jeudi 25 août 2016


الكافكاوية: مفهوماً وأداة تحليل؟

بدرالدين عرودكي

لم يكن الكاتب التشيكي فرانز كافكا مفكراً أو ناشطاً سياسياً، بل كان روائياً انكبَّ طوال سنوات عمره على حياته الشخصية وفنه. كما لم يكن مسرح رواياته يشي في ظاهره بأي اهتمام سياسي مباشر يتيح فرصة استخلاص رؤية سياسية أو اجتماعية. ولأنَّ معظم الدراسات التي كتبت عن رواياته والتي قرأناها بالعربية خصوصاً كانت تستند إلى ترجمات هذه الروايات سواء إلى الفرنسية أو الإنكليزية ومنهما إلى العربية، فإنها لم تتوصل إلى القيام بتحليل دقيق لهذه المبدعات الروائية ولا إلى فهمها كما فهمها التشيكيون، أي جمهور كافكا الأول، وكما كان طبيعياً أن تفهم على هذا النحو.

كان أوّلَ من نبّه إلى هذا الأمر روائيٌّ آخرَ قام بواحدة من أهمِّ القراءات لمبدعات كافكا الروائية (ولسواها أيضاً) ــ وهو في الوقت نفسه مواطن ولد وعاش في المدينة نفسها التي عاش فيها كافكا ــ ونعني به ميلان كونديرا، واستخلص في قراءته عناصر ما أطلق عليه الكافكاوية، باعتبارها رؤية اعتبرت فيما بعد نبؤة حين بات من الممكن قراءتها في ضوء التحولات الاجتماعية الكبرى التي اضطربت بها بدايات القرن العشرين وتجلت آثارها المادية وكان بعضها كارثياً بعد وفاة كافكا.

لاحظ كونديرا في قراءته للترجمات الفرنسية لروايات كافكا ما أدت إليه هذه الترجمات من فهم وتفسير، ووضع يده على المسافة الواسعة التي تفصل مثلاً بين فهمها في مدينة براغ وفهمها بباريس. في الأولى تنساب روايات كافكا في عروق حياة البراغيين اليومية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية معه، فكانوا يطلقون مثلاً على مقر الأمانة العامة للحزب الشيوعي: القصر، وهو عنوان إحدى روايات كافكا، أو على المسؤول الثاني في الحزب (الرفيق هندريش) اسم أحد شخوص الرواية، كْلامْ، الذي يعني بالتشيكية السراب أو الخدعة.

من الممكن تلخيص تجليات الكافكاوية في أربعة عناصر يمكن العثور عليها في الحياة اليومية العامة مثلما يمكن العثور عليها في روايات كافكا نفسه: الأول، عالم المؤسسة أولاً بوصفها آلية تخضع لقوانينها الذاتية ولا تهتم بالمصالح البشرية، وهي تتجلى في سلطة غامضة متشابكة الدهاليز، غامضة القوانين، لا يُعرف لها حاكم أو مُقرِّر؛ والثاني، الملف، وهو يشبه في عالم كافكا الروائي الفكرة الأفلاطونية. إذ يمثل الواقع الحقيقي للإنسان في حين أن وجود هذا الأخير المادي ليس إلا ظلاً، بل أقل من الظل؛ والثالث، العلاقة بين الخطيئة والعقاب. فبخلاف بطل دستويفسكي راسكولينكوف الذي لا يستطيع احتمال شعوره بالذنب فيرضى كي يستريح بالعقاب، وبالتالي فإن الخطيئة في حالته، هي من يبحث عن العقاب، يبدو المنطق لدى كافكا معكوساً بصورة كلية: يتمّ ولاً إنزال العقاب ثم يبدأ البحث عن الخطيئة، تماماً كما يفعل ك. في رواية "القضية" بعد اتهامه، باحثاً في تفاصيل حياته كي يعثر على خطيئته؛ وأخيراً، العنصر الكوميدي في روايات كافكا الذي لا يمثل لحناً مضاداً للتراجيدي كما هو الأمر لدى شكسبير، ولا يتواجد لكي يسعف الناس على تحمل التراجيدي بل يحطم الكوميدي التراجيديّ في المهد، أي رعب الكوميدي في الكافكاوية الذي لا يتيح أي سلوى للناس.

من المشاهد التي يرويها ميلان كونديرا لبعض تجليات الكافكاوية في الحياة اليومية هذا المشهد الذي حضره في بيت صديقة له كانت قد اعتقلت خلال المحاكمات الستالينية في براغ عام 1951 وأدينت بسبب جرائم لم ترتكبها. كان عليها شأن سواها من مئات الشيوعيين الذين تماهوا في الحزب قبول اتهام هذا الأخير لهم ومن ثم، وعلى غرار بطل كافكا جوزيف ك.، قبول "النظر في حياتهم الماضية حتى في أدق التفاصيل"، كيما يبحثوا عن الخطأ المستور وأن يعترفوا بجرائم وهمية. لكنها على العكس من رفاقها، رفضت بفضل شجاعتها الخارقة الخضوع لعملية "البحث عن خطيئتها". كان رفضها يعني رفض مساعدة جلاديها الذين باتت بلا فائدة بالنسبة إليهم في مشهد المحاكمة الأخير، فحكم عليها بالسجن المؤبد بدلاً من الإعدام الذي حكم به على رفاقها. لكنها خرجت بعد خمسة عشر عاماً وأعيد لها الاعتبار. حين خرجت من السجن كان ابنها قد بلغ السادسة عشر من عمره. حين زارها كونديرا، وكان ابنها قد بلغ السادسة والعشرين، وجدها تبكي وقد غمرها الضيق والانزعاج. لم يكن هناك من سبب لبكائها سوى أن ابنها استيقظ ذلك اليوم متأخراً. وحين قال لها كونديرا: لم تغضبين لهذه السخافة؟ هل هذا سبب كاف للبكاء؟ لم يتلق الجواب من الأم بل من الإبن: "لا، إن أمي لا تبالغ. إن أمي امرأة ممتازة وشجاعة. فقد قاومت حيث فشل الناس جميعاً في المقاومة. وهي تريدني أن أصير رجلاً شريفاً. حقاً، لقد استيقظتُ متأخراً جداً، لكن ما تؤاخذني عليه أمي شيء أكثر عمقاً. إنه سلوكي. سلوكي الأناني. أودّ أن أصيرَ ما تريدُ أمي أن أصيره. وإني لأعدها بذلك أمامك:"!

يعلق كونديرا: "إن ما لم ينجح الحزب في تحقيقه مع الأم، نجحت الأم بتحقيقه مع الإبن. فقد أرغمته على التماهي في هذا الاتهام السخيف، ودفعت به إلى الذهاب "للبحث عن خطئه" وإلى الاعتراف به علناً. شهدتُ مذهولاً هذا المشهد من محاكمة ستالينية صغيرة، وفهمت دفعة واحدة أن الآليات النفسية التي تتحكم بالأحداث التاريخية الكبرى (والتي تبدو خارقة ولا إنسانية) هي ذاتها التي تتحكم بالأوضاع الحميمة (العادية والمفرطة في إنسانيتها)."

مثل هذه التجليات وسواها في الحياة اليومية تسمح بطرح سؤال أساس: إلى أي حدٍّ يمكن أن تفيدنا الكافكاوية، وهي كما نرى مجموعة من عناصر جوهرية ألفت قوام مجموعة من مبدعات روائية محضة واستحالت نبؤة تتحقق في الواقع العياني ثم تتجسَّد مفهوماً يتجاوز المبدعات التي صدر عنها إلى سواها لا من الأعمال الأدبية فحسب بل إلى الواقع الإنساني عامة؟ وهل يسعنا تثبيت هذا المفهوم أداة من أجل فهم وتفسير العديد من البنى الاجتماعية والسياسية في الواقع السوري المعاصر خاصة والواقع العربي عامة فضلاً بالطبع عن المبدعات الأدبية ؟

من الواضح أن كل محاولة للإجابة عن هذا السؤال ستأخذ بعين الاعتبار واقعة علاقة التوريث القائمة بين الأحداث التاريخية التي تكاد تكون لا إنسانية من جهة والأوضاع الحميمة المفرطة في إنسانيتها من جهة أخرى، ومن ثمَّ، لا بد لها من أن تستعيد عناصر هذا المفهوم وتنظر في مدى ملاءمتها للواقع المراد مقاربته بواسطتها.

على أن الأمر لن يكون حتى مع مراعاة كل ذلك، سهلاً،  ولا مضمون النتائج أيضاً. لكن ضرورة فهم ما يحدث من حولنا تفرض خوض هذه المغامرة، لا لانعدام مناهج صالحة لمقاربة الوضع السوري، إذ العكس هو الصحيح، بل لأن هذا المفهوم بالذات يمكن أن يقدم برهاناً لا يردّ على إمكانات الأدب الروائي غير المحدودة لا في الزمان ولا في المكان في مقاربة وقراءة وفهم أوضاع واقعية وملموسة.



** نشرت في صحيفة جيرون، الخميس 25 آب 2016


jeudi 18 août 2016


الثورة السورية:

مشكلة العلاقة بين السياسي والعسكري

بدرالدين عرودكي

أحد الأسئلة التي يطرحها وضع الثورة السورية اليوم، وربما كان أهمها، السؤال المتعلق بطبيعة العلاقة القائمة بين مختلف التنظيمات السياسية التي تصدت لتمثيل الثورة، من الائتلاف إلى هيئة التنسيق وسواها وصولاً إلى الهيئة العليا للمفاوضات من ناحية، والفصائل العسكرية العاملة على الأرض في مختلف المناطق السورية ، والتي يبدو أن عددها انخفض أخيراً إلى ما يقارب المائة، من ناحية أخرى. وهو سؤال قليلاً ما طرح بوضوح في ما كتب ويكتب عموماً حول الثورة السورية في مجال تشخيص الوضع القائم. ربما كان مردّ ذلك إلى ما يمكن أن تثيره محاولة الإجابة من إشكالات يرى الكثيرون ضرورة تلافيها اليوم.

تتقاسم الوضع على الأرض اليوم: الفصائل الإسلامية على اختلاف ألوانها، وقوات سورية الديمقراطية، وقوات الجيش الحر، وميليشيات النظام الأسدي وسواها من الميليشيات الإيرانية وملحقاتها اللبنانية والعراقية والأفغانية، وكذلك بالطبع ميليشيات الدولة الإسلامية (داعش). ومن الواضح أن لا أحد من معظم الفصائل العاملة على الأرض السورية التي تقاتل الميليشيات الأسدية الإيرانية يخضع لسلطة أيٍّ من التنظيمات السياسية المدنية. كان الأمر دوماً على هذا النحو ولا زال منذ بدء ظهور الفصائل المسلحة على الأرض السورية في نهاية عام 2011. ولقد تجلى لاحقاً أن الانسجام الظاهري بين هذه الأخيرة وبين التنظيمات المدنية الذي ساد خلال فترة وجيزة في بداية الثورة لم يكن إلا مجرد توافق عابر، شجعت عليه بعض مكونات هذه التنظيمات كي تضفي على نفسها شرعية شعبية كانت بأمس الحاجة إليها، حين حمل السوريون في مظاهراتهم خلآل أشهر الثورة الأولى لافتات تقول مثلاً بتمثيل المجلس الوطني السوري لهم. ومع ذلك، وطوال سنوات الثورة، لم يكن بوسع أيٍّ من التنظيمات السياسية المدنية أن يدعي ممارسة سلطته على أيّ فصيل من الفصائل المقاتلة على الأرض. ولهذا،  حين خرجت الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية تعلن تمثيلها في آن واحد لمعظم الهيئات السياسية المدنية الرئيسة على الساحة السورية ولعدد هام من الفصائل المسلحة العاملة على الأرض، بدا الأمر على الصعيد الشعبي حدثاً لا يستهان به وخطوة إلى الأمام على طريق وحدة الكلمة والموقف في الثورة السورية إزاء النظام وحماته من الإيرانيين والروس. غير أن الهيئة ليست إلا صيغة جامعة وتمثيلية للقوى التي تؤلفها تنحصر مهمتها في التفاوض بناء على برنامج وافقت عليه مكوناتها ولا تملك أية سلطة سياسية شاملة تستمدُّ شرعيتها الثورية من القبول الشعبي بها أو من رضوخ الفصائل المقاتلة لتوجيهاتها، وهي على هذا النحو ثمرة من ثمرات الوضع السياسي والعسكري السائد في سورية سواء في طريقة ولادتها أو في طبيعة تكوينها، رغم كل الإيجابيات التي رافقت نشوءها ومواقفها ومسيرتها خلال مفاوضات جنيف الأخيرة.  

بعد نصف قرن من الاستبداد الأيديولوجي في البداية ثم الديكتاتورية العسكرية فالمافيوية، كان لابد لغياب مشروع سياسي ثوري يصوغ ويقنن مطالب الشعب السوري في الحرية وفي الكرامة ويضع أسس الحكومة التي يمكن أن تمثل السوريين على كل الأصعدة ويستجيب لطبيعة تطور التاريخ السوري في مختلف الميادين الإثنية والدينية والجغرافية، أن يؤدي إلى نتائج تتساوى في خطورتها. فقد كان هذا الغياب منفذاً إلى توطيد شرذمة تمثيل الثورة السورية بل وإلى مفاقمتها، وطريقاً إلى تكاثر غير طبيعي تجلى في عدد غير محدود من الفصائل العسكرية التي تزعم معارضة النظام أو تمثيل الثورة، ووسيلة يعتمدها النظام الأسدي لدى ممارسته اللعبة التي أتقنها على امتداد سنوات امتلاكه للسلطة: الاختراق وفبركة تنظيمات سياسية "معارضة" وضرب الأصيل بالمزيف بله العمل على تعميق الشرذمة وترسيخها، وأداة للقوى الإقليمية والدولية كي توجِّه كل منها لا مواقف التنظيمات السياسية على اختلافها فحسب، بل كذلك وعلى وجه الخصوص الفصائل العسكرية لخدمة سياساتها وأهدافها.

ولئن تنوعت الاتجاهات الأيديولوجية للتنظيمات السياسية على اختلافها بدءاً من الإخوان المسلمين مروراً بالمستقلين وأنصار المجتمع المدني أو العلمانية وانتهاء بحزب العمل الشيوعي فإن الغالبية العظمى للفصائل العسكرية المقاتلة كانت ولا تزال ذات وجهة دينية بدائية الطابع، تتفاوت في درجة فهمها أو جهلها للدين الإسلامي ولتاريخه، وتتنافس على امتلاكها حق الحاكمية باسم السماء دون سواها. عمادها في ذلك سيطرتها على الأرض بقوة السلاح الذي تفرض به أيضاً فهمَها الخاص في المناطق التي نجحت في السيطرة عليها مثلما تعلن عن نيتها فرضَهُ ما إن تقضي على النظام الأسدي. كان من الواضح أن هذا الأخير سعى، منذ الأشهر الأولى للثورة وبكل ما يملك من وسائل، إلى تهيئة كافة الشروط كي يحقق هذا الوضع: من الإعلان قبل ظهور أية فصائل مسلحة في سورية عن وجود إمارات سلفية والإلحاح على ذلك في وسائل إعلامه إلى درجة حمل بعض صحفيي الصحف الممانعة في لبنان على الحديث عن قندهار سورية، إلى الإفراج عن غلاة السلفيين الذين سبق أن أرسلهم إلى العراق لقتال الأمريكيين والاستفادة منهم عندما حانت الساعة، ساعة الثورة السورية، لتحقيق أغراضه. إذ أن متابعة تطور التعبير الإعلامي عن موقف النظام الأسدي مما يجري في سورية من اعتراض جذري على وجوده لابد أن تتوصل إلى ملاحظة أن الطريق الذي اختاره بدعم من حلفائه التاريخيين طوال الأربعين سنة السابقة على الثورة من أجل تبرير وجوده والمحافظة على ديمومته هو التموضع بوصفه نظاماً علمانياً، حداثياً، حامياً للفسيفساء السورية التاريخية في تجلياتها الثقافية والدينية والإثنية. لقد استطاع على صعيد الإعلام أن يروج لهذه الأكذوبة التي كانت كل تصرفاته في الداخل السوري تفضحها. لكنه نجح بالمقابل في ترسيخ القناعة الأخرى الخاصة بوصم الثورة ضده بالسلفية والتكفيرية والقائمة على وجود الفصائل الإسلاموية العديدة التي لم تحمل يوماً راية الثورة.

يعتقد رجال النظام الأسدي أن بوسعهم ما إن يتمكنوا من إنجاز النصر الذي استباحوا كل شيء من أجل تحقيقه القضاء على هذه الفصائل بسهولة شديدة. وبما أنهم لن يحققوا هذا النصر الذي ينشدونه ـ وليست هذه نبؤة بقدر ما هي مجرد استنتاج للواقع الميداني الحقيقي فيما وراء المزايدات الرخيصة بين من يديرون الوضع في سورية ـ  فإن سقوطهم سيعني بين ما سيعنيه بقاء هذه الفصائل إرثاً يؤكد المقولة التي روجوا ولا يزالون يروجون لها: الأسد أو نحرق البلد. وهو ما بدأت عملياً بتنفيذه روسيا بواسطة طيرانها وإيران بواسطة ميليشياتها.

هنا تتجلى خطورة هذا الوضع المأساوي الذي يتجسد في الانقطاع بين التعبير السياسي عن الثورة وبين تعبير الواقع الذي يصدر عن الفصائل التي تقاتل على الأرض لإسقاط النظام الأسدي والذي سيبقى السوريون ضحيته: أن تفرض هذه الأخيرة حيثما وجدت وكما أمكنها أن تفعل كلما أتيحت لها الفرصة خلال هذه السنوات الأخيرة قانونها السماوي كما أرادت له أن يكون: منتمياً إلى القرون الخالية دون أي حساب لملايين المتغيرات الزمانية والمكانية والبشرية، بل دون أي حساب لما يمكن أن يمليه أي عقل رشيد.

ومع ذلك،  لا يزال هناك من يطرح مثل هذا السؤال: أيهما أخطر، النظام الأٍسدي أم الفصائل العسكرية التي لم تحمل علم الثورة السورية رغم أنها تقاتل النظام وحلفائه، أي تلك التي لم تتبنَّ شعارات من خرجوا إلى الشارع يواجهون عنف النظام الأسدي في آذار 2011؟

قد يبدو السؤال للوهلة الأولى مشروعاً.  لكن صياغته تنبئ عما سعى إليه النظام الأسدي على الدوام: أن تجري المقارنة بينه وبين هذه الفصائل الإسلاموية، بين السيء والأسوأ، في الوقت الذي لم تترك فيه السنوات الخمس الأخيرة مجالاً لأيّ شك في مسؤوليته الأولى عن وجود هذه الفصائل وأن حل إشكالها يبدأ أولاً وحصراً بإسقاطه.


** نشر في صحيفة جيرون، الخميس 18 آب/أغسطس 2016




jeudi 11 août 2016


"نهد الأرض" والعودة الموعودة


بدرالدين عرودكي

ذات يوم يتلقى أحمد برقاوي، الشاعر والفيلسوف والكاتب، المولود في ضاحية الهامة قرب دمشق، هذه الرسالة: "أبلغكما رسالة لكَ وليوسف سلامة مفادها: أنتما فلسطينيان، اهتما بقضيتكما ـ فلسطين ـ ودعوا الشأن السوري، وإلا..".   

وإلا!...رسالة إنذار وتهديد لا يفتقران إلى أكثر من هذا الوضوح، نقلها أثناء ربيع دمشق، أي في بداية الألفية الراهنة، واحد من رجال الأمن في النظام الأسدي كان يحمل آنئذ صفة "رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية" بجامعة دمشق!

وعلى أنه ولد ونشأ وعاش في سورية، لم يكن أحمد برقاوي ينتظر من يُذكِّرَهُ بما كان يسري مع دمه في عروقه: أي فلسطينيته. لا لأنه كان قد سمع أكثر من مرة وبمناسبات مختلفة من فم أمثال ساعي البريد هذا الكلمة التي عنتها رسالته دون أن تلفظها صراحة: لاجئ فلسطيني، بل لأن أبويه اللذين وجدا نفسيهما فجأة لاجئيْن لم يكونا يكفان عن عيْش فلسطين منذ أن جاءا من قرية ترشيحا حيث كان يعمل الأب إلى الحمّة أولاً فالهامة تالياً على أمل العودة القريبة والموعودة: كما لو أن ابنهما أحمد كان يتلقى من ثدي أمه ومن حنان أبيه غذاءه الفلسطيني اليافاوي والعكاوي معاً، فأمه يافاوية وأبوه عكاويّ، من قرية ذنابة، التابعة إلى محافظة عكا. هكذا، لم يولد أحمد برقاوي في فلسطين بل فلسطين هي التي ولدت فيه.

لكنه سوري المولد والشعور أيضاً. وهو ما كان يفاقم الجرح الذي تسببه له هذه الصفة حين تصدر لا عن عامة السوريين الذين يعرف أنهم كانوا على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية قد هرعوا لنجدة فلسطين عام 1948 ثم فتحوا أذرعهم على الرحب والسعة لاستقبال من لجأ  إليهم من أهلها، بل عمّن يلوذ بسلطة اتخذت من قضية فلسطين تجارة رابحة للحفاظ على كرسيها ومكاسبها. يمنحه هذا الانتماء إلى أرض مولده حرية لا يملكها الآخرون، حرية تعالى بها على جراح لن يلتئم طوال نيف وستين عاماً حتى حقق في عام 2012 ما كان يريده: العودة.

سوى أنها ليست كالعودة التي كان يتطلع إليها أبواه من قبل استجابة لنداء مرابع طفولتهما وحنيناً إليها بعد أن حال بينهما الاحتلال الصهيوني وبينها. بل هي عودة من شغف حباً بأرض لم يرها لكنه كان يتوق إليها توق العاشق المُتيَّم. لا يني يستدعي نفسه في تاريخها، وفي جغرافيتها، وفي أهلها الذين ينتمي إليهم يحاورهم ويحاول بكل ما يتيحه له عنفوان الطفولة والشباب أن يدافع عنهم، وأن يطرح طفلاً في الخامسة عشر من عمره سؤالاً ساذجاً في ظاهره عميق الأبعاد في معانيه سوف يعيد طرحه عليه بالكلمات ذاتها فيلسوف روسي في العقد السادس من عمره: لماذا لا تهجمون على إسرائيل في ليلة واحدة وتنتهون منها؟ يريد رؤية البيت الذي رأى مولد أبيه فيحاول الحصول على صوره بكل وسيلة متاحة، ثم يستعين بما تتيحه له الشبكة الرقمية من إمكانات هائلة كي يعثر على صور البيت والقلعة والقرية والمدينة وكل المرابع التي ارتادها أو عرفها أبواه من قبل. وها هي الفرصة التي كان ينتظر معجزتها تلوح له من حيث لا يحتسب ممكنة وهو يعيش بالقاهرة أيام ثورات الكرامة التي انطلقت من تونس قبل نيف وخمس سنوات..كي يولد ثانية.

كان لابد له مع ذلك من أن يعيش غِبطة الممكن وهلع المستحيل بينما يحاول الحصول على التصريحات الضرورية للسفر إلى وطنه، إلى مسقط رأسه الحقيقي، إلى الأرض التي شغفته حباً، إلى الأرض التي سوف تنزع عنه صفة اللاجئ حين يضع رأسه على صدرها. ألم يرفض أن يوضَعَ البيتُ الذي سكنه أباه مثل غيره من البيوت التاريخية تحت تصرف أية مؤسسة تراثية فلسطينية تريد استخدامه لأنه عائد كي يعيش فيه؟ تلك هي العودة المأمولة والموعودة إلى ما أطلق عليه أحمد برقاوي "الرحم الحميم".

رحلة وجودية بامتياز، وعودة تتحقق في شهر مولده، أي في شهر نيسان، أيضاً، كما لو أنه على موعد مع قدر بات حليفه الشخصي إذ يغمره سعادة لقاء شغفه واستجابة إلى حبّه.

ها هو على درب الفرح والآلام في آن واحد ينطلق مع جمهور غفير ممن كانوا رفاق الرحلة من الفلسطينيين من دمشق باتجاه الأردن، ثم باتجاه فلسطين. كان عليه أن يعاني ما يعانيه كل فلسطيني منذ النكبة على أية حدود عربية أو أجنبية يريد عبورها من مصاعب الرقابة والتفتيش واحتمال رفض دخول البلد الذي يقصده. لكن الأسوأ كان عبور الحدود إلى موطنه المغتصب، إلى أرضه المستباحة. هكذا احتاج الطريق الذي كان يمكن اجتيازه في خمس ساعات إلى أربع وعشرين ساعة بسبب الوقوف عند أربع نقاط حدودية إحداها عدوة والأخرى لم تكن بالضرورة  صديقة كلها!

أمرٌ أساسٌ في هذه الرحلة لا يمكن أن يُنسى ولو إلى حين مادام العدو هو من يُصرِّحُ لك بزيارة وطنك. يسأل أحمد: وماذا لو بقينا هنا ولم نعد من حيث أتينا؟ ويأتيه الجواب: يتم ترحيلك ما إن يكتشف أمرك. هوذا موجز المأساة.

تطأ قدماه رام الله للمرة الأولى. ها هو في فلسطين. وها هي "جمالية الانتظار" التي يتوارثها الفلسطينيون تتلاشى في نفسه فيما يغيب "عنف اللامكان" كلياً. هنا المكان بامتياز. سينطلق من رام الله إلى ذنابة، حيث "نهد الأرض" الذي يسعى إليه. وسوف تعانق نظراته على الطريق الوديان والجبال والسهول والينابيع في ربيع فلسطين المزهر التي وإن كان يراها هي الأخرى للمرة الأولى لكنها تذكره بتلال أنطاكية وينابيعها. الوطن واحد، رغم كل شيء!

وهنا، في المكان، لاحاجة به إلى من يدله إلى بيته. يراه عن كثب فيسعى إليه دامع العينين وقد غمره الفرح والحزن والتوتر. يقول ما يتفجر في عروقه: أنا هنا. أنا الفلسطيني في فلسطين. لستُ لاجئاً هنا،  لا، ولا طارئاً.

وتتألق فلسطين في روح أحمد برقاوي وفي عقله برموزها وبأحداثها وبوجوه نسائها ورجالها شباباً وكهولاً وشيوخاً كلما رأى وجهاً من وجوه مواطنيه، وكلما عانقت عيناه منظراً وهو في طريقه إلى بيته الأول.  يتنقل بين القرى التي عاش فيها أجداده، ثم يسعى إلى الوقوف عند ضريحيْن يضمان أيقونتي فلسطين: البطل التراجيدي ياسر عرفات والشاعر محمود درويش. كلاهما جعلا فلسطين على كل شفة ولسان وفي العالم أجمع.

"نهد الأرض" حكاية رحلة إلى الجذور من أجل تسجيل الولادة في مكانها الطبيعي واستعادة بيت بدا وكأنه ينتظر صاحبه منذ زمن بعيد كي يضمه في حناياه..



** نشر في موقع جيرون، الخميس 11 آب/أغسطس 2016



jeudi 4 août 2016





الثورة السورية

ثمن الشرذمة وغياب المشروع


بدرالدين عرودكي
لم يتوقف الحديث منذ بداية الثورة السورية وحتى اليوم عن ضرورة وحدة تجمع الثوار قولاً وفعلاً من حول مشروع يستهدف أولاً وقبل كل شيء إسقاط النظام الأسدي ثم بناء سورية الجديدة التي تقوم على قواعد جامعة يتوافق عليها السوريون جميعاً.
وكان السؤال/العذاب الذي يفرض نفسه على كل من ينعم النظر في المشهد السوري المستمر منذ نيف وخمسة أعوام: كيف أمكن أن تتردد أصداء هتافات المتظاهرين المُطالبة بالحرية وبالكرامة وبإسقاط نظام الاستبداد بين درعا وحمص وحماه وحلب ودير الزور في تناغم يعبر عن تكافل وتضامن حقيقي فيما بينها، ولم تستطع إثر ذلك، وقبل أن تستحوذ أية قوة إقليمية أو دولية على موقع قدم لها في سورية، أية هيئة أو جماعة سياسية تصدت لتمثيل الثورة التي أطلقها هؤلاء المتظاهرون أن تحصد ثمار هذا الإجماع في كيان واحد شامل يمكن له أن يواجه داخلياً وخارجياً نظاماً استثنائيَّ القوة والخبث الشيطانيين اللذين طبعا ممارساته في مواجهة هذه الثورة الشعبية ؟
لم يكن الأمر سهلاً دون أي شك. فقد استطاع النظام الأسدي أن ينسج خلال ما يقارب نصف قرن مجموعة معقدة من العلاقات على الصعيد المحليّ والإقليمي والدولي برهن عبرَها وبها عن إمكانات بلا حدود في خدمة مآرب أية سياسة خارجية يمكن لها في النهاية أن تضمن له الاستمرار في استملاك سورية أرضاً وشعباً؛ وهي خدمة لم تكن تراعي أثناء تأديتها أية قيمة وطنية أو أخلاقية أو سياسية أو نضالية أو تاريخية. وبما أنه طوال فترة حكمه قَصَرَ ممارسة السياسة على شخص الرئيس دون أن يترك هذا الأخير أي هامش مناورة فيها لفرد أو لجماعة ولو كانت تحت إمرته، مُفَرِّغاً بذلك المجتمع السوري كله من السياسة، فقد كان على من يريد مواجهته، بعد أن تمَّ تحطيم جدار الخوف واحتكار السياسة معاً، أن يمتلك قدراً كافياً من الثقافة السياسية والتاريخية ومن الحنكة والخبرة في مجال الحلبة السياسية يستطيع به سواء في ميدان الممارسة على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي أو على صعيد الإعلام لا أن يقف ندّاً لهذا الخصم فحسب، بل أن يتفوق عليه بما يتيح له أن يفرض نفسه بديلاً مُقنِعاً وحاسماً ويفضح في الوقت نفسه كذبَ وخداعَ خصمِه فضلاً عن هشاشة كل ما يقدمه هذا الأخير من حجج واهية.
لم يكن الأمر سهلاً مرة أخرى لاسيما وأن النظام قد أضاف إلى قائمة جرائمه اللامتناهية، فضلاً عن تلك المتعلقة بتفريغ المجتمع السوري من السياسة، جريمة لا تقل خطراً تجلت طوال نيف وأربعين عاماً في تهميش المشكلات الأساس فيه ولا سيما تلك الخاصة بمكونات المجتمع السوري التاريخية، الإثنية منها والدينية، أو تقديمها في حلل مزركشة تخفي وقائعها وجذورها ومآلاتها أو طمس كل مظهر من مظاهرها بالقوة أو بالقمع أو بكليهما معاً. وكان لابد لذلك كله ولسواه أن يخرج إلى السطح في آن واحد ما إن كسر أطفال درعا جدار الصمت والخوف.
من المؤكد أنه ما كان لأحد من كل الذين تصدّوا لتمثيل الثورة دون أن يخونها أن يكون قادراً على منافسة النظام الأسدي فيما قدمه من خدمات لرعاته شرقاً وغرباً، إقليميين ودوليين. ولم يكن مطلوباً منه على أي حال مثل ذلك. لكن المطلوب كان فضلاً عن القدرة على التمثيل والجدارة به أن يحمل مشروعاً حقيقياً يحظى بقبول وبإجماع الثوار في مدن سورية وأريافها كي يدعم به القدرة والجدارة ويعززهما لا في وجه الخصم، أي النظام الأسدي تحديداً، فحسب بل كذلك في وجه القوى الإقليمية والدولية الراعية أو المتواطئة معه.
فما الذي حال دون ذلك كله؟
بدأت محاولات التصدي لتمثيل الشارع السوري الثائر منذ البداية عديدة لا رابط بينها سوى ادعاء كل منها امتلاكها الكلمة الفصل لا يدعمها في ما تدّعيه سوى محض زعمها أو ما انطوى عليه تاريخها من نضال أو قمع أو سجن أو نفي طوال سنوات بلا حساب. وطبقاً لما يشهد عليه المسار التاريخي لكل منها، لم يكن التكافل أو التحالف من مفردات ممارساتها إلا إذا كانت تمسك بالدفة وعلى ضيق منها؛ كما لم يكن بوسع أيديولوجياتها قبول التعايش فيما بينها بما أن كل واحدة منها تقوم مبدئياً على إقصاء ما عداها.
وبدلاً من الانصراف معاً إلى صياغة تطلعات من خرجوا يطالبون بالحرية وبالكرامة وبإسقاط النظام في مشروع طموح من أجل سورية البديلة، والاتفاق على خطط العمل والأولويات، وطرق مواجهة أعتى وأخبث نظام استبدادي عرفته المنطقة العربية، انهمكت الهيئات والكيانات على اختلاف ألوانها ومشاربها في التناحر على المناصب (وكان أشدها مدعاة للسخرية على سبيل المثال لا الحصر تحديد مدة رئاسة المجلس الوطني بثلاثة أشهر!)، وعلى التمثيل، بل وحتى على الأولويات.
وبقدر ما كانت وحدة النظام الأسدي وتماسكه قوية في اختياره المواجهة وتقريره اعتماد الحل الأمني بقدر ما كانت الشرذمة في المقابل تسم الكيانات التي تصدت لتمثيل الثورة في خياراتها وفي قراراتها. ذلك ما أتاح للنظام بسهولة اختراق هذه الهيئات والجماعات بصورة أو بأخرى من أجل العمل على تعميق شرذمتها، مثلما سهَّلَ كذلك وفي الوقت نفسه على القوى الإقليمية والدولية فرْضَ نفسها بالتدريج راعية أو حامية، مُمَوِّلَة وموجِّهَة. فاقم من هذه الشرذمة سذاجة موصوفة في سلوك وأفعال هذه الكيانات التي، وقد كان معظم مسؤوليها يتوقعون انهيار النظام الأسدي بين ليلة وأخرى، تصرفت على هذا الأساس، فلم تتمكن من مواجهة المشكلات العاتية التي واجهت الثورة، وأهمها على الإطلاق مسألة المواجهة المسلحة وتبعاتها.
وضحَ ذلك كله للملأ منذ السنة الأولى للثورة. وكان تعاقب الكيانات التي تصدت لتمثيلها في الخارج، وتعدّد الجماعات المقاتلة في الداخل التي لم تكن تقتصر على السوريين وحدهم  يفاقم من وضع التشرذم هذا ويتيح للنظام الأسدي ممارسة خدعته التي اعتمدها منذ البداية في اتهام الثورة بوصفها مؤامرة سلفية ضد نظام علماني!
كان غياب مشروع واضح لسورية البديلة والجديدة في أساس الافتقار إلى خطاب واضح ومتماسك إزاء المشكلات التي كان الوضع السوري يطرحها على الجميع. خطاب كان هو الآخر بحاجة أساساً إلى قاعدة تنظيمية متماسكة تجعل منه قانون سلوكها وعملها معاً.   
ولا تزال الحاجة إلى هذا المشروع ملحّة أكثر من أي وقت مضى. وهو برسم كل من يطمح إلى الإسهام في تحديد معالم بناء سورية الجديدة على أنقاض ما فعله بها النظام الأسدي.




** نشر هذا المقال عل موقع صحيفة جيرون، مقالات الرأي، الخميس 4 آب 2016.