jeudi 4 août 2016





الثورة السورية

ثمن الشرذمة وغياب المشروع


بدرالدين عرودكي
لم يتوقف الحديث منذ بداية الثورة السورية وحتى اليوم عن ضرورة وحدة تجمع الثوار قولاً وفعلاً من حول مشروع يستهدف أولاً وقبل كل شيء إسقاط النظام الأسدي ثم بناء سورية الجديدة التي تقوم على قواعد جامعة يتوافق عليها السوريون جميعاً.
وكان السؤال/العذاب الذي يفرض نفسه على كل من ينعم النظر في المشهد السوري المستمر منذ نيف وخمسة أعوام: كيف أمكن أن تتردد أصداء هتافات المتظاهرين المُطالبة بالحرية وبالكرامة وبإسقاط نظام الاستبداد بين درعا وحمص وحماه وحلب ودير الزور في تناغم يعبر عن تكافل وتضامن حقيقي فيما بينها، ولم تستطع إثر ذلك، وقبل أن تستحوذ أية قوة إقليمية أو دولية على موقع قدم لها في سورية، أية هيئة أو جماعة سياسية تصدت لتمثيل الثورة التي أطلقها هؤلاء المتظاهرون أن تحصد ثمار هذا الإجماع في كيان واحد شامل يمكن له أن يواجه داخلياً وخارجياً نظاماً استثنائيَّ القوة والخبث الشيطانيين اللذين طبعا ممارساته في مواجهة هذه الثورة الشعبية ؟
لم يكن الأمر سهلاً دون أي شك. فقد استطاع النظام الأسدي أن ينسج خلال ما يقارب نصف قرن مجموعة معقدة من العلاقات على الصعيد المحليّ والإقليمي والدولي برهن عبرَها وبها عن إمكانات بلا حدود في خدمة مآرب أية سياسة خارجية يمكن لها في النهاية أن تضمن له الاستمرار في استملاك سورية أرضاً وشعباً؛ وهي خدمة لم تكن تراعي أثناء تأديتها أية قيمة وطنية أو أخلاقية أو سياسية أو نضالية أو تاريخية. وبما أنه طوال فترة حكمه قَصَرَ ممارسة السياسة على شخص الرئيس دون أن يترك هذا الأخير أي هامش مناورة فيها لفرد أو لجماعة ولو كانت تحت إمرته، مُفَرِّغاً بذلك المجتمع السوري كله من السياسة، فقد كان على من يريد مواجهته، بعد أن تمَّ تحطيم جدار الخوف واحتكار السياسة معاً، أن يمتلك قدراً كافياً من الثقافة السياسية والتاريخية ومن الحنكة والخبرة في مجال الحلبة السياسية يستطيع به سواء في ميدان الممارسة على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي أو على صعيد الإعلام لا أن يقف ندّاً لهذا الخصم فحسب، بل أن يتفوق عليه بما يتيح له أن يفرض نفسه بديلاً مُقنِعاً وحاسماً ويفضح في الوقت نفسه كذبَ وخداعَ خصمِه فضلاً عن هشاشة كل ما يقدمه هذا الأخير من حجج واهية.
لم يكن الأمر سهلاً مرة أخرى لاسيما وأن النظام قد أضاف إلى قائمة جرائمه اللامتناهية، فضلاً عن تلك المتعلقة بتفريغ المجتمع السوري من السياسة، جريمة لا تقل خطراً تجلت طوال نيف وأربعين عاماً في تهميش المشكلات الأساس فيه ولا سيما تلك الخاصة بمكونات المجتمع السوري التاريخية، الإثنية منها والدينية، أو تقديمها في حلل مزركشة تخفي وقائعها وجذورها ومآلاتها أو طمس كل مظهر من مظاهرها بالقوة أو بالقمع أو بكليهما معاً. وكان لابد لذلك كله ولسواه أن يخرج إلى السطح في آن واحد ما إن كسر أطفال درعا جدار الصمت والخوف.
من المؤكد أنه ما كان لأحد من كل الذين تصدّوا لتمثيل الثورة دون أن يخونها أن يكون قادراً على منافسة النظام الأسدي فيما قدمه من خدمات لرعاته شرقاً وغرباً، إقليميين ودوليين. ولم يكن مطلوباً منه على أي حال مثل ذلك. لكن المطلوب كان فضلاً عن القدرة على التمثيل والجدارة به أن يحمل مشروعاً حقيقياً يحظى بقبول وبإجماع الثوار في مدن سورية وأريافها كي يدعم به القدرة والجدارة ويعززهما لا في وجه الخصم، أي النظام الأسدي تحديداً، فحسب بل كذلك في وجه القوى الإقليمية والدولية الراعية أو المتواطئة معه.
فما الذي حال دون ذلك كله؟
بدأت محاولات التصدي لتمثيل الشارع السوري الثائر منذ البداية عديدة لا رابط بينها سوى ادعاء كل منها امتلاكها الكلمة الفصل لا يدعمها في ما تدّعيه سوى محض زعمها أو ما انطوى عليه تاريخها من نضال أو قمع أو سجن أو نفي طوال سنوات بلا حساب. وطبقاً لما يشهد عليه المسار التاريخي لكل منها، لم يكن التكافل أو التحالف من مفردات ممارساتها إلا إذا كانت تمسك بالدفة وعلى ضيق منها؛ كما لم يكن بوسع أيديولوجياتها قبول التعايش فيما بينها بما أن كل واحدة منها تقوم مبدئياً على إقصاء ما عداها.
وبدلاً من الانصراف معاً إلى صياغة تطلعات من خرجوا يطالبون بالحرية وبالكرامة وبإسقاط النظام في مشروع طموح من أجل سورية البديلة، والاتفاق على خطط العمل والأولويات، وطرق مواجهة أعتى وأخبث نظام استبدادي عرفته المنطقة العربية، انهمكت الهيئات والكيانات على اختلاف ألوانها ومشاربها في التناحر على المناصب (وكان أشدها مدعاة للسخرية على سبيل المثال لا الحصر تحديد مدة رئاسة المجلس الوطني بثلاثة أشهر!)، وعلى التمثيل، بل وحتى على الأولويات.
وبقدر ما كانت وحدة النظام الأسدي وتماسكه قوية في اختياره المواجهة وتقريره اعتماد الحل الأمني بقدر ما كانت الشرذمة في المقابل تسم الكيانات التي تصدت لتمثيل الثورة في خياراتها وفي قراراتها. ذلك ما أتاح للنظام بسهولة اختراق هذه الهيئات والجماعات بصورة أو بأخرى من أجل العمل على تعميق شرذمتها، مثلما سهَّلَ كذلك وفي الوقت نفسه على القوى الإقليمية والدولية فرْضَ نفسها بالتدريج راعية أو حامية، مُمَوِّلَة وموجِّهَة. فاقم من هذه الشرذمة سذاجة موصوفة في سلوك وأفعال هذه الكيانات التي، وقد كان معظم مسؤوليها يتوقعون انهيار النظام الأسدي بين ليلة وأخرى، تصرفت على هذا الأساس، فلم تتمكن من مواجهة المشكلات العاتية التي واجهت الثورة، وأهمها على الإطلاق مسألة المواجهة المسلحة وتبعاتها.
وضحَ ذلك كله للملأ منذ السنة الأولى للثورة. وكان تعاقب الكيانات التي تصدت لتمثيلها في الخارج، وتعدّد الجماعات المقاتلة في الداخل التي لم تكن تقتصر على السوريين وحدهم  يفاقم من وضع التشرذم هذا ويتيح للنظام الأسدي ممارسة خدعته التي اعتمدها منذ البداية في اتهام الثورة بوصفها مؤامرة سلفية ضد نظام علماني!
كان غياب مشروع واضح لسورية البديلة والجديدة في أساس الافتقار إلى خطاب واضح ومتماسك إزاء المشكلات التي كان الوضع السوري يطرحها على الجميع. خطاب كان هو الآخر بحاجة أساساً إلى قاعدة تنظيمية متماسكة تجعل منه قانون سلوكها وعملها معاً.   
ولا تزال الحاجة إلى هذا المشروع ملحّة أكثر من أي وقت مضى. وهو برسم كل من يطمح إلى الإسهام في تحديد معالم بناء سورية الجديدة على أنقاض ما فعله بها النظام الأسدي.




** نشر هذا المقال عل موقع صحيفة جيرون، مقالات الرأي، الخميس 4 آب 2016.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire