jeudi 18 août 2016


الثورة السورية:

مشكلة العلاقة بين السياسي والعسكري

بدرالدين عرودكي

أحد الأسئلة التي يطرحها وضع الثورة السورية اليوم، وربما كان أهمها، السؤال المتعلق بطبيعة العلاقة القائمة بين مختلف التنظيمات السياسية التي تصدت لتمثيل الثورة، من الائتلاف إلى هيئة التنسيق وسواها وصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات من ناحية، والفصائل العسكرية العاملة على الأرض في مختلف المناطق السورية ، والتي يبدو أن عددها انخفض أخيراً إلى ما يقارب المائة، من ناحية أخرى. وهو سؤال قليلاً ما طرح بوضوح في ما كتب ويكتب عموماً حول الثورة السورية في مجال تشخيص الوضع القائم. ربما كان مردّ ذلك إلى ما يمكن أن تثيره محاولة الإجابة من إشكالات يرى الكثيرون ضرورة تلافيها اليوم.

تتقاسم الوضع على الأرض اليوم: الفصائل الإسلامية على اختلاف ألوانها، وقوات سورية الديمقراطية، وقوات الجيش الحر، وميليشيات النظام الأسدي وسواها من الميليشيات الإيرانية وملحقاتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، وكذلك بالطبع ميليشيات الدولة الإسلامية (داعش). ومن الواضح أن لا أحد من معظم الفصائل العاملة على الأرض السورية التي تقاتل الميليشيات الأسدية الإيرانية يخضع لسلطة أيٍّ من التنظيمات السياسية المدنية. كان الأمر دوماً على هذا النحو ولا زال منذ بدء ظهور الفصائل المسلحة على الأرض السورية في نهاية عام 2011. ولقد تجلى لاحقاً أن الانسجام الظاهري بين هذه الأخيرة وبين التنظيمات المدنية الذي ساد خلال فترة وجيزة في بداية الثورة لم يكن إلا مجرد توافق عابر، شجعت عليه بعض مكونات هذه التنظيمات كي تضفي على نفسها شرعية شعبية كانت بأمس الحاجة إليها، حين حمل السوريون في مظاهراتهم خلآل أشهر الثورة الأولى لافتات تقول مثلاً بتمثيل المجلس الوطني السوري لهم. ومع ذلك، وطوال سنوات الثورة، لم يكن بوسع أيٍّ من التنظيمات السياسية المدنية أن يدعي ممارسة سلطته على أيّ فصيل من الفصائل المقاتلة على الأرض. ولهذا،  حين خرجت الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية تعلن تمثيلها في آن واحد لمعظم الهيئات السياسية المدنية الرئيسة على الساحة السورية ولعدد هام من الفصائل المسلحة العاملة على الأرض، بدا الأمر على الصعيد الشعبي حدثاً لا يستهان به وخطوة إلى الأمام على طريق وحدة الكلمة والموقف في الثورة السورية إزاء النظام وحماته من الإيرانيين والروس. غير أن الهيئة ليست إلا صيغة جامعة وتمثيلية للقوى التي تؤلفها تنحصر مهمتها في التفاوض بناء على برنامج وافقت عليه مكوناتها ولا تملك أية سلطة سياسية شاملة تستمدُّ شرعيتها الثورية من القبول الشعبي بها أو من رضوخ الفصائل المقاتلة لتوجيهاتها، وهي على هذا النحو ثمرة من ثمرات الوضع السياسي والعسكري السائد في سورية سواء في طريقة ولادتها أو في طبيعة تكوينها، رغم كل الإيجابيات التي رافقت نشوءها ومواقفها ومسيرتها خلال مفاوضات جنيف الأخيرة.  

بعد نصف قرن من الاستبداد الأيديولوجي في البداية ثم الديكتاتورية العسكرية فالمافيوية، كان لابد لغياب مشروع سياسي ثوري يصوغ ويقنن مطالب الشعب السوري في الحرية وفي الكرامة ويضع أسس الحكومة التي يمكن أن تمثل السوريين على كل الأصعدة ويستجيب لطبيعة تطور التاريخ السوري في مختلف الميادين الإثنية والدينية والجغرافية، أن يؤدي إلى نتائج تتساوى في خطورتها. فقد كان هذا الغياب منفذاً إلى توطيد شرذمة تمثيل الثورة السورية بل وإلى مفاقمتها، وطريقاً إلى تكاثر غير طبيعي تجلى في عدد غير محدود من الفصائل العسكرية التي تزعم معارضة النظام أو تمثيل الثورة، ووسيلة يعتمدها النظام الأسدي لدى ممارسته اللعبة التي أتقنها على امتداد سنوات امتلاكه للسلطة: الاختراق وفبركة تنظيمات سياسية "معارضة" وضرب الأصيل بالمزيف بله العمل على تعميق الشرذمة وترسيخها، وأداة للقوى الإقليمية والدولية كي توجِّه كل منها لا مواقف التنظيمات السياسية على اختلافها فحسب، بل كذلك وعلى وجه الخصوص الفصائل العسكرية لخدمة سياساتها وأهدافها.

ولئن تنوعت الاتجاهات الأيديولوجية للتنظيمات السياسية على اختلافها بدءاً من الإخوان المسلمين مروراً بالمستقلين وأنصار المجتمع المدني أو العلمانية وانتهاء بحزب العمل الشيوعي فإن الغالبية العظمى للفصائل العسكرية المقاتلة كانت ولا تزال ذات وجهة دينية بدائية الطابع، تتفاوت في درجة فهمها أو جهلها للدين الإسلامي ولتاريخه، وتتنافس على امتلاكها حق الحاكمية باسم السماء دون سواها. عمادها في ذلك سيطرتها على الأرض بقوة السلاح الذي تفرض به أيضاً فهمَها الخاص في المناطق التي نجحت في السيطرة عليها مثلما تعلن عن نيتها فرضَهُ ما إن تقضي على النظام الأسدي. كان من الواضح أن هذا الأخير سعى، منذ الأشهر الأولى للثورة وبكل ما يملك من وسائل، إلى تهيئة كافة الشروط كي يحقق هذا الوضع: من الإعلان قبل ظهور أية فصائل مسلحة في سورية عن وجود إمارات سلفية والإلحاح على ذلك في وسائل إعلامه إلى درجة حمل بعض صحفيي الصحف الممانعة في لبنان على الحديث عن قندهار سورية، إلى الإفراج عن غلاة السلفيين الذين سبق أن أرسلهم إلى العراق لقتال الأمريكيين والاستفادة منهم عندما حانت الساعة، ساعة الثورة السورية، لتحقيق أغراضه. إذ أن متابعة تطور التعبير الإعلامي عن موقف النظام الأسدي مما يجري في سورية من اعتراض جذري على وجوده لابد أن تتوصل إلى ملاحظة أن الطريق الذي اختاره بدعم من حلفائه التاريخيين طوال الأربعين سنة السابقة على الثورة من أجل تبرير وجوده والمحافظة على ديمومته هو التموضع بوصفه نظاماً علمانياً، حداثياً، حامياً للفسيفساء السورية التاريخية في تجلياتها الثقافية والدينية والإثنية. لقد استطاع على صعيد الإعلام أن يروج لهذه الأكذوبة التي كانت كل تصرفاته في الداخل السوري تفضحها. لكنه نجح بالمقابل في ترسيخ القناعة الأخرى الخاصة بوصم الثورة ضده بالسلفية والتكفيرية والقائمة على وجود الفصائل الإسلاموية العديدة التي لم تحمل يوماً راية الثورة.

يعتقد رجال النظام الأسدي أن بوسعهم ما إن يتمكنوا من إنجاز النصر الذي استباحوا كل شيء من أجل تحقيقه القضاء على هذه الفصائل بسهولة شديدة. وبما أنهم لن يحققوا هذا النصر الذي ينشدونه ـ وليست هذه نبؤة بقدر ما هي مجرد استنتاج للواقع الميداني الحقيقي فيما وراء المزايدات الرخيصة بين من يديرون الوضع في سورية ـ  فإن سقوطهم سيعني بين ما سيعنيه بقاء هذه الفصائل إرثاً يؤكد المقولة التي روجوا ولا يزالون يروجون لها: الأسد أو نحرق البلد. وهو ما بدأت عملياً بتنفيذه روسيا بواسطة طيرانها وإيران بواسطة ميليشياتها.

هنا تتجلى خطورة هذا الوضع المأساوي الذي يتجسد في الانقطاع بين التعبير السياسي عن الثورة وبين تعبير الواقع الذي يصدر عن الفصائل التي تقاتل على الأرض لإسقاط النظام الأسدي والذي سيبقى السوريون ضحيته: أن تفرض هذه الأخيرة حيثما وجدت وكما أمكنها أن تفعل كلما أتيحت لها الفرصة خلال هذه السنوات الأخيرة قانونها السماوي كما أرادت له أن يكون: منتمياً إلى القرون الخالية دون أي حساب لملايين المتغيرات الزمانية والمكانية والبشرية، بل دون أي حساب لما يمكن أن يمليه أي عقل رشيد.

ومع ذلك،  لا يزال هناك من يطرح مثل هذا السؤال: أيهما أخطر، النظام الأٍسدي أم الفصائل العسكرية التي لم تحمل علم الثورة السورية رغم أنها تقاتل النظام وحلفائه، أي تلك التي لم تتبنَّ شعارات من خرجوا إلى الشارع يواجهون عنف النظام الأسدي في آذار 2011؟

قد يبدو السؤال للوهلة الأولى مشروعاً.  لكن صياغته تنبئ عما سعى إليه النظام الأسدي على الدوام: أن تجري المقارنة بينه وبين هذه الفصائل الإسلاموية، بين السيء والأسوأ، في الوقت الذي لم تترك فيه السنوات الخمس الأخيرة مجالاً لأيّ شك في مسؤوليته الأولى عن وجود هذه الفصائل وأن حل إشكالها يبدأ أولاً وحصراً بإسقاطه.


** نشر في صحيفة جيرون، الخميس 18 آب/أغسطس 2016




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire