mercredi 30 décembre 2015


خمس سنوات..عودة إلى البدايات

بدرالدين عرودكي

في يوم السبت 16 نيسان 2011،  وفي جوٍّ ساده مزيج من الذهول والإعجاب وبعض الفرح بما حدث ويحدث في العالم العربي في بدايات العام نفسه، ما كان بوسع أحد من الحاضرين في قاعة المؤتمرات بمعهد العالم العربي أن يتنبأ لحظة بما ستكون عليه الأمور بعد خمس سنوات. كانوا جمعاً غفيراً ضم  سفراء فرنسيين في البلدان العربية وموظفين في وزارة الخارجية الفرنسية ومثقفين وإعلاميين  ينتمون إلى مختلف التيارات الفكرية والسياسية جاؤوا يحضرون أول ندوة تنظم حول ما كان يجري في العالم العربي، حملت عنواناً كان وليد اللحظة الاستثنائية ودليلها: "الربيع العربي: رهانات وآمال تغيير"، حضرها وتابع مجرياتها طوال النهار، وزير الخارجية الفرنسية يومئذ، آلان جوبيه، الذي اختتم بنفسه أعمالها بخطاب يمكن له هو الآخر أن يحمل عنوان الندوة المذكور نفسها. لكن الذين تمت دعوتهم للمشاركة في هذا اليوم من تونس ومن ليبيا ومن مصر خصوصاً، كانوا من الناشطين والفاعلين في الحرك الثوري في بلدانهم، جاؤوا لا من أجل  الإدلاء بشهادتهم فحسب، بل للحديث عما كانوا يقومون به مع مئات الألوف من زملائهم في مدن تونس وليبيا ومصر، من خلال شهادة حية بقدر ما هي مسؤولة.

كان "الاستثناء العربي" من قبل هو  المفهوم السائد في كل مكان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعودة دول الكتلة الشرقية إلى مكانها الطبيعي في عداد الديمقراطيات الأوربية، وبعد سقوط معظم الديكتاتوريات في دول أمريكا اللاتينية التي اعتمدت هي الأخرى النظام الديمقراطي.  

 إلا العالم العربي!

لكن بوعزيزي وهو يحرق نفسه في 18 آب 2010 كان، دون أن يدري، يسجل نهاية هذا الاستثناء مفجراً الثورة في الفضاء العربي. يكتشفُ العالمُ فجأة، وأوربا جارته، كما لو أنَّ ما كان مستحيلاً بات في طريقه إلى أن يصير ممكناً. ويحاول الفهم. يتوالى الوزراء والسياسيون من بلدان أوربا وأمريكا على ميدان التحرير في محاولة لفهم ما يجري بعد صدمة المفاجأة التي لم تكن كذلك ـ على ما ظهر بعد حين ـ في نظر رجال مخابرات دولهم الذين كانوا قد سبقوهم قبل ذلك بزمن طويل: كيف أرغمت جماهير المتظاهرين بن علي في تونس على الهرب، ومبارك على التنحي في مصر. وكيف انفتحت أبواب المستقبل على مصاريعها في كلا البلديْن. يقف الشاب المصري القادم من ميدان التحرير إلى باريس مباشرة على المنصة ليقول بعفوية وبراءة الثوري ديْنه إزاء زملائه التونسيين: "لقد تعلمنا من إخواننا التونسيين تكتيك مواجهة رجال الأمن للحفاظ على مظاهراتنا وعلى اعتصامنا في ميدان التحرير". وهو التكتيك نفسه الذي حاوله الشباب السوريون الثوار واستطاعوا تحقيقه أكثر من مرة في حمص وفي حماة وفي دير الزور لكن الرصاص الحي الذي انهال عليهم حال دونهم ودون النجاح فيما أرادوا تحقيقه، وجعل من المستحيل على من كانوا في دمشق رغم كل محاولاتهم البطولية أن يحققوا شيئاً مشابهاً فيها.

كان موقف النظام الأسدي من خروج الشعب مطالباً بإسقاطه إيذاناً بما ستعيشه بلدان العالم العربي الثائرة بعد مظاهر النجاح المفاجئ في تونس وفي مصر ثم بعد ذلك، وبثمن باهظ في ليبيا.

ذلك كله كان حاضراً في هذه الندوة التي كانت تجري في جوٍّ مفعم بفرح مشوب بالدهشة وببعض الخوف. تحدث دومينيك بوديس رئيس المعهد آنئذ في كلمته الافتتاحية، عن أثر الصورة التي وقد باتت اليوم تختصر المسافات الزمنية إلى دقائق، كيف أن غيابها مثلاً، يوم دمر النظام الأسدي حماة على أهلها في عام 1982، أتاح للعالم أن يجهلها أو يتجاهلها. في حين تناول خطاب وزير الخارجية، آلان جوبيه، الذي اختتم الندوة، العناصر الجوهرية التي ينطوي عليها في نظره هذا الحراك الثوري العربي وما يمكن أو يجب أن يكون عليه رد الفعل الأوربي، والفرنسي خصوصاً. فهو يعترف بداءة: "فكرنا خلال زمن طويل أن الأنظمة الاستبدادية كانت المتاريس الوحيدة ضد التطرف في العالم العربي. وخلال زمن طويل أشهرنا حجة الخطر الإسلاموي كي نبرر بعض المحاباة إزاء الحكومات التي كانت تنتهك الحريات وتكبح نمو بلادها." ولم يكن في الواقع يعبر هنا إلا عن سياسة سارت عليها معظم إن لم يكن كل الحكومات الديمقراطية الغربية بما فيها بالطبع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية! وها هو الحراك الثوري شبه المتزامن في بلدان العالم العربي يعيد الصلة "فجأة" مع ضروب الانفتاح، والتغيير، والحداثة التي كانت سمته خلال عصور.  

حين يقول آلان جوبيه بعد أن عبَّرَ عن حماسه وقلقه : »لا يجب أن يخيفنا هذا "الربيع العربي" « ، مُذَكِّراً بالثمن الذي دفعته أوربا قبل سبعين عاماً للدفاع عن الحرية والديمقراطية وما يتطلبه اليوم الوقوف في وجه البربرية أو تحدي الطغاة في العالم العربي من دماء تسفح وحيوات تهدر، فإنه يشير إلى وجود هذا الخوف فعلاً لدى الديمقراطيات الغربية التي اعتادت العمل مع نظم الطغاة في العالم العربي. من هم هؤلاء الثوار؟ ومن يقودهم؟ وما هي برامجهم؟  

بعد أن قال الناشط التونسي بن سالم في مداخلته موجهاً حديثه إلى الفرنسيين "سوف يفاجئكم الإسلاميون"، وكان يعني أن الاتهامات التي كانت تُوَجّهُ للإسلاميين ليست إلا مجرد أوهام، أجابه آلان جوبيه في ضرب من التحدي: "بالانتظار!". لكن "الانتظار" يتواجد أيضاً وفي تحدٍّ مماثل لدى الطرف الآخر: ماذا أنتم فاعلون بثوراتنا؟ وأية طرق وأحابيل سوف تستخدمونها لتفريغها من معانيها؟ ألم تدعموا الاستبداد قبل سقوطه؟ وهل تقبلون فعلاً أن تقوم أنظمة ديمقراطية في منطقتنا تحترم حقوق الإنسان ولا سيما حريته وكرامته؟

يتابع جوبيه: "لا ننوي أن نقرر طبيعة توزيع الاختصاصات الداخلية في البلدان المستقلة. نقول رأينا، وندين، ونتدخل اعتماداً على أساس وحيد هو القانون الدولي ولاسيما تطبيق المبدأ الجديد الذي تبنته منظمة الأمم المتحدة عام 2005 والمدرج للمرة الأولى في قرار مجلس الأمن، أعني مبدأ مسؤولية الحماية، الذي أذكر به: بناء على المبدأ الذي تبنته الأمم المتحدة بالإجماع، تقع على الحكومات مسؤولية حماية الشعب ضد جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والمجازر. وإن لم تفعل فإن المجموعة الدولية تكتسب الحق  في الحلول محلها."

لكن هذا المبدأ الدولي الذي استندت إليه فرنسا ووضعته موضع التطبيق من أجل حمل القذافي على الرحيل مبرِّرَة به تدخلها العسكري في ليبيا، لم يجد طريقه إلى التطبيق في سورية لا في الأسابيع التالية على مواجهة المتظاهرين في المدن السورية بالرصاص الحي ولا خلال السنوات التالية التي شهدت استخدام كافة الأسلحة التقليدية والكيميائية كي يصل عدد الضحايا إلى أكثر من ثلاثمائة ألف قتيل، وأكثر من عشرة ملايين مهاجر فضلاً عن عشرات الألوف من الجرحى والمعاقين والمفقودين. فقد استعان كل الذين اعتمدوا هذا المبدأ ووقعوا عليه، ولا سيما الدول القادرة على الحماية،  بطريقةٍ للتحايل على عدم اعتماد تطبيقه في سورية.

هل كان تطبيق المبدأ المذكور في ليبيا أو في سورية أو في اليمن سيغير من الأمور شيئاً؟

بخلاف كل البلدان العربية التي عرفت شيئاً من "الربيع العربي"، وحدها تونس استطاعت حتى الآن أن تقدم الأمل. إذ أمكن وأد التجربة الديمقراطية في مصر رغم نجاح الثوار في دفع مبارك إلى التنحي.  في حين تغرق ليبيا منذ أربع سنوات في صراع أهلي وقبائلي. أما اليمن فلا يزال رغم مرور أكثر من نصف قرن على "جمهوريته" أسير فشل تحقيق الانتقال الحقيقي إلى الحداثة. في حين تدفع سورية ثمن انصياعها خمسين عاماً لاستبداد لم تعرف مثيله طوال تاريخها القديم والحديث.

كان السؤال الذي طرحه آلان جوبيه على نفسه وأمام الجميع يومها: "وماذا لو نجحت الشعوب العربية؟"

ألم يكن هذا هو الخطر الأكبر الذي كانت تخشاه دول الغرب جميعاً؟ أم أن هذا السؤال/الجواب  مرة أخرى، فرار من مواجهة المسؤولية؟



 *  نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 31 كانون أول 2015، ص. 23.

خليل أبو رزق
يقول الكاتب النبيه («وماذا لو نجحت الشعوب العربية؟»
ألم يكن هذا هو الخطر الأكبر الذي كانت تخشاه دول الغرب جميعاً؟)
نعم و الف نعم. هذا هو مربط الفرس.
الاستراتيجية الغربية هي هي منذ مئة عام. و هي الابقاء على هذه المنطقة تحت السيطرة. اولا لوقف التهديد القادم من الشرق و الذي يرتكز عل ايدولوجية دينية و الى الابد. و ثانيا لتأمين الممرات البرية و البحرية و الجوية الى افريقيا و اسيا. و ثالثا لتأمين الطاقة. و رابعا كون المنطقة سوقا استهلاكية لهم يستعيدون منها ما يدفعونه ثمنا للبترول.
و قد فعلوا ذلك اولا بتقسيم المنطقة الى دويلات. و ثانيا بزرع اسرائيل فيها كجسم غريب يحتاج الى حماية غربية و بالتالي تزاوج مصالح ابدي. و ثالثا بدعم الانظمة الفاشلة فيها. و هي فاشلة اصلا بحكم التكوين و غير قابلة للاصلاح حتى لو ارادت. و رابعا بالمراقبة و المتابعة الحثيثة و اجهاض اي ربيع او صحوة كما رأينا في العراق و سوريا و الاردن ومصر و لبنان و الجزائر و فلسطين و السودان و الصومال قبل الربيع العربي و في مصر و ليبيا و اليمن و سوريا خاصة بعد الربيع العربي





mercredi 23 décembre 2015




عن  تحولات العنف:

الإرهاب المعاكس أو إرهاب الدولة

بدرالدين عرودكي



نُقِلَ عن علي صالح السعدي، نائب رئيس الوزراء العراقي الذي كان يزور دمشق غداة انقلاب الثامن من آذار 1963 ، بعد الانقلاب الآخر في العراق يوم الثامن من شباط من العام نفسه، أنه قال وقد رأى الهدوء يسود شوارع العاصمة: "ماكو دم؟ ماكو ثورة!". ابتسم السوريون الذين سمعوا هذا التعليق. وتبادلوا فيما بينهم الحديث عن "عنف" العراقيين الدموي حين لم يرضوا بأقل من سحل الشيوعيين في شوارع بغداد والمدن العراقية بعد إسقاط وقتل عبد الكريم قاسم، وعن الطريقة السلسة اللينة التي تم فيها الانقلاب في سوريا على السلطة التي حققت الانفصال وحاولت نظاماً ديمقراطياً يستعيد سنوات ماقبل 1958. 

لكن هذا العنف  الذي كان السوريون يتبرؤون منه آنئذ لم يكن عراقياً ولا وقفاً على العراقيين. فلم تكن الصورة آنئذ سريعة الانتشار كما هي عليه اليوم، وما كان بوسع أحد على كلِّ حال، في سورية أو في سواها من بلدان العالم العربي، أن يتنبأ بما سيكون عليه "العنف" في قادم الأيام. ولن يطول الزمن الذي سيكتشفون فيه أن هذا العنف، الذي حسبوه "عراقياً" سرعان ما سيصير سورياً، وأنه، اعتباراً من 18 تموز عام 1963 تحديداً (حين قامت السلطة الانقلابية بدمشق بقتل المتمردين من أتباع جاسم علوان الذي حاول انقلاباً على الانقلاب في مجزرة لم يسمح بمعرفة تفاصيلها إلا عن طريق النقل الشفهي)، كان في طريقه ليكون في أساس استراتيجية مُحْكمَة من أجل الحفاظ على السلطة سوف تتطور شيئاً فشيئاً كي تصير منهج حكم صارم، وأنه سيصير أحد سمات الممارسة السياسية في سورية. تارة باسم "الوحدة والحرية والاشتراكية"، وتارة باسم "القضاء على المؤامرة الكونية"، وتارة ثالثة باسم "القضاء على الإرهاب".

كانت السلطة البعثية إذن هي من دشّن ما يمكن أن نطلق عليه "العنف السياسي" (الذي يمكن اعتباره ـ كما يقول الباحث الكندي بيير ـ آلان كليمان، مظهر الإرهاب ومبناه) للدفاع عن موقعها ومكانها في البداية. ولسوف تستقر هذه السياسة على هذا النحو خصوصاً اعتباراً من انقلاب حافظ الأسد على رفاقه عام 1970 وإقدامه على سجن بعضهم مدى الحياة والقضاء تدريجياً على البعض الآخر بواسطة الاغتيال. سيكون ذلك أول درس "تربوي" لمن تسوِّل له نفسه من العسكريين أو من المدنيين أن يحاول الاعتراض على سلطته التي باتت تُعرَفُ باسمه. ولسوف تكون الأداة اليومية والمباشرة لتنفيذ هذا "العنف السياسي" المُنظَّم (أي عنف السلطة الانقلابية، لا عنف الدولة الشرعية) ما عُرفَ بسرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد: فرقة عسكرية ذات استقلال ذاتي كامل لا تخضع لأي قانون أو عرف أو تقليد، وتتمتع بحرية الحركة في كل المجالات، ولاسيما تلك المتعلقة بالاقتصاد والاجتماع والأمن.

تمّ ترسيخ هذه الاستراتيجية تدريجياً من خلال أعنف تطبيق لها كردِّ فعل على الاغتيالات الجماعية والفردية التي اتهمت بها جماعة الإخوان المسلمين، في مدينة حماه خصوصاً عام 1982 وفي مدينة تدمر. واتسعت أدوات وطرق تنفيذها لتشمل العديد من الدوائر الأمنية ـ حسب الاختصاص ـ في مدن سورية كلها.  وأضحت خلال السنوات التالية قوام سلوك النظام في علاقته مع محكوميه: فراغ سياسي شامل في الداخل، وهيمنة أمنية غير مسبوقة على أدق التفاصيل اليومية لحياة الأفراد والجماعات في مجتمع بأكمله.

كان القتل أداة الإرهاب والترهيب الجوهرية والأولى في اعتماد السلطة الأسدية نهج العنف السياسي. لكنه لم يبقَ الأداة الوحيدة.  فتحريم أي ضرب من ضروب العمل السياسي، الذي أدى إلى تغييب آلاف الرجال والنساء عشرات السنين في السجون، كان أيضاً أداة أخرى طالت كل الفئات الاجتماعية المتمردة بصورة أو بأخرى تلك التي استمرت في ممارسة ما تعتبره حقها الأولي، من الإسلاميين إلى مختلف ضروب اليسار، بما فيها يسار البعث نفسه.

ستكون سنوات السجن دورات تدريب طويلة، لمن لم تبادره المنية بفعل التعذيب أو القتل، مِمَّن كانوا يملكون استعداداً طبيعياً أو مكتسباً، على ممارسة العنف في صفوف الإسلاميين تحديداً. وسوف يستخدم النظام الأسدي هؤلاء عما قريب كأدوات في استراتيجية جهنمية من أجل مقارعة الأمريكيين في العراق. ثم سيوظفهم من جديد في خدمة استراتيجيته الجهنمية الأخرى للبقاء فور خروج المظاهرات السلمية في بدايات الثورة السورية حين وصمها منذ الأيام الأولى بالتطرف الديني، وبتبعية الثوار للقاعدة، وحين أسعفه أحد كبار مثقفيه بنزع صفة الثورة عنها مادام أصحابها يخرجون من المساجد ودعمت صحفية لبنانية ممانعة أقواله فشبهت حمص بقندهار!

على الرغم من خبرة ما يقارب خمسين عاماً، لم يكن النظام الأسدي يجهل أن لجوءه إلى العنف سوف يؤدي إلى عنف مقابل. لكنه ظنَّ، بسبب هذه الخبرة بالذات، أنه سينجح في فرض سيطرته عن طريق استخدام غير محدود للعنف في وجوهه المختلفة. إلا أن هذا العنف في وجهه المادي، القتل، سرعان ما أدّى به إلى أن يصير سجين خياره بالذات: عنف يزداد بازدياد المقاومة المسلحة، فمن مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي، إلى استخدام الدبابات، ثم راجمات الصواريخ، ثم القصف الجوي ثم أخيراً استخدام البراميل. وجه ثان للعنف رافق الوجه الأول: الكذب والتزييف الإعلامي. فقد كانت أجهزة إعلام النظام الأسدي تمارس أبشع ضروب القتل أو المجازر على أيدي مرتزقتها وتتهم بها من كانت تطلق عليهم "الجماعات المسلحة". لكن الوجه الأكثر خطراً وفتكاً تجسّد في تصنيع الإرهاب من خلال دعم غير مباشر لبعض هذه الجماعات المسلحة نفسها التي اصطنع بعضها أو اخترق البعض الآخر من ناحية، مثلما أتاح للبعض الآخر أن يزدهر ويتمدد، ولا سيما ذلك الذي سيعرف فيما بعد بـ "تنظيم الدولة". فبعد أن استنفذ كل وسيلة لاستعادة ما فقده ميدانياً وسياسياً في الداخل والخارج، لم يبق له إلا أن يقدم للعالم خياراً وحيداً: إما أنا أو.. "تنظيم الدولة"!

استطاع النظام الأسدي الاستمرار بدعم من شريكيْه: إيران وروسيا. إيران التي تواجدت في المرحلة الأولى من خلال ذراعها في لبنان، حزب الله، ثم، في المرحلة الثانية عبر قيادات حرسها الثوري والمرتزقة الذين استوردتهم من أفغانستان والعراق. بوجودهما استحال النظام الأسدي مجرد دمية تستخدم لتبرير الوجود الإيراني في سورية. أما روسيا فقد وجدت في الثورة السورية فرصة تستعيد بها موقعها على الصعيد الدولي لا إزاء الولايات المتحدة وأوربا فحسب، بل على الصعيد الإقليمي أيضاً بعد خذلانها في أوكرانيا وفي ليبيا معاً. وخلال خمس سنوات، دعمت النظام عسكرياً وسياسياً، وها هي تحل محله اليوم في القرار المصيري الذي تريده أن يكون لصالحه بعد أن تكون قد قامت بإعادة ترميمه قطعة بعد قطعة، بمساعدة حثيثة من إيران وذراعها في لبنان.

يقوم هذان الشريكان بممارسة ضرب من الإرهاب يعيد إلى الذاكرة أبشع الممارسات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وأقذرها. باتت سورية بعد العراق المجال الحيوي لإيران وصلة الوصل الضرورية بذراعها الضاربة في لبنان. أما بالنسبة إلى روسيا فهي تستخدمها حقل تجارب لمختلف أسلحتها التي لم تتح من قبل لها فرصة استخدامها في ميدان حرب حقيقي. وهو إرهاب عماده أيضاً العنف المحض والتزييف الإعلامي واستخدام كافة الوسائل لتحقيق أهداف غير معلنة باسم حماية وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب السوري في تقرير خياراته. سبق لكلا البلدين أن عاش تجربة مماثلة ضمن حدوده: إيران مع ثورة شبابها التي قمعت بالحديد والنار، والشيشان التي شهدت تسوية مدينة غروزني بالتراب.

ذلك ما تتطلع إليه إيران وما تهدف إلى تحقيقه روسيا، باستخدام الوسائل كلها ودون استثناء: القتل خبط عشواء، وإعادة تأهيل حاكم ونظام لم يتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم بحق شعبه.

وسيستمر كل ذلك بهدوء، ولا سيما بعد صدور قرار مجلس الأمن الأخير، الذي يبدو وكأنه يشرعن هذا الواقع المأساوي..



** نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، الخميس 24 كانون أول 2015، ص. 23.


1.                 كنعان - ستوكهولم

Posted December 24, 2015 at 3:11 AM

عزيزي / بدر الدين ، أسعدت أوقاتك . انت شاهد موضوعي لتاريخ سوريا السياسي الحديث الذي لم يكتب بعد ، غزير الكتابة منذ بداياتك الأولى مع دار البعث التي تابعناها حينذاك . أتمنى أن تكشف المستور وتقدم لنا الكثير من الحقائق المخفية عن تاريخ عشته وعشناه ولم يفصح عنه حتى اللحظة . بانتظار ذلك بصدق قلمك الذي اعتدنا عليه ، لك جل التحية .

1.                 رياض السوري

Posted December 24, 2015 at 9:48 AM

عزيزي بدر
كلام واضح، وصادق، يعكس الحالة السورية بامتياز، لشخص عايش المأساة السورية، إن جرائم هذا النظام تخطت اليوم جرائم النازية بأشواط وقد برهن على ذلك مصور الجثث لعشرات الاف الأشخاص الذين ماتوا جميعا تحت التعذيب والتجويع هذه الصور تثبت ما تقدمت به ففي المعتقلات السورية اليوم عشرات الألاف الذين يعانون كما عانى سابقوهم من هذا النظام النازي. اليوم هناك تخاذل دولي أمام المأساة السورية وأجرؤ على القول عن هناك تحالف دولي ضد سوريا الثورة بحجة واهية وهي القضاء على داعش التي هي بالأصل من تفصيل وإخراج نظام بشار الكيماوي



mercredi 16 décembre 2015


التواطؤ الروسي الأمريكي في سورية

بدرالدين عرودكي



من المبالغة الحديث عن "شراكة" كاملة الأوصاف في موضوع الشأن السوري بين الولايات المتحدة وروسيا رغم ما تبدو عليه أوجه التعاون فيه منذ عام 2011، سواء من خلال تبادل الأدوار على الصعيد الدبلوماسي، أو من خلال صياغة نتائج المؤتمرات الدولية بشأن ما اتفق على تسميته بالحل السياسي اعتباراً من جنيف 1 وحتى فيينا 2. وعلى أنه كان على تضارب المصالح الصارخ واختلاف الرؤى الاستراتيجية أن يحول دون قيام أي تعاون بين القوتين في الموضوع السوري تحديداً، إلا أن الوقائع تشير إلى أن "التواطؤ" استقر بينهما متيحاً لكل منهما تحقيق مصالحه الآنية وربما أيضاً على المدى القريب.

منذ بداية الثورة السورية، وعلى الرغم من الدعم الإيراني غير المحدود، نُظِرَ إلى روسيا بوصفها الداعم الأهمّ للنظام الأسدي سواء على صعيد التسليح العسكري وتجديد الآلة الحربية أو على الصعيد الدبلوماسي باستخدام الفيتو لصالحه في مجلس الأمن. في حين نُظِرَ إلى الولايات المتحدة على أنها صديقة الثورة السورية وداعمتها لاسيما وأنها اعتبرت من قبل النظام الأسدي مصدر المؤامرة عليه، وهذا رغم التصريحات الخلبية التي كان يدلي بها المسؤولون الأمريكيون على اختلافهم بدءاً بالرئيس أوباما. 

ذلك أنه إذا كانت المواقف الروسية إلى جانب النظام الأسدي علنية وصريحة شأن تناغمها حتى وقت قريب مع المواقف الإيرانية فإن تلك التي صدرت عن الولايات المتحدة إلى جانب الثورة السورية كانت في الحقيقة تدعو على الدوام إلى الحذر في فهمها أو في تفسيرها، مثلما كانت تدعو إليه مواقفها من أصدقائها أو حلفائها في المنطقة حين تبدر منهم نوايا أو أفعال تتنافى مع موقفها الاستراتيجي الذي لا يتراءى إلا عبر تحليل دقيق لسياسات إدارة أوباما في مختلف مناطق العالم وخصوصاً في المنطقتيْن العربية والإسلامية. هكذا، وبقدر ما كانت إيران وروسيا يدعمان النظام الأسدي بالرجال وبالسلاح وبالخبرات، كانت الولايات المتحدة ترفض تسليح المعارضة بما يتيح لها مواجهة آلة القتل الجهنمية التي اعتمدها النظام الأسدي، بل وتلجم أصدقاءها العرب أو حلفاءها الأتراك عن مثل هذا التسليح النوعي، فبدت تصريحات هؤلاء الأخيرين ونواياهم على تناقض شديد مع أفعالهم. وكأنما كانت الرغبة الأمريكية بقاء التوازن قائماً بين النظام ومعارضيه المسلحين، وهو توازن عملت روسيا منذ البداية  على المحافظة عليه والحيلولة دون الإخلال به لاسيما منذ بدا واضحاً استحالة العودة إلى وراء في ما يخص النظام الأسدي.

كان هذا التناغم في الموقفين الروسي والأمريكي جلياً في تصريح لوزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون في 7 آب 2012: "إنّ على من يحاولون استغلال معاناة الشعب السوري سواء بإرسال أتباعهم أو بإرسال مقاتلين إرهابيين، أن يعلموا أنّ أيّ طرف، خاصة الشعب السوري، لن يسمح لهم بذلك" وبالتالي، "علينا أن نضمن بقاء مؤسسات الدولة سليمة" مثلما تبدو أكثر صراحة في شهادة خليفتها، جون كيري، أمام الكونغرس، في 24 كانون الثاني 2013: "إن التنسيق مع روسيا في الأزمة السورية هو أقلّ الشرور" (!). ولقد ازداد وضوح هذا التناغم في البيان الختامي لمجموعة العمل من أجل سورية، الصادر في 30 حزيران 2012 والذي عرف باسم مقررات جنيف 1، وذلك على الرغم من التباين في تفسير تفاصيل المرحلة الانتقالية المعنية فيه!

قيل وكتب الكثير حول رغبة الولايات المتحدة إنهاك الأطراف المنخرطة في الشأن السوري؛ ذلك أمر كان يتم تداوله علناً ومنذ بدايات الثورة السورية وقمعها بالسلاح الحي، في الأوساط الدبلوماسية الأوربية كلما طرح سؤال حول ما سيكون عليه موقف البيت الأبيض مما يحدث. وهي رغبة بدا في الوقت نفسه أن إسرائيل تتقاسمها مع روسيا والولايات المتحدة. وفي هذا المجال، سبق لرئيس الموساد السابق، أفرايم هاليفي، أن كتب ما يعبر عن ذلك في مجلة الشؤون الخارجية الإسرائيلية تحت عنوان: "رجل إسرائيل بدمشق، لماذا لا تريد إسرائيل الإطاحة بالنظام السوري؟". ربما لم تتطابق رغبة الكرملين معها، لكن اللقاء بين الأطراف الثلاثة تجسَّدَ في الإبقاء على النظام. ولكلٍّ أسلوبه، هذا بضبط إيقاع المعارك بين النظام والمعارضة، وذاك بدعم النظام بالسلاح والعتاد كي يستمر واقفاً. لكن اللقاء تجسَّدَ أيضاً في محاربة ما صار يطلق عليه من قبل الطرفين (في اعتماد واضح للتسمية الأسدية) الجماعات الإرهابية. يقول كيري بعد اجتماع أجراه في منتصف عام 2013 مع بوتين ولافروف: "إننا نشاطر الروس وجهة النظر تجاه سورية"، و"كلانا يريد أن تستقر الأمور في سورية وأن تكون خالية من الراديكاليّة ومن المشاكل التي من شأنها أن تؤثّر على المنطقة برمّتها"، و"كلانا وقّع اتفاق جينيف حول سورية، وهذا يعني أنّه توجد أرضيّة مشتركة".

وحين بدا أن النظام الأسدي قد تجاوز الخط الأحمر الأمريكي باستعماله السلاح الكيمياوي يوم 21 آب 2013 وقام أوباما بحشد القوات البحرية والجوية في المتوسط استعداداً لتنفيذ العقاب، قدمت روسيا له على طبق من فضة مخازن السلاح الكيمياوي السوري. وكانت بالفعل هدية ثمينة أولاً لأوباما، بما أنها أتاحت له أن يتخلص من عواقب خطه الأحمر من جهة وأن يبقى محافظا على المسار الذي شرعه منذ وصوله إلى سدة الرئاسة باستبعاد أي تدخل خارجي مباشر من جهة أخرى،  وثانياً لإسرائيل، بما أنها تخلصت مما كانت تخشى منه، أي خروج هذا السلاح عن سيطرة النظام الأسدي.

حتى كان دخول روسيا سورية الذي بدا وكأنه يجري بمباركة واشنطن التي كانت تصريحات رئيسها أقرب إلى التحذيرات الخجولة من الفشل منها إلى الاستنكار. فما دام هذا التواجد العسكري منحصراً في العمليات الجوية، فلن يؤدي، أياً كانت قوته، إلى حسم المعركة نهائياً. سيسهم بالأحرى في تعديل كفة التوازن بين النظام الأسدي والمعارضة المسلحة، وهو ما لا اعتراض عليه ما دام يؤدي إلى حل سياسي لا حصة فيه لما تسميه واشنطن "المعارضة الراديكالية". لكنه سيؤدي خصوصاً إلى لجم تركيا عما لم تكف عن المطالبة به: المنطقة الآمنة. وجاء إسقاط هذه الأخيرة للطائرة الروسية ودعم أمريكا الخجول لِحَقِّها في الدفاع عن سيادتها كي ينسف هذا المشروع نهائياً، وهي نتيجة ما كان للولايات المتحدة إلا أن ترضى بها بعد أن قاومته منذ البداية مستجيبة في الوقت نفسه لما رفضته روسيا على الدوام.

زعمت روسيا أن تدخلها جاء لمحاربة الإرهاب، وكان واضحاً أن الإرهاب في نظرها لا ينحصر في "تنظيم الدولة" أو "جبهة النصرة" فحسب، بل في كل جماعة مسلحة حملت السلاح في وجه النظام الأسدي. لكن مباشرتها فور بدء عملياتها في سورية استثناء داعش من هجمات طائراتها وضرب كل القوى المقاتلة بلا تمييز، أوضح بما لا يقبل الشك أن هدفها الأول هو إعادة تأهيل النظام الأسدي عسكرياً وميدانياً فضلاً عن إعادة تأهيله سياسيا، ثم فرض ذلك على القوى الغربية التي بادرت، على إثر الولايات المتحدة، إلى قبول الأطروحة الروسية بالنسبة إلى النظام السوري، معبرة عن هذا القبول بصيغ مختلفة في الظاهر متحدة في المضمون.

بعد أن تجلى هذا التواطؤ بين الموقفين الروسي والأمريكي في الشأن السوري من خلال المؤتمرات العديدة التي تناولته وآخرها مؤتمر فيينا 2، هاهو يعود إلى الظهور من جديد في الطريقة التي استقبلت بها روسيا وأمريكا نتائج مؤتمر المعارضة السورية الذي نظمته المملكة العربية السعودية بالرياض بتكليف من فيينا 2. لقد حرص كلاهما، كل بلغته، على ضرورة إعادة صياغة نتائج هذا المؤتمر، بل وكذلك على ضرورة تحديد أسماء أعضاء وفد ممثل للمعارضة ينال موافقتهما معاً.

ذلك كله، بالطبع، في غياب الشعب السوري.







* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، 17 كانون الأول 2015، ص. 23




samedi 12 décembre 2015


السوري المتشائل

بين الأمل الثوري والحلِّ الدولي

بدرالدين عرودكي



انعقد "الاجتماع الموسع لفصائل المعارضة السورية" بالرياض يومي 9 و 10 كانون الأول الجاري بعد محاولات تكاد لا تعدّ ولا تحصى، استمرت خلال ما يقارب خمس سنوات، لجمع هذه الفصائل  على برنامج واحد يستجيب لتطلعات الثورة السورية، ولا يتنصل منه، بعد التوقيع عليه، هذا الفريق أو تلك الجماعة، بعد لأي، ليضاف إلى أرشيف العثرات والخيبات التي لا تزال هذه الثورة تعاني منها حتى اليوم. لكن هذا الاجتماع يأتي اليوم بعد أن خرجت الأمور من يد السوريين جميعاً نظاماً ومعارضة واستحوذت عليها القوى الدولية، بناء على طلب هذه الأخيرة تمهيداً لما اعتمدته من حلٍّ لـ"الأزمة السورية" تقرر تفاصيله، بالتوافق فيما بينها من حيث المبدأ، ثم يوقع عليه الطرفان، النظام والمعارضة برضاهما القسري، بوصفه الحلَّ الدولي الوحيد. 

تلك هي الصورة الإجمالية الأولى التي ارتسمت على الفور في أذهان المتابعين للشأن السوري عن نتائج مؤتمر فيينا 2 الذي عهد إلى المملكة العربية  السعودية بالعمل على جمع أطياف فصائل المعارضة كلها، داخلية وخارجية، مدنية وعسكرية، باستثناء قوتيْن عسكريتيْن كبيرتين على الأرض هما "تنظيم الدولة" و "جبهة النصرة" اللتين صنفتهما هذه القوى الدولية في خانة الإرهاب.

ومع ذلك ورغم ما توحي به هذه الصورة بأن "كل شيء مقرر سلفاً"، كانت ثمة شكوك وتساؤلات. انصبَّت الشكوك على إمكان جمع مختلف أطياف المعارضة دون أن يقوم النظام وحلفاؤه بالتشويش إن لم يكن بكل المحاولات من أجل إفشال هذا الجهد المنوط بالسعودية؛ فيما طالت التساؤلات إمكان الخروج ببرنامج يؤكد ما صار يُعرف باسم "ثوابت الثورة السورية" ولا سيما إسقاط النظام برموزه ومؤسساته والانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية جامعة يتساوى فيها مواطنوها بلا تمييز عرقي أو ديني أو طائفي.

لم يطل الانتظار كي تبدو هذه الشكوك في محلها أولاً لاسيما وأن سوابق النظام في هذا المجال لا تحتاج اليوم إلى إثبات!

فمنذ اللحظة الأولى للثورة، أعلن النظام السوري أنه ضحية مؤامرة كونية ينفذها مندسون ومتطرفون إسلاميون وقتلة محترفون.  

وعلى أنَّ الصورة التي انتشرت كالنار في الهشيم في العالم أجمع  ولعبت دوراً رئيساً في نقل ما يجري في مدن سورية وأريافها خلال الأشهر الستة الأولى من الثورة (بين آذار وأيلول 2011 خصوصاً) كذبت مزاعم النظام حين نقلت مباشرة من دير الزور إلى دمشق إلى درعا مروراً بحلب وحمص وحماه ، مشاهد عشرات ألوف بل مئات ألوف المتظاهرين السوريين أحياناً، يرقصون و يغنون منادين بالكرامة وبالحرية، فقد عمل بصفاقة منقطعة النظير من أجل البرهنة على ما أعلنه بشتى الوسائل، بما فيها الكذب والنفاق والتزوير ـ كما اعتاد خلال خمسين عاماً ـ ولم يتورع عن استخدام حثالات بشرية من أتباعه ترتكب مختلف الفظائع باسم الثورة. ولم تكن وسائل إعلامه خلال السنوات الثلاث الأولى تتوقف عن اتهام ما كانت تسميه "الجماعات المسلحة" بكل الجرائم البشعة التي كان يرتكبها عملاؤه والتي لم يكن أقلها مجازر تقتل خلالها عائلات بأكملها ثم تسرق الأموال والممتلكات وتفتح الأسواق العامة بالصفاقة ذاتها من أجل بيعها..

أسهم ذلك إلى حد كبير في تشويه ثورة السوريين على الصعيد الدولي. ثم فاقم هذا التشويه، بعد أن كُمِّمَت أفواه بعض من يمثلها على الأرض بالقتل أو بالسجن أو بالتشريد أو رُوِّضّت أفواه البعض الآخر لتنطق بما تريده أجهزة النظام وفي الوقت الذي تحدده، تشرذمُ الذين انبروا لتمثيلها داخل الحدود أو خارجها في جماعات متنافسة اتخذت كثرة من العاملين فيها من الثورة سبباً للإثراء وللظهور. مما أدى إلى أن تتسلل القوى الإقليمية شيئاً فشيئاً إلى الميدان تارة من خلال تدفق "المجاهدين" من كل حدب وصوب من أجل جهاد لا تعرف غايته ولا ضالته، أو "دفاعاً عن قبر زينب" وسواها من "العتبات المقدسة" التي لم يمسها سوء منذ أربعة عشر قرناً(!) أو لدعم قوات النظام التي أخذت أعداد أفرادها بالتضاؤل على امتداد الأشهر والسنوات بفعل القتل أو الانشقاقات على كل المستويات.

تُذكَرُ كل هذه السوابق للقول إنه ما كان بوسع النظام وداعمه الرئيس (إيران) وقد وجد نفسه مرغماً على الصعيد الدولي للتفاوض مع خصومه على عملية انتقالية تتضمن رحيله خصوصاً أن يدع الأمور تجري في مسارها الطبيعي دون أن يعمل إن لم يكن لإثبات استحالة تنفيذه فعلى الأقل لعرقلة المسعى الدولي بفرض من يعتبرهم خصومه من "المعارضة الصالحة أو الوطنية!" تشتيتاً للمواقف وبرهنة على انعدام وجود خصم آخر له غير الذي أعدّه لهذه اللحظة. كانت الخطوة الأولى في هذا المجال على ما يبدو عقد المؤتمر الموازي الذي نظمه حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي و"وحدات الحماية الشعبية" التابعة له بمدينة الحسكة وانضم إليه تيار "قمح" الذي يرأسه هيثم مناع بعد رفضه في اللحظة الأخيرة حضور مؤتمر الرياض. لكنها لن تكون الأخيرة.

أما ما يخص التساؤلات التي طرحت قبل عقد المؤتمر فقد جاء بيانه الختامي يجيب عنها بوضوح ـ شوهته والحق يقال كثرة الأخطاء النحوية المُخجِلة التي تضمنها ـ إذ يستعيد معظم ثوابت الثورة السورية عموماً مع استناد إلى ما حاز على الاعتراف الدولي على غموضه: مقررات جنيف 1 وتوابعها. لكن السؤال الجديد والأهم هو الذي يُصاغ الآن بعد ما يمكن اعتباره النجاح المتوقع لمؤتمر المعارضة: كيف سيستطيع الوفد المعارض تحقيق ما تمَّ الاتفاق عليه بالرياض خلال المفاوضات القادمة بنيويورك؟ من سيدعمه من القوى الدولية الفاعلة في ذلك؟ وهل هناك ما يشي باتفاق القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة وأمريكا على حلٍّ يستوعب ما يمكن أن تطالب به المعارضة حين طلب إليها وحدة التمثيل والصوت والرؤية؟

مثلما هرعت "ذراع إيران في لبنان (حزب الله) بحجة محاربة "التكفيريين لنجدة النظام السوري من سقوط محقق، ثم هرعت إيران نفسها مع استخدام الحجة ذاتها بقوات جمعت أفرادها من مرتزقة جاءت بهم من أفغانستان والعراق للعمل تحت إشراف ضباط حرسها الثوري ثانية للحيلولة دون وصول قوات المعارضة على اختلافها إلى الساحل السوري وفتح طريق دمشق من الجنوب ومن الشمال، هرعت روسيا هي الأخرى بقواتها الجوية والبحرية إلى سورية في أيلول الماضي بحجة قتال "الإرهابيين" (على أن نفهم أن المعنيين بالأمر كلُّ الذين رفعوا السلاح لإسقاط النظام، تاركة "تنظيم الدولة" يسرح ويمرح في الأرض السورية، ومُنسقة جهدها الحربي مع إسرائيل في الجو ومع العراق وإيران خصوصاً من خلال القوات العاملة بأمرهما على الأرض. ولم يفتها أن تعلن، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، أنها تدعم نظام الأسد "الشرعي"، ومن ثم فقد كان واضحاً للجميع أن ما تهدف إليه إنما هو تغيير موازين القوى لصالح النظام السوري تغييراً حاسماً يتيح له في المفاوضات المنتظرة مع المعارضة التي تقوم بإعدادها مع الولايات المتحدة من أن يحقق ما يريد: عملية انتقالية تمليها بالضرورة علاقات القوى على الأرض، وتسمح بألا يستثنى الأسد فيها ولا يُرغم على الرحيل.

ذلك هو ما ترجوه روسيا بوتين وتعمل على تحقيقه  بكل الوسائل، ومن ورائها إيران التي بدأت المزايدات عن طريق استخدامها الخطوط الحمراء! لكن ذلك ليس بالضرورة ما ترجوه الولايات المتحدة  ومعها أوربا (فرنسا خصوصاً وبريطانيا وألمانيا). ذلك أن ورقة الضغط التي سيستخدمونها الآن جاهزة: الوفد الموحد الذي يجمع معظم أطياف المعارضة السورية من المدنيين والعسكريين ومن كل المناطق السورية، ومطالب هذا الوفد التي صاغها المؤتمر العتيد بالرياض التي تستند إلى ما توافقت عليه كل من روسيا والولايات المتحدة في جنيف 1 من جهة والتي تطلب إلى الأمم المتحدة الإشراف على مجمل العملية الإنتقالية وصولاً إلى مشروعات إعمار سورية.

لكن الفترة الواقعة بين مؤتمر فيينا 2 ومؤتمر المعارضة بالرياض شهدت أحداثاً بدأت آثارها بالظهور واضحة على مستوى المواقف الدولية وانعطافها بدرجات متفاوتة. فإسقاط داعش للطائرة المدنية في سيناء ثم تركيا للطائرة الحربية الروسية من جهة، وعملية "داعش" الإرهابية بباريس من جهة أخرى، قاد الجميع إلى مواقف حاسمة: فروسيا لن تسمح لتركيا إنجاز ما كادت أن تتوصل إلى تحقيق الإجماع عليه من حلفائها، أي المنطقة الآمنة على حدودها مع سورية. في حين قررت فرنسا إعلان خوض حرب ضروس على ما صارت تعتبره عدوها الأول: "تنظيم الدولة"، قابلةً بلا مواربة وجود الأسد خلال العملية الانتقالية، بعد أن كانت تعتبره مع "داعش" وجهين لعملة واحدة. وبدا الجميع بما فيهم روسيا بالطبع على تناغم في إعطاء الأولوية لقتال "تنظيم الدولة" بوصفه العدو الأول، وهو ما يلتقي في النهاية مع الهدف الذي لم يكف النظام السوري عن إعلانه بدعم من حلفائه: القضاء على الإرهاب أولاً، أي على كل من حمل السلاح من أجل إسقاطه.

كيف سيكون في هذه الحالة موقف من شاركوا في مؤتمر فيينا؟ لاشك أن حجة تشرذم المعارضة قد رفعت الآن بوجود الوفد الموحد الذي ستتابع السعودية حثيثاً وكما هو منتظر منها ضبط إيقاعات مواقفه وسلوكه وعمله. لكن الطرف الآخر لن يتوقف عن الحديث عن الإرهاب وعن رفض الحديث مع المنظمات الإرهابية. ربما لن تجاريه روسيا في ذلك صراحة لكنها ستفعل كل شيء من أجل الحيلولة دون تحقيق مطامح المعارضة ومن وراءها اليوم.

أعلنت السعودية عن طريق وزير خارجيتها أن على الأسد أن يرحل سلماً أو حرباً. تلك رسالة إلى روسيا أولاً. لكنها، كي تصل، لابد من أن تجد سندها الأساس لا في قدرة المعارضة ميدانياً على الحيلولة دون تحقيق التوازن الذي تنشده روسيا وإيران على الأرض فحسب، بل وفي استمرار المعارضة السياسية والعسكرية على الحديث باللغة ذاتها التي اتفقت على مفرداتها في مؤتمر الرياض والتي عبرت عن ثوابت الثورة السورية.

يبقى أن الطريق لتحقيق كل ذلك لا يزال طويلاً..


* نشر في  القدس العربي الأٍسبوعي، الأحد 13 كانون أول 2015، ص. 11.










mercredi 9 décembre 2015


تصنيع الإرهاب

بدرالدين عرودكي



قبل نيِّف وأربعة عشر عاماً افتتحت الألفية الثالثة في عامها الأول بحدث إرهابي فاصل تمثل في تدمير برجي التجارة العالميين بنيويورك،. جرى الحدث في نقل مباشر على مرأى ومسمع من العالم كله عبر شاشات التلفزيون. ولأنه عملٌ غير مسبوق لا في حجمه ولا في تقنياته ولا في مكان حدوثه، رأى فيه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار يومها الحدث ـ الرمز أو "الحدث المطلق، أمّ الأحداث والحدث المحض الذي يركز في ذاته كلَّ الأحداث التي لم تحدث من قبلُ على الإطلاق" . في حين ناقش فيلسوفان آخران من أهم فلاسفة عصرنا، الفرنسي جاك دريدا والألماني يورغن هابرماس، مسألة ما إذا كان من الممكن اعتبار تاريخ  يوم 11 أيلول 2001، كتاريخ، "مفهوماً" فلسفياً بالمعنى الدقيق للكلمة. وصرح كوفي عنان، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة يومئذ، مستعيداً على صعيد آخر الآية القرآنية: (..من قتل نفساً بغير نفس (...) فكأنما قتل الناس جميعاً ـ سورة المائدة): "إن الهجوم الإرهابي ضد بلد ما هو هجوم ضدَّ الإنسانية جمعاء"..  

وكما لو كان الحدث منتظراً من قبل ـ استنفر جورج بوش ـ الدول جميعاً من أجل خوض "الحرب ضد الإرهاب" بادئاً بغزو أفغانستان وطرد طالبان من السلطة المركزية في كابول، ومستمراً في العراق غزواً وتحطيماً لبناه جميعاً عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. ثم سرعان ما تبين له ولجميع من حالفه في حربه أن القاعدة صارت قواعد في بلدان لم يكن لها فيها وجود، ولا سيما في العراق، الذي سيصير بعد أفغانستان وفي وجود الجيش الأمريكي بمثابة المركز الثاني لها والذي سرعان ما سيحتضن كل مجندي القاعدة الذين بدا في الوقت نفسه أن دوائر استخبارات القوى الإقليمية والدولية قد بدأت في زج عملائها بينهم بصورة أو بأخرى لا بحثاً عن المعلومات فحسب بل للتأثير ـ ربما ـ بصورة أو بأخرى كلما سنحت الفرصة على صانعي القرار في فروعها المختلفة.

لكنَّ الحملة لم تؤدِّ إلى القضاء على الفاعل الحقيقي ـ القاعدة ـ رغم قتل زعيمها بعد سنوات. فقد صارت للتنظيم فروع وامتدادات في شتى البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة ومختلف الدول الأوربية، كما رأينا ذلك خلال السنوات التالية على هذا الحدث وحتى اليوم. ومن ثمَّ، فـ"الحرب ضد الإرهاب" لم تضع أوزارها بعدُ، ولا يبدو أنها ستضعها في المستقبل المنظور. فالإرهاب الذي انطلقت لتحاربه الولايات المتحدة وحلفاؤها، بعد أن أمكن تشتيت قوات طالبان، يبدو كالغمام. لا يستقرُّ في أرض محددة ولا يتجسد واقعاً في دولة أو في بنية جماعية يمكن تحديدها والقضاء عليها بطريقة ما.  فلأول مرة استطاع الإرهابيون أن يحققوا توازن الرعب مع القوة الأعظم لا من خلال مواجهتها بقوة السلاح أو بقوة النار المتكافئة، بل من خلال هذه المعادلة البسيطة والمرعبة: قبول الموت في مواجهة رفض الموت. 

سيبقى هذا السلاح الرمزي هو الأقوى في كل مواجهة. ولن يكون هناك سلاح يتفوق في مواجهته ما دام الخيار خيار الحرب الكلاسيكية. كان جميع من شارك في هذه الحرب يعرف أنها لن تضعَ حدّاً لما صار يُعرف باسم مشكلة الإرهاب، مثلما أنها لن تتمكن من القضاء عليه مادامت الوسائل التي استنفرت من أجل ذلك لا يمكن أن تصلح في هذه الحرب بالذات. ومن ثمَّ، فقد تمَّ اللجوء إلى ـ مؤقتاً على الأقل ـ الالتفات نحو الاستثمار في هذا الإرهاب  بطريقة أو بأخرى، في خدمة إعادة النظر التي تقوم بها القوى الكبرى حول توازن القوى والمصالح على الصعيد العالمي والإقليمي. فالكبار والصغار في هذه اللعبة يدركون أن من بعض أسباب الإرهاب الاختلال الخطير على الأصعدة كلها بين الشمال والجنوب، والهيمنة المطلقة للدولة الأقوى في العالم، واحتضانها ورعايتها الديكتاتوريات على اختلافها ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي. كما يعرفون أن ذلك لابد أن يتيح لروح الإرهاب أن تنتشر حيث يعاني الناس آثار هذا الاختلال وهذه الهيمنة. لكن الصغار يدركون أيضاً مدى الحساسية المرضية بل الهشاشة اللامتناهية لدى الدول الغربية على اختلافها إزاء العمليات الإرهابية أياً كان حجمها ولاسيما منذ حدث بداية هذا القرن.

وكان النظام السوري، ومعه إيران وذراعها في لبنان، حزب الله،  أولُ من أدرك خطورة سلاح الإرهاب بالنسبة إلى الغرب ومن ثمَّ أول من استثمره لصالحه في المنطقة. فقد كان سلاحاً يضاف إلى ترسانته من أجل البقاء.  ولقد استخدمه بمهارة حين شعر بنفسه مهددا من قبل الولايات المتحدة إثر غزو العراق، حين أطلقً يد الإسلاميين الذين كانوا حبيسي سجونه من أجل العمل داخل العراق. ثم عاد إلى استخدامه على نحو أكثر نجوعاً منذ أن شعر بالتهديد الحقيقي لوجوده إثر الثورات العربية التي انطلقت من تونس وعبرت ليبيا ومصر ثم وصلت إلى سورية.

منذ شهور الثورة الأولى، وبدعم مباشر وعلني من إيران وذراعها اللبنانية، اعتمد النظام السوري الحلّ الأمني لمواجهة الثوار، واتجه نحو إعلان الثوار مندسين، وإرهابيين، يعملون على تكوين إمارات إسلامية يشرف عليها إرهابيو القاعدة. ووصل الأمر إلى أن الإعلام الممالئ للنظام ساوى بين حمص وقندهار.  وتم تسليط الأضواء على كل ما يمكن أن يدعم هذا الزعم في الوقت الذي كانت سلطات النظام السوري تقوم بالقضاء على نحو منهجي على الشباب السوري الذي كان في أساس هذه الثورة والمحرك الأكبر لها، بالقتل، أو بالتعذيب حتى الموت أو بالتهجير.

كان الإرهاب إذن منذ البداية رهانَ النظام السوري ووسيلته لإثبات جدارته بالبقاء. ولقد استطاع خلال مايقارب خمس سنوات متابعة هذا الطريق بلا كلل وبثبات، بوصفه الطريق الوحيد للخروج من النفق الذي وجد نفسه فيه. وها هو يحصد ما زرع: حلَّ "تنظيم الدولة" محلَّ القاعدة، وأسهم النظام السوري، مثلما فعلت من قبله حكومة نوري المالكي، بتسهيل تواجد قوات هذا التنظيم على مساحات شاسعة من البلدين تتيح له عن طريق البترول ونهب الآثار تمويلاً كافياً يجعله قادراً على تهديد الدول الغربية سواء من خلال تصوير وبث قطع الرؤوس والحرق بإخراج سينمائي شديد الحرفية أو من خلال عمليات إرهابية مذهلة في دراميتها كعملية 13 تشرين الثاني الماضي بباريس..

هكذا أمكن لإيران ولذراعها اللبنانية وللنظام السوري معاً أن يقدموا للغرب البديل الذي يخشاه في سورية: إما الأسد أو داعش! قتل النظام السوري بمعدل مائتي شخص يومياً  منذ بداية الثورة السورية، وقتلت داعش في عملية واحدة مائة وثلاثين شخصاً بباريس فضلاً عن عدد من الصحافيين الغربيين.. وكانت النتيجة أن الغرب ردد بصوت واحد تقريباً: "الأسد عدو شعبه، لكن داعش عدونا" !

هكذا، وبعد أن كان العالم جميعاً ينادي بالخلاص من هذا النظام شرطاً لحل ما أطلق عليه "الأزمة السورية"، ها هو، شيئاً فشيئاً، يدعو إلى الاعتراف بضرورة العمل مع هذا النظام بالذات من أجل القضاء على الإرهاب مُجَسّداً في داعش.

سوى أن استثمار الإرهاب ممثلاً في "تنظيم الدولة" أو في سواه من الجماعات الإرهابية المنتشرة على رقعة العالم العربي لم يكن وقفاً على الديكتاتوريات العربية والإسلامية، بل شمل أيضاً الدول الغربية ذاتها التي عثرت في ما أطلقت عليه "الحرب على الإرهاب" أنجع وسيلة لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية على صعيد إعادة النظر في ضروب التوازن السياسية والجغرافية والعسكرية بين القوى الإقليمية (إسرائيل وإيران وتركيا) من جهة والقوى الدولية (روسيا وأوربا والولايات المتحدة).

وهو ما نشهده الآن عياناً.


* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، الخميس 10 كانون أول 2015، ص. 23





1.                 رياض السوري

 10/12/2015 ، الساعة 22:02

عزيزي الأستاذ بدر
هذا هو الكلام والتحليل الصحيح لهذه الفاجعة الأممية التي كما قلت لها جذورها التاريخية والمسؤولية المتعددة الأطراف لكن الإرهاب وقبل ان يعرف العالم بن لادن / الذي كان عميلا في السي اي اي / والقاعدة واخواتها فقد مارسته ايران في الثمانينيات في باريس للضغط على الشيطان الأصغر/ وكذلك نظام حافظ الاسد في فرنسا وفي لبنان / حادثة اغتيال سفير فرنسا في لبنان لويس دولا مار/ التي كانت من هندسة آل الأسد للضغط على باريس وفي هذه العجالة لا يمكن ان نذكر كل عمليات الإرهاب والاغتيالات التي قام بها نظام الملالي ضد معارضية / ذبح شابور بختيار في باريس / والمعارض الكردي عاصملو وسواهما الكثير/ أما في سوريا فاغتيالات النظام طالت صلاح الدين البيطار في باريس / في العام 1980/ ونالت من كل المعارضين الذين شكلوا خطرا على النظام ولا يمكن نسيان مجزرة سجن تدمر وحماة فهما قمة ارهاب الدولة والتي عمي العالم عنهما

شكرا لهذا المقال الرائع

رياض





jeudi 3 décembre 2015


أردوغان، بوتين، أوباما..

من يناور ضد من؟

بدرالدين عرودكي

ما كان بوسع أردوغان أن يتأخر عن إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت خلال سبعة عشر ثانية المجال الجوي التركي. فعلها الطيران الروسي مرات عدّة قبل ذلك منذ أن زج بأسطوله الجوي لدعم نظام الأسد تحت غطاء الحرب ضد الإرهاب، كما لو أنه كان يقول رسالة بكلمتين: نحن هنا. أي أن على الأتراك أن يتصرفوا من الآن فصاعداً بناء على وانطلاقاً من هذا الواقع الجديد..  

للوهلة الأولى بدا التنسيق بين قوات التحالف ضد تنظيم الدولة وروسيا كما لو كان تنفيذاً لاتفاق غير معلن بين الطرفيْن حول سورية يهدف إلى موازنة القوى بين النظام والمعارضة لإمكان الوصول إلى حل سياسي يرضي الجميع. أما نقطة الخلاف الوحيدة فقد تركزت على كيفية وموعد رحيل الأسد.

لكن روسيا وإيران تقاسمتا الأدوار جواً وأرضاً لتحقيق هدف لم ينكره أحدهما، هو دعم الأسد ونظامه "في وجه الإرهاب"، إرهابٌ تمثله "داعش" بوصفها تعني في مفهومهما كل قوة أو منظمة حملت السلاح بهدف إسقاط  النظام الأسدي ورموزه، لا "دولة التنظيم" المعلنة في العراق وسورية بالمعنى الدقيق للكلمة.

في الوقت نفسه كان أردوغان وحزب العدالة والتنمية يكسبان جولة الانتخابات الأخيرة التي بات بوسعه إثر نتيجتها تأليف حكومة تدعمها الأكثرية الجديدة في البرلمان، ويستعد بالتالي لاستئناف ما اضطر إلى تأجيله منذ فشله في انتخابات حزيران الماضي بعد انضمامه إلى قوات التحالف ضد تنظيم الدولة التي باتت تستطيع الانطلاق من القواعد العسكرية في تركيا: أي رسم حدود المنطقة الآمنة على طول الحدود السورية التركية التي كان أشد الداعين لها والمدافعين عن ضرورتها لتحقيق هدفين: حل مشكلة اللاجئين السوريين الذين بلغ عددهم في تركيا قرابة المليونين، والحيلولة دون قيام أي كيان كردي مستقل ضمن الحدود السورية.

وكأنما كان هذا الهدف، حسب التصريحات الأمريكية وسواها في حلف الناتو بصرف النظر عن التوصيفات، قد بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق. رأى أردوغان في ذلك ضوءاً أخضر يستطيع معه أن ينتقل إلى حيز الإنجاز في الوقت الذي بدأت فيه روسيا السيطرة كلياً على الأجواء السورية، بل وأن يكف عن السكوت على الاختراقات الجوية التي ارتكبتها الطائرات الروسية. وحين قال ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الأطلسي  في العاشر  تشرين الأول الماضي، "إن روسيا تقوم بتصعيد عسكري مقلق" مشيراً إلى الاختراقات الجوية للمجال التركي، قال أيضاً جواباً عن سؤال يتناول جاهزية الناتو لتوسيع مهماته: إن "الحلف الأطلسي قادر وجاهز للدفاع عن جميع حلفائه بمن فيهم تركيا".

"بمن فيهم تركيا"، كما لو أن تركيا ليست عضواً كامل العضوية في الحلف! كان ذلك ضوءاً أخضر بالتأكيد لكنه ضوءٌ رجراجٌ يقول أكثر من رسالة كلٌّ منها ينطوي على قدر من الغموض.

فحين أسقطت الطائرات التركية الطائرة الروسية بعد عشرة إنذارات خلال سبعة عشر ثانية، بادر جميع الحلفاء كما فعل الرئيس الأمريكي باراك أوباما وأمين حلف الناتو ستولتنبرغ، إلى دعم حق تركيا "في الدفاع عن سيادتها"، داعييْن كلاهما مباشرة تركيا وروسيا إلى الحوار..

هل كان إسقاط الطائرة الذي يبدو أنه نال الضوء الأخضر مسبقاً من واشنطن ينطوي على رسالة ما؟ وإلى من كانت موجهة؟ إلى بوتين؟ أم، بصورة ما، إلى أردغان نفسه؟ أم إلى سواهما من القوى الإقليمية كإيران والسعودية، أم للجميع معاً؟

ذلك أن الفعل لم يكن عادياً بما أنها المرة الأولى التي تقوم فيها دولة عضو في حلف الناتو بإسقاط طائرة لقوة كبرى هي روسيا منذ أكثر من نصف قرن! وما كان بوسع هذا الفعل أن يمر مرور الكرام والجميع يعلم علم اليقين ما ينطوي عليه من استفزازٍ وتحدٍّ للكبرياء البوتينية!

وعلى أنها القوة العسكرية العاشرة في العالم، لا تستطيع تركيا، لوحدها، أن تواجه القوة الروسية. فهل اتخذ القرار دون الانتباه إلى أن الضوء الأخضر كان رجراجاً بما فيه الكفاية؟ 

ربما يسعنا العثور على بعض الإجابات في النتائج التي تمخض عنها هذا الحادث وما سيتمخض عنه خلال الأيام والأسابيع القادمة.

من الواضح أن الآثار تطال الطرفين، وفيما وراء ما أطلق عليه بوتين "العواقب الوخيمة" في أول تصريح له بعد الحادث والتي ظهر جلياً أنها ستكون ذات طابع اقتصادي خصوصاً. لكن مثل هذه العواقب، أياً كان الطرف الذي سيتخذ إجراءاتها، ستنعكس لا محالة على الجانبيْن، وربما على روسيا أكثر من تركيا. ولعلّ العواقب الحقيقية ستكون في مجال آخر. فلابد أن بوتين قد رأى أنه لن يُتركَ وحيداً على الساحة السورية وأن دعمه لنظام الأسد بالتعاون مع إيران لن يكون نزهة ممتعة. فها هي صواريخ التاو التي سمحت أخيراً الولايات المتحدة بتسليمها إلى الثوار السوريين تحول دون تقدم قوات النظام وميليشيات إيران وحزب الله في أي مكان جنوباً ووسطاً وشمالا بل وأن تسقط الطائرة الثانية بعد إسقاط الأولى على أيدي الأتراك. ولابد أن أردوغان قد  أدرك ـ في الوقت نفسه ـ أن عليه أن يؤجل مشروع المنطقة الآمنة إلى أجل غير مسمى.

لن تكون فرنسا، هي الأخرى، وهي الحليفة الغربية الأقوى مع ذلك، بعيدة عن ميدان هذه المعركة. إذ هي الدولة الوحيدة من بين الدول الغربية جميعا التي بقيت تلح على ضرورة الجمع بين تنظيم الدولة والأسد وعدم الفصل بينهما. أكان لابد من الحدِّ من غلواء هذه السياسة التي تقف على النقيض من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وحلفائها الأقربين في أوربا؟ إذ إثر عملية 13 تشرين الثاني الإرهابية بباريس، حدث منعطف واضح في السياسة الخارجية الفرنسية لابد أن نشهد نتائجه قريباً يمكن تلخيصه على النحو التالي: "داعش عدونا، وبشار الأسد عدو شعبه"، كما جاء على لسان أحد المسؤولين الفرنسيين. أول هذه النتائج عزم الرئيس الفرنسي على العمل مع روسيا على الأرض السورية إلى جانب قوات التحالف تحت القيادة الأمريكية. لكن إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا بدا كما لو أنه كان يضع عقبة حقيقية أمام جهود الرئيس الفرنسي لتوحيد الجميع في معركته ضد تنظيم الدولة.

هل هي الصدفة التي أدت إلى كل هذه النتائج؟

لا صدفة في السياسة. طبعاً. لاسيما وأن ما يجري يطال مصائر الجميع ومصالحهم، كباراً وصغاراً، وأياً كانت صلة القربى التي تربط كلاً منهم بالمشهد السوري.  

سوى أن حادث إسقاط الطائرة الروسية وعواقبه يعكس ضروب المصالح المتناقضة التي باتت تسم المشهد السوري، وذلك منذ أن قرر نظام الأسد استخدام تنظيم الدولة بوصفه تجسيد الإرهاب بديلاً عنه كي يرغم الغرب على إعادة تأهيله مجدداً بعد أن حكم عليه بعدم الصلاحية. وهو الجهد الذي لم تكف روسيا عن العمل لترويجه بعد تبنيه بلا أي تحفظ، بحيث بدا وكأنه الحقيقة السياسية الوحيدة المطروحة لا في الإعلام الغربي فحسب بل كذلك في أوساط اليسار السياسي الأوربي عموماً وبعض ممثلي اليمين المتطرف بوجه خاص.
تناقض المصالح العميق هذا يؤدي إلى ضروب من التعقيد لابدّ من  متابعة تفاصيلها ومنمنماتها من أجل تفكيكها ورسم خارطة دهاليزها بقدر الإمكان. لا من أجل التأويل أو التفسير، بل من أجل محاولة الفهم، بكل بساطة، لما يجري على الساحة أمام أعيننا ويبدو كما لو كان مجموعة من الألغاز لا قبل لنا بحلها.



* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي، الجمعة 4 كانون أول/ديسمبر  2015، ص. 23.