jeudi 30 mars 2017


بحثاً عن العرب..
بدرالدين عرودكي 
في مقال سابق نشر قبل نيف وسنة، تساءلتُ: لو لم يصرح وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي عن قرار بلده عدم استضافة قمة عربية كانت جامعة الدول العربية تعمل على تنظيمها في شهر نيسان 2016 بالعاصمة المغربية نظراً لأن "الظروف الموضوعية لا تتوفر لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب العربية"، أكان المواطنون العرب على علم بمثل هذه القمة وبأغراضها؟ 
من الممكن اليوم، والقمة قد انعقدت أمس هذه المرة في الأردن وعلى ضفاف البحر الميت (يا لرنين الاسم!)، التساؤل بالحسرة ذاتها: ما الذي تغير خلال سنة حتى أمكن عقد القمة؟ ومَنْ الذي اهتمّ بها فعلاً مِنَ المواطنين العرب، أو كان يتلهف لانعقادها ومعرفة نتائجها؟ بل وربما كان من الممكن أيضاً أن نتساءل هل شارك القادة العرب بهذه القمة وبسابقاتها بالحماس  الذي كانوا، هم أو أسلافهم، يشاركون بها قبل أكثر من أربعين عاماً؟ 
ذات يوم، وهو يقول ما يعنيه حين تحدث عن قمة عربية كان موعدها في أواخر آذار 2006، قال أحد الزعماء العرب لضيفه الفرنسي: " الرئيس الفرنسي كما تعلم، صديقي، وكنتُ أريدُ زيارته. لكن موعد الزيارة يصادف عشية انعقاد القمة العربية بالخرطوم. ومع ذلك عزمتُ على لقاء الرئيس بباريس حتى ولو تأخرتُ عن القمة!" وانفجر ضاحكا وهو ينهي جملته: "لا شك أنكَ تعلم.. قرارات القمم العربية تكرر نفسها منذ سنوات وسنوات، لذلك لم تكن هناك أية أهمية لتأخري أو حتى لغيابي!". لم يضحك الضيف الفرنسي. ظنَّ الزعيم العربي أن الترجمة كانت غير دقيقة، فأعاد المترجم صوغ الترجمة من جديد. لكن الضيف الفرنسي، مع ذلك، لم يضحك. أدركَ المضيف آنئذ لباقة ضيفه وحسَّه المرهف. إذ كيف يسعه أن يسمح لنفسه المشاركة بالضحك في حضرة زعيم يسخر من قمةٍ هو شريك كامل الشراكة فيها؟
لا تقول هذه النادرة، وبإيجاز بليغ، كيف استحالت القمم العربية موضع سخرية. سخرية لا تصدر عمن يشارك بها فحسب، بل كذلك عمن ينتظر عبثاً نتائجها. لا بل تقول فضلاً عن ذلك أيضاً، وبقسوة لا تقل بلاغة، واقعًا بتنا اليوم نشهد عواقبه ونعيشها.  
صحيح أن هذه الحادثة تعود إلى أكثر من عشر سنوات خلت. لكنها كانت ممكنة الحدوث  طوال نيف وأربعين عاماً أيضاً، أي منذ أدّى توقيع اتفاقية كامب دافيد في أيلول 1978 إلى خروج مصر على ما كان يسمى الإجماع العربي، وكانت أولى وأهمّ آثاره انتزاع قدرة أكبر بلد عربي على الزعامة والمبادرة والتأثير، في الدائرة العربية و في الدائرة الإقليمية سواء بسواء. بذلك، انطوى الزمن الذي كانت قمم الجامعة العربية تمثل ما يمكن أن يدخل في باب "أضعف الإيمان" على صعيد العمل والتأثير العربيين، والذي كان فيه زعيم مصر مسموع الكلمة يدعو علناً ــ حتى إثر خروجه من هزيمة خطيرة ــ  إلى اجتماع قمة يهرع إليه الجميع بما فيهم الخصوم من دون أدنى تردد أو اعتراض.
كما لو أن غياب مصر المعلن عن الساحة العربية والإقليمية كان فاتحة غياب عربي سيتجسَّد فراغاً عربياً وإقليمياً سرعان ما تعمل على ملئه إيران بعد انقلاب الخميني على ثورة الشعب الإيراني ضد الشاه اعتباراً من عام 1979، ودعوتها إلى تصدير الثورة نحو بلدان المنطقة من حولها. لم يكن من قبيل الصدفة أن تنشب الحرب بين العراق وإيران قبل مرور سنتيْن على الانقلاب الخميني، ثم، بعد انتهائها بعراق منهك مادياً وبشرياً، أن تُهَيَّأ له الأسباب للدخول في مغامرة أخرى، ستؤدي به، بعد سنوات، إلى أن يكون مسرحاً لمطامح إيران القومية، التي اتخذت مع الخميني وآيات الله على اختلافهم من الإسلام أيديولوجية صالحة لتحقيقها، ومن طائفة من العرب في المشرق العربي جنوداً، يمكن أن تستخدم معظمهم سخرة في "حروبها" المقدسة الخفية من أجل حلم إمبراطوري فات الشاه، من قبلُ، أن يخوضها بلا قداسة، رغم كل الجهود التي بذلها سعياً وراء تحقيقه.
هكذا استطاعت إيران، من دون أية مقاومة تذكر من العرب، وعلى كل المستويات الرسمية، أن تستخدم ما أسماه العرب قضيتهم الأولى، القضية الفلسطينية على مختلف الصُّعد: الإعلامية والخطابية، من دون أن تطلق رصاصة واحدة. وكان وكيلها الحصري الذي أنشأته في لبنان خلال حربه الأهلية، وبتواطؤ علني مع النظام الأسدي في عهد الأب، يقوم بما لا تستطيع إيران الدولة أن تقوم به: أي البرهنة المادية على مضمون خطاب إعلامها، مُجَسَّداً في الصدام مع إسرائيل على الأرض اللبنانية. لم تكن الشعوب العربية من خُدِعت بذلك وحدها، بل كذلك أهم رموزها في تلك الفترة، وعلى رأسهم ياسر عرفات، الذي اعتبر تحت وطأة آثار كامب دافيد، واستقرار سفارة فلسطين بطهران في مبنى سفارة إسرائيل سابقاً، أنه امتلك مع الثورة الإيرانية أهم عمق استراتيجي يمكن أن تحلم به الثورة الفلسطينية!
وبدعم من النظام الأسدي خصوصاً، وبفضل صمت العرب عموماً، استحوذ حزب الله، ذراع إيران في المنطقة العربية، باسمها ولصالحها، على اهتمام الجماهير في كل مكان من الأرض العربية بوصفه قوة "المقاومة" و "التحرير"؛ وكان الإخراج الإعلامي لذلك كله كامل الأوصاف دقيق التقنية.
لا بدَّ هنا من التذكير بتزامن واقعيْن لا تزال آثارهما تفعل فعلها في قلب العالم العربي: نكوص الجامعة العربية عن القيام بأدنى أدوارها في سورية بعد أن أثبتت عجزها من ناحية، ومن ناحية أخرى، ظهور وجه إيران في بشاعته الحقيقية مع ثورات الشباب العربي اعتباراً من عام 2011، حين هبت لدعم الحركات الثورية في تونس وليبيا ومصر، ثم ما لبثت أن نددت بثورة سورية بوصفها مؤامرة "استعمارية"، كي تنخرط بشراسة غير مسبوقة مباشرة، عبر حرسها الثوري ومرتزقتها غير الإيرانيين الذين جندتهم لهذا الغرض، وبفضل ذراعها اللبناني، في خوض حرب صريحة مع الثوار السوريين دفاعًا عن النظام الأسدي. ذلك أن نظام ولاية الفقيه كان يدرك أن هذه الثورة بالذات كانت قمينة، بانتصارها على أعتى نظام استبدادي عرفه العالم العربي، أن تضع حدًا لمطامحه.  
لم يكن نكوص الجامعة العربية عن القيام بأدوارها إلا تعبيراً عن عجز النظام العربي في وضعه الحالي عن لعب أي دور يولي المصلحة العربية على الصعيد الإقليمي الأولوية على ما عداها. وليس النظام العربي بمجمله إلا تجسيداً لأنظمة لم تفلح الثورات العربية عليها بعدُ في استبدالها. ولابدّ من الاعتراف بأن ما قاله وزير الخارجية المغربي عن القمة الماضية التي لم تعقد، لا يزال صالحاً اليوم وغداً، ما دامت الأنظمة العربية تحاول بكل الوسائل شرعنة الاستبداد والفساد اللذين باتا علامتها المسجلة.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 30 آذار 2017.





حول واقع الترجمة العربية



بدرالدين عرودكي 
ما يترجم إلى اللغة العربية اليوم  يستجيب، في أغلب الأحوال، إلى ما يظنه الناشر مدراراً على الصعيد التجاري بسبب شهرة الكاتب، أو رواج موضوع الكتب، وفي أقلها، إلى ما يراه بعض المترجمين ضرورياً للترجمة لإغناء هذا الجانب أوذاك من المكتبة العربية في تفاعلها مع الثقافات الأخرى. في الحالة الأولى، نرى طغيان العامل التجاري، وغياب أية سياسة ذات برنامج واضح في نشر الكتب المترجمة. وهذا ما يسهم بفعالية منقطعة النظير في وضع الترجمة البائس في عالمنا العربي اليوم.وفي الحالة الثانية، نرى بعض الجهود الفردية التي يبقى أثرها محدوداً على الصعيد العام لأنها، هي الأخرى، لا تستجيب لاهتمام المترجم إلا إذا التقى مع اهتمام الناشر التجاري.
من المؤسف أن المؤسسات العامة الكبرى التي يفترض بها أن تأخذ على عاتقها ترشيد الترجمة والتخطيط لها في عدد من الدول العربية تكاد هي الأخرى تسلك هذا الطريق. لن نجد لدى أيّ منها خطة مدروسة تستجيب لحاجات الثقافة العربية اليوم إلى ترجمة أمهات الكتب في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والتي باتت مراجع لا غنى عنها في مجالاتها، كما يغيب كلياً كلّ تنسيق فيما بين هذه المؤسسات الوطنية الكبرى على الصعيد العربي. مؤسسة عربية وحيدة حاولت وضع خطة طموحة في هذا المجال، إلا أنه سرعان ما أطيح بمديرها وطويت على إثر ذلك هذه الخطة نهائياً.
 واقع الحال يتجلى في غياب سياسة خاصة بالترجمة وخططها، والافتقار إلى التنسيق العام بصددها، لا بين مختلف دور النشر في البلد العربي الواحد فحسب بل في مجمل بلدان العالم العربي (حتى أن بوسعنا  أن نتساءل: ما الذي تفعله اتحادات الناشرين الوطنية وما الذي  يفعله إذن اتحاد الناشرين العرب الذي يضمها جميعاً؟).
لكن غياب التنسيق والتعاون يتجلى أيضاً على صعيد اللغة والمفاهيم التي يستقل باعتمادها كل بلد عربي حسب اجتهادات المختصين فيه دون أن يجمعهم أي جامع مع زملائهم في البلدان العربية الأخرى. لا تزال الجهود مبعثرة على صعيد مجامع اللغة العربية التي تبدو وكأنها تعمل في السر، بعيداً عن الأضواء، في حين أن ما تنجزه يحتاج إلى النشر على أوسع نطاق. يؤدي هذا الوضع كما هو متوقع إلى ضروب من الفوضى في استخدام المفاهيم وفي دلالاتها على صعيد الترجمة وكذلك على صعيد الكتابة والتأليف.
أما الحديث عن المترجمين أنفسهم فهو حديث ذو شجون كثيرة في مجال عددهم (كثرة قليلة!) وفي مجال حقوقهم (المهدورة غالباً بالمقارنة مع زملائهم في الدول غير العربية ولا سيما الغربية منها)..  
من الواضح أنه من دون وضع سياسة عربية ذات خطة واضحة في مجال الترجمة تعتمدها المؤسسات المدنية كاتحاد الناشرين العرب وأعضائه، مثلما تعتمدها المؤسسات الرسمية المختصة، وتتعاون فيها مؤسسات اللغة العربية ومجامعها، سيبقى وضع الترجمة على حاله، وسيتمدد.


** نشر على موقع "ضفة ثالثة" في إطار تحقيق حول واقع الترجمة العربية، يوم  الخميس 30 نيسان 2017.

vendredi 24 mars 2017



الحرّية المُستعادة في فضائها الجديد 
بدرالدين عرودكي
عرف التاريخ محاولات فرض الرقابة منذ أقدم العصور. وكانت الإمبراطورية الرومانية هي مَنْ أنشأ وظيفة "الرقيب" عند منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. لكن هذه الوظيفة كانت تستهدف الأخلاق سلوكاً وامتثالاً كما تراها سلطة الحاكم في ذلك الحين. فهي التي أدت في القرن الرابع قبل الميلاد إلى الحكم على سقراط بالموت، بتهمة تحريضه الشباب على الفساد. كما أنها هي التي حملت ــ كما يقال ــ يوريبيدس، الكاتب التراجيدي، على الدفاع عن حرية التعبير في العصر نفسه.
على أن الأديان التوحيدية اعتمدت منذ بداياتها مفهوم الرقابة كي تستخدمه أولاً من أجل تحريم كل كلام أو سلوك يتناول إله البشر؛ فقد جاء في التوراة، أنه إذا شتم الرجل إلهه، عليه أن يحمل وزن أو وزر خطيئته.
على أن ابتكار المطبعة في النصف الأول من القرن الخامس عشر، ثم انتشارها وتعميم استخدامها في العالم، كان في الواقع حدثًا فاصلًا في تاريخ الأمم التي أمكن لها على التوالي اعتمادها أداة حاسمة في نقل المعارف والمعلومات. ولا شك أنها حملت منذ البداية أصحاب السلطة المطلقة ــ باسم إله متعالٍ، أو باسم كنيسة تمثله عبر كهنتها، أو باسم سلطة القوة والهيمنة التي كان يجسدها الأباطرة أو الملوك بمعزل عن الكنيسة ــ على التفكير بمختلف الوسائل التي يحدّون فيها من آثار هذا الحَدَث على سلطاتهم. ذلك ما أدى بالتدريج إلى إعادة تعريف وتقنين مفهوم الرقابة التي سرعان ما صارت، منذئذ، مؤسسة قائمة بذاتها، وعابرة للأنظمة وللأزمنة وللقوميات.
هكذا، توالت قرارت ومراسيم الرقابة اعتباراً من النصف الأول من القرن السادس عشر، بدءاً بهنري الثامن، ملك إنكلترا ورئيس كنيستها، عام 1534، الذي أخضع طباعة أي كتاب لموافقة مسبقة يمنحها مستشاره الخاص، ثمَّ إليزابيت الأولى التي أخضعت عرض أي مسرحية لموافقة رقيب خاص، مروراً بملوك فرنسا وآخرهم، قبل الثورة الفرنسية، لويس السادس عشر، الذي أخضع الكتب والصحف لقراءة وموافقة مسبقة قبل نشرها يقوم بها يومياً مائة وستون قارئاً محترفاً تحت طائلة المصادرة، كما صودرت كتب جان جاك روسو والأب رينال، أو السجن، كما حدث لفولتير عام 1717، ثم بـ"إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الذي أعلنته الثورة الفرنسية في 26 آب/أغسطس1789، والذي نصَّ خصوصاً في المادة العاشرة: "لا يجوز التعرض لأحد بسبب ما يبديه من الآراء حتى الدينية منها، شريطة  أن لا يخل التعبير عنها بالنظام العام المحدد بالقانون"، وفي المادة الحادية عشر أن "حرية نشر الأفكار والآراء حق من أثمن حقوق الإنسان. فكل مواطن يستطيع أن يتكلم ويكتب وينشر بحرية،  على أن يتحمل مسؤولية تجاوز هذه الحرية في الحالات التي نصَّ القانون عليها."، وانتهاء بنابليون بونابرت الذي انتهك صراحة إعلان الثورة الفرنسية حين قام بتأسيس وتقنين الرقابة الحديثة عام 1810، والتي كانت تستهدف ــ بوجه خاص ــ ما يكتب في الصحف وما يُنشرُ فيها من رسوم.
ستنتهي الرقابة على هذا النحو في الدول الغربية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حين صدر قانون حرية الصحافة عام 1881 الذي عهد بأمر رقابة المعلومات بعد نشرها إلى القضاء وحده. لكن النظم الاستبدادية في المشرق العربي، ولاسيما العسكرية منها، تلقفت مفهوم الرقابة النابليوني هذا وطورته توسيعاً وتقنيناً وتطبيقاً وخصوصًا خارج حدود القضاء أو القانون. وكان أكثر هذه النظم خبثاً ونفاقاً النظام الأسدي، الذي أعلن على لسان رئيسه منذ عام 1970، أن "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير"، كي يكتشف السوريون بسرعة أن هذا "الضمير" كان يتجسد في مختلف الفروع الأمنية المركزية الستة عشر المنتشرة فروعها في طول البلاد وعرضها.
وإذا كان على العربي عموماً، تحت وطأة نظام بلده الاستبدادي، وعلى السوري خصوصاً، وهو يعيش طوال  أكثر من أربعين عامًا، مهدَّدًا بقمع وبإرهاب النظام الأسدي، ألا يقرأ أو يعلم إلا ما يريد النظام له أن يقرأ أو يعلم، فقد أمكن لهما، بفضل التطور التقني في مجال الرقميات، أن يكسرا هذه الرقابة شيئاً فشيئاً، وعلى قدْر تقدُّمِ ناشري الصحف ودور نشر الكتب، في اعتماد الشبكات العنكبوتية، من أجل بث وإيصال صحفهم ومنشوراتهم إلى أرجاء العالم كلها بلا استثناء. لا شكَّ أن أنظمة بعض البلدان تواصل السير على هدي الرقابة التقليدية، بإغلاقها على مواطنيها خط الوصول إلى هذه الصحيفة أو تلك. لكن طرق الالتفاف التي باتت تحت تصرف المواطن، أيِّ مواطن، باتت، في تعددها وفعاليتها، قادرة على كسر محاولات الرقابة الرسمية التي فقدت القدرة ــ أخيراً ــ على الهيمنة المطلقة.
لن تحتاج الصحيفة ولا الكتاب أيضاً، من الآن فصاعداً، إلى البريد، ولا إلى الجمارك، كي يصلا إلى القارئ. ولن تستطيع النظم الوقوف في وجه ذلك ما لم تغلِق الشبكات العنكبوتية كلها، أو تتخلى عن الكهرباء في بلادها. تلك هي الصفعة الكبرى التي تلقتها هذه النظم التي تحاول بكل الوسائل الاستمرار في الحياة بأي ثمن.  
في هذا الجوّ من الحرية المستعادة بفضل الثورة الرقمية الجديدة (على كلِّ ما يمكن أن يوجّه إلى مثالبها وعيوبها من نقد)، لم تعد حرية الاجتماع والكلام وتبادل الآراء خاضعة لهذا المكتب الأمني أو ذاك، وفي كل بقعة، أيضاً، من بقاع العالم. صار بالوسع اليوم، بفضل العديد من التطبيقات ذات الإمكانات المختلفة، استعادة عمل ووظائف المنتديات الثقافية على اختلاف مشاربها وتطلعاتها مع فارق لا يستهان به، وهو أن جمهورها لن يكون محصوراً بالعشرات أو بالمئات، بل سيتجاوزه إلى الآلاف، فضلاً عن بقاء مضمون هذا النشاط، محاضرة أو حواراً أو ندوة، متاحاً للجميع مجاناً في كل مكان وزمان.
تلك، على سبيل المثال، تجربة المقهى الثقافي، التي مضى عليها اليوم أكثر من ثلاثة أشهر، والتي كنتُ أستعيد بها تجربة المقهى الأدبي التي قمتُ بها  بين عامي 1997 و2012 في معهد العالم العربي بباريس. فخلال ما يزيد عن ستمائة حلقة أسبوعية كل يوم أربعاء، بلغ عدد المشاركين في تلك الحلقات ما لا يقل عن ثلاثين ألف شخص، أي بمعدل خمسين شخصاً في كل حلقة. في حين بلغ عدد متابعي الحلقات العشر الأولى التي نظمت في إطار المقهى الثقافي الجديد نيفاً وثمانية آلاف وخمسمائة شخص، أي بمعدل 850 شخصاً في كل حلقة وسطياً.
لكن، فيما وراء الأرقام التي لا يمكن بالطبع إهمال دلالاتها، هناك ما هو أهم أيضاً: تلك الحرية المُستعادة ضمن فضاء لا يسكنه سواها بعد أن جُرِّدَت من كل شيء: أي من كل ضروب التبعيات، سياسية كانت أم مالية أم إدارية.
ولا حرية في المجال الثقافي، بكل تأكيد، دون الخلاص من تبعيات باتت الثورة الرقمية تتيح تحقيقه على كل حال.

** نشر على موقع جيرون، الجمعة 24 آذار 2017


jeudi 16 mars 2017



الذكرى والتذكر 
في مستهل السنة السابعة من الثورة 
بدرالدين عرودكي
باستثناء قلة قليلة ممن كانوا قبل ست سنوات يتابعون الشأن السوري عن كثب بقدر كبير من البصيرة، كان الجميع يستبعدون أن ينتقل الحراك الثوري العربي الذي دشنه بوعزيزي في تونس إلى سورية مثلما انتقل إلى مصر وليبيا. ومع ذلك انفجرت الثورة في سورية، وكانت المفاجأة صاعقة. وأراد من يملك حق الردّ أن يكون ردّه أيضاً صاعقاً، وعلى غير العادة، فورياً. إذ رأى في السرعة "الوقت المناسب" الذي كثيراً ما كان يفضل تحديده من أجل الرد على الأعداء، لاسيما وأن هؤلاء كانوا شعباً بأكمله، خرج يهز عرش نيف وأربعين عاماً من حكم "أسرة" أراد مؤسسها أن يسير على هدي الملوك السابقين والمعاصرين.
ونظرة إلى ما حدث في السنوات الست الماضية، توضح لكل من لم يعشها أن مفاجأة الرد، هذه المرة، كانت متسقة مع التوقعات على صعيد اختيار الحل الأمني، إلا أن ما تجاوزها، وبمسافات كثيرة، كان صمود النظام على أصعدة أخرى ما كان لأحد أن يتنبأ بها أو يتوقعها عملياً، لكنها كشفت في الحقيقة ــ ولا تزال تكشف ــ أحد أهم أسباب ديمومة هذا النظام طوال ما يقارب نصف القرن، وبرضى ما يسمى "المجتمع الدولي".  
عندما انفجرت الثورة في آذار 2011 واستمرت خلال الأشهر التي تلته، لم يكن هناك أي أمير شيشاني أو تونسي أو أفغاني يقود مظاهرات السوريين شبه اليومية في معظم المدن السورية. ومع ذلك كتبت صحفية لبنانية عن "قندهار" في سورية، وأفتى شاعر ومثقف بـ"لا ثورية" الثورة ما دام المتظاهرون يخرجون من الجوامع! لكن قوات الأمن باللباس المدني كانت تطلق الرصاص على المتظاهرين من جهة وتعتقل منهم كلَّ من كانت تظنه من المحرضين عليها. ثم تطور الأمر بالتدريج، من رصاص البنادق إلى قصف المدافع إلى اجتياح الدبابات ومن بعد إلى الطائرات والبراميل. لم يكن القمع هو الهدف الوحيد، بل البرهنة على أن النظام ــ الذي أعلن على لسان رئيسه وإعلامه أنه هدف "مؤامرة كبرى"، بل و"مؤامرة كونية" تشارك فيها القوى الإقليمية والدولية التي تناهض سياسته في "الممانعة" وفي "المقاومة".
إلى جانب هذا الرد الأمني والعسكري المباشر، كانت هناك حرب أخرى يخوضها النظام على صعيدين: حربي بواسطة جماعات أخرى هيأ إنشاءها، وسهل عملها حين أفرج عن كل الجهاديين الذين كانوا عملاءه في العراق لدى الغزو الأمريكي، متيحاً لهم تشكيل مختلف القوى التي تؤكد عنوان وصفة الحرب التي يخوضها على الصعيد الآخر وفي كل مكان من العالم: الصعيد الإعلامي: أي الحرب ضد الإرهاب، تاركاً للآخرين، في الغرب خصوصاً، توصيفه إسلامياً.
كانت نتائج هاتيْن الحربيْن الموازيتيْن متعددة: إذ أن العالم لم يهتم بالتدفق التدريجي لعشرات الآلاف من المقاتلين، الذين جندتهم إيران من أفغانستان والعراق بوجه خاص، للقتال تحت إمرة حرسها الثوري، ولا بهرع وكيلها العسكري اللبناني، حزب الله، الذي جاء برجاله لحماية مقدسات لم يمسّها أحد بسوء خلال نيف وأربعمائة عام من خطر مجهول الشخصية والهوية، ونشرهم، باسم تحرير فلسطين، في أرجاء سورية بين دمشق وحلب وعلى طول الحدود اللبنانية السورية. بل اهتم بنُسَخِ القاعدة في سورية، جبهة النصرة أولاً ثم داعش خصوصًا. هكذا، تحقق للنظام ما أراد، حين صمتت الصحافة الغربية عن هذه الحشود التي جاءت لإنقاذ الأسد ولم يكن لديها ما تقوله إلا حول ما يخصّ الإرهاب الإسلامي.
 ولسوف تتلقى بعض الدول الغربية شظايا مما يجري في سورية: ثلاث ضربات موجعة في فرنسا خصوصاً، بما أنها الوحيدة، من بين الدول الأوربية كافة، التي كانت تعلن رفضها للنظام الأسدي علناً. وهنا أيضاً  لن تجد فرنسا بداً من أن تعلن للمرة الأولى أن الأولوية لديها لم تعد إسقاط النظام الأسدي بل القضاء على الإرهاب ممثلاً في داعش.
لكن إرهاب داعش وجبهة النصرة الذي ينفذانه داخل سورية كان يجري استثماره في الغرب على قدم وساق من قبل النظام الأسدي الذي وظف حشداً من الوكالات الإعلامية واللوبيات اليمينية المتطرفة في المجتمعات الأوربية لهذا الغرض تحديداً. وهكذا، بقدر ما كان إرهاب داعش ينصبُّ حممًا على الثائرين السوريين بوجه خاص، بقدر ما كان يُقدَّم إلى الغرب في إخراج هوليودي في صورة ممارسات منوعة لطقوس العنف أمام الكاميرا (من قطع الرؤوس إلى عرضها على الملأ في الشوارع، إلى رمي الجثث في هوة لا قرار لها، إلى حرق الناس أحياء..)، وباعتناء شديد في تحديد زوايا التصوير وفي اختيار الملابس والألوان. تلك فترة آتت أكلها حين نجح النظام في حمل الصحافة في الدول الغربية على وضع داعش وممارساتها مقابل ممارسات العنف التي يقوم بها النظام الأسدي، كي تأتي المقارنة بل والموازنة لصالح هذا الأخير مادامت وسائل القتل حديثة بالمقارنة من تلك المستخدمة من داعش، والأقرب إلى ممارسات العصور الوسطى. على أن ذروة الخبث في الاستثمار كانت تتجلى أخيراً لا في تجاهل الصحافة الغربية المقارنة بين عدد ضحايا النظام الأسدي وضحايا داعش فحسب، بل في تركيزها على  آثار إرهاب داعش الذي وصل إلى مدن فرنسا، في حين تبقى المجازر الأسدية اليومية محصورة ضمن الداخل السوري ولا تمسّ سواهم.
لم يقتصر استثمار النظام الأسدي للإرهاب الداعشي في الخارج من أجل إرغام الدول الداعية إلى إسقاط الأسد على النكوص والكف عن المطالبة بإسقاطه، والاهتمام بما يمسّها مباشرة، بل عمل أيضًا على إرغام السوريين على المقارنة بينه وبين سواه من مختلف الجماعات المقاتلة على الأرض التي أتاح لها فرص الوجود والنشاط والحركة، لاسيما وأنها لم ترفع راية الثورة ولم تعتمد شعاراتها رغم زعمها قتال النظام الأسدي.
كانت ممارسات هذه الجماعات في مختلف المناطق السورية تعيد إنتاج ممارسات النظام الأسدي بطريقة تبدو كما لو أنها تستهدف حمل الناس على تفضيل أهون الشرين. وقد تمثل ذلك في سجونها ومحاكمها ومختلف هيئاتها المنسوخة بواسطة آلة مهترئة عن تلك التي  قامت قبل ألف وأربعمائة سنة وكانت حينذاك مُجَدِّدَة. لم يكن السوريون بحاجة إلى إدراك الخبث وراء تسهيل استقرار هذه الجماعات في مناطق سورية عديدة بوصفها "سلطات الأمر الواقع". فلا هي مع الثورة وشعاراتها، ولا هي ضد النظام الأسدي بالمعنى الذي خرج السوريون من أجله قبل ست سنوات، ولا يمكن وسمها بالإسلامية، وإن زعمت هذا الانتماء من شدة جهلها بالإسلام ومفاهيمه، قديمها وحديثها. ويكفي مراقبة سلوكها اليومي، هي الأخرى، لنرى كيف أنها تعيد إنتاج آليات النظام الأٍسدي وسلوكه بغباء منقطع النظير.
خاض النظام الأسدي هذه الحروب متعددة الجبهات ضد الشعب السوري وثورته، معتمداً على ومستفيداً من خبرة نصف قرن في السياسة التي احتكر ممارستها، وكذلك في المناورة والاختراقات الأمنية في كل الميادين، تدعمه إيران بوصفها قوة إقليمية لا يستهان بها ولا يجهل أحد مطامحها، مثلما تدعمه، سياسياً وعسكريًا، روسيا بوصفها قوة دولية تغطي أمام المنابر الدولية جرائمه وتزوده على الأرض بالسلاح والعتاد ثم تأتي للحيلولة دون سقوطه بطائراتها وجنودها وحفظًا لمصالحها.
لكن ما يؤسف له حقاً بعد هذه السنوات الست من الثورة السورية أن الردود في السياسة وفي المناورة كما في المواجهة التي قدمتها الهيئات والكيانات التي تصدت على التوالي لتمثيل ثورة الشعب السوري لم تكن على مستوى التحدي. بل وربما كانت في ضعفها وفي تشرذمها وفي ارتباك سياساتها وخططها عاملاً مساعداً لكي يتمكن النظام الأسدي من تمديد أمد معركة المواجهة مع السوريين الثائرين وكسب رهانه في اعتماد الغرب أولوية الحرب على داعش قبل الحديث عن إسقاطه.
لا يمكن نسيان هذه الحقائق عند مستهل العام السابع من الثورة. عام إضافي في مسيرتهم المأساوية للتخلص من أعتى نظام عرفته سورية في تاريخها القديم والحديث، وللتحرر من الاستعمارين الجديدين معاً: الإيراني والروسي.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 16 آذار 2017.




mercredi 8 mars 2017


بانتظار يوم المرأة السورية العالمي 
بدرالدين عرودكي
في عام 1949 وخلال العهد القصير الذي عاشه أول انقلاب عسكري في سورية بعد الاستقلال، جرى فرض اعتماد وسنُّ قانون مدني لسورية، كان مترجماً عن القانون المدني الفرنسي، خلال أحد اجتماعات مجلس الوزراء المنعقد برئاسة قائد الانقلاب، حسني الزعيم، وذلك كي يحلّ محل مجلة الأحكام العدلية، العثمانية الأصل، والتي كانت بمثابة قانون مدني، صيغت موادها انطلاقاً من أحكام الشريعة الإسلامية وفق المذهب الحنفي خصوصاً.  وعلى الرغم مما تضمنه القانون المدني المترجم من مواد لا يمكن الاستفادة منها أو تفعيلها في المجتمعات العربية، إلا أن القوانين الأخرى، الجزائية أو التجارية أو الخاصة بأصول المحاكمات، والتي توالت مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي لاستكمال مجموعة قوانين ضرورية لسير العدالة، جاءت منسجمة لا في صياغتها المستوحاة من القوانين الأوربية الحديثة في مجالها فحسب، بل مع روح العدالة في ثوبها الأكثر انسجاماً مع مفهوم الدولة الحديثة التي كان السوريون يحاولون بناءها.
وحده قانون الأحوال الشخصية خرج عن هذا المفهوم، لا من حيث مصادر الأحكام التي اعتمدها في مواده فحسب، بل كذلك في تثبيت أوضاع تقليدية كانت سارية طوال الفترة العثمانية من تاريخ سورية ولم يطرأ عليها أي تغيير خلال فترة الانتداب. هكذا بقيت إدارة أحوال السوريين الشخصية وكأن شيئاً لم يتغير في عالمهم، سواء قبل القانون الذي تم اعتماده في عام 1953، أو بعد ذلك الذي اعتمد في عام 2009،  والذي لم يتضمن أي تغيير جذري في الأساس بالمقارنة مع القانون السابق عليه.
تم إنجاز هذا الوضع القانوني الغريب في سورية في ظل الحكومات التي جاءت بها الانقلابات العسكرية المتوالية بين عامي 1949 و1954. ولم يشذ عنها الحكم العسكري الذي بدأ فعلياً عام 1963، وتم تثبيته في عام 1970 بانقلاب آخر تحت اسم "الحركة التصحيحية". فقد سار على النهج نفسه الذي شقت طريقه العقلية العسكرية التي استطاعت، منذ البداية، أن توحي بدولة ظاهرها حديث كما يتجلى في القانون المدني وقانون العقوبات وأصول المحاكمات، في حين أن عمودها الفقري، الاجتماعي والسياسي، يتجلى في قانون الأحوال الشخصية (في صيغته الصادرة عام 1953 وفي صيغته الجديدة الصادرة عام 2009) الذي أبقى، القديم على قِدَمِه في جوهر مفاهيمه: فالقواعد المستمدة من "الشريعة الإسلامية"، أي من الأحكام الفقهية المستنبطة من القرآن والسنة كما عرفها العالم الإسلامي في القرن الثامن الميلادي، تطبق على المسلمين، في حين تطبق على الطوائف المسيحية واليهودية ما لدى كل طائفة منها من الأحكام التشريعية الدينية الخاصة بها.
لا يخفى، في الحقيقة، معنى غياب أي تجديد في النظرة إلى مكانة المرأة في المجتمع السوري الحديث ضمن القانون الناظم للأحوال الشخصية في سورية، سواء في إطار وجودها ودورها في الخلية الاجتماعية الأولى، الأسرة، أو عبر الاعتراف بمساواتها للرجل في إطار الحقوق المدنية والحريات في مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية. ومن هنا، بعد أن صدرت عن منظمة الأمم المتحدة في نهاية عام 1979 اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وبعد فتح باب التوقيع عليها أمام الدول الأعضاء اعتباراً من أول آذار 1980، لم يكن غريباً والحالة هذه ألا يبادر النظام الأسدي في سورية إلى المصادقة عليها إلا بعد مضيِّ ربع قرن على اعتمادها، أي في 28 آذار 2003. كما لم يكن غريباً كذلك ألا تأتي هذه المصادقة كاملة، وأن تكون شكلية لذر الرماد في العيون، وعرجاء في واقع الأمر، حين رافقتها تحفظات تكاد تلغي معانيها الجوهرية، وتنسف بعض أهم الغايات المتوخاة تحقيقها من التوقيع عليها وعبر الالتزام بتنفيذ موادها.  
وهي تحفظات تناولت مواد أساسية في الاتفاقية، كالمادة الثانية بكامل فقراتها مثلاً، والتي تنصُّ على ما يكاد يؤسس جوهر وغاية الاتفاقية معاً، والتي تقرر أن: "تشجب الدول الأطراف جميع أشكال التمييز ضد المرأة وتوافق على أن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ودون إبطاء، سياسة القضاء على التمييز ضد المرأة.." وهو ما يقتضي من الدول الموقعة أن تتعهد بـ:
أ ـ "تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى" ب ـ "اتخاذ المناسب من التدابير التشريعية وغيرها بما في ذلك ما يقتضيه الأمر من جزاءات لحظر كل تمييز ضد المرأة؛ ج ـ إقرار الحماية القانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم الوطنية ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى، من أي عمل تمييزي؛ د ـ الامتناع عن الاضطلاع بأي عمل أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام؛ هـ ـ اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة؛ و ـ اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريع، لتعديل أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات القائمة التي تشكل تمييزاً ضد المرأة؛ ز ـ إلغاء جميع أحكام قوانين العقوبات الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة."                    
لكن التحفظات تمسُّ أيضاً حقوقاً أخرى، مثل حق المرأة المساوي لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالها (الفقرة 2 من الماد 9)، أو أن يكون للمرأة وللرجل نفس الحقوق فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم (الفقرة 4 من المادة 15)، وكذلك الفقرة الأولى من المادة 16 الخاصة بالحقوق المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية ولاسيما منها الفقرات (ج) التي تنصُّ على منح الحقوق والمسؤوليات نفسها أثناء الزواج وعند فسخه، والفقرة (د) الخاصة بحقوق المرأة والرجل بوصفهما أبوين بغض النظر عن حالتهما الزوجية، في الأمور المتعلقة بأطفالهما على أن يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول، والفقرة (و) الخاصة بالمساواة في الحقوق والمسؤوليات، والمتعلقة بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، أو ما شابه ذلك من الأعراف، حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني، وفي جميع الأحوال يكون أيضاً لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول. كما مسَّت التحفظات الفقرة الثانية من هذه المادة (16) والخاصة بألا "يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني"، وأن "تتخذ جميع الإجراءات الضرورية بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمرا إلزامياً."
تناول هذا التحفظ أخيرا الفقرة الأولى من المادة 29 والتي تنص على أن "يعرض للتحكيم أي خلاف بين دولتين أو أكثر من الدول الأطراف حول تفسير أو تطبيق هذه الاتفاقية ولا يسوى عن طريق المفاوضات، وذلك بناء على طلب واحدة من هذه الدول. فإذا لم يتمكن الأطراف، خلال ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الوصول إلى اتفاق على تنظيم أمر التحكيم، جاز لأي من أولئك الأطراف إحالة النزاع إلى محكمة العدل الدولية بطلب يقدم وفقا للنظام الأساسي للمحكمة."
باستثناء هذا التحفظ الأخير، واضح أن التحفظات الأخرى ذات علاقة مباشرة بكل ما يؤسس قانوناً في سورية لوضع المرأة في الأسرة وفي المجتمع على صعيد المساواة بينها وبين الرجل في الحقوق وفي المسؤولية، وعلى كافة الأصعدة، والتي لا تتعلق بقانون الأحوال المدنية على أهميته، فحسب ، بل تتعلق بالدستور وبكافة القوانين الأخرى التي يفترض بها تفعيل المبادئ الدستورية على أرض الواقع. ذلك ما تلافت السلطة الأسدية خلال خمسين عامًا أن تقترب منه رغم مزاعمها المختلفة حول علمانية الدولة، واكتفت في الصيغة الجديدة لهذا القانون التي صدرت في نهاية عام 2009 ببعض التعديلات الشكلية التي لا تغير شيئاً في الجوهر.
هذا جانب من الواقع السياسي والاجتماعي الذي فرضه النظام الأسدي على السوريين والذي أتاحت ثورتهم الكشف عنه والتنديد به: يداري المنافقين من كهنة الإسلام المعاصرين ويُسَوَّق لنفسه لدى الغربيين بوصفه كبير دعاة العلمانية في العالم العربي!
لن يعني، والحالة هذه، الاحتفال بيوم المرأة العالمي شيئاً للمرأة السورية مادامت التحفظات الموضوعة باسم سورية على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة قائمة، أي ما لم تقم السلطة السورية القادمة، والتي يفترض أن تتحمل أعباء إعادة بناء الدولة السورية الحديثة،  بإعادة النظر فيها ورفع تحفظاتها والالتزام بتنفيذ موادها من دون أي تحفظ.
عندها سيصير يوم المرأة العالمي هو يوم المرأة السورية بامتياز.

** نشر على موقع جيرون يوم الأربعاء 8 آذار/مارس 2017



jeudi 2 mars 2017




"عين الشرق"
إشكالية التقنية والخطاب
بدرالدين عرودكي
راوَدَ دمشقَ عن نفسها كلُّ من عرفها عبر التاريخ من الأنبياء والشعراء والكتاب والرحالة. لم يصمد أحدٌ أمام نداء سحرها الغامض وهو يداري أمره قِبَلَها. يحاول أحدهم بفصاحة العبارة أو إيقاعها أن يقول هيمنته عليها، ثم سرعان ما يكتشف قارئه أو سامعه أن الأمر لا يتجاوز بهلوانية أدبية تخطف الوعي كما يخطف لاعب السيرك البصر. ويحاول الآخر أن يعثر على مدخل إليها..هي، مدينة الأنهر السبعة؛ فما إن يبدأ محاولته، حتى ينتقل إلى مدينة أخرى، لا يترك وراءه غير صفحات تنبئ عن أنها لا تزال أقرب إلى المحاولة منها إلى الكتابة الناجزة.. أما الآخر، وقد أفلتت المدينة كلها من كيانه، فلا يجد مخرجاً إلا بوصمها بالنقائض، يجمعها في ما يظنه نبضاً شعرياً يخفي، تحت ظاهر جماله، حقداً تاريخياً وطائفياً يكسر الشعر ويشوه الجمال. لكن أحداً ــ على ما أعلم ــ لم يستجب بعدُ إلى هذا السحر ويجسِّده في رواية تكون هي الشخصية المرجع والأساس.
محاولات استجابة، مع ذلك، عديدة إذن، وقلما كانت ناجعة؛ إلا أنه لابد، كما يبدو، لكل سوري اتخذ من صياغة الحروف أداته في الوجود أن يستسلم لإغراء هذا النداء أحياناً أو لضرورته القصوى أحياناً أخرى.
هكذا، تبدو "رواية" عين الشرق للكاتب إبراهيم الجبين كما لو أنها تستجيب لهذه الأخيرة: الضرورة القصوى، بدءاً بالعنوان الذي يعنيها، بما هو الوصف الذي حباها به إمبراطور روماني فصار واحداً من أسمائها. لكنها، وهي تستسلم لهذه المراودة، سرعان ما أوجدت لنفسها بدءاً من هذا العنوان تحديداً، مخرجاً من شِركٍ، ما كان لها أن تخرج منه سالمة، لو لم تجعل من المدينة بهذا الاسم تعبيراً عن معظم الخارطة السورية، ومن هذه الأخيرة عنواناً للشرق. هكذا، لم تعد دمشق، المدينة/المكان، هي الشخصية الأساس في الرواية (كما أمكن أن تكون مدينة كالإسكندرية شخصية رئيسة في رواية لورنس داريل الرباعية الإسكندرانية على سبيل المثال لا الحصر)، هي المعنية بقدر ما هي سورية كلها، أما الزمن فهو زمن الذاكرة، يمكن الانتقال فيه بين قرن وآخر أو بين عقد من السنوات وآخر أو، حتى، بين ليلة أو لحظة وأخرى، من دون إخلال في سردٍ لم يعتمده مساراً له، ما دامت المأساة السورية هي فكرته وموضوعه وهاجسه وبنيته التكوينية الأساس.   
ليس وضع كلمة "رواية" بين قوسين تمهيداً لرفع هذه الصفة عن هذا الكتاب بقدر ما هو، خلافاً للعادة، محاولة تسترعي انتباه القارئ إلى أن الكتاب رواية، وأنه يجب أن يُقرأ على هذا الأساس، رغم كل ما ينطوي عليه، وهو يتكشف للقارئ صفحة بعد أخرى، من كسرٍ لكل معايير الكتابة الروائية، التقليدية أو غير التقليدية، فارضاً في الوقت نفسه طريقة وإيقاعاً وتصميماً قد يؤدي إلى استدعاء أدوات وطرق فنون أخرى للمقارنة بها، لكنها تبقى هنا، وفي هذا العمل الأدبي تحديداً، نتاجاً أوحت به أو بالأحرى فرضته هنا طبيعة الغرض.
 سيكون من العسير، بل ومن التعسف أيضاً، والحالة هذه، الحديث عن التقنية الروائية المستخدمة هنا بمعزل عن خطاب الرواية جملة أو تفصيلاً، أو تناول هذا الأخير بعيداً عن التقنية المستخدمة لأدائه.   
في دزينة من الفصول وحوالي ثلاثمائة وتسعين قطعة يتراوح طولها مابين سطر إلى ستين سطراً، يرسم الراوي لوحة المأساة السورية، جذورها ومكوناتها وحاضرها، كما تتجلى في عمق الزمان وفي اتساع المكان من خلال ما يشبه القصص القصيرة أو الحكايات أو الأخبار. كما لو أن المأساة السورية تستدعي بفعل مكوناتها شكلاً آخر في الرواية تبتكره هذه التشظية التي نراها في عين الشرق. تشظية تتضح وظيفتها منذ البداية. إذ ليست الرواية سرداً يتابع مسار بطل أو مجموعة أبطال ضمن بيئة محددة، يعرض عناصرها ويصف الشروط الاجتماعية والسياسية التي يتحركون في ظلها، بل هي سرد، يبدو كما لو كان عفو الخاطر ــ في حين أنه ليس كذلك بالطبع ــ، لكل ما يمكن أن يؤلف في نهاية التحليل العناصر المقومة للحياة السورية طوال خمسين عاماً: بعضها شائع المعرفة، وبعضها الآخر حبيس الوثائق أو ذاكرة البعض ممن كانوا شهوداً أو فاعلين. لكن السرد كله وليد ذاكرة شخص واحد هو الراوي.
وإذا كانت الشخصيات الأخرى التي تملأ عالم روايته تحمل أسماء حقيقية أو مستعارة، وتشير بالتالي إلى أشخاص حقيقيين يعيشون في الواقع بما فيهم الراوي ــ وهو شخصية الرواية الأساس ــ الذي لا يحاول التغطية على هويته أو على هويات سواه، فهي، وإن كانت تستثير انتباه من يعرفها، إلا أنها سرعان ما تعود في نظره إلى دورها الأساس كشخصيات في رواية كما سينظر إليها قارئ لا يعرف أحداً منها في الحياة الواقعية. هذا بالنسبة إلى القارئ السوري. ولكن، هل سيكون الأمر نفسه بالنسبة إلى القارئ العربي، وكذلك بالنسبة إلى القارئ الأجنبي حين يقرأ هذه الرواية بلغته؟ تلك مسألة أخرى ولا شك، يمكن لها أن تعيد طرح صلاحية هذا التفصيل في تقنية هذا الشكل الروائي الذي يبدو للقارئ السوري مبتكراً وربما سيبدو للقارئ العربي والأجنبي لغزاً!
سوى أنَّ اللغز لن يقتصر، كما يبدو، على هذا الجانب من التقنية الروائية المعتمدة. هناك أيضاً مسألة الصوت الواحد الذي يقود إلى تساؤل آخر عن النسبية الغائبة في مجال هذا العالم الروائي وعن الحرية المتاحة للقارئ، والغائبة هي الأخرى أيضاً، أمام خطاب أو خطابات الرواية التي يقرأها.
تلك حرية أساس ألَّفت وتؤلف على الدوام أحد أهمِّ مقومات الرواية بالمعنى الدقيق للكلمة. ذلك أن ما يمكن أن يميز عملاً تخييلياً كالرواية عن أي مقال تحليل سياسي أو مقال رأي يعبر عن موقف كاتبه، هو، على وجه الدقة، هذه الحرية التي يمنحها العالم الروائي في شكله وفي خطابه عبر ما يعرف بالأصوات المتعددة ضمن عالم واحد، تتيح للقارئ التقدير والتقويم والموازانة.  
في هذا إنما تتجسَّدُ الإشكالية التي تكتنف "رواية" عين الشرق، بمعنى ما، أي في غياب هذه الحرية التي لا يمكن أن تتجلى إلا في تعدد الأصوات، أو في تناقضها، أو في تعدد مستويات التخييل الروائي. إذ تبدو الرواية في مثل هذه الحالة، وبالتالي في الرواية التي نحن بصددها، وكأنها مقالة صحفية اختارت الشكل الروائي أداة من دون الالتزام بقواعده المقومة الأولى، لاسيما وأن اللغة التي كتبت بها هذه الرواية بقيت ــ وليس ذلك عيباً في حد ذاته دون أي شك ــ لغة الصحافة اليومية في صياغة الخبر الصحفي أو حتى مقال الرأي السائد في أيامنا هذه.
ستبقى دمشق بهذا المعنى عصية على الرواية والروائيين إلى أن ..
ويبدو أنه لا بد من الانتظار..       


** نشر على موقع ضفة ثالثة، الخميس 2 آذار/مارس 2017.