رويترز/ القاهرة: مقابلة مع بدرالدين
عرودكي
ـ في ما يخص العلاقة بالغرب/الترجمة.. هل يمكن تكرار ظاهرة مثل محفوظ.. الذي
عني فقط بتجويد أدواته، ولم يلهث وراء ترجمات ثم أتت الجائزة إليه متأخرة جدا؟
ماذا لو لم تكن نوبل؟ كيف تتصور خسارة "الفتح" الذي أحدثته الجائزة
لمرور الأدب العربي إلى العالم؟
** أرى أن
نجيب محفوظ ظاهرة استثنائية في أدبنا الروائي العربي تشبه في فرادتها ظواهر روائية
غربية مثل بلزاك، وإميل زولا في فرنسا، أو
دستويفسكي وتولستوي في روسيا. ويبدو لي أنه كان قد خطَّ لنفسه منهجاً في العمل وفي
الإنتاج لا يثنيه عنه شيء. لم يكن رجل علاقات عامة يقوم بالترويج لرواياته شأن
الكثير من الروائيين بما فيهم الكبار لا في العالم العربي فحسب بل في الغرب أيضاً،
كما بقي طوال حياته ينشر رواياته لدى ناشر واحد، مكتبة مصر، باستثناء رواية
"أولاد حارتنا" للأسباب المعروفة.
بدأت ترجمة
روايات نجيب محفوظ إلى اللغة الفرنسية قبل حصوله على جائزة نوبل،وحين نشر الجزء
الأول من الثلاثية، بين القصرين، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات من حصوله على هذه
الجائزة، طبعت منه أربعة آلاف نسخة نفذت
خلال أشهر معدودات فاضطرت دار النشر إلى طبعه ثانية وثالثة ورابعة.. ولا أزال أذكر
النقد الذي وجهته إليَّ مجلة عربية تصدر بباريس آنذاك حين تحدثتُ عبر الإذاعة عن
هذا النجاح لرواية محفوظ بالفرنسية تتهمني فيه بالمبالغة باعتبار أنها لم تعثر على
صيغة "الطبعة الثانية" أو الطبعة الثالثة" على غلاف الرواية وهو
تقليد لا تتبعه دور النشر الفرنسية أصلاً..
أريد أن أقول
إن مجرد هذا النجاح لرواية ولروائي غير معروفين من الجمهور الواسع كان إشارة إلى
أن الطريق إلى انتشار الأدب العربي الحديث باللغات الأخرى ممكن التحقيق. لاشك أن
جائزة نوبل أتت في الوقت المناسب لا لخلق الحركة بل لزيادة سرعتها أضعافاً مضاعفة.
وهنا لابد من
الإشارة إلى أنَّ ما حظيت به رواية "بين القصرين" لم تحظ به روايتة
"مائة عام من العزلة" مثلاً عندما ترجمت إلى الفرنسية. ولقد استمر أدب
أمريكا اللاتينية يترجم إلى الفرنسية خلال ثلاثين عاما قبل أن يحظى أدبها الروائي
بالشهرة التي تليق به..
ـ ما الذي يحكم ترجمة الأدب العربي إلى الغرب؟
** دور النشر الفرنسية مؤسسات تجارية
تعمل وفق قانون العرض والطلب. أعني أن مسؤوليها ينشرون ــ ما لم يحصلوا على مساعدات حكومية أو غير
حكومية ــ بناء على توقعات رواج الكتاب الذي ينشرون. ولا
شك أن نجاح بعض الكتب يعوض خسارة البعض الآخر. ومن هنا فإن ما يحكم ترجمة الأدب
العربي إلى الغرب بصورة عامة هو ـ من حيث المبدأ ـ هذا القانون الذي لا يحفز دور
النشر على أخذ المبادرة في ترجمة أعمال أدبية عربية ما لم يكن نجاحها التجاري شبه
مضمون.
أول من اهتم بالأدب العربي الحديث من دور
النشر كانت منشورات سوي الفرنسية التي كان على رأسها أحد كبار المختصين الفرنسيين
بابن عربي، وهو ميشيل شودكفيتش. فهو الذي كان في بداية ستينيات القرن الماضي وراء
نشر ثلاث مجلدات تضمنت مختارات من الكتابات العربية المعاصرة خصص أحدها للمقالات
والأبحاث، وثانيها للشعر وثالثها للقصة والرواية، وكانت بمثابة المدخل باللغة
الفرنسية إلى الأدب العربي المعاصر الذي لم يكن معروفاً ولا موضع اهتمام من قبل
الجامعة الفرنسية. وكان جاك بيرك وأندريه ميكيل هما أول أستاذين جامعييْن يقبلان
الإشراف على رسائل دكتوراه تتناول موضوعاًت أدبية عربية حديثة أو معاصرة.
إلى جانب قانون العرض والطلب، هناك ذائقة
المترجم. فمثلاً جان فرنسوا فوركاد ترجم رواية جمال الغيطاني "الزيني
بركات" لأنه أحب هذه الروايةّ ولأنه وجد في شودكيفيتش المشار إليه ناشرها.
لكن ما هو سائد بالفعل حتى الآن في الغالبية العظمى من الكتب العربية المترجمة إلى
الفرنسية ــ أي خارج قانون العرض والطلب
الذي أشرت إليه أو شهرة الكاتب ــ هو أن دور النشر تتلقى دعماً مالياً من وزارة
الخارجية الفرنسية بناء على مقترحات يقدمها مدراء المراكز الثقافية الفرنسية في
بعض البلدان العربية ولا سيما في مصر ولبنان.
ولا يقدم هذا الدعم المالي إلا لروايات أو كتب يتم اختيارها من قبل هذه
المراكز أو أن هذه الأخيرة توافق عليها عند تلقيها اقتراحات بها من قبل دور النشر
الفرنسية. والقاعدة هنا: من يدفع هو من يختار! ولابدّ من التذكير والإشارة هنا إلى
أن ترجمة أوائل روايات نجيب محفوظ أو إميل حبيبي على سبيل المثال لم تتم إلا بفضل
الدعم المادي للناشر الذي قدمه معهد العالم العربي بباريس في حينه.
ـ هل تتواصل دوائر الاستشراق بصورة ما.. بدليل الاهتمام بأعمال متواضعة فنيا
ولكن لها طابعا استشراقيا.
** من المؤكد
أن هناك بعض الأعمال المتواضعة فنياً تترجم إلى الفرنسية لأنها تقدم في غالب
الأحيان نموذجاً عن الصورة النمطية التي تكونت في الوعي الغربي عن العربي. وكما
قلت قبل قليل: من يدفع هو من يختار أو يوافق على ما سيترجم. ومن يدفع في غالب
الأحيان هي المراكز الثقافية الفرنسية ..
ـ ألا يزال الغرب ينظر للرواية عموما من هذه الزاوية "المعرفية لا
الفنية" باعتبارها فنا أو بضاعتهم ردت إليهم؟ بدليل عدم الحفاوة بترجمة أعمال
اصيلة ومنها روايات لعبد الحكيم قاسم مقابل محمد شكري والطاهر بن جلون مثلا
** من هو "الغرب الذي ينظر
للرواية"؟ إن كنتَ تقصد دور النشر، فخياراتها محكومة بالعوامل التي أتيت على
ذكرها وليست الزاوية المعرفية أو الفنية بالضرورة معيارها. أما إذا كنت تقصد النقد
الأدبي، فلا شك أن ما ترجم من أعمال روائية إلى الفرنسية خلال السنوات الثلاثين
الماضية قد لقي اهتماماً نقدياً كبيراً معرفياً وفنياً في آن واحد. سبق أن كتبتُ
عن استقبال ترجمة بين القصرين من قبل ملحق الكتب الذي تنشره صحيفة اللوموند كل
خميس وحمل عنوان "ملك الرواية". لكن روايات صنع الله إبراهيم مثلاً
وجمال الغيطاني حظيت أيضاً هي الأخرى بمراجعات نقدية مهمة في مختلف الصحف الفرنسية
عند صدورها. هذا دون الحديث عن الدراسات الجامعية والرسائل التي تكتب عن هذا
الروائي أو ذاك أو عن هذا العمل أو ذاك. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الطاهر
بن جلون يعتبر مادام يكتب بالفرنسية مباشرة كاتباً فرنسياً يُترجم إلى العربية،
مثله في ذلك مثل أمين معلوف الذي انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية.
ـ الجوائز أيضا ربما تلعب هذا الدور ومنها البوكر وهو ما أثاره سعدي يوسف وغيره،
إذ تلقى أضواء على أعمال تتناول جوانب تنوب عن كتاب الغرب في تناولها عن المجتمع
النائم في سبات التخلف.
** لا أستطيع
أن أقول إن الجوائز التي تمنح للروايات العربية تلعب دوراً ما في اختيارات دور
النشر. تعلم أن هذه الجوائز قريبة العهد نسبياً في العالم العربي. وسمعتها لا
تتجاوز زمنياً حدود الفترة التي تمنح فيها فضلاً عن أنه ندر أن أثرت على أو أسهمت
في زيادة انتشار الرواية التي حملت الجائزة. بخلاف الجوائز في فرنسا ذات القيمة
المادية الزهيدة والتي ينتج عن منحها غالباً ارتفاع عدد النسخ المطبوعة إلى عشرات
بل مئات الآلاف، وهو هدفها الرئيس.
ـ تجربتك في ترجمة "معك" وأين تقيم تجارب السير الذاتية العربية من
طه حسين لمحمد شكري..
** سبق لي أن
تحدثت في أكثر من مناسبة عن ترجمتي لكتاب سوزان طه حسين، معك، وعن فرادة هذه
التجربة ولا سيما في النص الذي قدمت به لهذا الكتاب في طبعته عام 2008 الصادرة عن
المركز القومي للترجمة بالقاهرة أو الطبعة الأخيرة عام 2015 الصادرة عن مؤسسة
الهنداوي بالقاهرة أيضاً. كان من الضروري أن تكتب سوزان هذا الكتاب كي نعيش معها
قصة حب استثنائية في القرن العشرين وفي عالمنا العربي تحديداً. أثنى كثيرون على
ترجمتي، وقد أسعدني ذلك بالطبع، لكني أرى
أنها كانت انعكاساً عفوياً لأسلوب سلس، عميق الدلالات، غني الإشارات لامرأة عاشقة
لم يتوقف حبها يوماً طوال نيف وخمسين عاماً. كان كتابها الوحيد الذي اعتبرته بعد
أن أنجزته ديناً كان عليها أن تقدمه للرجل الذي أحبته. وكلما عدت إلى هذا الكتاب
أذكر بتأثر شديد فضل جاك بيرك الذي حمل سوزان
على كتابته وأوحى لها بإطاره: رحلة حياة فريدة كتلك التي كانا يقومان بها
مع بداية كل صيف من مصر إلى فرنسا، ذهاياً وإياباً.
ندرت السير
الذاتية لدى كتابنا العرب، وأعترف أنني لا أرى بأساً في ذلك. فالأعمال الأدبية
التي يتركها الروائي أو الشاعر وراءه هي أجمل وأصدق وأعمق سيرة ذاتية تنبئنا عنه
لو أنعمنا النظر فيها من هذه الزاوية ملياً.
وفي تراثنا
أكبر وأجمل مثل على ذلك: القرآن، الذي أراه بكل ما اشتمل عليه، السيرة النبوية
بامتياز.
** نشرته مُجْتَزَءاً وكالة رويترز ـ القسم العربي بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2016.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire