samedi 27 juin 2015


Rencontre avec Jacques Berque
Sur la littérature arabe contemporaine

لقاء مع جاك بيرك*

 عن الأدب العربي المعاصر

 

بدرالدين عرودكي

 
جاك بيرك                               بدرالدين عرودكي

 

 أوائل الستينيات قدمت مجموعة من الكتاب الفرنسيين المهتمين بالثقافة العربية المعاصرة للقارئ الفرنسي صورة موجزة ولكنها متكاملة عن النتاج الأدبي في الوطن العربي شعراً ورواية وقصة قصيرة وبحثاً. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيها القارئ الفرنسي على مشهد الثقافة العربية المعاصرة، ويومها كان لجاك بيرك اليد الطولى في هذا المشروع الكبير.
وخلال السنوات العشر الماضية، عرف القارئ الفرنسي أعمالاً أخرى كاملة  لعدد كبير من الكتاب العرب المعاصرين، شعراء وروائيين وقصاصين، منهم على سبيل المثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وزكريا تامر وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وأدونيس وأخيراً الطيب الصالح.
أما اليوم فالصورة مختلفة. لقد استطاع النتاج الأدبي العربي خلال ربع القرن الأخير أن يفرض نفسه، لا على الساحة العربية فحسب وإنما على الساحة العالمية. وها هوذا جاك بيرك اليوم يخصص محاضراته في الكوليج دو فرانس لهذا العام لـ"التاريخ والشعر المعاصر"، فيقوم بجولة كبرى عبر التاريخ العربي، قديمه ووسيطه وحديثه، من خلال الشعر، والشعر المعاصر بوجه خاص، وتتردد في القاعة الخامسة من قاعات الكوليج دو فرانس العريقة أسماءٌ عربية مبدعة، ما تزال بيننا، تثري تراثنا وحياتنا الراهنة: عبد الوهاب البياتي، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل... ويشعر العربي بوجه خاص، أنه أمام طريقة جديدة في التعامل مه هذه النصوص.
لنقل أولاً إن جدتها ترتدُّ إلى أكثر من سبب: ثمة عنصر أساسي ولاشك في نكهة هذا الذي نسمعه اليوم من جاك بيرك، والذي عسانا أن نقرأه خلال سنة ضمن كتاب كبير، أعني به شخصية الباحث بالذات وموضوع بحثه. موضوع البحث في الأساس هو الشعر، والشعر ـ كما نعلم ـ وجدان الأمة وحساسيتها الخاصة والمتميزة بل والمتفردة. والباحث عالم فرنسي تربطه بلغتنا صلات المعرفة العميقة والمحبة المرهفة والاحترام الشديد. ومع ذلك، تبقى ثمة مسافة بين الباحث وموضوع البحث. مسافة لا يستطيع أن يوجدها الناقد العربي بالطبع، ولكنها مع ذلك ضرورية في لحظة ما من التاريخ، هي لحظة إعادة النظر والتقييم الجديد.
وهناك، من ناحية أخرى، منطلقات البحث. فنحن حقاً لسنا في ميدان النقد الأدبي الخالص، وإنما في نقطة تقع بين التاريخ وعلم الاجتماع، وربما كانت أقرب إلى هذاالفرع الحديث ـ نسبياً ـ من فروع علم الاجتماع، وأعني به علم اجتماع الأدب الذي ما يزال يخطو خطواته الأولى في ميدان العلوم الإنسانية. إذ لا تزال الدراسات ضمن هذا الاتجاه  قليلة جداً[1]. فبالإضافة إلى بعض الكتابات في الأسس النظرية لجورج لوكاتش أولاً، ثم للوسيان غولدمان، لا نجد سوى عدد من الدراسات التطبيقية لعلم الاجتماع الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر ومدخلاً لدراسة روايات أندريه مالرو[2] وبعض الدراسات الأخرى كان آخرها دراسة لجاك لينهارت صدرت مؤخراً تحت عنوان : قراء سياسية في رواية الغيرة لآلان روب غرييه تتبنى إلى حدٍّ ما الأسس النظرية التي انطلق منها لوسيان غولدمان.
هذا في اللغة الفرنسية، أما في اللغة العربية فليس ثمة أية دراسة تنهج هذا المنهج[3]. ذلك إذاً سبب ثالث ترتد إليه جدة هذه الدراسات التي يقوم بها الآن جاك بيرك للشعر العربي المعاصر الذي لم ينل ـ بكل أسف ـ اعترافاً أكاديمياً من جامعاتنا في مختلف البلاد العربية حتى الآن.
كان هذا اللقاء مع جاك بيرك إذاً محاولة لاستطلاع آفاق هذه الدراسات التي يتابعها الآن في الكوليج دو فرانس بباريس.


**  **  **  

* خلال محاضراتك عن "التاريخ والشعر في الشعر العربي المعاصر" تحدثتَ عن استمرار أحد تقاليد "المعلقات" في الشعر العربي الكلاسيكي، ونعني بها "الوقوف على الأطلال" في الشعر العربي المعاصر؛ وأشرتَ في هذا المجال إلى أكثر من قصيدة تتضمن هذه الثيمة الشعرية من قصائد بدر شاكر السياب وأدونيس والفيتوري وصلاح عبد الصبور. إلامَ يشير ذلك على الصعيدين الاجتماعي والثقافي؟ إنني أذكر أيضاً إشارتك إلى شعر الحماسة وشعر المقاومة.

** من المؤكد أن ثيمة "الأطلال" و "الوقوف على الأطلال" تعود من جديد لدى جميع الشعراء العرب المعاصرين تقريباً. وبعبارة أخرى فهي نمط شعري مستمرٌّ في العالم العربي. إلا أنه من الممكن أن هذا النمط، من ناحية أخرى، قد غير دلالته التي كانت له في الشعر القديم، في الشعر الحديث. وأعتقد شخصياً أن ثيمة "الأطلال" في الشعر العربي القديم تتطابق والبحث عن رمز شعري قائم بذاته يحيط به في الفراغ، وفي هذه الحالة فإن الفراغ هو الصحراء. من الطبيعي إذن أن جهد الشاعر قبل كل شيء موجه نحو الكلام في الفراغ، وبما أن طلب الإبداع الشعري هو إبداع في الفراغ ، فإن الشاعر يفترض أنه في الفراغ لكي يبدع إبداعاً أصيلاً، وحسب هذا التأويل فإن جانب الحكاية في "الوقوف على الأطلال" الذي يتجلى في فقدان الحبيبة.. إلخ.، ليس إلا  حبكة هذه العملية الأساسية في الإبداع الشعري التي تعارض ـ إذا جاز لي القول ـ الملئ بالفراغ. ولهذه القيمة دلالات تختلف باختلاف الشعراء غير أن دلالتها الكبرى تتجلى في الشعر العربي القديم وأعني بها "الحنين إلى الوطنLa nostalgie " التي تتطابق بالتالي مع واحد من اتجاهات الطبع العربي. أما في الشعر الحديث، فإن هذه الدلالات عبارة عن ثيمات اجتماعية أكثر تحديداً أضيفت للدلالة الأساسية لإتمام أو ربما لتعديل معنى "الأطلال". إنه ببساطة مفهوم "الحرمان" المعروف جيداً في الأدب الاجتماعي والسياسي العربي. ومنه يمكن أن نصل إلى ثيمة  "الضياع أو الاغترابAliénation " التي نجدها في كثير من الكتابات الأخرى. وبكلمة، وأريد هنا أن أوجز ما قلت، فإن الشعر العربي  المعاصر قد تبنّى  المعنى القديم والمستمر للأطلال والذي هو عبارة عن الحنين إلى الوطن، وأضاف إليه معنى اجتماعياً جديداً هو الاغتراب أو الضياع. غير أن هذه الثيمة لا تعني ذلك، أي ليست بما هي عليه إن لم تكن متطابقة مع ضرورة تقنية ـ إذا صح القول ـ في الخلق الشعري.

* بلغت حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر من العمر ربع قرن تقريباً. غير أن ثمة من يقول إن الشعر العربي الحديث والمعاصر لم يتجاوز بعد امرأ القيس. إلى أيِّ حدٍّ برأيكم يصح هذا الرأي بكل ما يعنيه من دلالات؟

** أعتقد أننا هنا إزاء وجه من وجهي المزاج أو الطبع العربي، وأعني به تشاؤم العرب من أنفسهم ونقدهم المبالغ فيه لأنفسهم في الوقت الذي نواجه أحياناً الوجه الآخر وأعني به الكبرياء. هذان الموقفان، هذان الوجهان للمزاج العربي يتناوبان في جميع مواقف العرب الفردية والجماعية تقريباً. وليس من الممكن أن نأخذ أحدهما مأخذ الجد دون أن نأخذ الآخر أيضاً بالطريقة نفسها. غير أن الحقيقة ـ بعبارة أخرى ـ كانت بين هذين الموقفيْن. وأعتقد من جهتي أن الأدب العربي في نثره وفي شعره مستعبد بل مسحوق تحت وطأة نماذج ماضيه الكبرى، وفي هذا المجال نجد فارقاً كبيراً بينه وبين الأدب الغربي. لنأخذ على سبيل المثال الأدب الفرنسي. إنه ليس بوسعنا القول إن ما أنتج في القرن التاسع عشر أو حتى في القرن العشرين أسوأ أو أدنى من النماذج الكبرى التي قدمها أدب القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر. وعلى العكس، من الصعب أن نؤكد أن الأدب العربي إبان النهضة في بيروت أو في القاهرة استطاع أن يصل إلى ذرى العصر الجاهلي أو الأموي أو العباسي. هذا صحيح. ومع ذلك فيجب ألا يدفعنا هذا إلى نفي قيمة عدد من الأعمال الأدبية في المرحلة الراهنة. لذلك لابد من إيجاد سلم قيم لا يقوم على أساس استمرارية الأدب العربي فحسب وإنما أيضاً وعلى المستوى نفسه من الأهمية، على أساس العالم الخارجي. وأودّ هنا أن أسجل ملاحظة حول فكرة لها في رأيي أهميتها القصوى. إن ثمة خطر كبير على الوطن العربي من المجاملة والرضا عن الذات، ومن الاقتناع بما يحققونه على المستوى الإقليمي، أو من أن يصبحوا هم أنفسهم نوعاً من الإقليمية المتميزة بالاكتفاء بنفسها. ويخيل إلي أن هذه النزعة  ــ التي تبدو غريبة جدداً ــ تحول دون استفادة الإبداعية العربية من إبداعية الآخرين. إن مرد ذلك ولا شك ضعف جهد الترجمة، وانخفاض مستوى المعرفة الحقيقية بالثقافة الأجنبية، وابتذال كثير من الأنماط الثقافية. ذلك في الحقيقة وضع يجب مقاومته نظراً لخطره الكبير.

* هل يمكن أن نضع بعض العلامات المميزة بين الشعر العربي التقليدي والشعر العربي المعاصر؟

في رأيي، وهو يلائم جيداً الشعر العربي أكثر من ملاءمته الشعر الغربي الذي اجتاز هو الآخر، ولكن في مرحلة مبكرة جداً، نفس أزمة الانتقال من العروض التقليدي إلى العروض الحر؛ لقد اجتاز الشعر الفرتسي هذه الأزمة في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يمكننا أن نقول إنه يفتقر إلى كبار الشعراء. وأعتقد أن قيمة الشعر لا تنبع من عروضه، سواء أكان هذا العروض تقليدياً أو متحرراً. ولكن ما هو حقيقي فعلاً أن العروض الكلاسيكي العربي يمت بصلة وثقى إلى الطبع العربي والعبقرية العربية أكثر من العروض الغربي بالنسبة للغرب. وينتج عن ذلك أن التغيير عادة يترجم أزمة اجتماعية وعقلية أكثر غرابة أيضاً.

* رؤية الشاعر تعكس عادة مستقبل الأمة بقدر ما تعكس حاضرها. هل يمكن أن نعتبر هذه العلامات فاصلاً بين قديم وجديد في الحياة العربية المعاصرة؟ إنني أفكر بشكل خاص  ــ لكي أحدِّد  سؤالي ــ بما يسمى عصر النهضة العربي الذي يبدأ في أواخر القرن التاسع عشر. لقد كان ـ خلافاً لعصر النهضة الأوربية الذي كان عبارة عن عودة مباشرة إلى الأصول الإغريقية ــ اتجاهاً نحو الغرب ــ بكل ما يعنيه "الغرب" كمصطلح تاريخي ــ مع بعض الالتفاتات الغامضة إلى الأصول العربية الكلاسيكية.

** فعلاً، يجب أن نعلم أيضاً فيما إذا كان ما يسمى نهضة في أواخر القرن التاسع عشر هو نهضة حقيقية. أعتقد أننا وصلنا إلى وضع نحن فيه مضطرون إلى نقد هذه النهضة التي، على الرغم من معطياتها الهامة والمفيدة، متهمة لاعتبارات أخرى، بوضع العرب في طريق خاطئ. إنني أعتبر شخصياً أدباء النهضة مقتبسين ومتممين. إن ما يمكن أن يثير اهتمامنا فضائلهم التربوية والاجتماعية. ولكننا سنلقي جانباً ولا شك قيمهم الإبداعية وإبداعهم الثقافي بالمعنى الحقيقي للكلمة الذي يحتاج إلى إثبات. إننا لا نجد ــ وهذه حقيقة لا شك فيها ــ بين أدباء النهضة في بيروت أو في القاهرة كتاباً كباراً كطه حسين وتوفيق الحكيم أو بالأحرى العقاد. ما الذي بقي على مستوى الفن مثلاً من صروف وشبلي شميل وغيرهما؟ لم يبق منهم سوى مؤلفات تربوية واجتماعية لاشك في أنها كانت مفيدة، إلا أنه على مستوى الإبداع الثقافي لم يبق منهم شيء كبير. إن أول مظهر للإبداعية بالمعنى الحقيقي للكلمة بالنسبة إلي كان عملاً لا يرتبط مباشرة بالنهضة، وأعني به "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي. أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من السؤال، والاتجاه نحو المستقبل، فأعتقد أن كل شعر عظيم، وكل فن أصيل بالتالي، يترجم مستقبل المجتمع وأيضاً حيويته المتصاعدة. إن اتجاه الشعراء إذن نحو المستقبل دوماً، سواء كان هذا الاتجاه صريحاً أم لا، وسواء أكان هذا الاتجاه محدداً بمصطلح تاريخي أم لا. إن ما هو ضروري لكل فن عظيم كما أعتقد، أن يمس أعماقاً حركية جماعية. وطبيعي أن كلمة حركة تعني ــ بالضرورة ــ حركة نحو المستقبل. وفي هذه الحالة، فقد بحثت النهضة الغربية التي تتحدث عنها عن نماذج في الماضي اليوناني والروماني. ولكن، كما هو واضح، بقصد تجاوزها بالعقلانية والحداثة. ولقد حققوا ذلك عن طريق المكتشفات على الصعيد العلمي مثلاً. وهذا هو الأمر نفسه  بالنسبة إلى العرب عندما يبحثون لدى "السلف الصالح" لاستخراج الحلول في سبيل المستقبل.

ومن ناحية أخرى، إذا أردنا أن نعلم ما إذا كانت هذه العلامات تشكل فاصلاً بين قديم وجديد في الحياة العربية المعاصرة، فلا بد لنا أن نميز بين ما هو شعوري وما هو لا شعوري. من المؤكد أنه بدءاً من بعض اللحظات أخذ العرب على عاتقهم تاريخهم الخاص بوعي كامل وفي الوقت نفسه بحثوا في في الماضي عن إمكانيات تجاوز هذا الماضي وبناء مستقبلهم الخاص.

* ما هي برأيكم مبررات دراسة الشعر العربي انطلاقاً من مقدمات سوسيولوجية؟

** سيكون من الصعب عليَّ ألا أدرس الشعر من وجهة نظر سوسيولوجية أو بالأحرى من وجهة نظر اجتماعية، لأنني بالتأكيد لست حريصاً على ما يسمى عادة سوسيولوجيا التي تعني دراسة الأشياء  من الخارج مكتفية بدراسة الشاعر بوصفه يعكس بيئته. مما لاشك فيه أن ما هو شعري لدى الشاعر لا يكتفي فقط بعكس البيئة وإنما يقوم بخلقها أيضاً. الشعر، والشعر العربي منه، هو كما قال مؤخراً شاعركم الكبير أدونيس مقولة من مقولات الإبداع التاريخي. إن بينه وبين المقولات التاريخية الأخرى: السياسة، والتكنولوجيا... إلخ علاقات متكافئة، لا علاقات انعكاسات. ومن الخطأ القول إن الشعر يعكس الواقع. إنه كالوعي لا يعكس وإنما يؤثر على المقولات الأخرى بقدر ما تؤثر عليه. بل إني لأذهب إلى التفكير أن الشاعر ــ وأنا أعرض هذا التعريف على أصدقائي العرب ــ إنسان يؤثر في المجتمع تأثيرات لا يتلقاها هو نفسه من المجتمع. إنه بذلك يؤلف رسول فضل القيمة. وذلك يفسر بالتالي تضامنه في الحياة السياسية مع الطبقات الاجتماعية خالقة فضل القيمة.  

* ثمة أكثر من وشيجة تربط بين حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر وحركة الشعر الأوربي على اختلاف منازعها. بدر شاكر السياب وإليوت، أدونيس وبودلير ثم سان جون بيرس. لقد اعتمدت محاولة تجديد بناء القصيدة العربية على القصيدة الأوربية. ما هي برأيكم مميزات هذه المحاولة في سلبياتها وفي إيجابياتها؟

** من جهة أولى لابد أن نتساءل عما إذا كانت التأثيرات التي أشرت إليها بحق والتي مارسها الشعراء الكبار من فرنسيين أوبريطانيين على الشعراء العرب لا تعكس أو لا تترجم بشكل جليٍّ وواضح ضرورة مشتركة وبحرية من قبل هؤلاء وأؤلئك لتجديد الشعر؟ في الواقع، إذا جدد رجل كالسياب أو أدونيس الطريقة الشعرية، وكان هذا التجديد ــ من ناحية أخرى ــ وفق طريقته الخاصة المختلفة جداً عن طريقة الشعراء الغربيين الذين اعتمد عليهم في محاولة تجديده، هل يعني ذلك أن السياب أو أدونيس يقلدان الغربيين؟

* لم أعنِ التقليد، وإنما عنيت التأثر.

** نعم، لقد تأثروا بمعنى ما. إلا أن ما هو أكثر أهمية أن هذا التأثر، حسب اعتقادي، كان ضرورة مشتركة اضطلع بها الشعراء العرب لتجديد الشعر. وبعبارة أخرى، فإذا كان هؤلاء الشعراء قد ساروا، بمعنى ما، مع حركة الشعر العالمي، فذلك لأنهم رأوا ــ وهذا صحيح إلى أبعد الحدود ــ أن كل شيء في مقولات حياة مجتمعهم يجب أن يساير حركة المقولات في الحياة العالمية. ذلك هو المظهر الإيجابي لمحاولة تجديد الشعر العربي. أما المظهر السلبي فهو موجود أيضاً. هو موجود للسبب التالي. قبل قليل قلت إن العروض التقليدي العربي يمتّ إلى العبقرية العربية أكثر مما يمتّ التقليد العروضي الغربي إلى العبقرية الغربية. إذن فالخسارة التي تكبدتموها عندما ألقيتم جانباً الشعر الكلاسيكي العربي أكبر من الخسارة التي تكبدناها نحن. ولن يكون ممكناً تعويض هذه الخسارة مالم  ننتج شعراً أجمل بكثير مما ننتظره من مجددينا نحن. هل فعلتم ذلك؟ هذا سؤال لا يستطيع الإجابة عنه سوى القارئ العربي. من ناحية أخرى، ثمة نقطة هامة كذلك مفادها أن الشعر ــ أساساً ــ عمل في اللغة. فإذا كانت مسايرة النماذج العالمية تعني بالنسبة إلى الشعراء العرب ــ وفق بعض المعايير ــ تخلياً عن قيم اللغة، أو نسياناً للغة، أو ضعف البناء اللغوي، فذلك يعني ضياع هذا الشعر.

* هل يمكن أن نرسم خطوطاً متوازية ومتساوية في تعبير الأنواع الأدبية الأخرى كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية عن المرحلة الراهنة من التاريخ العربي بالمقارنة مع الشعر؟

** نعم، إنها برأيي ضرورة أن نعقد مثل هذه المقارنة. لأن العرب في الفترة الحديثة من تاريخهم قد جددوا بشكل كامل قائمة الأنواع الأدبية. هناك العديد من هذه الأنواع لم يعرفها التراث الأدبي العربي، وقد اصطنعوها استجابة لحاجة عالمية، ولكي يسايروا الحركة الأدبية العالمية وخاصة في مجالي الرواية والمسرح. إنني أعرف أنه يمكن استيحاء بعض الأصول في الماضي. ولكن لنكن جديين، فهذه أشكال غير محددة. إذن، في تجديد هذه الأنواع الأدبية لم يكن العرب موفقين دوماً، ولم يكونوا ناجحين بمقادير متساوية في تجديد هذه الأنواع الفنية. لقد عاشوا فترة من الصراع بين القديم والجديد. هذا الصراع الذي خنق الإنتاج أو الإبداع وأدى إلى نوع من العقم. عاشوا أيضاً فترة كان فيها الإبداع الكلي يسهل ويساعد على توفير إمكانية الإبداع لديهم. عاشوا كذلك، وهذه مقولة ثالثة، فترة تكاثرت وازدادت فيها الإبداعية القديمة بفعل الإبداعية الجديدة التي تولدت لديهم. ولإيضاح ذلك، سوف أسوق ثلاثة أمثلة. المثل الأول تزاحم النماذج العربية القديمة مع النماذج الجديدة الوافدة أدى إلى عقم نسبي، وقد تجلى ذلك في الموسيقى. كل منا يعرف الصراع الراهن بين الموسيقى العلمية العالمية وما يسمى بالموسيقى الشرقية. أعتقد أن الشرق لم يخرج بعد من هذا الصراع. المثل الثاني حيث كان ثمة إبداع وقد تجلى ذلك في ميدان الرواية. لم يكن العرب مهمومين هنا بنماذج وأنماط قديمة. ولذلك كانوا خلاقين بما فيه الكفاية. أما المثل الثالث فهو يتجلى في أكثر الحالات توفيقاً ونجاحاً، وأعني بها حالة الشعر. فعندما سيطر الشاعر بما فيه الكفاية على قيم لغته الخاصة لكي يضاعف الإبداع في المناهج أو في مصادر الوحي فقد حقق هذه المضاعفة بواسطة قيم لغته الخاصة لا عن طريق مناوأتها. ولذلك بالتحديد أعتقد أن العرب في الوقت الراهن قد حققوا نجاحهم الأكبر في مجال الشعر.

* هناك مشكلة كثيراً ما شغلت وتشغل اهتمام الكتاب العرب المعاصرين وأعني بها مشكلة "هوية الأدب العربي المعاصر". وأعتقد أن المثقف الغربي الذي يهتم بالقضايا العربية على اختلافها قادر على المشاركة في الحوار الدائر حول هذه المشكلة. فإلى أيِّ حدٍّ برأيكم استطاع الأدب العربي المعاصر أن يعبر عن الشخصية العربية؟ وبعبارة أخرى، هل يمكننا الحديث عن هوية متميزة للأدب الذي يكتبه كتاب عرب؟ ومن ناحية أخرى، هل استطاع الأدب أن يرسم ملامح الشخصية العربية المعاصرة في حالات تأزمها وتمزقها واضطرابها ووجودها من خلال ذلك كله؟

** إنه حيث استطاع الفن والتعبير الفني والأدبي العربي المعاصر بمعيار ما التوفيق بين خصوصيته من جهة وبين العالمية الضرورية التي لابد له من الارتباط بها في الحقيقة، أقول إذ ذاك استطاع هذا الفن أن يكون قادراً على التعبير عن نفسه وحاملاً لقيم عالمية. لكن هذا لم يحدث طبعاً إلا في حالات نادرة بما فيه الكفاية. أولاً لأن النجاحات الفنية والأدبية الكبيرة نادرة في كل مكان، وثانياً بسبب الصراع بين القديم والجديد الذي ألمحت إليه في إجابتي السابقة. اليوم إذا ما سألتني مثلاً: في أي مجال حقق العرب النجاح الأكبر، وذلك انطلاقاً من تقييم يأخذ بعين الاعتبار تعبيرهم عن أنفسهم وحملهم لقيم عالمية، أقول استطاع أن يحقق هذا النجاح بعض الشعراء وبعض البحاثة فقط.

ومن ناحية أخرى، أعتقد أن ما تقوله صحيح من أن الأجنبي يملك في هذا المجال أولية وحظاً في الحكم على ذلك. فهو حساس تجاه بعض الأشياء التي لا يمكن للمواطن أن يكون حساساً تجاهها، وبالعكس. الأجنبي إذن يستطيع، ويجب أن يستفيد من وضعه لكي يتحسس بعض الأعمال الأصيلة. أعتقد أن الوطن العربي لم يبلغ بعد طور التحليل الذي يحسب حساب إمكانياته الحقيقية ومميزاته الأساسية ونواحي تقصيره. إن التحليل الذي يقوم به كبار النقاد أنفسهم ليس كافياً بعد. وفي هذا المجال يخيل إلي أنه يجب متابعة جهود أناس مثل محمد مندور في مصر وعلي الوردي في العراق وآخرين يسيرون في هذا الاتجاه. وبشكل عام، فإن المفكرين والنقاد العرب المعاصرين لم ينجحوا جميعاً في أن يجمعوا لحسابهم الخاص بين الخصوصية والعالمية. جميعهم تقريباً مدافعون عن خصوصية عربية يريدون أن يجعلوا منها خصماً أو إجابة على ما يعتقدون أنه تطور العالم. وفي هذا المجال أفكر بكثير من المفكرين ذوي النزعة الدينية. ومن ناحية أخرى، هناك مفكرون يستوحون بعمق ويتأثرون بالأفكار الغربية، ولكنهم غالباً لا يملكون حساسية عميقة إزاء مميزات وخصوصيات مجتمعاتهم. ومن المؤسف أن ثمة عدداً لا بأس به من المفكرين الماركسيين تخلوا بالمقابل عن هذه الناحية، أعني الخصوصية، لكي يلحّوا على واقع عالمي يوجد ولا شك لدى العرب ولكن مع فوارق دقيقة خاصة بهم. لذلك يمكن القول إن التعبير الحقيقي عن المجتمعات العربية، عن مشكلات المجتمعات العربية الخاصة منها والعامة، لا يوجد، في نقديري، في الدراسات الفكرية أو النقدية وإنما في الأعمال الفنية. ودرجة صدقها تعادلقيمة تحققها الفني. لذلك مثلاً فإن القصائد المكتوبة من قبل السياب عن القرية والمدينة تقول أكثر بكثير مما تقوله أية أطروحة في علم الاجتماع العربي المعاصر حول الهجرة من الريف، حول أزمة المجتمعات الريفية. كذلك الأمر في قصائد أدونيس والفيتوري والبياتي وعبد الصبور وغيرهم. إنهم بهذا المعنى أكثر دلالة من الآخرين. إلا أن دلالة فنهم يجب أن تجد ما يوازيها على مستوى التحليل الاجتماعي الحقيقي، وهذا في رأيي لم يتحقق بعد.

* والأنواع الأدبية الأخرى.. الرواية مثلاً؟

** مثلاً نجيب محفوظ. ثمة جزء وصفي من أعماله الأدبية يقدم لمواطنيه وللأجانب سحراً كبيراً في مجال وصف حياة الطبقات الشعبية والبورجوازية في القاهرة القديمة. ولكني أعتقد أن نجيب محفوظ لم يعبر عن حقيقة مصر من خلال هذا الجانب، وإنما من خلال كتب أخرى أقل واقعية ولاشك، وأهمها "أولاد حارتنا"، الرواية التي أفضلها على كافة أعمال نجيب محفوظ وأضعها فعلاً على مستوى الفن العظيم. في هذه الرواية استطاع نجيب محفوظ أن يتعمق جيداً سواء من خلال الحدث أو من خلال الخيال المبدع إن شئت في التحليل اللاشعوري ــ لأننا هنا بصدد عمل فني ــ وفي حقيقة الشعب المصري على كل حال.

* وحقيقة الشعب العربي بشكل عام؟

** التعبير عن واقع الشعب العربي عامة؟

* ذلك أساساً هو سؤالي. التعبير عن الشخصية العربية بشكل عام من خلال الأدب العربي، وما إذا كان الأديب العربي قد حقق ذلك.

** أعتقد أن الكتاب العرب في الوقت الحاضر قد حققوا نجاحات إقليمية. نجاحات مغربية ــ وخاصة في الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الفرنسية ــ ونجاحات مصرية ونجاحات عراقية وسورية. إن وصف وتحليل "العروبة" ــ وهذا سيقودنا إلى نقطة هامة جداً ــ كان متابعاً من قبل العرب حتى الآن على مستوى الدعاية أكثر مما هو متابع على مستوى علمي حقيقي. ومن هنا كان الإخفاق في تحليل العروبة الذي تجلى في نتائجه العملية من خلال محاولات التعريب. ولنقلها بصراحة: إن التعريب حتى الآن لم ينجح. لم ينجح في مختلف بلدان المغرب العربي. لماذا؟ لأنه لم يحقق جدياً كقيمة علمية. لأنه وضع فقط على مستوى الدعاية والمشاعر. إذن، يجب أن يضع العرب أنفسهم على مستوى التحليل. ونحمد الله على أن التحليل الاجتماعي يملك اليوم تقنيات لا حدَّ لها أكثر تطوراً بكثير مما كانت عليه قبل جيل واحد فقط. وعندما سيحين الوقت الذي يصل فيه العرب إلى هذا المستوى من التحليل، فسوف يمتلكون لا العلم المحض فحسب، وإنما العلم التطبيقي، وخصوصاً علم التربية الذي يمكن أن يصل بهم إلى غاياتهم.

* كيف ترى دور الأدب في هذه العملية؟

** لاشك أن الأدب يستطيع أن يسهم إلى حد كبير في هذا المجال. إذ غالباً ما يستبق التحقيق الفني مهمة المفكرين. أعطني أي دراسة اجتماعية واحدة تتجاوز وصف توفيق الحكيم للريف المصري في روايته "يوميات نائب في الأرياف".

* لقد تحدثت مرة عن صعوبات الترجمة من اللغات الأوربية إلى اللغات العربية وبالعكس. فاللغات الأوربية هي لغات النسبية، في حين أن اللغة العربية هي لغة المطلق. إن من نتائج هذه الصعوبة ولا شك أن معظم ما ترجم إلى اللغة العربية كان صورة فاسدة ومشوهة عن نتاج العقل الأوربي. من ناحية أخرى، فإن وسائط الاتصال الجماهيري تحطم اليوم المسافات، لا المسافات الجغرافية فحسب، وإنما المسافات النفسية والعقلية. كيف يمكن برأيكم إحالة هذه الصعوبة، وربما الاستحالة، إلى إمكانية حقيقية؟ وهل لوسائط الاتصال دور ما في هذا المجال؟

** نحن في عصر تبادل الثقافات، وكما أقول دائماً، الثقافات تتواصل فيما بينها لا من خلال عمومياتها الكونية، وإنما من خلال ما تملكه من خصوصية وتفرد. ذلك يفترض كمالاً نسبياً في وسائط الاتصال أو النقل. وهذا الكمال متحقق حالياً في وسائط الاتصال الجماهيري أكثر مما هو متحقق في الترجمة. غير أن وسائط الاتصال الجماهيري تخضع للعموميات الكونية التي أشرت إليها وتنقل صورة محقِّرة للعالم وتؤدي إلى هبوط الذوق في العالم العربي. أما بالنسبة إلى الترجمة، فثمة كما هو واضح بعض الترجمات الجيدة التي ترتبط ببعض الأفراد أو الجماعات. هناك مثلاً لجنة الترجمة التابعة لمنظمة اليونسكو في بيروت التي حققت ترجمات ممتازة. عندما ترجم سركيس "الاعترافات" لجان جاك روسو" فقد حقق ترجمة أكثر من ممتازة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميل صليبا الذي ترجم "مقالة في الطريقة" لديكارت. إلا أن هذه الحالة ليست هي الغالبة بكل أسف. إذ غالباً ما تقع الترجمات في الشرك التجاريـ فيقوم بها أناس لا يبذلون أي جهد في قراءة النص الذي يترجمونه.

إنني أعتقد أن على الأجهزة الثقافية العربية، وأفكر الآن بالإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، أن تبذل جهداً هائلاً لتنظيم أو بالأحرى لتصويب هذه الترجمات. وأيضاً لوضع قيود على إذاعة الثقافة. إذ أني أعتقد أنه في عالمنا المعاصر لا يمكن الاستغناء عن لغة ثقافية مساعدة، وسيكون من المؤسف في عصر ينتقل فيه العالم إلى حوار بين الحضارات أن يزهد العرب بلغة الاتصال والثقافة العالمية التي تستطيع أن تكون في خدمتهم.

 



[1]   من المؤكد أننا لا نعني هنا النقد الأدبي الاجتماعي الذي يختلف في المقدمات وفي النتائج، وبالتالي في جملته عن علم اجتماع الأدب ومناهجه.
[2]  خصص لوسيان غولدمان كتابه (Le Dieu caché) لعلم اجتماع الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر. أما كتابه الآخر (Pour une sociologie du roman) فقد تضمن عدة دراسات في علم اجتماع الأدب منها دراسته المشار إليها عن روايات أندريه مالرو. (وقد قمتُ بعد سنوات من نشر هذه المقابلة بترجمة كتاب غولدمان الأخير إلى اللغة العربية مضيفاً إليه بعض الدراسات المتممة؛ انظر: لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ترجمة بدرالدين عرودكي، دار الحوار، اللاذقية 1994).
[3]  كان ذلك يتفق مع تاريخ إجراء هذه المقابلة ونشرها في شهر حزيران عام 1973. بعد ذلك توالت دراسات عديدة ولا سيما في تونس وفي المغرب، من بين أهمها دراسة الطاهر لبيب عن شعر الغزل العربي.
 
 
 * نشر هذا الحوار في مجلة المعرفة، دمشق، العدد 136، حزيران/يونيو 1973، ص. 59 ـ 70.
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire