السوري المتشائل
بين الأمل الثوري والحلِّ الدولي
بدرالدين عرودكي
انعقد "الاجتماع الموسع لفصائل المعارضة السورية" بالرياض يومي
9 و 10 كانون الأول الجاري بعد محاولات تكاد لا تعدّ ولا تحصى، استمرت خلال ما
يقارب خمس سنوات، لجمع هذه الفصائل على
برنامج واحد يستجيب لتطلعات الثورة السورية، ولا يتنصل منه، بعد التوقيع عليه، هذا
الفريق أو تلك الجماعة، بعد لأي، ليضاف إلى أرشيف العثرات والخيبات التي لا تزال
هذه الثورة تعاني منها حتى اليوم. لكن هذا الاجتماع يأتي اليوم بعد أن خرجت الأمور
من يد السوريين جميعاً نظاماً ومعارضة واستحوذت عليها القوى الدولية، بناء على طلب
هذه الأخيرة تمهيداً لما اعتمدته من حلٍّ لـ"الأزمة السورية" تقرر
تفاصيله، بالتوافق فيما بينها من حيث المبدأ، ثم يوقع عليه الطرفان، النظام
والمعارضة برضاهما القسري، بوصفه الحلَّ الدولي الوحيد.
تلك هي الصورة الإجمالية الأولى التي ارتسمت على الفور في أذهان
المتابعين للشأن السوري عن نتائج مؤتمر فيينا 2 الذي عهد إلى المملكة العربية
السعودية بالعمل على جمع أطياف فصائل المعارضة
كلها، داخلية وخارجية، مدنية وعسكرية، باستثناء قوتيْن عسكريتيْن كبيرتين على
الأرض هما "تنظيم الدولة" و "جبهة النصرة" اللتين صنفتهما هذه
القوى الدولية في خانة الإرهاب.
ومع ذلك ورغم ما توحي به هذه الصورة بأن "كل شيء مقرر
سلفاً"، كانت ثمة شكوك وتساؤلات. انصبَّت الشكوك على إمكان جمع مختلف أطياف
المعارضة دون أن يقوم النظام وحلفاؤه بالتشويش إن لم يكن بكل المحاولات من أجل إفشال
هذا الجهد المنوط بالسعودية؛ فيما طالت التساؤلات إمكان الخروج ببرنامج يؤكد ما
صار يُعرف باسم "ثوابت الثورة السورية" ولا سيما إسقاط النظام برموزه
ومؤسساته والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية جامعة يتساوى فيها مواطنوها بلا
تمييز عرقي أو ديني أو طائفي.
لم يطل الانتظار كي تبدو هذه الشكوك في محلها أولاً لاسيما وأن سوابق
النظام في هذا المجال لا تحتاج اليوم إلى إثبات!
فمنذ اللحظة الأولى للثورة، أعلن النظام السوري أنه ضحية مؤامرة كونية
ينفذها مندسون ومتطرفون إسلاميون وقتلة محترفون.
وعلى أنَّ الصورة التي انتشرت كالنار في الهشيم في العالم أجمع ولعبت دوراً رئيساً في نقل ما يجري في مدن سورية
وأريافها خلال الأشهر الستة الأولى من الثورة (بين آذار وأيلول 2011 خصوصاً) كذبت
مزاعم النظام حين نقلت مباشرة من دير الزور إلى دمشق إلى درعا مروراً بحلب وحمص
وحماه ، مشاهد عشرات ألوف بل مئات ألوف المتظاهرين السوريين أحياناً، يرقصون و يغنون
منادين بالكرامة وبالحرية، فقد عمل بصفاقة منقطعة النظير من أجل البرهنة على ما
أعلنه بشتى الوسائل، بما فيها الكذب والنفاق والتزوير ـ كما اعتاد خلال خمسين
عاماً ـ ولم يتورع عن استخدام حثالات بشرية من أتباعه ترتكب مختلف الفظائع باسم
الثورة. ولم تكن وسائل إعلامه خلال السنوات الثلاث الأولى تتوقف عن اتهام ما كانت
تسميه "الجماعات المسلحة" بكل الجرائم البشعة التي كان يرتكبها عملاؤه
والتي لم يكن أقلها مجازر تقتل خلالها عائلات بأكملها ثم تسرق الأموال والممتلكات
وتفتح الأسواق العامة بالصفاقة ذاتها من أجل بيعها..
أسهم ذلك إلى حد كبير في تشويه ثورة السوريين على الصعيد الدولي. ثم
فاقم هذا التشويه، بعد أن كُمِّمَت أفواه بعض من يمثلها على الأرض بالقتل أو
بالسجن أو بالتشريد أو رُوِّضّت أفواه البعض الآخر لتنطق بما تريده أجهزة النظام
وفي الوقت الذي تحدده، تشرذمُ الذين انبروا لتمثيلها داخل الحدود أو خارجها في
جماعات متنافسة اتخذت كثرة من العاملين فيها من الثورة سبباً للإثراء وللظهور. مما
أدى إلى أن تتسلل القوى الإقليمية شيئاً فشيئاً إلى الميدان تارة من خلال تدفق
"المجاهدين" من كل حدب وصوب من أجل جهاد لا تعرف غايته ولا ضالته، أو "دفاعاً
عن قبر زينب" وسواها من "العتبات المقدسة" التي لم يمسها سوء منذ
أربعة عشر قرناً(!) أو لدعم قوات النظام التي أخذت أعداد أفرادها بالتضاؤل على
امتداد الأشهر والسنوات بفعل القتل أو الانشقاقات على كل المستويات.
تُذكَرُ كل هذه السوابق للقول إنه ما كان بوسع النظام وداعمه الرئيس
(إيران) وقد وجد نفسه مرغماً على الصعيد الدولي للتفاوض مع خصومه على عملية
انتقالية تتضمن رحيله خصوصاً أن يدع الأمور تجري في مسارها الطبيعي دون أن يعمل إن
لم يكن لإثبات استحالة تنفيذه فعلى الأقل لعرقلة المسعى الدولي بفرض من يعتبرهم
خصومه من "المعارضة الصالحة أو الوطنية!" تشتيتاً للمواقف وبرهنة
على انعدام وجود خصم آخر له غير الذي أعدّه لهذه اللحظة. كانت الخطوة الأولى في
هذا المجال على ما يبدو عقد المؤتمر الموازي الذي نظمه حزب "الاتحاد
الديمقراطي" الكردي و"وحدات الحماية الشعبية" التابعة له بمدينة
الحسكة وانضم إليه تيار "قمح" الذي يرأسه هيثم مناع بعد رفضه في اللحظة
الأخيرة حضور مؤتمر الرياض. لكنها لن تكون الأخيرة.
أما ما يخص التساؤلات التي طرحت قبل عقد المؤتمر فقد جاء بيانه
الختامي يجيب عنها بوضوح ـ شوهته والحق يقال كثرة الأخطاء النحوية المُخجِلة التي
تضمنها ـ إذ يستعيد معظم ثوابت الثورة السورية عموماً مع استناد إلى ما حاز على
الاعتراف الدولي على غموضه: مقررات جنيف 1 وتوابعها. لكن السؤال الجديد والأهم هو
الذي يُصاغ الآن بعد ما يمكن اعتباره النجاح المتوقع لمؤتمر المعارضة: كيف سيستطيع
الوفد المعارض تحقيق ما تمَّ الاتفاق عليه بالرياض خلال المفاوضات القادمة
بنيويورك؟ من سيدعمه من القوى الدولية الفاعلة في ذلك؟ وهل هناك ما يشي باتفاق
القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة وأمريكا على حلٍّ يستوعب ما يمكن أن تطالب به
المعارضة حين طلب إليها وحدة التمثيل والصوت والرؤية؟
مثلما هرعت "ذراع إيران في لبنان (حزب الله) بحجة محاربة
"التكفيريين لنجدة النظام السوري من سقوط محقق، ثم هرعت إيران نفسها مع
استخدام الحجة ذاتها بقوات جمعت أفرادها من مرتزقة جاءت بهم من أفغانستان والعراق
للعمل تحت إشراف ضباط حرسها الثوري ثانية للحيلولة دون وصول قوات المعارضة على
اختلافها إلى الساحل السوري وفتح طريق دمشق من الجنوب ومن الشمال، هرعت روسيا هي
الأخرى بقواتها الجوية والبحرية إلى سورية في أيلول الماضي بحجة قتال
"الإرهابيين" (على أن نفهم أن المعنيين بالأمر كلُّ الذين رفعوا السلاح
لإسقاط النظام، تاركة "تنظيم الدولة" يسرح ويمرح في الأرض السورية، ومُنسقة
جهدها الحربي مع إسرائيل في الجو ومع العراق وإيران خصوصاً من خلال القوات العاملة
بأمرهما على الأرض. ولم يفتها أن تعلن، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، أنها تدعم نظام
الأسد "الشرعي"، ومن ثم فقد كان واضحاً للجميع أن ما تهدف إليه إنما هو
تغيير موازين القوى لصالح النظام السوري تغييراً حاسماً يتيح له في المفاوضات المنتظرة
مع المعارضة التي تقوم بإعدادها مع الولايات المتحدة من أن يحقق ما يريد: عملية
انتقالية تمليها بالضرورة علاقات القوى على الأرض، وتسمح بألا يستثنى الأسد فيها
ولا يُرغم على الرحيل.
ذلك هو ما ترجوه روسيا بوتين وتعمل على تحقيقه بكل الوسائل، ومن ورائها إيران التي بدأت
المزايدات عن طريق استخدامها الخطوط الحمراء! لكن ذلك ليس بالضرورة ما ترجوه
الولايات المتحدة ومعها أوربا (فرنسا
خصوصاً وبريطانيا وألمانيا). ذلك أن ورقة الضغط التي سيستخدمونها الآن جاهزة:
الوفد الموحد الذي يجمع معظم أطياف المعارضة السورية من المدنيين والعسكريين ومن
كل المناطق السورية، ومطالب هذا الوفد التي صاغها المؤتمر العتيد بالرياض التي
تستند إلى ما توافقت عليه كل من روسيا والولايات المتحدة في جنيف 1 من جهة والتي تطلب
إلى الأمم المتحدة الإشراف على مجمل العملية الإنتقالية وصولاً إلى مشروعات إعمار
سورية.
لكن الفترة الواقعة بين مؤتمر فيينا 2 ومؤتمر المعارضة بالرياض شهدت
أحداثاً بدأت آثارها بالظهور واضحة على مستوى المواقف الدولية وانعطافها بدرجات
متفاوتة. فإسقاط داعش للطائرة المدنية في سيناء ثم تركيا للطائرة الحربية الروسية
من جهة، وعملية "داعش" الإرهابية بباريس من جهة أخرى، قاد الجميع إلى
مواقف حاسمة: فروسيا لن تسمح لتركيا إنجاز ما كادت أن تتوصل إلى تحقيق الإجماع
عليه من حلفائها، أي المنطقة الآمنة على حدودها مع سورية. في حين قررت فرنسا إعلان
خوض حرب ضروس على ما صارت تعتبره عدوها الأول: "تنظيم الدولة"، قابلةً
بلا مواربة وجود الأسد خلال العملية الانتقالية، بعد أن كانت تعتبره مع
"داعش" وجهين لعملة واحدة. وبدا الجميع بما فيهم روسيا بالطبع على تناغم
في إعطاء الأولوية لقتال "تنظيم الدولة" بوصفه العدو الأول، وهو ما
يلتقي في النهاية مع الهدف الذي لم يكف النظام السوري عن إعلانه بدعم من حلفائه:
القضاء على الإرهاب أولاً، أي على كل من حمل السلاح من أجل إسقاطه.
كيف سيكون في هذه الحالة موقف من شاركوا في مؤتمر فيينا؟ لاشك أن حجة
تشرذم المعارضة قد رفعت الآن بوجود الوفد الموحد الذي ستتابع السعودية حثيثاً وكما
هو منتظر منها ضبط إيقاعات مواقفه وسلوكه وعمله. لكن الطرف الآخر لن يتوقف عن
الحديث عن الإرهاب وعن رفض الحديث مع المنظمات الإرهابية. ربما لن تجاريه روسيا في
ذلك صراحة لكنها ستفعل كل شيء من أجل الحيلولة دون تحقيق مطامح المعارضة ومن وراءها
اليوم.
أعلنت السعودية عن طريق وزير خارجيتها أن على الأسد أن يرحل سلماً أو
حرباً. تلك رسالة إلى روسيا أولاً. لكنها، كي تصل، لابد من أن تجد سندها الأساس لا
في قدرة المعارضة ميدانياً على الحيلولة دون تحقيق التوازن الذي تنشده روسيا
وإيران على الأرض فحسب، بل وفي استمرار المعارضة السياسية والعسكرية على الحديث
باللغة ذاتها التي اتفقت على مفرداتها في مؤتمر الرياض والتي عبرت عن ثوابت الثورة
السورية.
يبقى أن الطريق لتحقيق كل ذلك لا يزال طويلاً..
* نشر في القدس العربي الأٍسبوعي،
الأحد 13 كانون أول 2015، ص. 11.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire