samedi 30 janvier 2016


رويترز/  القاهرة: مقابلة مع بدرالدين عرودكي





ـ في ما يخص العلاقة بالغرب/الترجمة.. هل يمكن تكرار ظاهرة مثل محفوظ.. الذي عني فقط بتجويد أدواته، ولم يلهث وراء ترجمات ثم أتت الجائزة إليه متأخرة جدا؟ ماذا لو لم تكن نوبل؟ كيف تتصور خسارة "الفتح" الذي أحدثته الجائزة لمرور الأدب العربي إلى العالم؟

** أرى أن نجيب محفوظ ظاهرة استثنائية في أدبنا الروائي العربي تشبه في فرادتها ظواهر روائية غربية  مثل بلزاك، وإميل زولا في فرنسا، أو دستويفسكي وتولستوي في روسيا. ويبدو لي أنه كان قد خطَّ لنفسه منهجاً في العمل وفي الإنتاج لا يثنيه عنه شيء. لم يكن رجل علاقات عامة يقوم بالترويج لرواياته شأن الكثير من الروائيين بما فيهم الكبار لا في العالم العربي فحسب بل في الغرب أيضاً، كما بقي طوال حياته ينشر رواياته لدى ناشر واحد، مكتبة مصر، باستثناء رواية "أولاد حارتنا" للأسباب المعروفة.

بدأت ترجمة روايات نجيب محفوظ إلى اللغة الفرنسية قبل حصوله على جائزة نوبل،وحين نشر الجزء الأول من الثلاثية، بين القصرين، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات من حصوله على هذه الجائزة، طبعت منه أربعة آلاف نسخة  نفذت خلال أشهر معدودات فاضطرت دار النشر إلى طبعه ثانية وثالثة ورابعة.. ولا أزال أذكر النقد الذي وجهته إليَّ مجلة عربية تصدر بباريس آنذاك حين تحدثتُ عبر الإذاعة عن هذا النجاح لرواية محفوظ بالفرنسية تتهمني فيه بالمبالغة باعتبار أنها لم تعثر على صيغة "الطبعة الثانية" أو الطبعة الثالثة" على غلاف الرواية وهو تقليد لا تتبعه دور النشر الفرنسية أصلاً..

أريد أن أقول إن مجرد هذا النجاح لرواية ولروائي غير معروفين من الجمهور الواسع كان إشارة إلى أن الطريق إلى انتشار الأدب العربي الحديث باللغات الأخرى ممكن التحقيق. لاشك أن جائزة نوبل أتت في الوقت المناسب لا لخلق الحركة بل لزيادة سرعتها أضعافاً مضاعفة.

وهنا لابد من الإشارة إلى أنَّ ما حظيت به رواية "بين القصرين" لم تحظ به روايتة "مائة عام من العزلة" مثلاً عندما ترجمت إلى الفرنسية. ولقد استمر أدب أمريكا اللاتينية يترجم إلى الفرنسية خلال ثلاثين عاما قبل أن يحظى أدبها الروائي بالشهرة التي تليق به..

         ـ ما الذي يحكم ترجمة الأدب العربي إلى الغرب؟

         ** دور النشر الفرنسية مؤسسات تجارية تعمل وفق قانون العرض والطلب. أعني أن مسؤوليها ينشرون  ــ ما لم يحصلوا على مساعدات حكومية أو غير حكومية  ــ  بناء على توقعات رواج الكتاب الذي ينشرون. ولا شك أن نجاح بعض الكتب يعوض خسارة البعض الآخر. ومن هنا فإن ما يحكم ترجمة الأدب العربي إلى الغرب بصورة عامة هو ـ من حيث المبدأ ـ هذا القانون الذي لا يحفز دور النشر على أخذ المبادرة في ترجمة أعمال أدبية عربية ما لم يكن نجاحها التجاري شبه مضمون.

         أول من اهتم بالأدب العربي الحديث من دور النشر كانت منشورات سوي الفرنسية التي كان على رأسها أحد كبار المختصين الفرنسيين بابن عربي، وهو ميشيل شودكفيتش. فهو الذي كان في بداية ستينيات القرن الماضي وراء نشر ثلاث مجلدات تضمنت مختارات من الكتابات العربية المعاصرة خصص أحدها للمقالات والأبحاث، وثانيها للشعر وثالثها للقصة والرواية، وكانت بمثابة المدخل باللغة الفرنسية إلى الأدب العربي المعاصر الذي لم يكن معروفاً ولا موضع اهتمام من قبل الجامعة الفرنسية. وكان جاك بيرك وأندريه ميكيل هما أول أستاذين جامعييْن يقبلان الإشراف على رسائل دكتوراه تتناول موضوعاًت أدبية عربية حديثة أو معاصرة.

         إلى جانب قانون العرض والطلب، هناك ذائقة المترجم. فمثلاً جان فرنسوا فوركاد ترجم رواية جمال الغيطاني "الزيني بركات" لأنه أحب هذه الروايةّ ولأنه وجد في شودكيفيتش المشار إليه ناشرها. لكن ما هو سائد بالفعل حتى الآن في الغالبية العظمى من الكتب العربية المترجمة إلى الفرنسية ــ  أي خارج قانون العرض والطلب الذي أشرت إليه أو شهرة الكاتب ــ هو أن دور النشر تتلقى دعماً مالياً من وزارة الخارجية الفرنسية بناء على مقترحات يقدمها مدراء المراكز الثقافية الفرنسية في بعض البلدان العربية ولا سيما في مصر ولبنان.  ولا يقدم هذا الدعم المالي إلا لروايات أو كتب يتم اختيارها من قبل هذه المراكز أو أن هذه الأخيرة توافق عليها عند تلقيها اقتراحات بها من قبل دور النشر الفرنسية. والقاعدة هنا: من يدفع هو من يختار! ولابدّ من التذكير والإشارة هنا إلى أن ترجمة أوائل روايات نجيب محفوظ أو إميل حبيبي على سبيل المثال لم تتم إلا بفضل الدعم المادي للناشر الذي قدمه معهد العالم العربي بباريس في حينه.

ـ هل تتواصل دوائر الاستشراق بصورة ما.. بدليل الاهتمام بأعمال متواضعة فنيا ولكن لها طابعا استشراقيا.

** من المؤكد أن هناك بعض الأعمال المتواضعة فنياً تترجم إلى الفرنسية لأنها تقدم في غالب الأحيان نموذجاً عن الصورة النمطية التي تكونت في الوعي الغربي عن العربي. وكما قلت قبل قليل: من يدفع هو من يختار أو يوافق على ما سيترجم. ومن يدفع في غالب الأحيان هي المراكز الثقافية الفرنسية ..

    ـ ألا يزال الغرب ينظر للرواية عموما من هذه الزاوية "المعرفية لا الفنية" باعتبارها فنا أو بضاعتهم ردت إليهم؟ بدليل عدم الحفاوة بترجمة أعمال اصيلة ومنها روايات لعبد الحكيم قاسم مقابل محمد شكري والطاهر بن جلون مثلا

         ** من هو "الغرب الذي ينظر للرواية"؟ إن كنتَ تقصد دور النشر، فخياراتها محكومة بالعوامل التي أتيت على ذكرها وليست الزاوية المعرفية أو الفنية بالضرورة معيارها. أما إذا كنت تقصد النقد الأدبي، فلا شك أن ما ترجم من أعمال روائية إلى الفرنسية خلال السنوات الثلاثين الماضية قد لقي اهتماماً نقدياً كبيراً معرفياً وفنياً في آن واحد. سبق أن كتبتُ عن استقبال ترجمة بين القصرين من قبل ملحق الكتب الذي تنشره صحيفة اللوموند كل خميس وحمل عنوان "ملك الرواية". لكن روايات صنع الله إبراهيم مثلاً وجمال الغيطاني حظيت أيضاً هي الأخرى بمراجعات نقدية مهمة في مختلف الصحف الفرنسية عند صدورها. هذا دون الحديث عن الدراسات الجامعية والرسائل التي تكتب عن هذا الروائي أو ذاك أو عن هذا العمل أو ذاك. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الطاهر بن جلون يعتبر مادام يكتب بالفرنسية مباشرة كاتباً فرنسياً يُترجم إلى العربية، مثله في ذلك مثل أمين معلوف الذي انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية.

ـ الجوائز أيضا ربما تلعب هذا الدور ومنها البوكر وهو ما أثاره سعدي يوسف وغيره، إذ تلقى أضواء على أعمال تتناول جوانب تنوب عن كتاب الغرب في تناولها عن المجتمع النائم في سبات التخلف.

** لا أستطيع أن أقول إن الجوائز التي تمنح للروايات العربية تلعب دوراً ما في اختيارات دور النشر. تعلم أن هذه الجوائز قريبة العهد نسبياً في العالم العربي. وسمعتها لا تتجاوز زمنياً حدود الفترة التي تمنح فيها فضلاً عن أنه ندر أن أثرت على أو أسهمت في زيادة انتشار الرواية التي حملت الجائزة. بخلاف الجوائز في فرنسا ذات القيمة المادية الزهيدة والتي ينتج عن منحها غالباً ارتفاع عدد النسخ المطبوعة إلى عشرات بل مئات الآلاف، وهو هدفها الرئيس.

ـ تجربتك في ترجمة "معك" وأين تقيم تجارب السير الذاتية العربية من طه حسين لمحمد شكري..

** سبق لي أن تحدثت في أكثر من مناسبة عن ترجمتي لكتاب سوزان طه حسين، معك، وعن فرادة هذه التجربة ولا سيما في النص الذي قدمت به لهذا الكتاب في طبعته عام 2008 الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة أو الطبعة الأخيرة عام 2015 الصادرة عن مؤسسة الهنداوي بالقاهرة أيضاً. كان من الضروري أن تكتب سوزان هذا الكتاب كي نعيش معها قصة حب استثنائية في القرن العشرين وفي عالمنا العربي تحديداً. أثنى كثيرون على ترجمتي، وقد أسعدني ذلك بالطبع،  لكني أرى أنها كانت انعكاساً عفوياً لأسلوب سلس، عميق الدلالات، غني الإشارات لامرأة عاشقة لم يتوقف حبها يوماً طوال نيف وخمسين عاماً. كان كتابها الوحيد الذي اعتبرته بعد أن أنجزته ديناً كان عليها أن تقدمه للرجل الذي أحبته. وكلما عدت إلى هذا الكتاب أذكر بتأثر شديد فضل جاك بيرك الذي حمل سوزان  على كتابته وأوحى لها بإطاره: رحلة حياة فريدة كتلك التي كانا يقومان بها مع بداية كل صيف من مصر إلى فرنسا، ذهاياً وإياباً.

ندرت السير الذاتية لدى كتابنا العرب، وأعترف أنني لا أرى بأساً في ذلك. فالأعمال الأدبية التي يتركها الروائي أو الشاعر وراءه هي أجمل وأصدق وأعمق سيرة ذاتية تنبئنا عنه لو أنعمنا النظر فيها من هذه الزاوية ملياً.

وفي تراثنا أكبر وأجمل مثل على ذلك: القرآن، الذي أراه بكل ما اشتمل عليه، السيرة النبوية بامتياز.

   

** نشرته مُجْتَزَءاً وكالة رويترز ـ القسم العربي بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2016.

mercredi 27 janvier 2016


هذا الحلم  الموؤود

بدرالدين عرودكي

خمس سنوات كانت كافية لتظهير المعاني الأعمق والأدق لما حدث إثر اشتعال النار في جسد  هذا الشاب التونسي، محمد بو عزيزي، الذي بلغ من اليأس حدّ التمام فصار الموت والحياة في عينيْه سيان، مُطلِقاً بموته دون أن يدري أكبر حراك شعبي عرفه العالم العربي، بل العالم أجمع، في تاريخه الحديث.

خرجت الجماهير في تونس ومصر تطالب بإسقاط نظام الأبد والتوريث. ولحقت بهما جماهير ليبيا وسوريا واليمن. هرب بن علي بعد أن حاول تخفيف آثار الأبد بلا جدوى، وتنحى مبارك ملغياً الأبد والتوريث معاً. أغرت السرعة التي خرج بها هذا وذاك جماهير ليبيا وسوريا واليمن في أن تأمل خروج مستبديها بسرعة مماثلة. لكن هؤلاء استوعبوا الدرس فأطلقوا النار على جماهيرهم، واستحال الأمل رعباً موصوفاً ولا يزال.

ذهل العالم أجمع من انتفاضة عالم عربي كان يبدو وكأنه في سبات أهل الكهف وكان الجميع قد اعتبره الاستثناء. وهرع الساسة من الغرب ومن الشرق إلى ميدان التحرير يستجوبون شباباً لم يكونوا يملكون سوى الأمل، أو الحلم، ببلد يملكون فيه مصيرهم وقدرهم، ولا يُرغمون على أن يدفعوا حريتهم وكرامتهم ثمناً لوجودهم فيه.

قيلَ على ألسنة الجميع وكُتِبَ الكثير مما قيل، على حذر تارة وبيقين تارة أخرى، بما يفيد من ناحية معنى مؤامرة دُبِّرت في الخارج: شباب تمَّ تدريبهم في الولايات المتحدة وفي أوربا بين 2003 و2004 عبر منظمات غير حكومية، تمولها مع ذلك الحكومات، على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في من أجل التجمهر والتوجيه والشعارات؛ أو بما يعبر من ناحية أخرى عن رفض مطلق لنظرية المؤامرة بناء على استحالة التلاعب بحركة جماهيرية أو السيطرة عليها وتوجيهها لاسيما وأنها كانت حركة عفوية بلا قيادات حقيقية ظاهرة أو خفية؛ أو أخيراً بما يستعيد مشروع الفوضى الخلاقة الذي كان عنوان مشروع جورج بوش الإبن في منطقة الشرق الأوسط الذي بدأ بالحرب في العراق واستؤنف عن طريق حركات جماهيرية سلمية من أجل إعادة تنظيم المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى المغرب الأقصى. لكن أحداً لم ينتبه إلى إمكان تلفيق المؤامرة واختلاقها ثم تظهيرها بطرق لا يتقنها إلا نظام أمني عريق كما فعل النظام الأسدي فور انطلاق الحراك الثوري.

كتب ذلك كله في مختلف الصحف الأوربية مع الإشارة الواضحة إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية الرئيس في تنظيم الدورات التدريبية للمدونين القادمين من تونس ومن مصر، وعلى نحو كثيف اعتباراً من عام 2007. لم يكن من السهل قبوله جملة أمام مشهد الجماهير غير المسبوق وهي تخلع في عشرة أيام بن علي في تونس وفي خمسة عشر يوماً مبارك في مصر، وكلا منهما كان حليفاً مرضياً عنه أمريكياً كل الرضا. لكنَّ مَنْ قبلَ هذا التفسير وبنى خياراته عليه في معالجة الحراك في بلده كانت أنظمة ليبيا وسوريا واليمن. لم تترك الفرصة للنظام الليبي كي يقاوم أو يحقق ما كان يشرع في الإقدام عليه، فكان التدخل العسكري الذي جاء بعد تردد طويل كافياً للحسم في إزاحة النظام. أما في اليمن فقد ناور علي عبد الله صالح مسلحاً بكل ما يملكه من وسائل أتقن استخدامها طوال نيف وخمسة وثلاثين عاماً حكم خلالها رئيساً لليمن؛ بخلاف سوريا التي كانت إيران شديدة الحضور فيها ومن حولها تسعى بمختلف الوسائل العسكرية والسياسية لدعم النظام الأسدي في القضاء على الحراك الثوري الوليد.  

وإذا كان مجرى الأحداث خلال الأسابيع والأشهر التالية، في تونس ومصر أولاً، بدا وكأنه يكذب ما قيل حين غادرت الجماهير الشوارع لتتابع ثمرات حراكها من خلال تجربة ديمقراطية وليدة تعد بالكثير رغم الخشية من انكفائها بسبب هشاشتها، فإن ما جرى في ليبيا واليمن وسوريا ثانياً كان يزيد من تعقيد الصورة وضبابيتها ويعيد التذكير من جديد بالشكوك التي تخللت أكثر الكتابات تفاؤلاً بما أطلق عليه "الربيع العربي".

أسهمت القوات الفرنسية بمشاركة قوات حلف الناتو في إسقاط القذافي ونظامه، لكن جماعات المقاتلين المختلفة التي تكونت خلال المعركة ضد القذافي وجنوده، هيمنت على المشهد السياسي بتناقضاتها وخلافاتها وانتماءاتها القبلية أو الجغرافية بحيث تعثرت العملية الانتقالية المنتظرة من أجل النظام الجديد الموعود حتى صار من المستحيل الوصول إلى حلٍّ يرضي الأطراف كلها فكان لابد من تدخل خارجي، من خلال ممثل أممي هذه المرة، يحاول أن يصل بها إلى صيغة توافقية تؤدي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وإلى برلمان موحد يرسي قواعد النظام الجديد المأمول.

ولم يكن اليمن أحسن حالاً. فالحل السياسي الذي جرى الوصول إليه تحت إشراف مجلس التعاون الخليجي وأدى إلى خروج علي عبد الله صالح من الحكم وحلول نائبه مكانه سرعان ما أدى، بفعل مناورات الرئيس السابق والقوى العسكرية والقبلية التي تدعمه، إلى انقلاب قام به الحوثيون بدعم من إيران سيطروا بموجبه على أركان الدولة ومؤسساتها في أرجاء اليمن كلها، مما حمل الحكومة التوافقية على اللجوء إلى الرياض التي لم تلبث أن شنّتْ ضمن تحالف خليجي وعربي عاصفة الحزم من أجل إعادة الشرعية والحيلولة دون تحقيق إيران لأهدافها من وراء دعم واحد من مكونات الشعب اليمني على حساب المكونات الأخرى.

أما سوريا فهي تقدم الصيغة الأكمل والأكثر جلاء لما جرى ويجري في ليبيا وفي اليمن. فقد اعتمد النظام السياسي العائلي، الذي يضاهي في فحشه واستبداده ودهائه النظم العربية مجتمعة، في خياره الردّ على الحراك الجماهيري الثوري، على قوة إقليمية، إيران، ترى فيه صمّام أمان أهدافها التوسعية بعد أن هيمنت على العراق ومكنت ذراعها في لبنان من الإمساك بمفاتيح الحكم فيه، وعلى قوة دولية، روسيا، التي، وهي تستعيد بفعل ما جرى في سوريا أداة تستخدمها في صراعاتها أو في منافساتها السياسية منها والتجارية مع القوى الغربية، أخذت على عاتقها لتحقيق ذلك ضمان استمرار النظام الأسدي دون أي تغيير جوهري فيه أو  في رأسه.

من الممكن أن نرى في ضوء ما سبق، أن ما انطلق في تونس مع نهاية عام 2010 وامتد ليشمل العالم العربي خلال الأشهر الأولى من عام 2011 لم ينته بعد. وأنّ ما بدا في الشهرين الأوليْن من عام 2011 انهياراً سريعاً للاستبداد لم يكن إلا بداية صراع معه لا يزال قائماً وسيمتد. وأن الثورات لم تؤتِ أكُلها بعدُ وأن الطريق أمامها لا يزال طويلاً أمام تحقيق حلم بتغيير سريع تمّ وأدُه على وجه السرعة.

ذلك لا ينفي بالطبع واقعيْن تبرهن عليهما مجريات الأحداث حتى اليوم: الأول أن ثمة مشروعاً وضعت تفاصيله وأهدافه من أجل إعادة النظر بخارطة المنطقة العربية كلها بل وببعض البلدان المحيطة بها، مشروع يعود إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ والثاني أن ثمة ثورة حقيقية تطالب بالحرية وبالكرامة وبالعدالة الاجتماعية أطلقها من لم يكن منتظراً منه أن يقوم بها: فتيات وفتيان في ريعان الشباب، لم يملكوا سوى الحلم، وكانوا على استعداد للتضحية من أجل تحقيقه وقد فعلوا. ولا يزالوا يفعلون.

وعلى أنه مجرد حلم بات اليوم موؤوداً، إلا أنه، مع ذلك، كان قد أحيا أملاً خيِّل للكثيرين أنه تلاشى مع سنوات الاستبداد والقمع، وها هو يشعّ حياة ونوراً في مواجهة قوى الموت والظلام.



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 28 كانون الثاني 2016، ص. 23.

  1. خليل أبو رزق
  2. 28 كانون الثاني 2016
  3. فوجئء العالم بنجاج الارادة الشعبية في اسقاط النطامين المصري و التونسي و هما من اعتى الانظمة و لاح في الافق ان سقوط باقي الانظمة و بلا استثناء مسألة ايام. و بدا العالم انه مستعد للتكيف و ان ما حدث هو اصلا حتمي بل تأخر عن موعده كثيرا.
    لكن عندما وصل الامر الى دمشق على بعد 25 كيلومتر من حدود الكيان العدو اطلق صرخته ما البديل؟ هل سيقع هذا الكيان بين فكي كماشة مصر و سوريا. و ترردت صرخة ماالبديل في امريكا و ايران و اوربا و باقي الانظمة العربية ووجد هؤلاء جميعا ان لهم مصلحة واحدة هي عدم تمكين الارادة الحرة للشعب السوؤي لان ذلك سيقلب كل المعادلات. فأفسدوا الثورة بتدخلات و اساليب تضمن البديل الذي يرغبونه او ضمان دمار البلد قبل ان تعود الى اهلها.
    اليس هذا ما فعلته اسرائيل في القنيطرة قبيل الانسحاب منها و بالتواطؤ من النظام الذي منع اهلها من العودة اليها
 

mercredi 20 janvier 2016


إيران والعرب

 ثوابت التاريخ والجغرافيا

بدرالدين عرودكي

مطامح إيران في الهيمنة على العراق وبلاد الشام وعلى جزيرة العرب وصولاً إلى مصر شديد القدم. كانت، كلما بدا أنها حققت بعض هذا الطموح، تُرغَمُ دوماً على العودة من حيث أتت. حدث ذلك مراراً خلال عشرة قرون قبل الإسلام، ثم بدا أنه، بعد انطلاق الدعوة إليه ورسوخه بما يقرب من ثلاثين عاماً، قد وضع حدّاً لهذا الطموح. وحين قال عمر بن الخطاب ببصيرة مذهلة في استشرافها المستقبل، أثناء معارك الفتح: "وددت لو أني لم أكن بَعثتُ إلى خراسان جنداً ولوددتُ أنه كان بيننا وبينها بحرٌ من نار"، كان يبدو وكأنه يدرك أن الفتح لن يجدي شيئاً. لم يكن غريباً والحالة هذه أن يُغْتالَ ويُقتلَ على يد فارسي.

لذلك تبدو إيران اليوم/فارس الأمس، في علاقاتها التاريخية مع العرب، وكأنها لا تزال تستحضر في ذاكرتها حدثين تاريخيين: انتصار العرب في معركة ذي قار عام 592 ميلادية، واجتياحهم تحت راية الإسلام فضاءها، في منتصف القرن السابع، يوم كان عمر بن الخطاب أمير دار الإسلام. وكأنَّ مسؤوليها، أيضاً، يتذكرون ما سجله المؤرخ اليوناني هيرودوس في حديثه عن داريوس:"ولقد اعترف بسلطانه جميع أقوام آسيا الذين كان قد ذللهم كوروش ثم قمبيز، إلا العرب". لكن العرب كابدوا فارس وطموحاتها طوال تاريخهم حتى حين لم تكن لها إمبراطورية أو دولة.

ذلك أنها، بفعل وتحت ضغط التاريخ والجغرافيا، لم تكف طوال العصور التالية على القرن السابع أن تعمل كلما سنحت الفرصة على الهيمنة عن طريق الحيلة بعد أن فقدت القدرة على العمل بسواها. ولم تكن نكبة الوزراء والمستشارين البرامكة خلال العصر العباسي إلا واحدة من محاولات عديدة بدأت مع انطلاق الخلافة العباسية (أبو مسلم الخراساني) ولم تنتهِ مع دولة بني بويه.

وتحت ضغط التاريخ والجغرافيا كانت إيران في عهد الشاه تبني قوتها وهي تتطلع إلى الهيمنة على جيرانها. ولم يكن إصرارها على تسمية الخليج الذي يتقاسمه العرب والإيرانيون باسم "الخليج الفارسي" بدلاً من "الخليج العربي الفارسي" مثلاً إلا إمعاناً في تأكيد تطلعاتها. فللأسماء أيضاً دلالاتها. هكذا احتلت في يوم واحد (30 تشرين الثاني 1971) ثلاثة جزر تعتبرها الإمارات العربية المتحدة جزءاً من أراضيها كي تحتكر السيطرة على الملاحة في مضيق هرمز.

لم تكن موازين القوى الإقليمية والدولية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تسمح لإيران بالتمدد فيما وراء ذلك. لكن الثورة الإيرانية التي سرعان ما سيستأثر بها آيات الله بعد إقصاء القوى الديمقراطية قتلاً أو سجناً أو تشريداً سوف تعتمد وسيلة تتيح لها تحقيق مطامحها ذات الطابع القومي المحض أساساً دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية المباشرة. هذه الوسيلة هي الأيديولوجية التي يمكن بها التواجد في كل مكان دون أي اتهام بالعدوان: الإسلام في ثوبه الثوري الجديد يستعيد "مظالم" التاريخ القديم، تحت إشراف "ولاية الفقيه" المباشر أو "كسرى" الأزمنة الحديثة، ويتبنى القضايا الراهنة للمنطقة وعلى رأسها القضية العربية: فلسطين. خُدِعَ الكثيرون لاسيما حين أسكنت الثورة الجديدة سفارة فلسطين في مقر سفارة إسرائيل بطهران. حسِب الكثيرون أيضاً، ولم يكن ياسر عرفات الوحيد بينهم، أن إيران ستكون من الآن فصاعداً العمق الاستراتيجي لنضال الفلسطينيين.

ولو امتلك صدام حسين ذرة من الحكمة لاستعاد كلمة عمر بن الخطاب ولما خاض بجنود العراق حرباً لم تكن لتؤدي إلا إلى مزيد من الخراب. ولكن فضيلة هذه الحرب، إن كان للحرب فضائل، أنها كشفت الغطاء كاملاً عن استراتيجية إيرانية متكاملة سوف توضع موضع التطبيق بالتدريج مستفيدة من كل الظروف السياسية المحلية والإقليمية والدولية. إذ لم يكن وقوف حافظ الأسد إلى جانب إيران في حربها مجرد قرار عابر ولا رؤية عبقرية اختصته السماء بها. فقد أتاح من خلال قواته في لبنان التي كانت تشرف على الحرب الأهلية الدائرة فيه آنذاك  فرصة ولادة الوجود الإيراني العياني عن طريق حزب الله الذي صار اعتباراً من عام 1982 ذراع إيران السياسية والعسكرية تحركها كيف تشاء متى تشاء، أو كما قال أحد مسؤوليها، إبراهيم الأمين: "نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في إيران". وشأن الحركات الإسلامية في العالم العربي، والتي كانت تغذي حاضنتها بالخدمات الاجتماعية والخيرية كي تجند أكبر عدد من أبنائها، كذلك فعل حزب الله في الجنوب اللبناني، بحيث بلغ به الأمر أن صار في الداخل اللبناني أشبه بدولة داخل الدولة.

ولو امتلك صدام حسين أقل من تلك الذرة من الحكمة لما غامر واحتل الكويت عام 1990كي ينتهي به الأمر إلى مواجهة العراق القوة الأمريكية في حرب الخليج الأولى  ثم تدميره في حرب الخليج الثانية دولة ومجتمعاً وتاريخاً وصولاً إلى السماح لإيران بأن تجعل منه فضاءها الحيوي.

هكذا، خلال ما يقارب عشرين سنة، وعن طريق التقارب مع دولة عربية مفتاح كسورية النظام الأٍسدي، والاحتلال التدريجي لمركز القرار في بلد آخر لا يقل أهمية كلبنان من خلال حزب يجمع من حوله طائفة هي الأهمّ عدداً بين الطوائف الأخرى، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ إلى وضع اليد على العراق أرضاً ومصيراً،  استطاعت إيران أن تصير أحد مراجع كل قرار يخص المنطقة بعد أن  باتت القوة الإقليمية التي لا يمكن تجاهلها عند اتخاذه.

سيتجلى ذلك بقوة خلال سنوات الحراك الثوري في مختلف البلدان العربية، وبقوة أكبر في سورية حين قامت ثورة شعبها ضد النظام الأسدي. إذ لن تكتفي إيران بدعم هذا النظام سياسياً ودبلوماسياً ومالياً وعسكرياً، بل ستحرك حزب الله لدعم النظام الأسدي مثلما ستحرك الميليشيات العراقية التابعة لها أو المرتزقة الذين ستجندهم من كل مكان للغرض نفسه. أما خبراؤها من قادة الحرس الثوري فسيتواجدون في غرف العمليات وأحياناً في الميدان دفاعاً عما أطلق عليه بعض مسؤوليها المحافظة 35 من إيران!

لكن ذلك لن يكفيها بالطبع. فثوابت التاريخ والجغرافيا تشير أيضاً إلى أنها، على مر العصور وكلما سنحت لها الفرصة، لم تكن تكتفي ببلاد الشام فضاء لها. فقد كانت تغذي في الجزيرة العربية وبالطريقة ذاتها التي سلكتها في لبنان، ما يمكن أن يتيح لها ذات يوم أن تسيطر على مراكز القرار في بلدان الخليج العربي، وصولاً إلى اليمن.

فالطريقة ذاتها التي اتبعتها في لبنان، أي الاعتماد على أيديولوجية المظلوميات التاريخية، ستتبعها في البحرين، ثم في اليمن من خلال استخدام أحد مكونات الشعب اليمني، أي الحوثيين، الذين سيقومون بانقلابهم على السلطة الشرعية ويحتلون مراكز الدولة ومؤسساتها ومراكز القرار فيها. وهي الطريقة ذاتها، أيضاً، التي حاولت بها، من خلال بعض رجالها في السعودية مثل نمر باقر النمر،  التواجد بما يسمح لها التأثير بهذا القدر أو ذاك على مركز القرار فيها.

ومثلما حقق التواجد الإيراني في العراق وفي سوريا وفي لبنان غرضه جاعلاً من أهداف أي حراك شعبي ثوري أضغاث أحلام، كذلك يحاول أن يفعل في اليمن جاعلاً من خروج هذا البلد العربي من أعماق القرون الوسطى إلى العصر الحديث وهماً من الأوهام.

لن يبقى هذا الزلزال الذي قامت به إيران خلال السنوات الثلاثين الماضية في المنطقة العربية دون زلزال ارتدادي يؤكد ثوابت التاريخ والجغرافيا. السؤال الأساس: متى؟

** نشر في صحيفة القدس العربي، 21 كانون الثاني/يناير 2016، ص. 23.



1.    منى

Posted January 21, 2016 at 5:19 AM

نعم صدقت هي عدو تاريخي

رياض السوري

Posted January 21, 2016 at 10:28 AM

الاستاذ بدر عرودكي المحترم

لا فض فوك وسلمت يداك على هذا التحليل التاريخي الجيوبوليتكي لرأس محور الشر إيران كما قال بوش الإبن وهو عين الحقيقة. لقد وقفت سوريا تاريخيا في وجه أطماع الأكاسرة والساسانيين عبر التاريخ وربما فاتك الحقبة الزنوبية عندما كانت تدمر سيدة المدن السورية وهزمت الفرس في أكثر من موقعة. إن التحالف الاسدي-الملالي هو تحالف ليس ضد سوريا وشعبها فقط ولكن ضد شعوب المنطقة بأكملها كما ذكرت وهذا ما نوه إليه أكثر من متبجح ايراني بالقول ان امبراطورية ايران وصلت على البحر المتوسط والمحيط الهندي بالاشارة إلى اليمن. إن الثورة السورية اليوم هي العقبة الكأداء التي ان شاء الله ستتفتت عليها أحلام الاسديين المجرمين وكل العمامات العمياء










mercredi 13 janvier 2016


إسقاط الجنسية :

الدلالة الرمزية والغاية السياسة

بدرالدين عرودكي

كان من بعض "منجزات" العملية الإرهابية التي قام بها "تنظيم الدولة" بباريس يوم 13 تشرين الثاني الماضي المباشرة نجاح اليمين المتطرف في فرنسا في الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية أو الجهوية نجاحاً قرع أجراس الخطر على اليمين التقليدي واليسار معاً وأدى إلى استنفارهما لقطع الطريق أمام تقدّمه والحيلولة دون تأكيد هذا النجاح في الجولة الثانية والأخيرة. لكن إنجازاً آخر سرعان ما تجلى في استحواذ رهاب الإسلام وهاجس الحلول الأمنية ذات الطابع العنصري على عقول عددٍ من السياسيين الفرنسيين لم يكونوا جميعاً بالضرورة من اليمين المتطرف.

صحيح أنهم أدركوا الهدف الأول المنشود من هذه العملية الإرهابية غير المسبوقة في طبيعتها وفي طريقة وأمكنة تنفيذها، فجاءت أولى تصريحات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وسواهما من مسؤولي الحكومة الفرنسية تؤكد على ضرورة الفصل في  الحكم على هذه الجريمة بين منظمي العملية الإرهابية ومرتكبيها التسعة الذين كانوا جميعاً من الفرنسيين أو البلجيكيين المسلمين ذوي الأصول العربية، وبين الإسلام والمسلمين عموماً ولاسيما في فرنسا. لكن ما تلا من  خطوات عملية كان أقرب إلى المناورات السياسية في مجمله منه إلى المعالجة الفعلية لجذور المشكلة التي طرحتها العمليات الإرهابية المتتالية في فرنسا.

فقد اتخذت مجموعة من الإجراءات الضرورية والملحة، الحربية (في إطار الحرب ضد "تنظيم الدولة") والأمنية بحثاً عن هويات منفذي العملية ولتعزيز استباق أي عمل إرهابي يمكن أن يتم تنفيذه في المستقبل. لكن المزاودات السياسية التي أطلقها في هذا المجال مرشحو الجبهة الوطنية وعلى رأسهم ماري لوبان، حملت القوى الأخرى من اليمين التقليدي (حزب الجمهورية برئاسة نقولا ساركوزي) واليسار الحاكم على دخول حلبة المزاودة أيضا. إذ عبَّرَ رئيس الجمهورية عن إرادته تقديم مشروع لتعديل الدستور كي يسمح للمشرع تعديل نظام إسقاط الجنسية الفرنسية  بحيث لا يقتصر على مزدوجي الجنسية غير المولودين في فرنسا بل يتيح أيضاً تطبيق هذه العقوبة على كل شخص ولد فرنسياً ويحمل جنسية أخرى إذا ما حكم عليه لارتكابه "جريمة تؤلف مسّاً خطيراً بحياة الأمة". يعني ذلك كل شخص ولد لأب فرنسي، أو ولد في فرنسا لأبٍ ولد هو الآخر في فرنسا أياً كانت جنسيته أو لأب ولد في الجزائر قبل 3 تموز 1962، أي تاريخ اعتراف فرنسا باستقلال الجزائر.  وقد أكد رئيس الجمهورية على إرادته هذه حين تقديمه تهانيه للفرنسيين بمناسبة العام الجديد. ولم يتأخر الفرنسيون في التعبير عن موافقتهم في استفتاء أجريَ لهذا الغرض على المشروع بنسبة تعادل 90 % !

كان لابد لهذا المشروع الذي سيناقشه البرلمان الفرنسي قريباً من أن يثير موجة من الارتباك لدى الاشتراكيين أنفسهم وأولهم وزيرة العدل، كريستيان توبيرا، التي عبرت صراحة عن قناعتها بأن "إسقاط الجنسية ليس مرجوّاً" تطبيقه على الفرنسيين الحاملين لجنسية أخرى. وعلى أنها خففت فيما بعد من وطأة تصريحها المعارض لرئيس الدولة باعتبار أن الكلمة الأولى والأخيرة له، إلا أن مانويل فالس، رئيس الوزراء الفرنسي نفسه الذي دافع عن المشروع ،صرح، من جانبه، بما يمكن اعتباره تفريغاً للمشروع من كل نتائجه المرجوة: "نحن في مواجهة إرهاب خاص يقوم به انتحاريون (...) يقتلون أنفسهم ويقتلون للأسف بشراً من حولهم. إذن، لابد من أن يكونوا حاملين لجنسيتين، ثم يجب أن يكونوا أحياء، وأن يحكم عليهم وأن يُدانوا وأن يُعاقبوا بهذا العقاب. من الواضح إذن أنه لن يكون لدينا منهم كثيراً قبل زمن طويل"!

ثم لا يتوانى عن الردِّ على التأويل القائل إن هذا المشروع الذي قدم بوصفه أداة للنضال ضد الإرهاب سيعني كسر مبدأين معاً: مبدأ الجنسية القائم على ما يسمى حق مكان الولادة ومبدأ المساواة بين المواطنين، ويأسف للسجال حوله لأنه "إجراء ذو دلالة رمزية كبرى" و"لا يمسّ حق مكان الولادة ولا ازدواج الجنسية". سوى أن موضوع النقد لا ينصبُّ، كما أراد لنا أن نفهم، على مسّ المشروع بحق مكان الولادة أو ازدواج الجنسية بل على أنه يمسّ المعنيين بالأمر ممن ولد فرنسيا ويحمل جنسية أخرى، دون سواهم من المواطنين الفرنسيين، وهو ما حمل  عدداً كبيراً من نواب اليسار على اختلاف انتماءاتهم على نقد المشروع  قبل بدء مناقشته رسمياً في البرلمان.

ذلك أن المسألة شئنا أم أبينا مسألة مبدأين دستوريّيْن. الأول يتمثل في أن حق الجنسية هو "حق كل فرد، ولا يمكن لأي شخص أن يحرم من جنسيته" حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والثاني هو مبدأ المساواة الدستوري بين المواطنين الذين يحملون الجنسية ذاتها.

من الواضح أن المشروع والنقاش الذي تلاه يُثار لغايات سياسية قد تكون، لو شئنا استعارة تعبير رئيس الوزراء الفرنسي، ذات دلالة رمزية قوية. إذ ما الذي يحمل رئيس السلطة التنفيذية في فرنسا على تقديم مشروع تعديل الدستور في الوقت الذي يقدم له القانون المدني الفرنسي الغرض المنشود أصلاً، كما كتب شارل براتس متحدّياً؟

ذلك أنه لا يمكن تجاهل المادة 23 ـ 8 من القانون المدني الفرنسي التي تنص على أنه "يفقد الجنسية الفرنسية الفرنسيُّ الذي، وهو يشغل وظيفة في الجيش أو في مصلحة عامة أجنبية أو في منظمة دولية لا تؤلف فرنسا جزءاً منها أو بصورة أعم يقدم لها المساعدة، لم يتخلَّ عن وظيفته أو يكفَّ عن تقديم المساعدة لها على الرغم من الأمر الذي وجهته له الحكومة (...)".

والذين يمكن أن يعترضوا على أن المشروع يستهدف بالدرجة الأولى داعش أو "الدولة الإسلامية" التي لا يمكن اعتبارها دولة أو منظمة دولية كما هو نص المادة المذكورة، فإن القانون الحربي يقدم تعريفاً يمكن أن يشملها وذلك تطبيقاً للمادة 43 من البروتوكول 1 لعام 1977 المضاف إلى اتفاقيات جنيف عام 1949 التي تنص على أن "تتألف القوى الحربية لأحد أطراف الصراع من كل القوى وكل الجماعات وكل الوحدات العسكرية والمنظمة  الموضوعة تحت قيادة مسؤولة عن سلوك تابعيها أمام هذا الطرف، حتى ولو كان هذا الطرف ممثلاً  بحكومة أو بسلطة غير معترف بها من قبل الطرف الآخر". تسمح هذه النصوص لأي حكومة سحب الجنسية من أي فرنسي "خائن لبلده" كما قال الصحفي والسياسي لوران دو بواسيو. وبالتالي، يمكن لسحب الجنسية من أي جهادي فرنسي منخرط لدى "الدولة الإسلامية"، سواء أكان مزدوج الجنسية أم لا، أن يتم في خمسة عشر يوماً تطبيقاً للمادة 60 من المرسوم 93 ـ 62 الصادر في 30 أيلول 1993.   

من الواضح أن اللجوء إلى تطبيق المواد السابقة بدلاً من العمل على تعديل الدستور للغرض نفسه يحول دون التمييز بين المواطنين أمام القانون لأي سبب كان، ودون كل ما يمكن أن ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعية وثقافية بل وأمنية. قد يكون مشروعاً، كما أشار المجلس الدستوري الفرنسي، بالنسبة للدولة  التي تواجه إرهابياً  أو خائناً لوطنه، أن تكون أشد قسوة في معاملتها لمن منحته الجنسية الفرنسية منها في معاملتها مع آخر ولد فرنسياً.

لكن للسياسة، كما يبدو، أغراضها، لاسيما وأن فرنسا تقترب حثيثاً من موعد الانتخابات الرئاسية والنيابية التي ستليها، والتي لا يزال اليمين المتطرف يهدد القوى الديمقراطية فيها بإمكان مواجهتها في الجولة الثانية من السباق القادم.






* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي بتاريخ 14 كانون الثاني 2016، ص. 23.










samedi 9 janvier 2016


الرهان الصعب

سورية بين السعودية وإيران

بدرالدين عرودكي

إثر قرار السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران سرعان ما طرح السؤال حول سورية: ما الآثار التي ستترتب على نزاع صار يجري الآن في وضح النهار؟ سؤال ينطلق بالضرورة من فرضية أن الحل السياسي الذي تعده الأمم المتحدة بإشراف روسي مباشر ومباركة أمريكية لا تخفي نفسها بات قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ، وأن هذا النزاع السعودي الإيراني سيؤجِّل في أفضل الأحوال تنفيذ هذا الحل إن لم يقضِ عليه نهائياً.  

لم يتفاقم هذا النزاع الذي يخرج اليوم إلى العلن بطبيعة الحال بعد إقدام السعودية على إعدام سبعة وأربعين من مواطنيها بينهم نمر باقر النمر، ولا بسب الهجوم الذي تلاه على السفارة والقنصلية السعوديتين في طهران ومشهد الذي أدى بدوره إلى قرار السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. فقد كان حاضراً على الدوام منذ وصول أوباما إلى البيت الأبيض وبدء إجلاء القوات الأمريكية من العراق وإتاحة الفرصة لإيران كي تملأ الفراغ  فيه وهي في أوج مفاوضاتها مع الغرب حول نشاطاتها ومنشآتها النووية.

لا يمكن إنكار أن سورية كانت منذ خمسينيات القرن الماضي وعلى الدوام همّ السعودية الأول وبقيت كذلك رغم الخصومة شبه المعلنة التي شابت علاقاتهما إثر اغتيال رفيق الحريري. وهي خصومة أدت بالنظام الأسدي إلى أن يغير تدريجياً من طبيعة العلاقات السورية ـ الإيرانية التي تجسَّدَت خصوصاً في بروز العلاقة العضوية بين النظام الأمني السوري وذراع إيران في لبنان، حزب الله من ناحية، وفي اتفاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية ذات طابع استراتيجي بين البلدين.  ولهذا حاولت السعودية طوال السنوات التالية لاغتيال الحريري، خلال عهد الملك عبد الله وحتى الأشهر الأولى من عام 2011 ، أن تسلك تجاه سورية سياسة أقرب إلى الاحتواء منها إلى الخصومة. وهو احتواء تُوِّج بالزيارة التي قام بها الملك عبد الله إلى بيروت قادماً من دمشق ومصطحباً معه بشار الأسد عام 2010 بأمل أن يكون التعاون السعودي السوري أصلب من أن تنال منه العلاقات الحميمة السورية الإيرانية.

لم تكن سورية، مع ذلك، خلال الفترة المذكورة نفسها، مرتعاً خصباً لإيران كما هي عليه اليوم. ولذلك لم تحل هذه العلاقات السورية ـ الإيرانية دون أن تنشأ أيضاً وفي الوقت نفسه مثل هذه العلاقات مع تركيا على ما بين القوتين الإقليميتين من خلاف وتنافس في السلوك وفي الأهداف.  

على أن الثورة السورية فرضت منذ البداية اصطفافات مختلفة كلياً على الجميع. شيئاً فشيئاً تلاشت سياسة الاحتواء السعودية لتغدو بعد فشلها في محاولاتها ردع النظام الأسدي عن الحلول الأمنية التي تبناها عداءً كامل الأوصاف الدبلوماسية والحربية. على غرار العلاقات مع تركيا التي لم تكد تنهي شهر عسل واعد وتفشل هي الأخرى في جهودها المماثلة حتى انكفأت بالتدريج واستحالت علاقات عداءٍ صارخ لاسيما وأن تركيا، بخلاف السعودية، كانت مضطرة بحكم الحدود المشتركة إلى استقبال وإيواء مئات الألوف من اللاجئين السوريين الهاربين من الجحيم الأسدي.

أما العلاقات السورية ـ الإيرانية فقد عثرت على التربة الملائمة لما كانت إيران تطمح إليه منذ أن بات العراق مجالها الحيوي، وهو أن تحقق ما كان يدور الحديث عنه منذ سنوات، أي ما أطلق عليه "الهلال الشيعي"، وهو توصيف إن ساغ استعماله على صعيد ما يسمى  بحروب الطوائف كما تسمى الآن إلا أنه بعيد كل البعد عن واقع الدوافع السياسية والاستراتيجية العميقة التي توجه السياسة الخارجية لإيران والتي لا تختلف ولم تختلف في الأساس وفي الغايات عن تلك التي كان نظام الشاه، قبل نظام ولاية الفقيه، يتبعها وإن اختلفت في الوسائل .

ولقد بدأ النزاع السعودي الإيراني، حتى لا نسميه الحرب، يأخذ في سورية طريقه إلى التجذر ما إن بدا أنَّ حرب النظام الأسدي ضد الشعب السوري ستطول بفعل تأثير القوى الداعمة خصوصاً للطرف الأول، ومنذ أن أعلن، بناء على ذلك، كلٌّ واحد من طرفي النزاع هدفه الاستراتيجي من تواجده ونشاطاته على الأرض السورية: إيران التي كان هدفها يتمثل في بقاء الأسد ونظامه، والسعودية التي كان هدفها يتمثل، على النقيض، في إسقاطهما معاً. وكانت حدّة هذا النزاع تتفاقم بالتدريج مع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الغربية من ناحية واستعادة إيران إمكاناتها الاقتصادية كاملة بعد رفع العقوبات التي كانت مفروضه عليها.

والحرب بينهما، منذ خمس سنوات تقريباً، جارية على أشدها. سوى أن إيران كانت، في واقع الأمر، تحتل موقعاً يتخطى بما ينطوي عليه من ميزات موقع خصمها السعودي. فهي لا تتواجد من خلال النظام الأسدي ذاته الذي بات شبه ناطق بسياستها وبمصالحها فحسب بل كذلك من خلال كل القوى التي استنفرتها لهذه الحرب والتي جمعت حزب الله بوصفه ذراعها الضاربة الفعلية في لبنان والميليشيات العراقية فضلاً عن المرتزقة القادمين من أفغانستان وإيران والعراق الذين جندهم الحرس الثوري الإيراني للقتال في سورية، والتي تعمل جميعها تحت إشراف وبإمرة القيادة الإيرانية مباشرة. لكن الميزة الاستراتيجية الأقوى كانت تتمثل في الدعم الحاسم وغير المحدود الذي كانت تقدمه روسيا للطرفين، النظام السوري وحليفه الإيراني، سواء على صعيد التسليح أو على الصعيد السياسي.

أما السعودية فهي تقوم، دون دعم أمريكي مماثل في قوته، بدعم وتسليح عدد من المنظمات التي حملت السلاح في وجه النظام الأسدي. سمح هذا الدعم لهذه المنظمات بالصمود في مواجهة آلة العنف الأسدية الإيرانية دون منحها القدرة على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. كما لو أنه لا يرمي إلى جعلها تتغلب على خصمها الأساس بل إلى مجرد تحقيق التوازن الحربي بينها وبينه. حتى إشعار آخر. ومع دخول روسيا بعتادها وبرجالها ميدان المعركة، صار اختلال هذا التوازن الأخير مهدداً إلى حد كبير بأن يميل لصالح النظام الأسدي وحلفائه على الأرض. وهو ما حاولت السعودية على الفور أن تتلافاه في الأسابيع التي تلت بدء الحرب الروسية الجوية في سورية.

كان تواجد السعودية وإيران معاً في مؤتمر فيينا الثاني الذي وضع خطة طريق "الحل السياسي للأزمة السورية" يعبر عن إقرار بالحالة الراهنة للقوى العاملة على الأرض السورية. تمثل إيران، بمعنى من المعاني، النظام الأسدي، في حين تمثل السعودية قوى المعارضة التي تقاتله سياسياً وعسكريا بحيث أنها كانت هي التي طُلِبَ إليها رسمياً جمعها ضمن وفد واحد يمثلها جميعاً في المفاوضات المنتظرة.

ولقد أمكن للسعودية أن تحقق ذلك بنجاح ملحوظ. ثم جاءت تصريحات وزير خارجيتها لتضع النقاط على الحروف بصدد مصير بشار الأسد الذي سكت عنه قرار الأمم المتحدة 2254 الأخير: إما أن يرحل سلماً أو حرباً. لكنَّ قيام الطيران الروسي باغتيال زهران علوش عقب الإعلان عن نجاح مؤتمر المعارضة السورية بالرياض ومتزامناً مع تصريح وزير الخارجية الأمريكي حول بعض التحفظات على بيان المؤتمر، بدا وكأنه يحمل رسالة روسية تذكِّرُ السعودية أولاً، وكل القوى الإقليمية الأخرى الداعمة لخصوم النظام الأسدي وفي المقام الأول منهم تركيا التي سبق أن أسقطت طائرة السوخوي الحربية ثانياً، بالقوة الحقيقية التي سوف تحدد من الآن فصاعداً قواعد اللعبة في سورية. لكن هذه الرسالة ـ كما اتضح فيما بعد ـ  لم تفتَّ في عضد السعودية. إذ استمر وزير الخارجية السعودي من ناحية في تكرار تصريحه بصدد إقصاء الأسد كلياً، في حين قام الرئيس التركي من ناحية أخرى بزيارة إلى الرياض كان من أهم نتائجها إنشاء مجلس تعاون استراتيجي يطال كل المجالات ولاسيما مجال الشأن السوري الذي تتطابق رؤيتاهما بصدده. كما لو أن البلديْن كانا بذلك يرسلان، هما الآخران، رسالة جوابية إلى روسيا تؤكد حضورهما في الميدان السوري ورفضهما الإملاءات الروسية.

صحيح أن ذلك كله كان يرسم إشارة إلى أنَّ إنجاز الحل السياسي سوف يواجه كثيراً من العقبات على الأرض إن استمرت روسيا في تجاهل موقفيْ البلدين بالنسبة إلى وجود الأسد، وهو تجاهل وجد صداه في تطور موقف الولايات المتحدة التي أوضحت أنها لا تعارض مثل هذا الوجود خلال "فترة ما" من المرحلة الانتقالية! لكنه كان يشير أيضاً إلى حدود تأثير تفاقم النزاع السعودي الإيراني الأخير على مسار هذا الحل السياسي في سورية. فقد بذلت إيران ولا تزال تبذل كل ما بوسعها من أجل كف يد السعودية عن سورية من خلال تعزيز دعمها الحربي للحوثيين في اليمن والحيلولة بكل الوسائل دون تحقيق انتصار حاسم للسعودية ضدهم وضد قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح . كما أنها عرقلت جهود السعودية للوصول إلى تحقيق انتخاب رئيس لبناني جديد بواسطة حزب الله، ذراعها الضاربة في لبنان. كان ذلك قبل إعدام نمر باقر النمر، ولسوف يستمر بعد إعدامه. لكنه لن يغير، كما هو واضح منذ قرار السعودية شنَّ عاصفة الحزم في اليمن، من موقف هذه الأخيرة في شيء بالنسبة إلى سورية. وكان البيان الذي وقعته مختلف فصائل المعارضة السورية في ختام اجتماعها بالرياض دليلاً باهراً على نجاح السعودية في توحيد المعارضة وفي نزع صفة الإرهاب عن المقاتلين منهم. لكن وجود روسيا بمباركة أمريكية مبدئية على أرض المعركة  لن يضمن لها بالضرورة مقعداً دائماً لممارسة التأثير على مائدة المفاوضات. كما لن يضمن لتركيا مثل هذه المقعد.

وهذا يعني أن أوار القتل سيستمر، وأن السوريين سيستخدمون باستمرار وقوداً لهذا الصراع على سورية. ومرة أخرى، حتى إشعار آخر.



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس الأسبوعي، 10 كانون الثاني 2016، ص. 9


mercredi 6 janvier 2016


الحل السياسي

 صخرة سيزيف السوريين

بدرالدين عرودكي

كما لو أنَّ آلهة عصرنا أرادت معاقبة السوريين على إهانة النظام الأسدي حين جعلوا من مطلبهم سقوطه، بحمل صخرة تُذكِّر بتلك التي حكمت بها آلهة العصور الإغريقية على سيزيف بسبب إهانته لها. صخرة يحملها إلى القمة لكنه لا يكاد يقترب منها حتى تتدحرج نحو الوادي ليجد نفسه مُرْغماً على العودة إلى حملها والصعود بها من جديد..بلا توقف!

وكانت صخرة السوريين منذ خمس سنوات هي التي منحتها آلهة العصر الراهن، القوى الكبرى في عالمنا، اسمَ: الحل السياسي!

لم يصدر هذا التعبير عن النظام الأسدي الذي استخدم ضروباً أخرى من التعبير تنحدر مباشرة من توصيفه الأول والدائم لما حدث في مدن سوريا وأريافها. فحين اعترف في غفلة من أمره بضرورة الإصلاحات، تحدث عن الحوار، وبات اللقاء مع "وجهاء" هذه المنطقة أو تلك في سوريا من أجل "الحوار" حديث الإعلام الأسدي اليومي خلال الأشهر التي تلت انطلاق الثورة عام 2011،  وهو ما سمح بعقد مؤتمر تشاوري بدمشق يوم 27 حزيران 2011 دعا إليه مثقفون سوريون تحت عنوان "سورية للجميع في ظل دولة ديمقراطية مدنية"، قبل أن يأمر رئيس النظام بتنظيم "مؤتمر الحوار الوطني الشامل" برئاسة نائبه فاروق الشرع  الذي انعقد يومي 10 و11 تموز من العام نفسه وبقيت التوصيات التي خرج بها، ومنها اعتبار "الحوار هو الطريق الوحيد الذي يوصل البلاد إلى إنهاء الأزمة" حبراً على ورق! سيستمر هذا الحوار خلال الأشهر الأولى من الثورة، ثم سيتحوّل إلى حوار بالسلاح وسيستمرّ حتى يومنا هذا. ومثلما لم يؤدِّ الحوار الأول أياً كان منظموه إلى أية نتيجة عملية وخلا بالتالي من أي معنى، فإن حوار السلاح امتدَّ ليشمل أطرافاً إلى جانب النظام الأسدي ما كان لها التواجد فيه ودخول أطراف أخرى ساحة المعركة معظمها بتشجيع من النظام  من أجل تفريغ هذا الحوار من معناه الأساس بين نظام وشعب ثائر وإحالته إلى مؤامرة فإرهاب. ولا يزال، على هذا النحو، يراوح بين كرٍّ وفرٍّ، باستثناء نجاح النظام الأسدي بفضل حلفائه الإقليميين والدوليين، فيما سعى إليه منذ البداية: لا إنكار الثورة وطمسها فحسب بل استثمار كل الظروف والعمل على خلق المناسب له منها من أجل استعادة موقعه طرفاً أساساً وقوة لا غنى عنها من أجل فرض توصيفه لما يجري في سوريا.

لكنَّ القوى الدولية والإقليمية هي من استخدم هذا التعبير الذي توالت أسماؤه في إعلامها أو تنوعت بدءاً من المؤامرة الكونية ومروراً بالثورة ثم بالحرب الأهلية وصولاً إلى الأزمة السورية. وهو تعبير بدأ ترداده منذ انتهاء الحوار بالكلمات إلى طريق مسدود وتحوله إلى حوار بمختلف ضروب الأسلحة، ثم رسوخه، مع تعدد الأطراف التي باتت تواجه الشعب الثائر، بوصفه المخرج الوحيد من المأزق الذي بات الجميع حبيسه.

استخدمت من أجل هذا الحلِّ مختلف العتلات، العربية منها والأممية. واستدعي للإشراف على وضعه موضع التنفيذ عسكريون ودبلوماسيون بعد أن عقدت المؤتمرات العربية والدولية بإشراف الجامعة العربية ومجلس الأمن معاً أو هذا الأخير وحده. كلف كوفي عنان كمبعوث عربي  ـ دولي لوضع خطة حلٍّ سياسي، وانعقدت مجموعة العمل حول سورية بجنيف يوم 30 حزيران 2012 لدعم جهوده وأصدرت ما عرف باسم إعلان جنيف 1.  لكنه سرعان ما استقال من مهمته بعد أشهر عدّة بسبب غياب التوافق بين أعضاء مجلس الأمن من أجل تنفيذ خطته للحل السياسي وفرضها على النظام خصوصاً. ثم كلف الأخضر الإبراهيمي خلفاً له وكاد هو الآخر أن يستقيل بعد لأي لولا اتفاق راعيي جنيف 1 على الدعوة إلى انعقاد مؤتمر جنيف 2 رغم الخلاف بينهما على تفسير إعلانه. لكن النظام الأسدي كان هنا أيضاً بالمرصاد للحيلولة دون أن يؤدي هذا المؤتمر إلى الإطاحة به عن طريق حكومة انتقالية بكامل الصلاحيات أو حتى بحكومة يفقد فيها كامل السلطة.

وإثر فشل مؤتمر جنيف 2 واستقالة الأخضر الإبراهيمي، عين ديمستورا للمهمة ذاتها. حاول هذا الأخير تجربة تجزئة الحل السياسي إلى عددٍ من الحلول الجزئية "التجريبية" آملاً أن تقدم ما يسمح بتفعيل الحل المنشود. عبثاً. ومن هنا جاء مؤتمر فيينا الأول ثم الثاني الذي ضم فضلاً عن الراعيين الأمريكي والروسي عدداً من القوى الإقليمية والدولية، وانتهى إلى تكليف المملكة السعودية بالعمل على جمع  قوى المعارضة السورية تمهيداً لمفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة بين النظام ووفد موحد للمعارضة يجمع فصائلها السياسية والعسكرية.

ما الذي دفع في الواقع إلى هذا "الحل السياسي" الذي نادت به روسيا منذ البداية لصالح النظام الأسدي وانتهت الولايات المتحدة بعد مراوغة طويلة إلى  تبنيه صراحة اعتباراً من جنيف 1 والذي صار منذ البداية أداة اعتمدتها القوى الكبرى لا لحل المشكلة كما كانت تصرح يمنة ويسرة بل للاكتفاء بإدارتها؟  ومن كان مصمِّمه الحقيقي؟

أكان النظام الأسدي يتصرف بطبيعة الحال بناء على هذا الواقع مستعداً لدفع أي ثمن يتعين دفعه مادام لا يؤدي إلى إزاحته كلياً من المشهد نتيجة قراءته للواقع الجيوسياسي أم بناء على خطة محكمة اتبعها منذ البداية بدعم حلفائه وربما بمشاركتهم تصميماً وتنفيذاً؟

وإلا، كيف يمكن انتظار قبوله التفاوض حول حلِّ سياسي مع معارضة سياسية أو عسكرية لم تكن يوماً موضع اعتراف منه؟ ولماذا يقبل اليوم وهو الذي رفض ضروب التسوية جميعها حين كانت المشكلة سورية محضة ولم تكن بوابات العنف قد فتحت على مصاريعها كافة ولا صار عدد الضحايا من سجناء وقتلى وجرحى ومعاقين يعدون بمئات الألوف ومهجرين  يعدون بالملايين؟

لم يكن اعتماد النظام السوري الحلَّ الأمني وإنكاره وجود ثورة شعبية ذات مطالب مشروعة في الكرامة وفي الحرية واعتباره كل من ينطق باسمها عميلاً خارجياً مجرد خيار تكتيكي بقدر ما كان رهاناً استراتيجياً وفي العمق. وما كانت دعواته إلى ضروب الحوار إلا تغطية لمسار آخر أراد به خنق كل صوت حر وكل احتجاج. كان هذا الموقف واضحاً أمام الجميع وضوح الشمس. فهو الذي عرقل الحل العربي، وهو الذي راوغ في قبول خطة كوفي عنان ثم أفشل محاولات الأخضر الإبراهيمي وضع مقررات جنيف 1 موضع التنفيذ. رافضاً حين أرغم على حضور مؤتمر جنيف 2 مناقشة أية مشكلة قبل اعتماد أولوية مكافحة الإرهاب.

وطوال هذه السنوات، وبمعزل عن صحة افتراض التنسيق بينه وبين داعش، قدمت له هذه الأخيرة أكبر الخدمات لتحقيق غايته من خلال إسقاط الطائرة الروسية في سيناء والعملية الإرهابية التي نفذتها بباريس يوم 13 تشرين الثاني الماضي.  هكذا أتيح لروسيا أن تأتي بقواتها إلى سوريا بحجة محاربة الإرهاب وأن تعتبر  فرنسا ووراءها الدول الأوربية الحرب ضد داعش أولويتها القصوى قبل إسقاط النظام السوري الذي كان من قبل في نظرها كذلك قبل 13 تشرين الثاني!

على العكس من سيزيف ألبير كامو الذي كان سعيداً بعقابه، يبدو السوري وهو يلتهب غضباً إذ يُرغَمُ على حمل صخرة الحل السياسي، لا لأنه يعلم أنه لن يبلغ بها الغاية المنشودة فحسب، بل لأنه يدرك أن الطريق إلى هذه الغاية طريقٌ آخر، له مساره وزمنه.. وكذلك رجاله.



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، الخميس 7 كانون الثاني 2016، ص. 23.