lundi 30 novembre 2015




رحلة الروايات المحفوظية إلى الغرب

بعض الذكريات

بدرالدين عرودكي  




لم يكن نجيب محفوظ عام 1983، أي خمس سنوات قبل حصوله على جائزة نوبل في الآداب، معروفاً في الغرب، إذ لم تكن هناك حتى ذلك الحين سوى رواية واحدة من رواياته قد ترجمت إلى الفرنسية، هي رواية زقاق المدق، نشرها يومئذ الراحل بيير برنار الذي كان مؤسس ومدير منشورات سندباد، المختصة بنشر التراث العربي الإسلامي والتي بدأت شيئاً فشيئاً آنئذ بالالتفات إلى الكتابات المعاصرة المحررة بالفرنسية من قبل كتاب المغرب العربي أولاً ثم بترجمة بعض أعمال كتاب المشرق. لكن الرواية العربية عموماً كانت، مثل روايات نجيب محفوظ، غير معروفة في فرنسا. إذ لم يكن عدد الروايات العربية المترجمة إلى الفرنسية يكاد يتجاوز  عدد أصابع اليد الواحدة تقريباً، منها الرواية المذكورة بالإضافة إلى رواية ليلى بعلبكي أنا أحيا، ورواية جمال الغيطاني الزيني بركات اللتين يعود الفضل بنشرهما إلى مدير منشورات سوي، ميشيل شودكيفيتش. فضلاً عن رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال لدى منشورات سندباد.

وشاءت الظروف أن تكون أول مهمة أكلف بها عند بدء عملي في معهد العالم العربي بباريس أول ديسمبر 1983، الإشراف باسم المعهد على سلسلة تضم اثنتي عشر رواية عربية مترجمة للفرنسية كانت إدارته قد تعاقدت قبيل وصولي إليه على إنجازها مع دار نشر فرنسية واسعة الانتشار هي منشورات لاتيس. وكان لاختيار دار النشر هذه ما يبرره. فمنشوراتها واسعة الانتشار من ناحية، ولا تقتصر، شأن منشورات سندباد المذكورة، على نتاج ثقافة بعينها بل تنشر ما هو فرنسي وما هو أجنبي، مما يسهم في التعريف بثمرات الأدب العربي المعاصر بوصفها نتاج أدب أجنبي شأنه في ذلك شأن نتاج الآداب اليابانية والصينية والأمريكية أو الألمانية أو الإنجليزية وسواها.

أول خطوة قمت بها هي اختيار عدد من الكتاب العرب والفرنسيين أعضاء في لجنة استشارية لإبداء آرائهم في ما أقترحه للنشر ضمن هذه السلسلة محدودة العدد التي كان الغرض منها أن تكون حافزاً لدور النشر الفرنسية الأخرى كي تهتم بالأدب العربي المعاصر، وكي تسهم منشوراتها، من خلال اختيار المترجمين الشبان، في إخراج ثمرات هذا الأدب من جدران الجامعات وحلقات المستعربين أو المستشرقين كي يطال الجمهور الفرنسي العريض. هذا فضلاً عن أمل مزدوج لم يكن أحدنا في المعهد يبخل في التعبير عنه، وهو، من ناحية، رؤية هذه الروايات ذات يوم تباع لدى المكتبات التي تتواجد في محطات القطارات في طبعات شعبية تسهم في توزيعها على نطاق واسع وكذلك، ومن ناحية أخرى، حفز دور النشر الأوربية على الترجمة إلى لغاتها ما تمت ترجمته إلى الفرنسية.

كان قد تقرر افتتاح السلسلة بنشر روايتين، الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، و حكاية زهرة لحنان الشيخ. لم تكن روايات أو قصص نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس أو جبرا إبراهيم جبرا أو عبد السلام العجيلي، على سبيل المثال ولا كذلك روايات الجيل التالي على هؤلاء قد طرحت من قبل مع الناشر كي يتم اختيار بعضها ضمن السلسلة. وهكذا، ففي أول اجتماع عقدته اللجنة الاستشارية في الربع الأول من عام 1984، قدمتُ للجميع ولاسيما لمديرة النشر لدى لدتيس، المرحومة أوديل كاي، اقتراحاً بمجموعة من العناوين للترجمة على رأسها ثلاثية نجيب محفوظ: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. وسرعان ما انبرت ندى توميش، أستاذة الأدب العربي في جامعة السوربون، رافضة الاقتراح، قائلة بالحرف الواحد، إنها تفضل عليها أن تترجم رواية اللص والكلاب، نظراً لأنها تمثل فعلاً تجديداً حقيقياً في الكتابة الروائية، في حين أن الثلاثية ليست إلا "بضاعتنا رُدَّت إلينا"، فهي في نظرها لا تختلف عن الكتابة الروائية الكلاسيكية لدى بلزاك أو إميل زولا من حيث التقنية والاحتفال ببناء الشخصيات.

عبَّر العديد من الحاضرين عن آرائهم دون الانحياز لهذا الرأي أو ذاك. لكني وجدت أن القفز على ثلاثية نجيب محفوظ، التي يمكن اعتبارها الرواية المؤسِّسّة حقاً للكتابة الروائية العربية، إلى رواياته الأحدث الأخرى، لن يجعل من السلسلة التي نريد أشمل وأعمق تمثيلاً للحداثة الأدبية العربية المتمثلة في بعض جوانبها في الكتابة الروائية. وكان لابد من المضي في الدفاع عن أهمية ترجمة هذا المُبدع الضخم أياً كانت قرابته المفترضة أو المزعومة بمبدعات الروائيين الكلاسيكيين في فرنسا حسب رأي ندى توميش، أمام الناشرة الفرنسية التي سيعود إليها الفصل في هذا الموضوع وتقرير الرواية المختارة. صحيح أن أحد أهم الإنجازات ـ من وجهة نظري ـ الذي لن يمكن للقارئ الفرنسي أن يلمسه في الثلاثية مترجمة إلى الفرنسية ـ يتجسَّد على صعيد التقنية اللغوية والتعبيرية، وصحيح أن الإنجازات الأخرى، على كل مستويات الإبداع الروائي،  وما أكثرها، ستتضح جلياً عبر الترجمة التي ستبرهن، إن كان ثمة حاجة إلى البرهنة، أن الرواية باتت الجنس الأدبي الأكثر تعبيراً عن الحداثة العربية بعد تأصيلها طوال النصف الأول من القرن العشرين على أيدي الروائيين الرواد في مصر وسوريا ولبنان خصوصاً. لكن ما كان يهم الناشر الفرنسي ـ قبل أي إنجاز شكلي أو لغوي أو تقني على صعيد الإبداع الروائي ـ ، إنما هي العناصر التي ستجعل الرواية تجذب أكبر عدد ممكن من القراء الفرنسيين عند نشرها. ومن هنا فقد ركزتُ في مداخلتي بعد استعراض سريع لكل العناصر التي تجعل من هذه الثلاثية عملاً استثنائياً في تاريخ الرواية العربية المعاصرة آنئذ، على كل ما يمتُّ إلى مضمونها ومبناها: كيف أمكن لها، بأجزائها الثلاثة وعبر حياة أسرة مصرية تندرج في عداد الطبقات الوسطى، أن ترصد تطور المجتمع المصري بأكمله على اختلاف النزعات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة فيه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين في القرن الماضي؛ وكيف استطاعت أن تقدم نماذج ذات دلالة عبر شخصيات الرواية على اختلافها وعلى رأسها شخصية أحمد عبد الجواد، في إشكالياتها وفي تناقضاتها وخصوصاً في تعبيرها عن الأوضاع الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية للطبقات الوسطى المصرية في تلك المرحلة التاريخية والتي يمكن أن تنسحب بقدر يسير من التباين على كثير من المجتمعات العربية الأخرى.

كان ذلك كافياً ليحمل أوديل كاي على اتخاذ قرار ترجمة الثلاثية بصورة حاسمة. عُهِدَ بالترجمة إلى مترجم فرنسي شاب، فيليب فيجرو، الذي بدأ العمل على الفور منجزاً ترجمة الجزء الأول من الثلاثية، بين القصرين خلال سنة، الأمر الذي أتاح  صدور الترجمة في بداية سبتمبر 1985 وعلى غلاف الكتاب شريط أحمر كتب عليه: تحفة الأدب المصري..كي يتوالى بعد ذلك نشر الجزءين التاليين: قصر الشوق، في شهر نوفمبر 1987 مع شريط كتب عليه: فلوبير المصري، وأخيراً السكرية التي حملت عنواناً مختلفاً: حديقة الماضي، في سبتمبر 1989، أي بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل.

ملك الرواية. كان ذلك هو العنوان الذي حملته صحيفة اللوموند في ملحقها الأسبوعي الخاص بالكتب إثر صدور بين القصرين، مع مقال شامل يقدم الروائي والرواية للقراء الفرنسيين باحتفال يليق به وبمبدعه. ثم توالت المقالات النقدية في الصحف والمجلات الأخرى معبرة عن إعجابها بهذا العمل الروائي الهائل، وهو ما أدى إلى نفاذ الآلاف الأربعة من النسخ التي اقتصرت عليها أول طبعة من الترجمة خلال أشهر معدودات مما اضطر منشورات لاتيس لإعادة طباعة الرواية ثانية وثالثة.

وبدأت دور النشر الأوربية العمل على ترجمة الثلاثية إلى لغاتها المختلفة. وحين صدر الجزء الثاني من الثلاثية عام 1987، كان القارئ الفرنسي قد بدأ يألف اسم نجيب محفوظ.

في تلك السنة بالذات، كنت قد بدأت الإعداد لتنظيم أول لقاء حول الإبداع الروائي اليوم يشارك فيه أربعون روائياً نصفهم من العرب والنصف الآخر من الفرنسيين. كما شرعت، لمناسبة هذا اللقاء بالذات، في تحضير العدد الخاص عن الكاتب العربي  اليوم الذي ستصدره المجلة الأدبية الأشهر في فرنسا، وهي الماجازين ليتيرير، التي كان رئيس تحريرها آنئذ، الناقد والروائي الفرنسي جان جاك بروشيه، والذي وافق على إصداره في الشهر الذي كان اللقاء سيتم فيه، وهو شهر مارس 1988، شريطة أن أقوم بإعداده من الألف إلى الياء!

كان ضرورياً أن يتواجد في هذا اللقاء الروائيون الذين ترجمت بعض أعمالهم إلى الفرنسية لتسهيل الحوار بين الفريقين. وكان على رأس من طمحتُ إلى تواجدهم في هذا اللقاء بالطبع نجيب محفوظ.  كتبت إليه رسالة طويلة أدعوه فيها وأرجوه بحرارة أن يقبل هذه الدعوة. لكنه أجابني معتذراً برسالة رقيقة يقول فيها مُبرِّراً: "... ولكن ما الحيلة ياسيدي والمسألة لم تعد مسألة مزاج في السفر أو عدمه ولكن وردت عليها أمور أهم كالعمر والصحة (...) فاعفُ عني وتقبل عذري...".

أمام اعتذاره عن عدم الحضور، كتبت له أسأله أن أجري مقابلة معه لهذا العدد الخاص. فكتب لي موافقاً: "... وثق ياسيدي  بأنني أرحب بإجراء الحديث معك وذلك لسببين. أولاً أنه سيكون فرصة للتعارف، وثانياً أنه يناسب حالتي الصحية في الصيف حيث أمتنع ىعن القراءة والكتابة بسبب السكر والحساسية.". سوى أن الظروف حالت بيني وبين السفر إلى القاهرة حينذاك. وصادف أن الروائية والشاعرة السورية سلوى النعيمي، وكانت عضواً في اللجنة التنظيمية لهذا اللقاء، كانت على وشك السفر إلى القاهرة. فرجوتها أن تقوم بإجراء المقابله مع نجيب محفوظ. فكان أن عادت بها وتمّ نشرها في هذا العدد. وكانت أول مقابلة مع ملك الرواية تقدم للقارئ الفرنسي.

لكن الحماس لترجمة روايات نجيب ةمحفوظ لم يخمد أواره!

كان من بين الروايات المقترحة على لاتيس، بالإضافة إلى الثلاثية، رواية  إميل حبيبي  الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد  أبي النحس المتشائل. لكن مديرة السلسلة اعتذرت عن عدم النشر لأسباب لم تفصح عنها. فقمت بعرض الرواية على منشورات جاليمار، طامحاً إلى نشرها في سلسلته الشهيرة من العالم كله التي تضم ترجمات كبار الروائيين العالميين. حين قبل مسؤول السلسلة جان جيّو نشر الرواية بمساعدة معهد العالم العربي، وكانت أول رواية عربية تنشر في هذه السلسلة،  طمعت أن أعرض عليه نشر رواية أخرى لنجيب محفوظ، هي رواية ملحمة الحرافيش. قبل نجيب محفوظ ذلك لكنه أحالني إلى السيدة التي كان قد اتفق معها على ترجمة ونشر رواياته، والتي هرعت إلى مصر تستأثر بحقوق ترجمة رواياته بعد النجاح التجاري لجزئي الثلاثية. لكن هذه السيدة رفضت بإصرار أن يقوم معهد العالم العربي بنشرها وتحمل أعباء ترجمتها على غرار الثلاثية، فكان رفضها خيبة لي أولاً ولنجيب محفوظ  ثانياً الذي عمل على أن يسحب منها ما تنازل لها عنه من حقوق في ترجمة أعماله..

حين أعلن عن منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، في شهر أكتوبر 1988، تضمن قرار منحها مقتطفات  من المقابلة المنشورة في الماجازين ليتيرير التي خصصت عدد مارس 1988 لتقديم الكاتب العربي اليوم. كان ذلك يقدم بعض المعنى للعمل المنجز حتى ذلك الحين. لكن الأهم هو أن جائزة نوبل التي حملها نجيب محفوظ أسهمت بصورة حاسمة في إثارة اهتمام الناشرين الفرنسيين الآخرين بثمرات الأدب العربي المعاصر، فبادروا إلى العمل على ترجمة العديد من الروائيين من العالم العربي، الذين صارت أعمال بعضهم تطبع في طبعات شعبية وتباع في مكتبات محطات القطارات، مثلما توضع صورهم في معارض الكتب بباريس وفرنكفورت إلى جانب صور كبار الكتاب والشعراء الآخرين في العالم..

من رسائل نجيب محفوظ بمناسبة ترجمة الثلاثية والمشاركة في ندوة لقاء الروائيين العرب والفرنسيين (آذار/مارس 1988)

* نشر هذا المقال في مجلة الهلال، كانون أول/ديسمبر 2015، ص. 12 ـ 19.
وعلى موقع دار الهلال:
http://www.daralhilal.com.eg/show-8366.html








samedi 21 novembre 2015


تنظيم الدولة في فرنسا:
ليس الحل سحرياً*


بدرالدين عرودكي



لن يُنظر إلى ما حدث مساء يوم الجمعة 13 تشرين ثاني/نوفمبر 2015 بوصفه حدثاً عابراً. ولا يمكن أن يعامل على أنه كذلك. فمنذ أن قررت فرنسا المشاركة في ضرب داعش في سوريا بعد اقتصارها من قبل على العراق، بدأ ترقب رد الفعل يشغل دوائر الأمن الداخلي والخارجي فيها مثلما يشغل السياسيين.

في 11 كانون الثاني/يناير من العام الحالي وُجِّهت الضربة لصحيفة سياسية ساخرة (شارلي إيبدو) أريد أن لها أن تلعب دور الرمز من خلال قتل معظم صحفييها. واكتشف الفرنسيون جميعاً أن الفاعلين فرنسيو الجنسية مولداً ونشأة، ومن الجيل الأول أو الثاني،  رغم أصولهم الثقافية العربية أو الإسلامية البعيدة.

قيل الكثير يومها: عن الإرهاب والحرب ضد الإرهاب، مثلما سال حبر الكتاب من أجل تحليل هذا الحدث ومعانيه وكذلك لعاب المعلقين الصحفيين وهم يحتلون الشاشات يجادلون ويحاججون. ثم قيل أكثر من مرة إن الدوائر الأمنية قد أحبطت أكثر من عملية إرهابية كان يتم الإعداد لها. لكن ذلك لم يكن يحمل الطمأنينة إلى أحد. لا إلى المسؤولين السياسيين والأمنيين، ولا إلى الناس الذين استغرقوا من جديد في حياتهم اليومية لاسيما وأن المستهدفين من هذه العملية الإرهابية كما روجت وسائل الإعلام كانوا المعنيين مباشرة بالموضوع، وليس ذلك حال بقية الفرنسيين.

فقد توالت العمليات الإرهابية خلال عام 2015 منذ عملية شارلي إيبدو بلا توقف، في نيسان ثم في حزيران ، ثم في تموز حين قبض على أربعة شباب تتراوح أعمارهم بين 16 و23 عاماً كانوا يحاولون الهجوم على معسكر للجيش الفرنسي في منطقة البيرنيه الشرقية، ثم في آب حين حيل بين الإرهابيين وتنفيذ عمليتهم من قبل بعض المسافرين في القطار، وأخيراً عملية 29 تشرين أول التي أحبطت قبل وقوعها والتي كانت تستهدف السلاح البحري في مدينة طولون بجنوب فرنسا.

هكذا، بدت عمليات 13 تشرين الثاني الماضي كما لو أنها جاءت لا لكسر التقليد السائد في العمليات الإرهابية التي نفذت في فرنسا وفي مختلف الدول الأوربية فحسب بل لتثبت أن ما حدث في بداية العام كان مجرد تمهيد  لما سيأتي، وأن كل التصورات التي حملها هؤلاء وأؤلئك، من أيديولوجيي الأحزاب الفرنسية أو من المسؤولين السياسيين الحاليين أو السابقين في اليمين وفي اليسار، أو من "المحللين الاستراتيجيين"، كانت قاصرة عن رسم الصورة في كل أبعادها، تلك التي رسمتها داعش بباريس أخيراً في عملياتها الإرهابية.  

لنتأمل في عناصر هذه الصورة:

التاريخ والتوقيت: اليوم جمعة، والتاريخ 13 تشرين الثاني، عشية عطلة نهاية الأسبوع التي يمرح فيها شباب باريس (ست عمليات تمَّت خلال أربعين دقيقة).

المكان: أماكن التسلية التي تجمع عادة فرنسا بألوانها المختلفة (ملعب كرة القدم في ضاحية سان دني)؛ قاعة للحفلات الموسيقية بباريس: "باتاكلان"؛ وأرصفة مقاهٍ ومطاعم في الدائرتين العاشرة والحادية عشر الباريسيتين: شارع بيشا، وشارع فونتين أو روا، وشارع شارون وشارع فولتير.

الضحايا: 132 قتيلاً و412 جريحاً ينتمون إلى 26 جنسية مختلفة،  معظمهم بالطبع من الفرنسيين. وكانت الغالبية العظمى من القتلى والجرحى تضم من هم في سن الشباب.

منفذو العمليات الست: شباب فرنسي أو بلجيكي ذوي أصول عربية، لا تتجاوز أعمار أكبرهم سناً الثامنة والعشرين.

لكن الأهم، هو أن ثمة في هذه العمليات مراتٍ أولى: تفجير بعض منفذي العمليات أنفسهم ليقتلوا أكبر عدد حيث يتواجدون من حولهم. أيضاً.  الذين نجوا من موت محقق وأمكن لهم أن يقدموا شهاداتهم قدموا وصفاً لمشاهد القتل في مختلف الأماكن المشار إليها تقشعر لها الأبدان. قتلة يمارسون القتل بدم بارد وهم يحدقون في عيون ضحاياهم، يصيبون خبط عشواء أناساً كانوا يتساقطون قتلى أو جرحى قبل أن يتمكنوا من وعي ما يحدث لهم. ذنبهم الوحيد أنهم تواجدوا في ذلك اليوم في ذلك المكان في تلك الساعة وما كان بوسعهم الدفاع عن أنفسهم..

كان هدفهم من اختيار المكان والزمان قتل أكبر عدد ممكن من الشباب في أعمارهم. من هنا احتلالهم لقاعة الباتاكلان الحافلة بالبشر من كل فئات الأعمار والجنسيات. ومن هنا محاولتهم الوصول إلى ملعب فرنسا المدرج حيث كانت تجري مباراة كرة القدم، ثم استهداف الناس على أرصفة المقاهي حيث كان الشباب أفراداً وجماعات يتسامرون أو يتناولون العشاء. ولكن لماذا؟

سارع بعض الصحافيين إلى تفسير هذه الضربة لداعش بوصفها رداً على قصف فرنسا لها في سورية. وندر أن كتب أحدهم شيئاً يتجاوز التفسير السطحي لما حدث ويحدث في فرنسا وفي سواها من أعمال إرهابية. وكالعادة، هناك مشجب تعلق عليه كل هذه الأفعال: الإسلام والتطرف الإسلامي. مشجب مريح يستخدمه اليمين واليسار بلا تقتير. نسوا جميعاً ما كان جان بودريار قد كتبه في تحليل  العمليات الإرهابية وتشخيص الفعل الإرهابي وفاعليه والمستهدفين منها في المجتمعات الغربية: "...الحدث الأساسي يتمثل في أن الإرهابيين  قد كفوا عن الانتحار انتحاراً يتجلى محض خسارة. ذلك أنهم يضعون موتهم في الرهان بطريقة هجومية وفعالة، وحسب حدس استراتيجي هو بكل بساطة الحدس بهشاشة الخصم الهائلة: هشاشة نظام وصل إلى شبه الكمال ومن ثم فقد صار فجأة حسّاساً لأقلِّ شرارة. لقد نجحوا في أن يجعلوا من موتهم سلاحاً مطلقاً ضد نظام يعيش على استبعاد الموت ويقوم مثله الأعلى على عدد صفر من الموتى. (...) كل وسائل التدمير والترهيب لا تستطيع شيئاً ضد عدوٍّ جعل من موته سلاح هجوم مضاد..". وحين ينبري مفكر سياسي مثل فيليو ليقول بالحرف الواحد إ"ن ما تعمل عليه داعش لا يستهدف جعلنا ندفع ثمن ما يجب أن تكون عليه سياستنا، أو ما نفعله، بل إنهم يستهدفون ما نحن عليه. إنهم يريدون أن نقتل المسلمين في فرنسا انتقاما مما فعلوه. مايريدونه،(...) هو قيام حرب أهلية في فرنسا"، يبدو وكأنه صوت نشاز في جوقة اعتادت تكرار لحن واحد: الإسلام والتطرف الإسلامي!

المشكلة على مختلف الأصعدة، السياسية والإعلامية، أن الجميع ظنوا أن الأمر انتهى بعملية شارلي إيبدو في كانون الثاني الماضي، في حين أنها، كما ثبت فيما بعد، لم تكن إلا البداية.

ربما كان تشخيص المشكلة على الصعيد السياسي في الأساس يشكو من قصور خطير لا في الولايات المتحدة أولاً، منذ 11 أيلول 2001، بل في أوربا وفي فرنسا. ذلك أن تصريحات الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه، لم تكن تخرج عن السياق العام في رؤية مشكلة داعش، ومن قبلها القاعدة، وفروعها الدولية من أفغانستان حتى المغرب الأقصى: "نحن في حرب ضد الإرهاب". كان ذلك تصريح الرئيس الأمريكي حين أقامت الولايات المتحدة التحالف الدولي لضرب داعش الذي استعاده الرئيس الفرنسي حرفياً حين انضمام فرنسا إلى هذا التحالف ثم حين اتخاذه القرار بضربها في سورية.

كان دومينيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، قد بيّن بجلاء مشكلة هذا التعبير في ندوة تلفزيونية أذيعت في أيلول الماضي كان يشاركه فيها هوبير فيدرين، وزير الخارجية السابق. ففي تبرير رفضه لهذا التعبير "نحن في حرب مع داعش"، يُذَكِّرُ بأن الحرب تُخاض ضد جيوش نظامية، وأن الحرب ضد الإرهاب ضمن المفاهيم والطرق المعلنة لن تنتصر لأن الفشل معلن سلفاً. ذلك "أن يد الإرهاب غير مرئية، إنها يد متحوِّلة، متغيرة، انتهازية. ولا يمكن القتال ضد يد لا مرئية بأسلحة الحرب التقليدية. لابد من استخدام قوى العقل، والحيلة، ووسائل السلم من أجل فكِّ عرى القوى التي تلتصق بهذه القوى الإرهابية. لابدّ من استراتيجية سياسية، لابد من رؤية سياسية، وقدرة على تفكير الفعل فيما وراء القصف والعمل العسكري بالمعنى الحرفي للكلمة."

لكن الأخطر في قول دوفيلبان ما يتعلق بداعش. يقول: "لنكن واعين أن  داعش، نحن من أنجبها في قسم كبير منها. من الحرب عام 2003 إلى 2011، إلى التخلي عن الثوار السوريين. ثمة حلقة مفرغة حبسنا أنفسنا فيها لم تكن غير فعالة فحسب بل خطيرة أيضاً، لأن منطقة الشرق الأوسط، ويمكننا الحديث عن مجمل العالم العربي والإسلامي، حافلة بالأزمات، مغطاة بالجروح المميتة بينما تعيش أزمة تحديث عميقة وفي القلب منها أزمة اجتماعية تطال في الأعماق الطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى بسبب الفساد والموارد النفطية وغياب العدالة الاجتماعية. قسم كبير من هؤلاء الجهاديين جاؤوا من هذه الطبقات المتوسطة. وعلى أن فيديرين وافق دوفيلبان في حججه الأساس واعتبر أن تعبير "الحرب ضد الإرهاب" خطأ في الأساس وفي الإعلام، إلا أنهما كلاهما لم يشيرا إلى أنه وإن كان صحيحاً توصيف المشكلة في العالم العربي رغم نسيان العنصر الأساس فيها: نظم الحكم الاستبدادية، فإن المشكلة تمسّ أيضاً بنى المجتمعات الغربية عموماً والمجتمع الفرنسي خصوصاً الذي لم يستطع حتى الآن حل مشكلة استيعاب الأجيال المتعاقبة الفرنسية من أبناء المهاجرين، لا على الصعيد الثقافي فحسب بل وكذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وإلا كيف يمكن تفسير انضمام العشرات بل المئات من الشبابالفرنسيين المنتمين إلى الجيل الأول أو الثاني من أبناء المهاجرين المغاربة إلى داعش؟ ألم يكن منفذو عمليات 13 تشرين الثاني الماضي فرنسيين وبلجيكيين خريجي المدارس العامة في البلدين، ثم ثاروا حتى على أبناء جيلهم حين قبلوا القيام بهذا النوع من العمليات؟

أحد المفكرين السياسيين الفرنسيين الذين لم يكفوا عن التنبيه إلى العلاقة العضوية بين داعش والأسد، وإلى أن الفصل بينهما في معالجة مشكلة العمليات الإرهابية التي تقوم بها داعش سوف تؤدي إلى مجازر أخرى، هو جان بيير فيليو. تتمثل أهمية هذا التنبيه في كشفه عن تعقيد المشكلة التي تطرحها داعش على المجتمعات الغربية خصوصاً. مشكلة ذات وجوه متعددة: سياسية، وأمنية، وعسكرية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية؛ مثلما أنها ذات مستويات متعددة: داخلي، وأوربي، ودولي.  ومن هنا فإن الاقتصار على اختصار مشكلة داعش بموضوع الهجرات الأجنبية كما يفعل اليمين الفرنسي، أو بوضع الإسلام والمسلمين موضع اتهام كما تفعل الكثرة من السياسيين والصحفيين، أو على اعتبارها مشكلة عسكرية يمكن حلها بشن الحرب على داعش في عقر دارها، يتجلى عاجزاً عن الإحاطة بمختلف العناصر التكوينية لهذه المشكلة والتي لن يتم الانتصار عليها كما نشهد جميعاً في أي حرب عسكرية تخاض ضدها، ولا في التنديد بالمسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية، ولا بالحد من الهجرات التي لم تتوقف يوماً رغم كل محاولات إيقافها من اليمين أو من اليسار.

ليس الحلّ سحرياً. وهو أيضاً، في تعقيده، لا يقل عن تعقيد المشكلة كما تجلت في وجه من وجوهها إثر عمليات داعش بباريس أي في ردود الفعل كما تجلت في تعبيرالعالم عن التضامن الحار مع فرنسا، مثلما تجلت ولا تزال في غضه النظر بلامبالاة عما يحدث في سورية منذ خمس سنوات.

* نشر في صحيفة القدس العربي الأسبوعي، السبت 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2015، ص. 6
http://www.alquds.co.uk/allw.pdf


























dimanche 15 novembre 2015


حول الهوية السورية

بدرالدين عرودكي

ردٌّ على أسئلة ياسمين مرعي


ما تطرحينه من أسئلة يحتاج إلى أكثر من كتاب للإجابة. ومع الإيجاز المخلِّ قطعاً، سأغامر في تقديم إجابة لن تكون وافية على وجه التأكيد لكنها ستحاول وضع بعض العلامات من أجل إجابة أكثر نجوعاً.
ذلك أن سؤال الهوية السورية إشكاليٌّ بامتياز، لا لأنه يطرح في الوقت نفسه مجموعة من الأسئلة الأخرى لا تقل في إشكاليتها عنه فحسب بل لأن حلَّ إشكاليته ذاتها وتجاوزها لا يمكن أن يتمان دون حل الإشكاليات الأخرى.
تتناول هذه الأسئلة الانتماء الأوسع لسوريا: الانتماء العربي، والهوى الغربي  الذي كان هواها على الدوام أو العناء الشرقي الذي خضعت له تحت وطأة سنابك الغزاة (وآخرهم إيران الفارسية اليوم)، فضلاً عن ضروب الأجناس والأعراق والأديان والمذاهب الدينية التي تجاورت ولا تزال تتجاور فيها، وكذلك تكوينها التاريخي في ذاته وفي علاقاته مع جواره.
ثم جاءت الثورة السورية وما واجهته وتواجهه لتطرح بقوة غير مسبوقة مسألة الهوية السورية ولتفرض ضرورة الإجابة بلا مراوغةٍ أو تحايلٍ على التاريخ أو على الجغرافيا أو على الثابت والمتحول في كلٍّ منهما.
تقال سوريا على معنيين اثنيْن: فهي من ناحية أولى سوريا بلاد الشام (أي سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن وبعض شمال العراق) ، التي عرف سكانها على الدوام بوصفهم سكان الشام (الشوام أو السوريين)، وهي من ناحية ثانية سوريا الدولة الحديثة التي أنشئت بعد اتفاقية سايكس/بيكو خمسَ دول تحت انتداب الفرنسيين ثم دولة واحدة قبل أن يعترف الفرنسيون باستقلالها في حدودها المعروفة اليوم. ولم تكن سوريا بمعنييها المذكوريْن دولة مركزية أو مركز دولة في تاريخها كله إلا خلال حقبة الأمويين التي دامت أقل من قرن، وباستثناء هذه الحقبة، كانت سوريا دولاً تقوم من حول واحدة من الحواضر تتعايش أو تتحارب في العصور القديمة (ماري، إيبلا، أفاميا، إلخ.)، أو ولايات تابعة لمن يحتلها من  القادمين من الشرق أو من الغرب أو من الشمال أو من الجنوب على امتداد العصور.
وطوال السنوات التي تلت الاستقلال لم تجرؤ الأنظمة السياسية التي تعاقبت رغم اختلافها على تقديم نفسها صراحة ممثلة لهوية سورية خصوصية، بل ربما فعلت العكس حين كانت تنادي سياسياً بالانتماء العربي والتطلع السياسي إلى وحدة لم يكن لها سابقة ـ كما طرحتها الأحزاب اليمينية أو القومية بما في ذلك حزب البعث ـ في تاريخ العرب كله، لا بل إن حزب البعث أنجز إعدام هذه الهوية على محاولته تبنيها متأخراً بينما كان يمزق الهوية العربية التي بدا لوهلة عابرة أنها قوامه وسبب وجوده.
لكن الحدث الثوري في سورية أعاد بالضرورة طرح الهوية السورية بصورة بلغت من العنف حداً لا يستطيع أحد اليوم إنكارها ولاسيما بما عكسته ـ رغم كل محاولات النظام تفتيت هذا الشعور وإحالة الانتماء السوري إلى مجرد انتماء إلى طوائف دينية أو إثنية ـ من خصائص على الأصعدة كلها: الجغرافية والسياسية والتاريخية التي  بدا أن الشعب السوري في أغلبيته العظمى يعيها شعوراً وفكراً وانتماء.
ويبدو أن هذه الهوية صارت اليوم، على غرار الهوية الفلسطينية، القاعدة الأساس للنضال من أجل تحرير سورية من الاحتلال الذي تعاني منه الآن. وهي على كل حال هوية ستتأكد مع الأيام وعلى قدر النضال الذي بدأه الشعب السوري منذ أربع سنوات من أجل الحرية والكرامة والذي لا يزال يتابعه رغم كل العقبات من أجل التحرر من الاستبداد والاحتلال والطغيان في صوره كلها وبلا استثناء.