vendredi 30 octobre 2015


الحاضر الغائب: فايز ملص*

بدرالدين عرودكي



أشدّ الكلمات إيلاماً عند الحديث عن الراحلين كلمة: كانَ. ولأن من رحل من أصدقائي ومن أصدقاء فايز، قبل رحيله هو، لم يخلفوا لدي من شدة حضورهم، أيّ سبب لأستخدم هذه الكلمة، فإنني لن ألجأ ـ كما هي عادتي ـ إلى هذه الكلمة بصدد فايز. اعذروني. ليس الأمر مجرد ألعاب لفظية أو استبدال كلمات بأخرى. بل هو إحساس، بل هو شعور طاغ بحضور لم يكفّ، بصورة أو بأخرى، ومهما كانت المسافات بين الأمكنة أو الفضاءات، عن التواجد بحدّة كأنما يسعى بذلك إلى خلق ديمومة تجعلني أتلافى الحزن إلى ما هو أجدر بالإنسان: العمل، استمرار العمل، والعطاء، استمرار الحياة مثلما أرادها وسعى إليها كل الأحبة الذين رحلوا..

ذلك شأني مع جميع من رحلوا من الأصدقاء، وقد صار عددهم يزداد يوماً بعد يوم. أخص منهم بالذكر عمر أميرالاي الذي بدا رحيله قبل خمس سنوات تقريباً كما لو كان سبباً في عزم فايز على الاستقالة من عالمنا بكل ما ينطوي عليه من ظلم وإجحاف ولؤم عندما يتعلق الأمر بحق الإنسان في الحياة الكريمة، ولاسيما الإنسان العربي، الفلسطيني أمس والفلسطيني مع السوري اليوم.

أولى ثورات فايز، الشاعر، والساخر، والنقّادة، منذ إطلالته الأولى شاباً واعداً في "مدرسة سعادة الأبناء للجمعية الغراء" بدمشق، المدرسة الخاصة التي كانت الأسر من الطبقات الميسورة من الدمشقيين تنشد لأبنائها من وراء تسجيلهم فيها تربية صارمة تستمدّ مبادئها من تعاليم الدين الإسلامي كما عاشها السوريون قبل أن تغزو بلدهم جحافل القتلة من كل حدب وصوب باسم هذا الدين نفسه، كانت على هذه المدرسة بالذات، وعلى كلّ ما بدا له محاولة لحبسه وتأطيره في عالم يراه أوسع وأرحب من كل جدران الأيديولوجيات أياَ كان لونها. ذلك ما أتاح لموهبته في النقد الساخر أن تنمو بقدر ما ينمو وعيه بما يسم مجتمعاتنا ومشكلاتنا من تناقضات صارخة تارة وفجة تارة أخرى. تناقضات يراها في سلوك الآخرين وفي أفعالهم بعيني صقر لا تحول دونه المسافة أياً كانت عن تمييزها بتفاصيلها الدقيقة. حتى بات لا يكاد يعرف إلا بها.

لكنه على ذلك كله يحب العمل جماعة. وها هو ينشئ مع زملائه في تلك المدرسة ما إن تجاوزوا عتباتها إلى العالم الرحب، وخصوصاً منهم مأمون الطباع وفوزي المميز، جماعة "الفيروزيون" التي ستكون برفقة أصدقاء جدد نواة "المنتدى الاجتماعي" الذي سينشط حثيثاً خارج الأطر السياسية القائمة كلها في بدايات ستينات القرن الماضي على صعيد الفنون والآداب أولاً ثم على صعيد الفكر السياسي فكراً وفعلاً، ولاسيما بعد هزيمة عام 1967، عندما استقبل المنتدى الاجتماعي واحداً بعد الآخر للمحاضرة فيه زعماء المنظمات الفلسطينية جميعاً.

يشارك فايز في نشاطات المنتدى مع أصدقائه حتى بعد انتقاله إلى باريس حيث سيسهم بنشاط وبفعالية مع كل أصدقائه من السوريين والفلسطينيين والفرنسيين في تحويل القضية الفلسطينية أمام الرأي العام الفرنسي من قضية لاجئين إلى قضية شعب يناضل لاستعادة أرضه وتأكيد هويته. ولن يتوقف عبر كتاباته ونشاطاته اليومية عن التنديد بنظام العائلة الأسدية في سورية، ساخراً ومفنداً، حتى بات من ألدّ أعداء النظام السوري، محروماً كسواه من أصدقائه السوريين من العودة إلى بلده أو حتى مرافقة ذويه إلى مثواهم الأخير.

تألم الكثير من سخريته القاسية، المشاكسة، النقادة كما قلت. لا من كان يعتبرهم أعداءه أو خصومه في السياسة أو في الفكر بل حتى أقرب أصدقائه إليه. ولم يكن هؤلاء الأصدقاء، وأنا أولهم، ينتبه إلى أن هذه السخرية كانت تحيل الجميع إلى شرطهم الأولي كبشر، في أخطائهم وفي عثراتهم وفي ضروب قصورهم في السلوك وفي العمل، وأن ما كان يعبر عنه من خلال ذلك كله كان هدية متواضعة لمن كان يحبهم خصوصاً كي يعيدوا النظر فيما يقولون أو فيما يفعلون..

السخرية..بما هي مسافة مفتوحة بين الإنسان ونفسه، بقدر صدقها وضرورتها وأهميتها، تبقى السلاح الأهم ضد كل ضروب الاستبداد.. لا في ممارسة السلطة السياسية على قمتها فحسب، بل في كل ضروب ممارسات السلطة على اختلافها..

يجسّد فايز ملص، ولا يزال، في سخريته اللاذعة والمشاكسة كل ما تطمح إليه الأرواح الحرة من حرية ووعي بالذات وبالآخر.


* كلمة ألقيت يوم 30 تشرين أول/أكتوبر 2015 بمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل الصديق فايز ملص، أمسية قام بتنظيمها الصديق فاروق مردم بك في قاعة المجلس الأعلى بمعهد العالم العربي بباريس.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire