريق" كما قال الجاحظ،، أي مشاعًا بين الناس جميعًا، فإنها لا تصير ملكًا خاصًا إلا من خلال الشكل أو الأسلوب الذي يعبر عنها بواسطته.
على أن الشكل أو الأسلوب ليس عملاً منجزاً، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، بفعل الموهبة أو اللاوعي لدى الشاعر أو الروائي. بل هو جهد مسلح ودؤوب: فهو مسلح بمعرفة لغوية واسعة ذات أطياف متعددة، وبثقافة شعرية أو روائية تراكمت بفعل الدراسة الهادفة لا القراءة العابرة. وهو دؤوب في السهر على تفاصيل بناء مُبْدَعه شأن سهر المعماري على بناء عمارته؛ فأي خلل في جزء منها يمكن أن يطيح بمجموع البناء.
  ولا أدلَّ على ذلك من تجارب الروائيين أنفسهم، ولاسيما ممن كتبوا حول هذه العلاقة. فحين بدأ الروائي الفرنسي ميشيل بوتور (1926 ـ 2016) كتابة أول رواية له بعد أن كتب العديد من قصائد الشعر، توقف كليًا وطوال سنوات عن كتابة الشعر لأنه أراد أن يختص الكتاب الذي يكتبه بكل ما لديه من قدرة شعرية. ويفسر انتقاله إلى كتابة الرواية: "إذا كنت قد توجهت إلى الرواية، فلأنني  كنت قد واجهت في هذا التعلم عددًا من المصاعب والتناقضات، وأنني خلال قراءتي  مختلف كبار الروائيين، كان لدي انطباع أن ثمة ههنا شحنة شعرية مذهلة، وأن الرواية، في أرقى أشكالها، يمكن أن تكون  وسيلة  لحل ولتجاوز هذه المصاعب، وأنها قادرة على تلقي تراث الشعر القديم".
كان ميشيل بوتور على وعي برفض العادات الفكرية الفرنسية لما يقول. ففي بلاد أخرى، كما يكتب، "تستخدم الكلمة ذاتها غالبًا لتسمية الشاعر والروائي؛ أما في فرنسا، فالتقاليد المدرسية الصارمة إلى أقصى مدى، تقسم الأدب إلى عدد من "الأجناس" المنفصلة تمامًا، يؤلف ضمنها الشعر والرواية الجنسين الأكثر تعارضًا في هذا المجال". لكن ذلك لم يقف حجر عثرة في تقصي النقد الأدبي لهذه العلاقة بين الجنسيْن الأدبييْن. ففي كتاب حديث لفلورنس أوليفييه، حمل عنوان تحت الرواية، الشعر، الذي خصصته لدراسة المُبدع الروائي للشاعر والروائي التشيلي روبيرتو بولانيو (1953 ـ 2003)، وخصوصاً روايتيه الهامتيْن: المباحث الوحشية و 2666، وهما الروايتان اللتان صنعتا شهرة الكاتب، بيَنت فيه كيف يستعير مبدع بولانيو التخييلي دروب الشعر السرية أو المجهولة، "بما أن الشعر وحده هو من  يتحمّل  غياب الجواب، ومخاطر وجمال السرّ". هنا أيضًا، نجد أنفسنا أمام روائي يعكس عمله هذا الوعي العميق بهذا الضرب من الانصهار بين الشعر والرواية.  يقول بالانيو في أحد أحاديثه: "أعتقد أن أفضل الشعر في هذا العصر هو ما كتب نثراً. هناك صفحات في رواية عوليس لجيمس جويس (1882 ـ 1941) أو مارسيل بروست (1871 ـ 1922) أو ويليام فوكنر (1897 ـ 1962) شدت حبل قوسها كما لم يفعل الشعر طوال كل هذا العصر، وننتبه فيها حقًا إلى أن الكاتب  قد سلك دربًا لم يسلكه أحدٌ من قبله".
كما لو كان هذا الشاعر الروائي يمثل في مُبدعه الروائي خصوصاً، بعد مائة وستين عاماً، صدى السنة الاستثنائية التي شهدت ميلاد أزهار الشر باكتشاف الشعر الغنائي ميدانه الخاص وجوهره، وميلاد مدام بوفاري، رواية الجمال الأدبي الأقصى، حين قال: كشاعر، ليس لدي أي شيء يمت بصلة إلى الغنائية. فأنا نثري ويوميّ كلياً ". لكنه أيضاً يشترك مع ميشيل بوتور في هذه الرؤية. إذ أن ضمير المتكلم في رواياته كما تقول فلورنس أوليفييه "يتلقى التعاليم، ويكتب، ويعلق، ويجعل من نفسه ناقلًا في هذا التعليم المشترك الخاص بالحياة الشعرية لأن الحياة والقراءة والكتابة أمرٌ واحد".
الجمال لا الزخرفة، والبحث عن الجوانب المجهولة في الوجود حتى في سرد أبسط الحوادث اليومية، لا مجرد رواية سيرة ذاتية، ولغة روائية لا لغة تقارير مكتبية وتقريبية.. تلك هي بعض العناصر الأساس التي تجعل من الرواية شعرًا، أو التي تؤسس قوام شعرية الرواية.
هنا، يمكن البدء في الانتقال إلى الرواية العربية وهي تجذر هذا الجنس في الأدب العربي المعاصر.

** نشر على موقع جيرون، الجمعة 12 أيار/مايو 2017



jeudi 4 mai 2017


تطبيع التَطرُّف! 
بدرالدين عرودكي 
لم يكن التطرف الذي مارسته مختلف النظم العربية الاستبدادية على شعوبها خلال العقود الخمسة الماضية، وفي مقدمتها النظام الأسدي، يُعرف باسم الإرهاب. سوى أنه كان، مع ذلك، يتجلى يوميًا، في ممارسة مختلف ضروب القمع في كل مجال، بحيث يمكن وصفه بالإرهاب. لكنه مورس بهدوء وبتصميم وراء جدران المراكز الأمنية والسجون المنعزلة، بسرّية كاملة وبعيداً عن العيون الفضولية على اختلافها. أما ذلك الذي مارسته الحركات الإسلاموية الجهادية منذ ثمانينيات القرن الماضي فسرعان ما نُظِرَ إليه بوصفه إرهابًا. وطوال عقود، غضَّت الديمقراطيات الغربية ــ خصوصًا ــ النظر عن إرهاب النظم، وصبَّت اهتمامها على محاربة إرهاب الجماعات الإسلاموية دون أن تنظر في أي ضرب من العلاقة السببية بين الإرهابيْن، أو في سواها من العلاقات التي كان ولا يزال من الممكن ملاحظتها على مختلف الصُّعد.  
ولقد شهدت السنوات الست الماضية ضروبًا من التكيف والتعايش، كانت معظم النظم الديمقراطية الغربية تمارسها وتبررها وتروِّج لها، مع نظم الاستبداد على اختلافها في عالمنا العربي. لا بل إن بعض قياديي بعضها استمروا في دعم هذه النظم حتى بعد انطلاق الحركات الثورية في العالم العربي كما حدث في تونس حين اختصرت ميشيل آليوت ـ ماري، وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك، المظاهرات التي بدأت تعمّ أرجاء تونس وتهدد نظام بن علي، في مشكلة "حِرَفِيَّةِ قوى الأمن" التونسية! ثمَّ امتد هذا التكيف إلى ما بعد الحراكات الثورية العربية حين استعيد في العلاقات مع نظم الثورة المضادة التي سرعان ما أعادت عقارب الساعة إلى الوراء بحلول نظمٍ ظاهرها ديمقراطي وباطنها سلطوي، أو نظمٍ عسكرية في ثياب مدنية، هذا فضلاً عن تواطؤ معظمها أيضاً، بصورة أو بأخرى، مع النظام الأسدي في حربه الشرسة والمدمرة من أجل المحافظة على بقائه.
على أن يد الإرهاب الداعشي أخذت في الضرب حيث تشاء في فضاء الديمقراطيات  الغربية، لكنها تركزت بوجه خاص في فرنسا التي حملت في أوربا لواء إدانة النظام الأسدي في حربه ضد السوريين. بدا كما لو كان الهدف المنشود مزدوجاً: حَمْل الحكومة الفرنسية على محاربة داعش كأولوية بدلاً من النظام الأسدي، ودعم اليمين المتطرف، الذي يدعم النظم الاستبدادية في العالم العربي، داخل الديمقراطيات الغربية، في محاولاته الوصول إلى السلطة. سوى أن هذا الأخير لم ينتظر بالطبع داعش ومن وراءها لترسيخ أقدامه في المشهد السياسي الأوربي. إذ أنه لم يتوقف، منذ ثمانينيات القرن الماضي، عن انتهاز كل فرصة تتيحها له هوامش النظم الديمقراطية للتقدم، ولاسيما في معارك التنافس على السلطة. هكذا شهدت حقبة فرنسوا ميتران في فرنسا، ومنذ بدايتها، تقدُّمَ اليمين المتطرف الممثل بالجبهة الوطنية. ففي الوقت الذي لم يكن يحقق فيه أكثر من 44ر0% من الأصوات في الانتخابات المختلفة التي جرت عام 1973 مثلاً ، أمكنه، خلال عشر سنوات، أن يتجاوز نسبة 10 % عام 1983، وأن يتمكن بعد عقدين من ذلك، أي في عام 2002، من الوصول للمرة الأولى إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية، وذلك رغم حملات "شيطنة" الجبهة الوطنية التي تمثله والتي كان اليسار واليمين التقليدي معاً يقومان بها من أجل تحجيمه. فكان الموقف الذي اتخذته آنئذ كافة القوى السياسية، يميناً ووسطاً ويساراً، للحيلولة دون انتخاب جان ماري لوبن عام 2002، والذي جعل جاك شيراك ينتخب بنسبة 80%  مقابل 20% لزعيم الجبهة الوطنية.
بيد أن اليمين المتطرف يعود، للمرة الثانية بعد خمسة عشر عامًا، بفاعلية أشد قوة من قبل، وبنسبة تصويت غير مسبوقة، ولا سيما في عدد المناطق التي كان يتقدم فيها على كافة المرشحين في الدورة الأولى، كي يبلغ بمرشحه للرئاسة الدورة الثانية.  
يختلف هذا الانتصار الذي حققه اليمين المتطرف عن سابقه عام 2002. إذ أنها المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا التي تفشل خلالها القوى السياسية التقليدية (حزبا اليمين واليسار الرئيسيان: حزب الجمهوريين ، والحزب الاشتراكي) من بلوغ أحد ممثليها الدورة الثانية.
ولا يخفى مردُّ هذا الاختلاف على أحد. فمنذ أن حلت ماري لوبين  مكان أبيها في رئاسة الجبهة الوطنية في بداية عام 2011، عملت لا على تغيير المشروع السياسي لحزبها، بل على تطبيع التطرف الذي وسم هذا الحزب طوال فترة رئاسة أبيها، سواء في تصريحاته الخاصة بالمحرقة النازية، أو ضد المهاجرين، أو قبل ذلك كله، في ماضيه الأسود في الجزائر قبل استقلالها. ولقد أمكنها في الحقيقة تحقيق ذلك كما تُبَيّنُ بوضوح المقارنة بين مواقف القوى السياسية في الانتخابات الرئاسية عام 2002 وموقفها في العام الحالي.  موقف لا يميز قوة سياسية عن أخرى بل يشمل القوى السياسية جميعاً وبلا استثناء: يميناً ووسطًا ويسارًا.
في عام 2002، رفض جاك شيراك المشاركة في مناظرة تلفزيونية يواجه خلالها منافسه، ممثل اليمين المتطرف، جان ماري لوبين. وكان بذلك على ثقة من وقوف كل من لم يصوِّت لهذا الأخير في الدورة الأولى وراءه. وما كان بوسع إيمانويل ماكرون إلا أن يقبلَ في عام 2017 مواجهة الوريثة، ماري لوبين، في مناظرة تلفزيونية مماثلة، بعد أن شاركت، في مناظرة مشهودة، مع المرشحين جميعاً قبل الدورة الأولى. يعكس هذا القبول نجاح منافسته في حمل مجموع القوى السياسية المتواجدة على الساحة على الاعتراف بحزبها ــ ولو ضمنًا ــ  بوصفه حزباً تقليدياً مقبولاً. هذا ما أدّى إليه التطبيع مع الفاشية الجديدة التي تقدم نفسها اليوم بلباس حريري. لم يتجلَّ ذلك في تشرذم القوى السياسية التقليدية فيما بينها، وفي خسارتها، للمرة الأولى منذ بداية الجمهورية الخامسة وطوال نصف قرن، إمكان تواجد ممثل لها في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة فحسب، بل في مشهد سياسي غير مسبوق أشهَرَ مواقفها المتناقضة، داخل كلٍّ منها وفيما بينها، إزاء كيفية مواجهة ممثلة الجبهة الوطنية، التي اجتازت الدورة الأولى بنجاح، خلال الدورة الثانية الحاسمة. إذ أن خصم ماري لوبين اليوم، بخلاف ما كان عليه الوضع عام 2002، حين واجه أبوها، جان ماري لوبين، جاك شيراك، ليس إلا شخصية طارئة على المشهد السياسي الفرنسي كله، يسارًا ووسطًا ويمينًا. هكذا، وبدلاً من أن تقف كافة القوى السياسية التقليدية صفاً واحداً في وجه ممثلة اليمين المتطرف، تشرذمت المواقف في اليمين عمومًا، واهتز ميزان الأحكام والتقديرات في مواقف اليسار المتطرف خصوصًا. وسوف يؤدي ذلك، أيًّا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الحالية، إلى تجذير اليمين المتطرف في الحياة السياسية الفرنسية، وربما إلى الدفع بسواه في البلدان الأوربية الأخرى، إلى التواجد في مقدمة المشهد السياسي الأوربي.
أبرز هذا المشهد السياسي غير المسبوق في فرنسا مجموعة من العناصر تبرر فرادته: فالاتفاق بين اليسار المتطرف واليمين المتطرف يكاد يفقأ العيون، لا في الشعبوية الرخيصة التي كان ممثل كل منهما يستخدمها أداة مثلى لدغدغة مشاعر الغضب أو الرفض أو الأسى لدى الطبقات الشعبية الفقيرة التي عانت ولا تزال تعاني من نتائج الليبرالية الجديدة والجامحة التي تبناها اليسار التقليدي فحسب، بل كذلك في مجموعة من المواقف في السياسة الخارجية (الخروج من أوربا، الخروج من حلف الأطلسي، والإعجاب بمواقف بوتين) فحسب، بل كذلك في السياسة الداخلية (التقاعد في سن الستين على سبيل المثال)، وهو ما جعل ماري لوبين تتوجه صراحة إلى ناخبي هذا اليسار كي يصوتوا لها، مثلما توجهت إلى ناخبي اليمين التقليدي كي يلتحقوا بها. ولم يكن تحالف أحد ممثلي هذا اليمين، نقولا دوبون إينيان، مع ماري لوبين، أيًا كانت الدوافع إليه، إلا تتويجًا لهذا التطبيع.
خلال نصف قرن مضى، لم تكتف حكومات الدول الأوربية بالتكيف أو بالتعايش مع نظم الاستبداد في العالم العربي، بل أسهمت في زرقها بكل ما يساعد على استمرارها، كما لو أنها لا تجد مصالحها إلا في هذا الاستمرار. جسَّدَ هذا الموقف سلوكُ معظمها إزاء ثورات الربيع العربي وقبولها ــ بل ودعمها الواقعي ــ للثورات المضادة التي لا تزال تعمل على محو آثار هذا الحراك الثوري في العالم العربي. كانت بذلك تعمل في آن واحد على تكريس تطبيع التطرف مع نظم التطرف، وعلى حمل الشعوب الرازحة تحت وطأة هذه الأخيرة على قبولها. وها هي  اليوم، وعلى الرغم من الأصوات المُحذِّرة التي ترتفع هنا وهناك، تكرس اليمين المتطرف في مشهدها السياسي صوتًا مقبولًا في جوقة يمين ويسار باتا يفتقران إلى القواعد الصلبة التي سمحت لهما بالنمو وبالازدهار وبالتناوب على السلطة في ديمقراطية تبدو، كما لو أنها في وضعها الحالي، هي الأخرى، باتت تثير الكثير من الشكوك..


** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 4  أيار/مايو 2017


mardi 2 mai 2017


السخرية وفن الرواية الأوربية 
بدرالدين عرودكي 
لم تعرف "السخرية"، لفظاً ومصطلحاً، سمعة حسنة على الدوام، لا في قديم الثقافة العربية ولا في حديثها! لا بل إن قواميس لغتها العريقة ثبَّتت هذه السمعة الملتبسة فيما بعد، لفظاً واصطلاحاً، باعتمادها المعنى السلبي المُضفى عليها في العديد من الآيات في القرآن: "ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون" (هود، 38)؛ "وإذا رأوا آية يستسخرون" (الصافات، 14). هذا على الرغم من أن السخرية يمكن أن تكون فعلاً إلهياً: "والذين لا يجدون الا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب اليم" (التوبة، 79). يرد في القرآن أيضاً الاستهزاء، أي ما يفيد إحدى دلالات السخرية: "ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون"(الأنعام، 10، الأنبياء 41). وعلى إثر كل هذا، سار الفقهاء واللغويون حين قاموا بتثبيت معنى اللفظين في القرآن فقهياً، كما هو قول ابن تيمية: "الاستهزاء هو السخرية؛ وهو حمل الأقوال والأفعال على الهزل واللعب لا على الجدِّ والحقيقة. فالذي يسخر بالناس هو الذي يذمُّ صفاتهم وأفعالهم ذمًّا يخرجها عن درجة الاعتبار".   
تهدف السخرية بطبيعة الحال، من بين ما تهدف إليه، إلى الضحك وهو، بالمعنى القرآني هنا، معادل للحياة في الوقت الذي يكون فيه البكاء معادلاً للموت، كما تبين الآية: "وأنه أضحك وأبكى، وأنه أمات وأحيا" (النجم، 43/44)؛ لكنها لا تقف عنده، ولاسيما حين تمسُّ الإنسان بما هو إنسان، أي في ماهيته الجسدية أو الوجودية، فتتجاوزه على هذا النحو إلى التحقير، أي إلى ما يجعل منه هجاء وتسفيهاً. ومن هنا كان النهي عنها، بهذا المعنى، في القرآن واضحاً وصريحاً: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن" (الحجرات، 49).  
تختلف السخرية في معناها الأول والأساس عن الدعابة أو الفكاهة أو المزاح أو العبث أو الظرف أو اللعب. لكن الكتاب والأدباء في الثقافة العربية الكلاسيكية عملوا على الاستحواذ على اللفظ كي يضفوا عليه بالتدريج معاني ودلالات بتحميله وظائف أخرى تتجاوز بها المعنى الأول، ولاسيما حين تجعله يتناول الأفعال أو الأقوال في السلوك خصوصاً. وكان أول هؤلاء قاطبة أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (150 هـ /767 م ــ  256 هـ/ 869 م) ولاسيما في كتابه الشهير البخلاء وكتابه الأقل شهرة التربيع والتدوير والذي يدور حول شخصية واحدة تحمل اسم محمد بن عبد الوهاب. وقد سار على نهجه ابن قتيبة (213 هـ/828 /276 هـ/889م) في كتابه عيون الأخبار، وأبو حيان التوحيدي (310 هـ/922م ــ 414هـ/1023م) في الإمتاع والمؤانسة، وابن الجوزي (508 هـ/1114م ــ 597 هـ/1201م) في كتابه الأذكياء، وسواهم من بعده، من دون أن ننسى كتاب ابن المقفع المؤسِّس (105 هـ/724م ــ 141 هـ/759م) كليلة ودمنة.
بفضل هؤلاء الرواد الأوائل، اغتنت السخرية بدلالاتها ووظائفها الجديدة، واستحالت، منذ القرن الثاني الهجري والقرن الثامن الميلادي، أداة فعالة في النقد الاجتماعي والسياسي، سيستخدمها ورثة هذا التقليد الذي بات راسخاً في الثقافة العربية من الكتاب المعاصرين الذين استعادوها، من طه حسين إلى عباس محمود العقاد مروراً بمصطفى صادق الرافعي وأحمد أمين وإبراهيم المازني وأحمد حسن الزيات.
لن تختلف الثقافة الأوربية في اعتمادها السخرية أداة نقد اجتماعي أو سياسي عن الثقافة العربية ولاسيما إذا ما نظرنا إلى جذورها الثقافية الإغريقية، أي منذ أن اعتبر أرسطو في كتابه فن الشعر أنَّ "الملهاة، على غرار المأساة، تطهر النفس". لكنها ستذهب إلى ما هو أبعد من ذلك  بكثير في تطهير النفس هذا عن طريق الضحك، من خلال السخرية، بوصفها أفضل وسيلة يمكن أن يعتمدها الكاتب كي يستفيد من الحرية التي تتيحها له. ذلك أن قوامها الأساس وضع مسافة بين ما يقال وبين ما يجب أن يفهم من القول، مما يجعل منها أداة مثلى لا لإثارة الضحك فحسب، بل لتوظيف هذا الضحك وصولاً إلى تحقيق أهداف فردية أو جماعية، تستهدف الدفاع عن حقوق مستلبة أو التنديد بسلطة غاشمة أو في عرض حماقات المجتمع أو العصر.
وحين صارت السخرية اعتباراً من القرن السادس عشر على يدي الكاتب الفرنسي فرنسوا رابليه (1494 ـ 1553) قوام الرواية الغربية التي كانت تخرج وليدة إلى العالم حينئذ، اكتسبت بذلك معاني ودلالات أخرى لم تكن معروفة من قبل. في روايته تحت عيني الغرب، يقول جوزيف كونراد (1857 ـ 1924) على لسان ثوري روسي: "تذكر يا رازوموف أن النساء والأطفال يكرهون السخرية، نفي كل الغرائز الكريمة، كل إيمان، كل إخلاص، كل فعل!". ليس ذلك بسب استخدامها التهكم أو الهجوم، بل لأنها، كما يقول ميلان كونديرا، "تحرمنا من اليقين إذ تكشف العالم بوصفه التباساً". لكن السخرية ليست، على كل حال، بالسهولة التي يظنها البعض. يكفي إنعام النظر في المُبدعات الروائية الجديرة بهذا الاسم حقاً كي نرى مع الكاتب والسياسي الإيطالي ليوناردو تشاشيا (Leonardo Sciascia) أنه "لا شيء أصعب على الفهم، ولا شيء أصعب على التحليل من السخرية".
ولكن ما الذي جعل من السخرية عنصراً جوهرياً مقوماً في بنية الرواية الأوربية الحديثة تحديداً؟ أو، أيضاً: كيف صارت السخرية مثل هذا العنصر المقوم فيها؟
ربما كان أجمل ــ وأدقُّ ــ تفسير يجيب عن السؤالين معاً، ما اقترحه ميلان كونديرا في صورة مجازية شديدة الدلالة. إذ يستوحي من المثل اليهودي القائل "الإنسان يفكر، والإله يضحك" فكرة ولادة أول رواية أوربية كبرى جاءت بوصفها صدىً لضحكِ الإله! يقول كونديرا: "ولكن، لِمَ يضحك الإله أثناء رؤيته الإنسان الذي يفكر؟ لأنَّ الإنسان يفكر والحقيقة تفلت منه. لأنّه بقدر ما يفكر البشر بقدر ما يبتعد فكر الواحد عن فكر الآخر. وأخيراً لأنَّ الإنسان لا يكون أبداً ما يفكر أنه كينونته."
هذه الحقيقة التي تفلت من الإنسان باستمرار، أي غياب اليقين المطلق الذي صنعه لنفسه ذلك الذي لم يسمع ضحكة الإله منه وهو يفكر، هي التي جعلت من الرواية فناً ممكناً ولد مع غروب عصر النهضة واستمر مع توالي العصور الحديثة. أما السخرية فقد كانت هنا التجسيد الوحيد أو الأمثل الذي يمكن أن يمثل إذ يؤكد هذا السعي الإنساني اللاهث وراء حقيقة سيَسِمُ البحث عنها، في النهاية، جهدَه ويمنحه معناه.  
لا تتجلى السخرية المعنيّة هنا كعنصر مقوم في الرواية، بالضرورة، من خلال التهكم أو الهجاء أو الاستهزاء، ولا يمكن، من ثمَّ، أن تُفهمَ بوصفها كذلك. إذ أنها تُرى، بالأحرى، في شبكة العلاقات التي تتواجد في الرواية، ومن خلال تعدد الأصوات، المتباينة أو المتناقضة، والتي تؤدي جميعها إلى اكتشاف يقين آخر، هو اليقين بغياب كل يقين روجت له من قبل ولا تزال تروج له الأيديولوجيات على اختلافها. ذلك أنها، في توسلها تجسيد المهزلة كي تصل بها إلى الكشف عن اللامعنى، قد اكتسبت هنا بعداً وجودياً صريحاً آخر لم يكن ملحوظاً فيها من قبل. وبالمقابل، لا يمكن للرواية التي تؤلف السخرية، بهذا المعنى، أحد عناصرها المقومة أو التي، إن شئنا، تشارك السخرية في جوهرها، أن تصنف أو ينظر إليها بوصفها مجرد رواية هزلية أو هجائية غايتها "تطهير النفس" بالفكاهة أو بالضحك.
سيبقى فن الرواية الأوربية، بمعزل عن صعوبته الملازمة له، عسيراً أو، في أفضل الأحوال، شديد الالتباس على الفهم، ما لم يؤخذ هذا التوصيف النقدي المحض ـ أي المجرد من أي حكم قيمة أياً كانت طبيعته ــ بعين الاعتبار في أية مقاربة لمُبدَع روائي جدير بهذا الاسم. يسري ذلك على روايات روّادها الأوائل، رابليه وسرفانتس، مثلما يسري أيضاً على روايات كبار ورثتهما من روائيي أوربا خلال القرون التالية، ولاسيما في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
يمكن لنا على سبيل المثال أن نرى مع ميلان كونديرا الذي قرأ بعيني روائي تاريخ الرواية الأوربية، ما إن نقرأ معه الجمل الأولى في رواية رابليه غارغانتويا وبانتاغرويل التي دشنت عصر الرواية الأوربية، حول انزلاق غارغانتويا، وكان لا يزال جنيناً في بطن أمه، في أحد عروقها كي يخرج من أذنها بدلاً من رحِمها، أننا سنكتشف كيف كشفت الرواية كشكل فني عن قطعها كلّ صلة بمناهج العلوم أو التاريخ أو الأساطير أو الواقع المعيش. ثمة انتقال من العالم الملموس، المباشر، إلى عالم آخر يبدو لنا تارة مبنياً من عناصر لا تمتُّ بأية صلة إلى الأول، وتارة أخرى مستخدماً عناصر وأدوات تكاد تكون انعكاساً له، لكنه يبقى، في الحالتين، مستقلاً تمام الاستقلال بمعاييره وبقيمه وبقوانينه، ولا يمكن أن يقرأ أو أن يُفهم إلا ضمن هذا الإطار.
وفي سياق هذه الرواية الافتتاحية التي دشنت تاريخ الرواية إلى بداية منتصف القرن العشرين، نشر كونديرا نفسه أولى رواياته المزحة. لكن كونديرا لم يسلك فيها طريق المعلم رابليه بقدر ما سار على هديه. فعلى عبارة كتبت على بطاقة بريدية يمزح بها لودوفيك، بطل الرواية، مع صديقته: "التفاؤل أفيون الجنس البشري. والعقل السليم ينفث الحماقة. يعيش تروتسكي!"، يبني عالم روايته من عناصر تبدو للوهلة الأولى مقتطفة من يوميات الواقع الحي في تشيكوسلوفاكيا عند منعطف النصف الثاني من القرن الماضي في ظل الحكم الشيوعي، لكنها تتكشف عبر معمارها رواية الكوميديا الإنسانية، ورهانات الحب والصدفة، والآلام، والأفعال التي لا يمكن الرجوع عنها، وعدم فهم الكائنات البشرية، والتي تؤدي جميعها إلى خيبات أمل قاسية.  ذلك أن هذه الرواية التي لم تُقرَأ عند صدورها، سواء في بلد الكاتب الأصلي أو في فرنسا، البلد الذي هاجر إليه عام 1975، إلا بوصفها رواية سياسية لمجرد وجود مفردات وعناصر الواقع السياسي التشيكوسلوفاكي. ولم ينتبه كثير من النقاد، التشيكيون منهم والغربيون، إلى أن هذه الأخيرة لم تكن إلا عناصر معمار أعيد توظيفها في بناء عالم مختلف، يهيمن فيه أجلاف سبق لرابليه أن شكا من شراستهم ضده، هم الذين لا يعرفون الضحك وينبذون الفكاهة والمزاح، عالم رواية تتكشف فيه عبر سخرية مريرة وقاسية هشاشة المصائر الإنسانية في الحياة الفردية والجماعية.
مع بداية القرن العشرين، كانت هناك أيضاً روايات فرنز كافكا (1883 ـ 1924)، التي جسّدت في جوهر معمارها مفهوم فن الرواية الأوربية بامتياز، وتمكنت ــ وهو أمر ندر أن عرفه تاريخ الآداب ــ من أن تصير مصدر مفهوم خاص بها بات يعرف اليوم تحت مُسَمَّى: الكافكاوية.
ستقود قراءة روايات كافكا اليوم، مثلما قادت في حياة كاتبها ثم بعد وفاته، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الحكم الشيوعي، إلى اعتماد هذا الوصف للعالم الذي تقدمه في مظاهره المختلفة. بحيث صارت توصف به أوضاعٌ مختلفة في الحياة اليومية أو في قصص واقعية يعيشها بشر حقيقيون. ذلك ما جعل ميلان كونديرا يكتب: "ثمة مراحل في التاريخ تشبه فيها الحياة روايات كافكا!". وهو ما يحمل هنا على سرد ما يمكن وصفه بامتياز "حكاية كافكاوية"، رغم أنها ليست في الأصل حكاية تخييلية بل حكاية حقيقية، ورغم أن كاتبها ليس كافكا بل جوزيف سكفورسكي، أحد أصدقاء ميلان كونديرا، الذي رواها نقلاً عنه في الفصل الخامس من كتابه فن الرواية الذي يحمل عنوان في مكان ما،هناك:
"دُعِيَ مهندس من مدينة براغ للاشتراك في ندوة علمية تعقد في لندن. وقد ذهب وشارك في الجلسات ثمَّ عاد إلى براج. وبعد ساعات من عودته، تناول في مكتبه صحيفة رود برافو ـ وهي صحيفة الحزب الرسمية ـ وقرأ فيها: قرر مهندس تشيكي ـ كان قد نُدِبَ للمشاركة في ندوة لندن ـ بعد أن أطلق تصريحاً أمام الصحافة الغربية شتم فيه وطنه الاشتراكي، أن يبقى في الغرب.
ليست الهجرة غير المشروعة التي يرافقها مثل هذا التصريح أمراً تافهاً. إذ أنها تعني عشرين سنة في السجن. لم يكن بوسع مهندسنا أن يصدق عينيه. وحين دخلت سكرتيرته مكتبه، ذهلت لدى رؤيتها له قائلة: يا إلهي، كيف عدت! غير معقول؛ ألم تقرأ ما كتب عنك؟
رأى المهندس الخوف في عينيْ سكرتيرته. ماذا يسعه أن يفعل؟ هرع إلى إدارة تحرير رود برافو. وهناك عثر على المحرّر المسؤول عن نشر الخبر. وقد اعتذر له هذا الأخير فعلاً، إذ المسألة مزعجة حقاً، لكنه، هو المحرّر، لا دخل له في الموضوع. فقد تلقى نصّ الخبر مباشرة من وزارة الشؤون الداخلية.
ذهب المهندس إلى الوزارة إذن. وهناك قيل له: نعم، صحيح. إنه ولا شك خطأ قد وقع. لكنهم، في الوزارة، لا دخل لهم في الأمر. فقد تلقوا التقرير عن المهندس من إدارة الاستعلامات في السفارة بلندن. طلب المهندس نشر تكذيب للخبر، فقيل له: التكذيب غير ممكن. لكنهم أكدوا له أنه لن يتعرض لشيء، وأنّ بوسعه الاطمئنان.
لكن المهندس لم يطمئن. إذ سرعان ما انتبه، على العكس، إلى أنه يخضع لرقابة صارمة، وإلى أن محادثاته الهاتفية قيد التسجيل، وإلى أنه ملاحق في الشوارع. لم يعد يسعه النوم، ثم صار نومه حافلاً بالكوابيس إلى أن جاء يوم لم يعد يحتمل فيه هذا الضغط؛ فغامر، معرضاً نفسه لأشدِّ المخاطر، كي ما يترك البلد بطريقة غير مشروعة. لقد صار بذلك مهاجراً فعلاً."
وعلى أن هذه القصة تبدو أشبه بحكاية مضحكة أو بمزحة ثقيلة، إلا أنه لا شيء في ظاهر سردها ما يشي بأي ضرب من السخرية المباشرة. غير أن من الممكن ببساطة أن نستخلص السخرية السوداء القاسية من تماسك وتفاعل عناصر هذه الحكاية التي لن تضحِكَ على الأغلب أحداً حين تقرأ على جمع من الناس، مثلما كان أصدقاء كافكا يضحكون عندما كان يقرأ عليهم فصولاً من رواياته. ذلك لأنها ليست تخييلاً، بل واقعاً يمكن تشبيهه بالتخييل، وفي المجال المعنيِّ هنا، التخييل الكافكاوي حصراً. ذلك ما رآه كونديرا في هذه القصة التي حملته بعد سردها إلى تفصيل بعض مظاهر الكافكاوية التي تقدمها والتي تنطوي عليها بامتياز هذه المرة روايات كافكا المختلفة، ومنها روايتا القصر أو القضية.
لن يتسع المجال للاستشهاد، في ما وراء هذه الأمثلة الثلاثة، بأمثلة لا تحصى من الروايات التي صمدت حتى يومنا هذا في مواجهة امتحان الأزمنة المتعاقبة منذ قرون أربعة. على أنه لا بد من الانتباه إلى أن معظم ما تلفظه مطابع أوربا كل يوم على أنها روايات لا يمكن اعتبارها إلا روايات خارج تاريخ الرواية كما يقول كونديرا: "اعترافات روائية، تحقيقات روائية، تصفية حسابات روائية، سير ذاتية روائية، تشهيرات روائية، دروس سياسية روائية، احتضار الزوج روائياً، احتضار الأب روائياً، احتضار الأم روائياً، ولادات روائية، روايات إلى ما لانهاية، حتى نهاية الزمن، لا تقول شيئاً جديداً، ولا تملك أيَّ طموح جمالي، ولا تحمل أيّ تغيير لا لفهمنا للإنسان ولا إلى الشكل الروائي، تشبه الواحدة منها الأخرى، تستهلك صباحاً وتُرمى تماماً في المساء.". ذلك أن المبدعات الكبرى لا يمكن "أن تولد (...) إلا في تاريخ فنها وفي مشاركتها في هذا التاريخ. ولا يمكننا إلا داخل التاريخ أن ندرك ما هو جديد وما هو مكرَّر، ما هو اكتشاف وما هو تقليد، وبعبارة أخرى، لا يمكن لمبدع أن يوجد بوصفه قيمة يسعنا تمييزها وتقويمها إلا داخل التاريخ." هذا التاريخ بدأ على وجه التحديد مع رابليه وسرفانتس.
لم يكن الكاتب إميل ميشيل سيوران (1911 ـ 1995) مخطئاً في هذا المجال حين سمى المجتمع الأوربي "مجتمع الرواية"، وتكلم عن الأوربيين بوصفهم "أبناء الرواية".

** نشر في مجلة روافد، الإمارات العربية المتحدة، ملف العدد  237، أيار/مايو 2017.