samedi 21 novembre 2015


تنظيم الدولة في فرنسا:
ليس الحل سحرياً*


بدرالدين عرودكي



لن يُنظر إلى ما حدث مساء يوم الجمعة 13 تشرين ثاني/نوفمبر 2015 بوصفه حدثاً عابراً. ولا يمكن أن يعامل على أنه كذلك. فمنذ أن قررت فرنسا المشاركة في ضرب داعش في سوريا بعد اقتصارها من قبل على العراق، بدأ ترقب رد الفعل يشغل دوائر الأمن الداخلي والخارجي فيها مثلما يشغل السياسيين.

في 11 كانون الثاني/يناير من العام الحالي وُجِّهت الضربة لصحيفة سياسية ساخرة (شارلي إيبدو) أريد أن لها أن تلعب دور الرمز من خلال قتل معظم صحفييها. واكتشف الفرنسيون جميعاً أن الفاعلين فرنسيو الجنسية مولداً ونشأة، ومن الجيل الأول أو الثاني،  رغم أصولهم الثقافية العربية أو الإسلامية البعيدة.

قيل الكثير يومها: عن الإرهاب والحرب ضد الإرهاب، مثلما سال حبر الكتاب من أجل تحليل هذا الحدث ومعانيه وكذلك لعاب المعلقين الصحفيين وهم يحتلون الشاشات يجادلون ويحاججون. ثم قيل أكثر من مرة إن الدوائر الأمنية قد أحبطت أكثر من عملية إرهابية كان يتم الإعداد لها. لكن ذلك لم يكن يحمل الطمأنينة إلى أحد. لا إلى المسؤولين السياسيين والأمنيين، ولا إلى الناس الذين استغرقوا من جديد في حياتهم اليومية لاسيما وأن المستهدفين من هذه العملية الإرهابية كما روجت وسائل الإعلام كانوا المعنيين مباشرة بالموضوع، وليس ذلك حال بقية الفرنسيين.

فقد توالت العمليات الإرهابية خلال عام 2015 منذ عملية شارلي إيبدو بلا توقف، في نيسان ثم في حزيران ، ثم في تموز حين قبض على أربعة شباب تتراوح أعمارهم بين 16 و23 عاماً كانوا يحاولون الهجوم على معسكر للجيش الفرنسي في منطقة البيرنيه الشرقية، ثم في آب حين حيل بين الإرهابيين وتنفيذ عمليتهم من قبل بعض المسافرين في القطار، وأخيراً عملية 29 تشرين أول التي أحبطت قبل وقوعها والتي كانت تستهدف السلاح البحري في مدينة طولون بجنوب فرنسا.

هكذا، بدت عمليات 13 تشرين الثاني الماضي كما لو أنها جاءت لا لكسر التقليد السائد في العمليات الإرهابية التي نفذت في فرنسا وفي مختلف الدول الأوربية فحسب بل لتثبت أن ما حدث في بداية العام كان مجرد تمهيد  لما سيأتي، وأن كل التصورات التي حملها هؤلاء وأؤلئك، من أيديولوجيي الأحزاب الفرنسية أو من المسؤولين السياسيين الحاليين أو السابقين في اليمين وفي اليسار، أو من "المحللين الاستراتيجيين"، كانت قاصرة عن رسم الصورة في كل أبعادها، تلك التي رسمتها داعش بباريس أخيراً في عملياتها الإرهابية.  

لنتأمل في عناصر هذه الصورة:

التاريخ والتوقيت: اليوم جمعة، والتاريخ 13 تشرين الثاني، عشية عطلة نهاية الأسبوع التي يمرح فيها شباب باريس (ست عمليات تمَّت خلال أربعين دقيقة).

المكان: أماكن التسلية التي تجمع عادة فرنسا بألوانها المختلفة (ملعب كرة القدم في ضاحية سان دني)؛ قاعة للحفلات الموسيقية بباريس: "باتاكلان"؛ وأرصفة مقاهٍ ومطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشر الباريسيتين: شارع بيشا، وشارع فونتين أو روا، وشارع شارون وشارع فولتير.

الضحايا: 132 قتيلاً و412 جريحاً ينتمون إلى 26 جنسية مختلفة،  معظمهم بالطبع من الفرنسيين. وكانت الغالبية العظمى من القتلى والجرحى تضم من هم في سن الشباب.

منفذو العمليات الست: شباب فرنسي أو بلجيكي ذوي أصول عربية، لا تتجاوز أعمار أكبرهم سناً الثامنة والعشرين.

لكن الأهم، هو أن ثمة في هذه العمليات مراتٍ أولى: تفجير بعض منفذي العمليات أنفسهم ليقتلوا أكبر عدد حيث يتواجدون من حولهم. أيضاً.  الذين نجوا من موت محقق وأمكن لهم أن يقدموا شهاداتهم قدموا وصفاً لمشاهد القتل في مختلف الأماكن المشار إليها تقشعر لها الأبدان. قتلة يمارسون القتل بدم بارد وهم يحدقون في عيون ضحاياهم، يصيبون خبط عشواء أناساً كانوا يتساقطون قتلى أو جرحى قبل أن يتمكنوا من وعي ما يحدث لهم. ذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا في ذلك اليوم في ذلك المكان في تلك الساعة وما كان بوسعهم الدفاع عن أنفسهم..

كان هدفهم من اختيار المكان والزمان قتل أكبر عدد ممكن من الشباب في أعمارهم. من هنا احتلالهم لقاعة الباتاكلان الحافلة بالبشر من كل فئات الأعمار والجنسيات. ومن هنا محاولتهم الوصول إلى ملعب فرنسا المدرج حيث كانت تجري مباراة كرة القدم، ثم استهداف الناس على أرصفة المقاهي حيث كان الشباب أفراداً وجماعات يتسامرون أو يتناولون العشاء. ولكن لماذا؟

سارع بعض الصحافيين إلى تفسير هذه الضربة لداعش بوصفها رداً على قصف فرنسا لها في سورية. وندر أن كتب أحدهم شيئاً يتجاوز التفسير السطحي لما حدث ويحدث في فرنسا وفي سواها من أعمال إرهابية. وكالعادة، هناك مشجب تعلق عليه كل هذه الأفعال: الإسلام والتطرف الإسلامي. مشجب مريح يستخدمه اليمين واليسار بلا تقتير. نسوا جميعاً ما كان جان بودريار قد كتبه في تحليل  العمليات الإرهابية وتشخيص الفعل الإرهابي وفاعليه والمستهدفين منها في المجتمعات الغربية: "...الحدث الأساسي يتمثل في أن الإرهابيين  قد كفوا عن الانتحار انتحاراً يتجلى محض خسارة. ذلك أنهم يضعون موتهم في الرهان بطريقة هجومية وفعالة، وحسب حدس استراتيجي هو بكل بساطة الحدس بهشاشة الخصم الهائلة: هشاشة نظام وصل إلى شبه الكمال ومن ثم فقد صار فجأة حسّاساً لأقلِّ شرارة. لقد نجحوا في أن يجعلوا من موتهم سلاحاً مطلقاً ضد نظام يعيش على استبعاد الموت ويقوم مثله الأعلى على عدد صفر من الموتى. (...) كل وسائل التدمير والترهيب لا تستطيع شيئاً ضد عدوٍّ جعل من موته سلاح هجوم مضاد..". وحين ينبري مفكر سياسي مثل فيليو ليقول بالحرف الواحد إ"ن ما تعمل عليه داعش لا يستهدف جعلنا ندفع ثمن ما يجب أن تكون عليه سياستنا، أو ما نفعله، بل إنهم يستهدفون ما نحن عليه. إنهم يريدون أن نقتل المسلمين في فرنسا انتقاما مما فعلوه. مايريدونه،(...) هو قيام حرب أهلية في فرنسا"، يبدو وكأنه صوت نشاز في جوقة اعتادت تكرار لحن واحد: الإسلام والتطرف الإسلامي!

المشكلة على مختلف الأصعدة، السياسية والإعلامية، أن الجميع ظنوا أن الأمر انتهى بعملية شارلي إيبدو في كانون الثاني الماضي، في حين أنها، كما ثبت فيما بعد، لم تكن إلا البداية.

ربما كان تشخيص المشكلة على الصعيد السياسي في الأساس يشكو من قصور خطير لا في الولايات المتحدة أولاً، منذ 11 أيلول 2001، بل في أوربا وفي فرنسا. ذلك أن تصريحات الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه، لم تكن تخرج عن السياق العام في رؤية مشكلة داعش، ومن قبلها القاعدة، وفروعها الدولية من أفغانستان حتى المغرب الأقصى: "نحن في حرب ضد الإرهاب". كان ذلك تصريح الرئيس الأمريكي حين أقامت الولايات المتحدة التحالف الدولي لضرب داعش الذي استعاده الرئيس الفرنسي حرفياً حين انضمام فرنسا إلى هذا التحالف ثم حين اتخاذه القرار بضربها في سورية.

كان دومينيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، قد بيّن بجلاء مشكلة هذا التعبير في ندوة تلفزيونية أذيعت في أيلول الماضي كان يشاركه فيها هوبير فيدرين، وزير الخارجية السابق. ففي تبرير رفضه لهذا التعبير "نحن في حرب مع داعش"، يُذَكِّرُ بأن الحرب تُخاض ضد جيوش نظامية، وأن الحرب ضد الإرهاب ضمن المفاهيم والطرق المعلنة لن تنتصر لأن الفشل معلن سلفاً. ذلك "أن يد الإرهاب غير مرئية، إنها يد متحوِّلة، متغيرة، انتهازية. ولا يمكن القتال ضد يد لا مرئية بأسلحة الحرب التقليدية. لابد من استخدام قوى العقل، والحيلة، ووسائل السلم من أجل فكِّ عرى القوى التي تلتصق بهذه القوى الإرهابية. لابدّ من استراتيجية سياسية، لابد من رؤية سياسية، وقدرة على تفكير الفعل فيما وراء القصف والعمل العسكري بالمعنى الحرفي للكلمة."

لكن الأخطر في قول دوفيلبان ما يتعلق بداعش. يقول: "لنكن واعين أن  داعش، نحن من أنجبها في قسم كبير منها. من الحرب عام 2003 إلى 2011، إلى التخلي عن الثوار السوريين. ثمة حلقة مفرغة حبسنا أنفسنا فيها لم تكن غير فعالة فحسب بل خطيرة أيضاً، لأن منطقة الشرق الأوسط، ويمكننا الحديث عن مجمل العالم العربي والإسلامي، حافلة بالأزمات، مغطاة بالجروح المميتة بينما تعيش أزمة تحديث عميقة وفي القلب منها أزمة اجتماعية تطال في الأعماق الطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى بسبب الفساد والموارد النفطية وغياب العدالة الاجتماعية. قسم كبير من هؤلاء الجهاديين جاؤوا من هذه الطبقات المتوسطة. وعلى أن فيديرين وافق دوفيلبان في حججه الأساس واعتبر أن تعبير "الحرب ضد الإرهاب" خطأ في الأساس وفي الإعلام، إلا أنهما كلاهما لم يشيرا إلى أنه وإن كان صحيحاً توصيف المشكلة في العالم العربي رغم نسيان العنصر الأساس فيها: نظم الحكم الاستبدادية، فإن المشكلة تمسّ أيضاً بنى المجتمعات الغربية عموماً والمجتمع الفرنسي خصوصاً الذي لم يستطع حتى الآن حل مشكلة استيعاب الأجيال المتعاقبة الفرنسية من أبناء المهاجرين، لا على الصعيد الثقافي فحسب بل وكذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وإلا كيف يمكن تفسير انضمام العشرات بل المئات من الشبابالفرنسيين المنتمين إلى الجيل الأول أو الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة إلى داعش؟ ألم يكن منفذو عمليات 13 تشرين الثاني الماضي فرنسيين وبلجيكيين خريجي المدارس العامة في البلدين، ثم ثاروا حتى على أبناء جيلهم حين قبلوا القيام بهذا النوع من العمليات؟

أحد المفكرين السياسيين الفرنسيين الذين لم يكفوا عن التنبيه إلى العلاقة العضوية بين داعش والأسد، وإلى أن الفصل بينهما في معالجة مشكلة العمليات الإرهابية التي تقوم بها داعش سوف تؤدي إلى مجازر أخرى، هو جان بيير فيليو. تتمثل أهمية هذا التنبيه في كشفه عن تعقيد المشكلة التي تطرحها داعش على المجتمعات الغربية خصوصاً. مشكلة ذات وجوه متعددة: سياسية، وأمنية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية؛ مثلما أنها ذات مستويات متعددة: داخلي، وأوربي، ودولي.  ومن هنا فإن الاقتصار على اختصار مشكلة داعش بموضوع الهجرات الأجنبية كما يفعل اليمين الفرنسي، أو بوضع الإسلام والمسلمين موضع اتهام كما تفعل الكثرة من السياسيين والصحفيين، أو على اعتبارها مشكلة عسكرية يمكن حلها بشن الحرب على داعش في عقر دارها، يتجلى عاجزاً عن الإحاطة بمختلف العناصر التكوينية لهذه المشكلة والتي لن يتم الانتصار عليها كما نشهد جميعاً في أي حرب عسكرية تخاض ضدها، ولا في التنديد بالمسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، ولا بالحد من الهجرات التي لم تتوقف يوماً رغم كل محاولات إيقافها من اليمين أو من اليسار.

ليس الحلّ سحرياً. وهو أيضاً، في تعقيده، لا يقل عن تعقيد المشكلة كما تجلت في وجه من وجوهها إثر عمليات داعش بباريس أي في ردود الفعل كما تجلت في تعبيرالعالم عن التضامن الحار مع فرنسا، مثلما تجلت ولا تزال في غضه النظر بلامبالاة عما يحدث في سورية منذ خمس سنوات.

* نشر في صحيفة القدس العربي الأسبوعي، السبت 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2015، ص. 6
http://www.alquds.co.uk/allw.pdf


























Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire