samedi 9 janvier 2016


الرهان الصعب

سورية بين السعودية وإيران

بدرالدين عرودكي

إثر قرار السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران سرعان ما طرح السؤال حول سورية: ما الآثار التي ستترتب على نزاع صار يجري الآن في وضح النهار؟ سؤال ينطلق بالضرورة من فرضية أن الحل السياسي الذي تعده الأمم المتحدة بإشراف روسي مباشر ومباركة أمريكية لا تخفي نفسها بات قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ، وأن هذا النزاع السعودي الإيراني سيؤجِّل في أفضل الأحوال تنفيذ هذا الحل إن لم يقضِ عليه نهائياً.  

لم يتفاقم هذا النزاع الذي يخرج اليوم إلى العلن بطبيعة الحال بعد إقدام السعودية على إعدام سبعة وأربعين من مواطنيها بينهم نمر باقر النمر، ولا بسب الهجوم الذي تلاه على السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد الذي أدى بدوره إلى قرار السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. فقد كان حاضراً على الدوام منذ وصول أوباما إلى البيت الأبيض وبدء إجلاء القوات الأمريكية من العراق وإتاحة الفرصة لإيران كي تملأ الفراغ  فيه وهي في أوج مفاوضاتها مع الغرب حول نشاطاتها ومنشآتها النووية.

لا يمكن إنكار أن سورية كانت منذ خمسينيات القرن الماضي وعلى الدوام همّ السعودية الأول وبقيت كذلك رغم الخصومة شبه المعلنة التي شابت علاقاتهما إثر اغتيال رفيق الحريري. وهي خصومة أدت بالنظام الأسدي إلى أن يغير تدريجياً من طبيعة العلاقات السورية ـ الإيرانية التي تجسَّدَت خصوصاً في بروز العلاقة العضوية بين النظام الأمني السوري وذراع إيران في لبنان، حزب الله من ناحية، وفي اتفاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية ذات طابع استراتيجي بين البلدين.  ولهذا حاولت السعودية طوال السنوات التالية لاغتيال الحريري، خلال عهد الملك عبد الله وحتى الأشهر الأولى من عام 2011 ، أن تسلك تجاه سورية سياسة أقرب إلى الاحتواء منها إلى الخصومة. وهو احتواء تُوِّج بالزيارة التي قام بها الملك عبد الله إلى بيروت قادماً من دمشق ومصطحباً معه بشار الأسد عام 2010 بأمل أن يكون التعاون السعودي السوري أصلب من أن تنال منه العلاقات الحميمة السورية الإيرانية.

لم تكن سورية، مع ذلك، خلال الفترة المذكورة نفسها، مرتعاً خصباً لإيران كما هي عليه اليوم. ولذلك لم تحل هذه العلاقات السورية ـ الإيرانية دون أن تنشأ أيضاً وفي الوقت نفسه مثل هذه العلاقات مع تركيا على ما بين القوتين الإقليميتين من خلاف وتنافس في السلوك وفي الأهداف.  

على أن الثورة السورية فرضت منذ البداية اصطفافات مختلفة كلياً على الجميع. شيئاً فشيئاً تلاشت سياسة الاحتواء السعودية لتغدو بعد فشلها في محاولاتها ردع النظام الأسدي عن الحلول الأمنية التي تبناها عداءً كامل الأوصاف الدبلوماسية والحربية. على غرار العلاقات مع تركيا التي لم تكد تنهي شهر عسل واعد وتفشل هي الأخرى في جهودها المماثلة حتى انكفأت بالتدريج واستحالت علاقات عداءٍ صارخ لاسيما وأن تركيا، بخلاف السعودية، كانت مضطرة بحكم الحدود المشتركة إلى استقبال وإيواء مئات الألوف من اللاجئين السوريين الهاربين من الجحيم الأسدي.

أما العلاقات السورية ـ الإيرانية فقد عثرت على التربة الملائمة لما كانت إيران تطمح إليه منذ أن بات العراق مجالها الحيوي، وهو أن تحقق ما كان يدور الحديث عنه منذ سنوات، أي ما أطلق عليه "الهلال الشيعي"، وهو توصيف إن ساغ استعماله على صعيد ما يسمى  بحروب الطوائف كما تسمى الآن إلا أنه بعيد كل البعد عن واقع الدوافع السياسية والاستراتيجية العميقة التي توجه السياسة الخارجية لإيران والتي لا تختلف ولم تختلف في الأساس وفي الغايات عن تلك التي كان نظام الشاه، قبل نظام ولاية الفقيه، يتبعها وإن اختلفت في الوسائل .

ولقد بدأ النزاع السعودي الإيراني، حتى لا نسميه الحرب، يأخذ في سورية طريقه إلى التجذر ما إن بدا أنَّ حرب النظام الأسدي ضد الشعب السوري ستطول بفعل تأثير القوى الداعمة خصوصاً للطرف الأول، ومنذ أن أعلن، بناء على ذلك، كلٌّ واحد من طرفي النزاع هدفه الاستراتيجي من تواجده ونشاطاته على الأرض السورية: إيران التي كان هدفها يتمثل في بقاء الأسد ونظامه، والسعودية التي كان هدفها يتمثل، على النقيض، في إسقاطهما معاً. وكانت حدّة هذا النزاع تتفاقم بالتدريج مع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية من ناحية واستعادة إيران إمكاناتها الاقتصادية كاملة بعد رفع العقوبات التي كانت مفروضه عليها.

والحرب بينهما، منذ خمس سنوات تقريباً، جارية على أشدها. سوى أن إيران كانت، في واقع الأمر، تحتل موقعاً يتخطى بما ينطوي عليه من ميزات موقع خصمها السعودي. فهي لا تتواجد من خلال النظام الأسدي ذاته الذي بات شبه ناطق بسياستها وبمصالحها فحسب بل كذلك من خلال كل القوى التي استنفرتها لهذه الحرب والتي جمعت حزب الله بوصفه ذراعها الضاربة الفعلية في لبنان والميليشيات العراقية فضلاً عن المرتزقة القادمين من أفغانستان وإيران والعراق الذين جندهم الحرس الثوري الإيراني للقتال في سورية، والتي تعمل جميعها تحت إشراف وبإمرة القيادة الإيرانية مباشرة. لكن الميزة الاستراتيجية الأقوى كانت تتمثل في الدعم الحاسم وغير المحدود الذي كانت تقدمه روسيا للطرفين، النظام السوري وحليفه الإيراني، سواء على صعيد التسليح أو على الصعيد السياسي.

أما السعودية فهي تقوم، دون دعم أمريكي مماثل في قوته، بدعم وتسليح عدد من المنظمات التي حملت السلاح في وجه النظام الأسدي. سمح هذا الدعم لهذه المنظمات بالصمود في مواجهة آلة العنف الأسدية الإيرانية دون منحها القدرة على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. كما لو أنه لا يرمي إلى جعلها تتغلب على خصمها الأساس بل إلى مجرد تحقيق التوازن الحربي بينها وبينه. حتى إشعار آخر. ومع دخول روسيا بعتادها وبرجالها ميدان المعركة، صار اختلال هذا التوازن الأخير مهدداً إلى حد كبير بأن يميل لصالح النظام الأسدي وحلفائه على الأرض. وهو ما حاولت السعودية على الفور أن تتلافاه في الأسابيع التي تلت بدء الحرب الروسية الجوية في سورية.

كان تواجد السعودية وإيران معاً في مؤتمر فيينا الثاني الذي وضع خطة طريق "الحل السياسي للأزمة السورية" يعبر عن إقرار بالحالة الراهنة للقوى العاملة على الأرض السورية. تمثل إيران، بمعنى من المعاني، النظام الأسدي، في حين تمثل السعودية قوى المعارضة التي تقاتله سياسياً وعسكريا بحيث أنها كانت هي التي طُلِبَ إليها رسمياً جمعها ضمن وفد واحد يمثلها جميعاً في المفاوضات المنتظرة.

ولقد أمكن للسعودية أن تحقق ذلك بنجاح ملحوظ. ثم جاءت تصريحات وزير خارجيتها لتضع النقاط على الحروف بصدد مصير بشار الأسد الذي سكت عنه قرار الأمم المتحدة 2254 الأخير: إما أن يرحل سلماً أو حرباً. لكنَّ قيام الطيران الروسي باغتيال زهران علوش عقب الإعلان عن نجاح مؤتمر المعارضة السورية بالرياض ومتزامناً مع تصريح وزير الخارجية الأمريكي حول بعض التحفظات على بيان المؤتمر، بدا وكأنه يحمل رسالة روسية تذكِّرُ السعودية أولاً، وكل القوى الإقليمية الأخرى الداعمة لخصوم النظام الأسدي وفي المقام الأول منهم تركيا التي سبق أن أسقطت طائرة السوخوي الحربية ثانياً، بالقوة الحقيقية التي سوف تحدد من الآن فصاعداً قواعد اللعبة في سورية. لكن هذه الرسالة ـ كما اتضح فيما بعد ـ  لم تفتَّ في عضد السعودية. إذ استمر وزير الخارجية السعودي من ناحية في تكرار تصريحه بصدد إقصاء الأسد كلياً، في حين قام الرئيس التركي من ناحية أخرى بزيارة إلى الرياض كان من أهم نتائجها إنشاء مجلس تعاون استراتيجي يطال كل المجالات ولاسيما مجال الشأن السوري الذي تتطابق رؤيتاهما بصدده. كما لو أن البلديْن كانا بذلك يرسلان، هما الآخران، رسالة جوابية إلى روسيا تؤكد حضورهما في الميدان السوري ورفضهما الإملاءات الروسية.

صحيح أن ذلك كله كان يرسم إشارة إلى أنَّ إنجاز الحل السياسي سوف يواجه كثيراً من العقبات على الأرض إن استمرت روسيا في تجاهل موقفيْ البلدين بالنسبة إلى وجود الأسد، وهو تجاهل وجد صداه في تطور موقف الولايات المتحدة التي أوضحت أنها لا تعارض مثل هذا الوجود خلال "فترة ما" من المرحلة الانتقالية! لكنه كان يشير أيضاً إلى حدود تأثير تفاقم النزاع السعودي الإيراني الأخير على مسار هذا الحل السياسي في سورية. فقد بذلت إيران ولا تزال تبذل كل ما بوسعها من أجل كف يد السعودية عن سورية من خلال تعزيز دعمها الحربي للحوثيين في اليمن والحيلولة بكل الوسائل دون تحقيق انتصار حاسم للسعودية ضدهم وضد قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح . كما أنها عرقلت جهود السعودية للوصول إلى تحقيق انتخاب رئيس لبناني جديد بواسطة حزب الله، ذراعها الضاربة في لبنان. كان ذلك قبل إعدام نمر باقر النمر، ولسوف يستمر بعد إعدامه. لكنه لن يغير، كما هو واضح منذ قرار السعودية شنَّ عاصفة الحزم في اليمن، من موقف هذه الأخيرة في شيء بالنسبة إلى سورية. وكان البيان الذي وقعته مختلف فصائل المعارضة السورية في ختام اجتماعها بالرياض دليلاً باهراً على نجاح السعودية في توحيد المعارضة وفي نزع صفة الإرهاب عن المقاتلين منهم. لكن وجود روسيا بمباركة أمريكية مبدئية على أرض المعركة  لن يضمن لها بالضرورة مقعداً دائماً لممارسة التأثير على مائدة المفاوضات. كما لن يضمن لتركيا مثل هذه المقعد.

وهذا يعني أن أوار القتل سيستمر، وأن السوريين سيستخدمون باستمرار وقوداً لهذا الصراع على سورية. ومرة أخرى، حتى إشعار آخر.



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس الأسبوعي، 10 كانون الثاني 2016، ص. 9


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire