mardi 30 juin 2015


حول كتاب "معك" في طبعته الجديدة

 

 بمناسبة صدور الطبعة الجديدة من الترجمة العربية لكتاب سوزان طه حسين "معك" عن مؤسسة هنداوي بالقاهرة.
 
بدرالدين عرودكي
 
أجرى اللقاء: أحمد الليثي
 


* متى صدر كتاب "معك" للمرة الأولى؟
** صدر كتاب "معك" لأول مرة عن دار المعارف بمصر عام 1977، وكان ذلك بناء على رغبة السيدة سوزان طه حسين التي أرادت أن ينشر كتابها في دار النشر ذاتها التي نشرت أعمال طه حسين.
* هل ترجمتَ الكتاب بمبادرة منكَ أم كُلِّفتَ بذلك؟
** لم يكن الكتاب منشوراً بلغته الأصلية ــ الفرنسية ــ حين ترجمته، وبالتالي فلم يكن الأمر خياراً من قبلي كما أفعل حين أختار من الكتب المنشورة هذا الكتاب أو ذاك وأقترحه على الناشر. على أن لترجمة هذا الكتاب قصة رويتها في المقدمة التي كتبتها لطبعة المركز القومي للترجمة بالقاهرة التي صدرت عام 2009 وخلاصتها أن المؤرخ والاجتماعي الفرنسي جاك بيرك، وكان صديقا لطه حسين  ولزوجته، كان قد خصص درسه الأسبوعي في الكوليج دو فرانس إثر وفاة طه حسين عام 1973 ولمدة عاميْن متتاليين للحديث عن طه حسين ومستقبل الثقافة في مصر وفي العالم العربي. وكان هو من اقترح على سوزان طه حسين أن تكتب عن نصف قرن ونيف قضتها قرب عميد الأدب العربي حبيبة وزوجة ورفيقة درب، قائلاً لها إنه ما إن تنهي الكتاب حتى يقترح عليها أن تتم ترجمته علي يد كاتب سوري (وكان أن اختارني للترجمة) ومراجعة الترجمة على يد كاتب مصري تقدمي (وكان من اختاره لهذا المرحوم محمود أمين العالم)، وذلك لإضفاء البعديْن العربي (من خلال الأول) والمستقبلي (من خلال الثاني) على مُبدَع طه حسين.
جاء اختياري إذن على هذا الأساس. وحينما التقيت سوزان طه حسين في منزل مؤنس طه حسين بباريس دفعت إليَّ بالمخطوط مطبوعاً على الآلة الكاتبة راجية أن أقوم بالترجمة في أسرع وقت ممكن كي تشهد صدور الكتاب قبل أن يوافيها الأجل كما قالت لي آنئذ. والحقيقة أنها لم تكن ترى في نشر كتابها بالفرنسية فائدة تذكر. كانت تريد أن يقرأه قبل كل شيء كل من عرف طه حسين من العرب ومن قراء العربية حيثما كانوا..
*  ولماذا هذه الطبعة الجديدة التي تصدر عن مؤسسة هنداوي؟
** تأتي هذه الطبعة الجديدة لكتاب "معك" أساساً استجابة لرغبة ورثة طه حسين الذين عهدوا إلى مؤسسة هنداوي بنشر كافة مؤلفات طه حسين إلكترونياً كي يمكن تحميلها مجاناً من قبل أي قارئ في أنحاء العالم كله. وكان من المفروض تبعاً لذلك نشر كتاب سوزان طه حسين لاستكمال الحلقة. وفي تلك الفترة، أي عام 2011، كانت قد صدرت أول طبعة فرنسية للكتاب (أي بعد حوالي خمسة وثلاثين عاماً على صدور الترجمة العربية!) حافلة بالهوامش وبملحق يحكي حياة سوزان طه حسين وقصة لقائها بزوجها حين كان يتابع إعداد رسالة الدكتوراه في فرنسا في العشر الثاني من القرن الماضي. وحين اتصلت بي السيدة مها عون حفيدة طه حسين ثم مؤسسة هنداوي من أجل ذلك، اقترحتُ أن أضيف في وبمناسبة هذه  الطبعة الجديدة كل هذه الهوامش التي حفلت بها الطبعة الفرنسية. وتم الاتفاق على ذلك وقمت بإعداد النص الأصلي للترجمة بعد أن أجريت عليه تصحيح الأخطاء المطبعية في طبعاته السابقة وإضافة ترجمتي للهوامش ولملحق الكتاب وتكاد تبلغ في حجمها ثلثي الكتاب الأصلي وأودعت ذلك كله لدى مؤسسة هنداوي التي انتهت من إعداد نشر الكتاب في طبعتين: إلكترونية وورقية.
* بعيدًا عن ان طه حسين هو عميد الأدب العربى، ما الانطباع الذى تركته فيك زوجته عنه؟
** التقيت السيدة سوزان طه حسين مرة وحيدة عام 1975 في منزل ابنها مؤنس الذي دعاني للقائها ولاستلام مخطوط الكتاب من يدها مباشرة. لم يكن قد مضى على وفاة طه حسين أكثر من سنتين، لكني شعرتُ أنها لا تزال تعيش معه وبسببه ومن أجله، من أجل ذكراه، ومن أجل ديْن كانت تشعر بضرورة أدائه نحو الرجل الذي أحبته ورافقته حبيبة وزوجة ورفيقة وسنداً على امتداد أكثر من نصف قرن في جوٍّ من الاحترام المتبادل لم تنل منه مصاعب الحياة وطغيان المشكلات اليومية، أياً كانت طبيعتها. ولقد كانت ترى في كتابها الذي كتبته رسالة اعتراف بهذا الدين تنشرها على الملأ .
لقد رأيت في هذه المرأة مثال المرأة العاشقة والزوجة الودودة والرفيقة المؤنسة. ولا يمكنني أن أنسى هذا كله بعد أن رأيته بعينيّ في ملامح وجهها وفي بريق عينيْها ثم قرأته في كتابها الذي أعتبره على صعوبة تصنيفه ضمن نوع أدبي ما رسالة حبٍّ فريدة في الأدب العربي الحديث والمعاصر.
* لماذا يعد الكتاب مهمًا فى رأيك ؟
** ترتدُّ أهمية الكتاب الأساس في نظري إلى أنه يسرد بصورة حميمة قصة حب ولدت وترعرعت ودامت على امتداد نيف وخمسين عاماً في قلب ما كان المجتمع المصري يعيشه على الأصعدة كلها: سياسياً واجتماعياً وثقافياً في الداخل، وكذلك في علاقات هذا المجتمع مع الثقافات الأخرى في الشرق أو في الغرب. لكن أهمية الكتاب تقال على معان أخرى أيضاً. فهو يقدم لنا وجه طه حسين الإنسان العاشق، وطه حسين الأب، وطه حسين الزوج، وطه حسين الصديق..بعيون امرأة عاشقة.. ثمة زوايا ما كان لكتاب "الأيام" مثلاً على أهميته القصوى أن يتناولها في حياة طه حسين الشخصية وجاء كتاب "معك" كي يلقي الضوء عليها. وهو من ناحية أخرى يقدم لنا قصة زوجين مختلفين في كل مجال: في الأصول الاجتماعية وفي الانتماء الثقافي وفي الاعتقاد الديني.. لكن اختلافاتهما كانت عناصر إثراء لهما معاً ولقصة حبهما، ولحياتهما، انطلاقاً من احترام هذا الاختلاف ومن احترام حرية الآخر في أن يكون مختلفاً..
كل ذلك فضلاً عن جمال النصِّ ومتعة قراءته أصلاً، يضفي على الكتاب فرادته وأهميتة الاستثنائية..
* لم نعرف فى عالمنا العربى هذا النوع من الكتابة، أى كتابة الزوجات والأزواج عن بعضهما، هل ترى لذلك النوع أهمية؟
** لا يمكن اعتبار كتاب "معك" كتابة زوجة عن زوجها حتى ننتظر كتباً أخرى للزوجات عن أزواجهن أو للأزواج عن زوجاتهم! نحن أمام قصة فريدة بكل المعاني بأبطالها، وبزمنها، وبأحداثها، وبمعانيها. وسترى في الملحق المنشور في آخر هذه الطبعة الجديدة الذي حرره ناشرا الطبعة الفرنسية زينا ويجان وبرونو رونفار، أن هناك زوجات فرنسيات أخريات كتبن عن أزواجهن من المصريين. ولكن من يعرف كتبهن اليوم؟ نحن في حضرة طه حسين، وهذا في ذاته، استثناء لا يتكرر.
* أخيرًا هل وجدت صعوبة فى نقل مشاعر امرأة وزوجة من لغة إلى أخرى؟
** لا، لم أجد أية صعوبة لاسيما وأن كتاب "معك" كان الكتاب الثاني الذي أترجمه بعد الكتاب الأول الذي قمت بإعداده وترجمته ــ وكان كتاباً صعباً في الحقيقة آنئذ ــ وأعني به كتاب أنور عبد الملك "الفكر العربي في معركة النهضة" الذي نشرته عام 1974  دار الآداب ببيروت.
لا أكتمك أنني كنت أشعر بسعادة بالغة وأنا أقوم بترجمة هذا الكتاب. وكان هذا الشعور يغمرني كلما قمت بإعداده لطبعة جديدة كما حدث في عام 2009 عندما اقترح علي الدكتور جابر عصفور أن أفعل وأن أكتب مقدمة لتلك الطبعة الجديدة للكتاب تحكي قصته، أو كما حدث العام الماضي عندما أرادت مؤسسة هنداوي إخراجه مجدداً. ولا أذكر أنني ترجمت كتاباً بمثل السهولة والسلاسة التي ترجمت بها كتاب "معك" الذي حظيت ترجمته باستقبال كريم ودافئ من القراء المصريين والعرب أعتبره أجمل وأثمن مكافأة يمكن أن أتلقاها.
 
** نشر في جريدة القاهرة في عدد الثلاثاء 30 حزيران/يونيو 2015
 
 

samedi 27 juin 2015


Rencontre avec Jacques Berque
Sur la littérature arabe contemporaine

لقاء مع جاك بيرك*

 عن الأدب العربي المعاصر

 

بدرالدين عرودكي

 
جاك بيرك                               بدرالدين عرودكي

 

 أوائل الستينيات قدمت مجموعة من الكتاب الفرنسيين المهتمين بالثقافة العربية المعاصرة للقارئ الفرنسي صورة موجزة ولكنها متكاملة عن النتاج الأدبي في الوطن العربي شعراً ورواية وقصة قصيرة وبحثاً. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيها القارئ الفرنسي على مشهد الثقافة العربية المعاصرة، ويومها كان لجاك بيرك اليد الطولى في هذا المشروع الكبير.
وخلال السنوات العشر الماضية، عرف القارئ الفرنسي أعمالاً أخرى كاملة  لعدد كبير من الكتاب العرب المعاصرين، شعراء وروائيين وقصاصين، منهم على سبيل المثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وزكريا تامر وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان وأدونيس وأخيراً الطيب الصالح.
أما اليوم فالصورة مختلفة. لقد استطاع النتاج الأدبي العربي خلال ربع القرن الأخير أن يفرض نفسه، لا على الساحة العربية فحسب وإنما على الساحة العالمية. وها هوذا جاك بيرك اليوم يخصص محاضراته في الكوليج دو فرانس لهذا العام لـ"التاريخ والشعر المعاصر"، فيقوم بجولة كبرى عبر التاريخ العربي، قديمه ووسيطه وحديثه، من خلال الشعر، والشعر المعاصر بوجه خاص، وتتردد في القاعة الخامسة من قاعات الكوليج دو فرانس العريقة أسماءٌ عربية مبدعة، ما تزال بيننا، تثري تراثنا وحياتنا الراهنة: عبد الوهاب البياتي، خليل حاوي، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل... ويشعر العربي بوجه خاص، أنه أمام طريقة جديدة في التعامل مه هذه النصوص.
لنقل أولاً إن جدتها ترتدُّ إلى أكثر من سبب: ثمة عنصر أساسي ولاشك في نكهة هذا الذي نسمعه اليوم من جاك بيرك، والذي عسانا أن نقرأه خلال سنة ضمن كتاب كبير، أعني به شخصية الباحث بالذات وموضوع بحثه. موضوع البحث في الأساس هو الشعر، والشعر ـ كما نعلم ـ وجدان الأمة وحساسيتها الخاصة والمتميزة بل والمتفردة. والباحث عالم فرنسي تربطه بلغتنا صلات المعرفة العميقة والمحبة المرهفة والاحترام الشديد. ومع ذلك، تبقى ثمة مسافة بين الباحث وموضوع البحث. مسافة لا يستطيع أن يوجدها الناقد العربي بالطبع، ولكنها مع ذلك ضرورية في لحظة ما من التاريخ، هي لحظة إعادة النظر والتقييم الجديد.
وهناك، من ناحية أخرى، منطلقات البحث. فنحن حقاً لسنا في ميدان النقد الأدبي الخالص، وإنما في نقطة تقع بين التاريخ وعلم الاجتماع، وربما كانت أقرب إلى هذاالفرع الحديث ـ نسبياً ـ من فروع علم الاجتماع، وأعني به علم اجتماع الأدب الذي ما يزال يخطو خطواته الأولى في ميدان العلوم الإنسانية. إذ لا تزال الدراسات ضمن هذا الاتجاه  قليلة جداً[1]. فبالإضافة إلى بعض الكتابات في الأسس النظرية لجورج لوكاتش أولاً، ثم للوسيان غولدمان، لا نجد سوى عدد من الدراسات التطبيقية لعلم الاجتماع الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر ومدخلاً لدراسة روايات أندريه مالرو[2] وبعض الدراسات الأخرى كان آخرها دراسة لجاك لينهارت صدرت مؤخراً تحت عنوان : قراء سياسية في رواية الغيرة لآلان روب غرييه تتبنى إلى حدٍّ ما الأسس النظرية التي انطلق منها لوسيان غولدمان.
هذا في اللغة الفرنسية، أما في اللغة العربية فليس ثمة أية دراسة تنهج هذا المنهج[3]. ذلك إذاً سبب ثالث ترتد إليه جدة هذه الدراسات التي يقوم بها الآن جاك بيرك للشعر العربي المعاصر الذي لم ينل ـ بكل أسف ـ اعترافاً أكاديمياً من جامعاتنا في مختلف البلاد العربية حتى الآن.
كان هذا اللقاء مع جاك بيرك إذاً محاولة لاستطلاع آفاق هذه الدراسات التي يتابعها الآن في الكوليج دو فرانس بباريس.


**  **  **  

* خلال محاضراتك عن "التاريخ والشعر في الشعر العربي المعاصر" تحدثتَ عن استمرار أحد تقاليد "المعلقات" في الشعر العربي الكلاسيكي، ونعني بها "الوقوف على الأطلال" في الشعر العربي المعاصر؛ وأشرتَ في هذا المجال إلى أكثر من قصيدة تتضمن هذه الثيمة الشعرية من قصائد بدر شاكر السياب وأدونيس والفيتوري وصلاح عبد الصبور. إلامَ يشير ذلك على الصعيدين الاجتماعي والثقافي؟ إنني أذكر أيضاً إشارتك إلى شعر الحماسة وشعر المقاومة.

** من المؤكد أن ثيمة "الأطلال" و "الوقوف على الأطلال" تعود من جديد لدى جميع الشعراء العرب المعاصرين تقريباً. وبعبارة أخرى فهي نمط شعري مستمرٌّ في العالم العربي. إلا أنه من الممكن أن هذا النمط، من ناحية أخرى، قد غير دلالته التي كانت له في الشعر القديم، في الشعر الحديث. وأعتقد شخصياً أن ثيمة "الأطلال" في الشعر العربي القديم تتطابق والبحث عن رمز شعري قائم بذاته يحيط به في الفراغ، وفي هذه الحالة فإن الفراغ هو الصحراء. من الطبيعي إذن أن جهد الشاعر قبل كل شيء موجه نحو الكلام في الفراغ، وبما أن طلب الإبداع الشعري هو إبداع في الفراغ ، فإن الشاعر يفترض أنه في الفراغ لكي يبدع إبداعاً أصيلاً، وحسب هذا التأويل فإن جانب الحكاية في "الوقوف على الأطلال" الذي يتجلى في فقدان الحبيبة.. إلخ.، ليس إلا  حبكة هذه العملية الأساسية في الإبداع الشعري التي تعارض ـ إذا جاز لي القول ـ الملئ بالفراغ. ولهذه القيمة دلالات تختلف باختلاف الشعراء غير أن دلالتها الكبرى تتجلى في الشعر العربي القديم وأعني بها "الحنين إلى الوطنLa nostalgie " التي تتطابق بالتالي مع واحد من اتجاهات الطبع العربي. أما في الشعر الحديث، فإن هذه الدلالات عبارة عن ثيمات اجتماعية أكثر تحديداً أضيفت للدلالة الأساسية لإتمام أو ربما لتعديل معنى "الأطلال". إنه ببساطة مفهوم "الحرمان" المعروف جيداً في الأدب الاجتماعي والسياسي العربي. ومنه يمكن أن نصل إلى ثيمة  "الضياع أو الاغترابAliénation " التي نجدها في كثير من الكتابات الأخرى. وبكلمة، وأريد هنا أن أوجز ما قلت، فإن الشعر العربي  المعاصر قد تبنّى  المعنى القديم والمستمر للأطلال والذي هو عبارة عن الحنين إلى الوطن، وأضاف إليه معنى اجتماعياً جديداً هو الاغتراب أو الضياع. غير أن هذه الثيمة لا تعني ذلك، أي ليست بما هي عليه إن لم تكن متطابقة مع ضرورة تقنية ـ إذا صح القول ـ في الخلق الشعري.

* بلغت حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر من العمر ربع قرن تقريباً. غير أن ثمة من يقول إن الشعر العربي الحديث والمعاصر لم يتجاوز بعد امرأ القيس. إلى أيِّ حدٍّ برأيكم يصح هذا الرأي بكل ما يعنيه من دلالات؟

** أعتقد أننا هنا إزاء وجه من وجهي المزاج أو الطبع العربي، وأعني به تشاؤم العرب من أنفسهم ونقدهم المبالغ فيه لأنفسهم في الوقت الذي نواجه أحياناً الوجه الآخر وأعني به الكبرياء. هذان الموقفان، هذان الوجهان للمزاج العربي يتناوبان في جميع مواقف العرب الفردية والجماعية تقريباً. وليس من الممكن أن نأخذ أحدهما مأخذ الجد دون أن نأخذ الآخر أيضاً بالطريقة نفسها. غير أن الحقيقة ـ بعبارة أخرى ـ كانت بين هذين الموقفيْن. وأعتقد من جهتي أن الأدب العربي في نثره وفي شعره مستعبد بل مسحوق تحت وطأة نماذج ماضيه الكبرى، وفي هذا المجال نجد فارقاً كبيراً بينه وبين الأدب الغربي. لنأخذ على سبيل المثال الأدب الفرنسي. إنه ليس بوسعنا القول إن ما أنتج في القرن التاسع عشر أو حتى في القرن العشرين أسوأ أو أدنى من النماذج الكبرى التي قدمها أدب القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر. وعلى العكس، من الصعب أن نؤكد أن الأدب العربي إبان النهضة في بيروت أو في القاهرة استطاع أن يصل إلى ذرى العصر الجاهلي أو الأموي أو العباسي. هذا صحيح. ومع ذلك فيجب ألا يدفعنا هذا إلى نفي قيمة عدد من الأعمال الأدبية في المرحلة الراهنة. لذلك لابد من إيجاد سلم قيم لا يقوم على أساس استمرارية الأدب العربي فحسب وإنما أيضاً وعلى المستوى نفسه من الأهمية، على أساس العالم الخارجي. وأودّ هنا أن أسجل ملاحظة حول فكرة لها في رأيي أهميتها القصوى. إن ثمة خطر كبير على الوطن العربي من المجاملة والرضا عن الذات، ومن الاقتناع بما يحققونه على المستوى الإقليمي، أو من أن يصبحوا هم أنفسهم نوعاً من الإقليمية المتميزة بالاكتفاء بنفسها. ويخيل إلي أن هذه النزعة  ــ التي تبدو غريبة جدداً ــ تحول دون استفادة الإبداعية العربية من إبداعية الآخرين. إن مرد ذلك ولا شك ضعف جهد الترجمة، وانخفاض مستوى المعرفة الحقيقية بالثقافة الأجنبية، وابتذال كثير من الأنماط الثقافية. ذلك في الحقيقة وضع يجب مقاومته نظراً لخطره الكبير.

* هل يمكن أن نضع بعض العلامات المميزة بين الشعر العربي التقليدي والشعر العربي المعاصر؟

في رأيي، وهو يلائم جيداً الشعر العربي أكثر من ملاءمته الشعر الغربي الذي اجتاز هو الآخر، ولكن في مرحلة مبكرة جداً، نفس أزمة الانتقال من العروض التقليدي إلى العروض الحر؛ لقد اجتاز الشعر الفرتسي هذه الأزمة في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يمكننا أن نقول إنه يفتقر إلى كبار الشعراء. وأعتقد أن قيمة الشعر لا تنبع من عروضه، سواء أكان هذا العروض تقليدياً أو متحرراً. ولكن ما هو حقيقي فعلاً أن العروض الكلاسيكي العربي يمت بصلة وثقى إلى الطبع العربي والعبقرية العربية أكثر من العروض الغربي بالنسبة للغرب. وينتج عن ذلك أن التغيير عادة يترجم أزمة اجتماعية وعقلية أكثر غرابة أيضاً.

* رؤية الشاعر تعكس عادة مستقبل الأمة بقدر ما تعكس حاضرها. هل يمكن أن نعتبر هذه العلامات فاصلاً بين قديم وجديد في الحياة العربية المعاصرة؟ إنني أفكر بشكل خاص  ــ لكي أحدِّد  سؤالي ــ بما يسمى عصر النهضة العربي الذي يبدأ في أواخر القرن التاسع عشر. لقد كان ـ خلافاً لعصر النهضة الأوربية الذي كان عبارة عن عودة مباشرة إلى الأصول الإغريقية ــ اتجاهاً نحو الغرب ــ بكل ما يعنيه "الغرب" كمصطلح تاريخي ــ مع بعض الالتفاتات الغامضة إلى الأصول العربية الكلاسيكية.

** فعلاً، يجب أن نعلم أيضاً فيما إذا كان ما يسمى نهضة في أواخر القرن التاسع عشر هو نهضة حقيقية. أعتقد أننا وصلنا إلى وضع نحن فيه مضطرون إلى نقد هذه النهضة التي، على الرغم من معطياتها الهامة والمفيدة، متهمة لاعتبارات أخرى، بوضع العرب في طريق خاطئ. إنني أعتبر شخصياً أدباء النهضة مقتبسين ومتممين. إن ما يمكن أن يثير اهتمامنا فضائلهم التربوية والاجتماعية. ولكننا سنلقي جانباً ولا شك قيمهم الإبداعية وإبداعهم الثقافي بالمعنى الحقيقي للكلمة الذي يحتاج إلى إثبات. إننا لا نجد ــ وهذه حقيقة لا شك فيها ــ بين أدباء النهضة في بيروت أو في القاهرة كتاباً كباراً كطه حسين وتوفيق الحكيم أو بالأحرى العقاد. ما الذي بقي على مستوى الفن مثلاً من صروف وشبلي شميل وغيرهما؟ لم يبق منهم سوى مؤلفات تربوية واجتماعية لاشك في أنها كانت مفيدة، إلا أنه على مستوى الإبداع الثقافي لم يبق منهم شيء كبير. إن أول مظهر للإبداعية بالمعنى الحقيقي للكلمة بالنسبة إلي كان عملاً لا يرتبط مباشرة بالنهضة، وأعني به "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي. أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من السؤال، والاتجاه نحو المستقبل، فأعتقد أن كل شعر عظيم، وكل فن أصيل بالتالي، يترجم مستقبل المجتمع وأيضاً حيويته المتصاعدة. إن اتجاه الشعراء إذن نحو المستقبل دوماً، سواء كان هذا الاتجاه صريحاً أم لا، وسواء أكان هذا الاتجاه محدداً بمصطلح تاريخي أم لا. إن ما هو ضروري لكل فن عظيم كما أعتقد، أن يمس أعماقاً حركية جماعية. وطبيعي أن كلمة حركة تعني ــ بالضرورة ــ حركة نحو المستقبل. وفي هذه الحالة، فقد بحثت النهضة الغربية التي تتحدث عنها عن نماذج في الماضي اليوناني والروماني. ولكن، كما هو واضح، بقصد تجاوزها بالعقلانية والحداثة. ولقد حققوا ذلك عن طريق المكتشفات على الصعيد العلمي مثلاً. وهذا هو الأمر نفسه  بالنسبة إلى العرب عندما يبحثون لدى "السلف الصالح" لاستخراج الحلول في سبيل المستقبل.

ومن ناحية أخرى، إذا أردنا أن نعلم ما إذا كانت هذه العلامات تشكل فاصلاً بين قديم وجديد في الحياة العربية المعاصرة، فلا بد لنا أن نميز بين ما هو شعوري وما هو لا شعوري. من المؤكد أنه بدءاً من بعض اللحظات أخذ العرب على عاتقهم تاريخهم الخاص بوعي كامل وفي الوقت نفسه بحثوا في في الماضي عن إمكانيات تجاوز هذا الماضي وبناء مستقبلهم الخاص.

* ما هي برأيكم مبررات دراسة الشعر العربي انطلاقاً من مقدمات سوسيولوجية؟

** سيكون من الصعب عليَّ ألا أدرس الشعر من وجهة نظر سوسيولوجية أو بالأحرى من وجهة نظر اجتماعية، لأنني بالتأكيد لست حريصاً على ما يسمى عادة سوسيولوجيا التي تعني دراسة الأشياء  من الخارج مكتفية بدراسة الشاعر بوصفه يعكس بيئته. مما لاشك فيه أن ما هو شعري لدى الشاعر لا يكتفي فقط بعكس البيئة وإنما يقوم بخلقها أيضاً. الشعر، والشعر العربي منه، هو كما قال مؤخراً شاعركم الكبير أدونيس مقولة من مقولات الإبداع التاريخي. إن بينه وبين المقولات التاريخية الأخرى: السياسة، والتكنولوجيا... إلخ علاقات متكافئة، لا علاقات انعكاسات. ومن الخطأ القول إن الشعر يعكس الواقع. إنه كالوعي لا يعكس وإنما يؤثر على المقولات الأخرى بقدر ما تؤثر عليه. بل إني لأذهب إلى التفكير أن الشاعر ــ وأنا أعرض هذا التعريف على أصدقائي العرب ــ إنسان يؤثر في المجتمع تأثيرات لا يتلقاها هو نفسه من المجتمع. إنه بذلك يؤلف رسول فضل القيمة. وذلك يفسر بالتالي تضامنه في الحياة السياسية مع الطبقات الاجتماعية خالقة فضل القيمة.  

* ثمة أكثر من وشيجة تربط بين حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر وحركة الشعر الأوربي على اختلاف منازعها. بدر شاكر السياب وإليوت، أدونيس وبودلير ثم سان جون بيرس. لقد اعتمدت محاولة تجديد بناء القصيدة العربية على القصيدة الأوربية. ما هي برأيكم مميزات هذه المحاولة في سلبياتها وفي إيجابياتها؟

** من جهة أولى لابد أن نتساءل عما إذا كانت التأثيرات التي أشرت إليها بحق والتي مارسها الشعراء الكبار من فرنسيين أوبريطانيين على الشعراء العرب لا تعكس أو لا تترجم بشكل جليٍّ وواضح ضرورة مشتركة وبحرية من قبل هؤلاء وأؤلئك لتجديد الشعر؟ في الواقع، إذا جدد رجل كالسياب أو أدونيس الطريقة الشعرية، وكان هذا التجديد ــ من ناحية أخرى ــ وفق طريقته الخاصة المختلفة جداً عن طريقة الشعراء الغربيين الذين اعتمد عليهم في محاولة تجديده، هل يعني ذلك أن السياب أو أدونيس يقلدان الغربيين؟

* لم أعنِ التقليد، وإنما عنيت التأثر.

** نعم، لقد تأثروا بمعنى ما. إلا أن ما هو أكثر أهمية أن هذا التأثر، حسب اعتقادي، كان ضرورة مشتركة اضطلع بها الشعراء العرب لتجديد الشعر. وبعبارة أخرى، فإذا كان هؤلاء الشعراء قد ساروا، بمعنى ما، مع حركة الشعر العالمي، فذلك لأنهم رأوا ــ وهذا صحيح إلى أبعد الحدود ــ أن كل شيء في مقولات حياة مجتمعهم يجب أن يساير حركة المقولات في الحياة العالمية. ذلك هو المظهر الإيجابي لمحاولة تجديد الشعر العربي. أما المظهر السلبي فهو موجود أيضاً. هو موجود للسبب التالي. قبل قليل قلت إن العروض التقليدي العربي يمتّ إلى العبقرية العربية أكثر مما يمتّ التقليد العروضي الغربي إلى العبقرية الغربية. إذن فالخسارة التي تكبدتموها عندما ألقيتم جانباً الشعر الكلاسيكي العربي أكبر من الخسارة التي تكبدناها نحن. ولن يكون ممكناً تعويض هذه الخسارة مالم  ننتج شعراً أجمل بكثير مما ننتظره من مجددينا نحن. هل فعلتم ذلك؟ هذا سؤال لا يستطيع الإجابة عنه سوى القارئ العربي. من ناحية أخرى، ثمة نقطة هامة كذلك مفادها أن الشعر ــ أساساً ــ عمل في اللغة. فإذا كانت مسايرة النماذج العالمية تعني بالنسبة إلى الشعراء العرب ــ وفق بعض المعايير ــ تخلياً عن قيم اللغة، أو نسياناً للغة، أو ضعف البناء اللغوي، فذلك يعني ضياع هذا الشعر.

* هل يمكن أن نرسم خطوطاً متوازية ومتساوية في تعبير الأنواع الأدبية الأخرى كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية عن المرحلة الراهنة من التاريخ العربي بالمقارنة مع الشعر؟

** نعم، إنها برأيي ضرورة أن نعقد مثل هذه المقارنة. لأن العرب في الفترة الحديثة من تاريخهم قد جددوا بشكل كامل قائمة الأنواع الأدبية. هناك العديد من هذه الأنواع لم يعرفها التراث الأدبي العربي، وقد اصطنعوها استجابة لحاجة عالمية، ولكي يسايروا الحركة الأدبية العالمية وخاصة في مجالي الرواية والمسرح. إنني أعرف أنه يمكن استيحاء بعض الأصول في الماضي. ولكن لنكن جديين، فهذه أشكال غير محددة. إذن، في تجديد هذه الأنواع الأدبية لم يكن العرب موفقين دوماً، ولم يكونوا ناجحين بمقادير متساوية في تجديد هذه الأنواع الفنية. لقد عاشوا فترة من الصراع بين القديم والجديد. هذا الصراع الذي خنق الإنتاج أو الإبداع وأدى إلى نوع من العقم. عاشوا أيضاً فترة كان فيها الإبداع الكلي يسهل ويساعد على توفير إمكانية الإبداع لديهم. عاشوا كذلك، وهذه مقولة ثالثة، فترة تكاثرت وازدادت فيها الإبداعية القديمة بفعل الإبداعية الجديدة التي تولدت لديهم. ولإيضاح ذلك، سوف أسوق ثلاثة أمثلة. المثل الأول تزاحم النماذج العربية القديمة مع النماذج الجديدة الوافدة أدى إلى عقم نسبي، وقد تجلى ذلك في الموسيقى. كل منا يعرف الصراع الراهن بين الموسيقى العلمية العالمية وما يسمى بالموسيقى الشرقية. أعتقد أن الشرق لم يخرج بعد من هذا الصراع. المثل الثاني حيث كان ثمة إبداع وقد تجلى ذلك في ميدان الرواية. لم يكن العرب مهمومين هنا بنماذج وأنماط قديمة. ولذلك كانوا خلاقين بما فيه الكفاية. أما المثل الثالث فهو يتجلى في أكثر الحالات توفيقاً ونجاحاً، وأعني بها حالة الشعر. فعندما سيطر الشاعر بما فيه الكفاية على قيم لغته الخاصة لكي يضاعف الإبداع في المناهج أو في مصادر الوحي فقد حقق هذه المضاعفة بواسطة قيم لغته الخاصة لا عن طريق مناوأتها. ولذلك بالتحديد أعتقد أن العرب في الوقت الراهن قد حققوا نجاحهم الأكبر في مجال الشعر.

* هناك مشكلة كثيراً ما شغلت وتشغل اهتمام الكتاب العرب المعاصرين وأعني بها مشكلة "هوية الأدب العربي المعاصر". وأعتقد أن المثقف الغربي الذي يهتم بالقضايا العربية على اختلافها قادر على المشاركة في الحوار الدائر حول هذه المشكلة. فإلى أيِّ حدٍّ برأيكم استطاع الأدب العربي المعاصر أن يعبر عن الشخصية العربية؟ وبعبارة أخرى، هل يمكننا الحديث عن هوية متميزة للأدب الذي يكتبه كتاب عرب؟ ومن ناحية أخرى، هل استطاع الأدب أن يرسم ملامح الشخصية العربية المعاصرة في حالات تأزمها وتمزقها واضطرابها ووجودها من خلال ذلك كله؟

** إنه حيث استطاع الفن والتعبير الفني والأدبي العربي المعاصر بمعيار ما التوفيق بين خصوصيته من جهة وبين العالمية الضرورية التي لابد له من الارتباط بها في الحقيقة، أقول إذ ذاك استطاع هذا الفن أن يكون قادراً على التعبير عن نفسه وحاملاً لقيم عالمية. لكن هذا لم يحدث طبعاً إلا في حالات نادرة بما فيه الكفاية. أولاً لأن النجاحات الفنية والأدبية الكبيرة نادرة في كل مكان، وثانياً بسبب الصراع بين القديم والجديد الذي ألمحت إليه في إجابتي السابقة. اليوم إذا ما سألتني مثلاً: في أي مجال حقق العرب النجاح الأكبر، وذلك انطلاقاً من تقييم يأخذ بعين الاعتبار تعبيرهم عن أنفسهم وحملهم لقيم عالمية، أقول استطاع أن يحقق هذا النجاح بعض الشعراء وبعض البحاثة فقط.

ومن ناحية أخرى، أعتقد أن ما تقوله صحيح من أن الأجنبي يملك في هذا المجال أولية وحظاً في الحكم على ذلك. فهو حساس تجاه بعض الأشياء التي لا يمكن للمواطن أن يكون حساساً تجاهها، وبالعكس. الأجنبي إذن يستطيع، ويجب أن يستفيد من وضعه لكي يتحسس بعض الأعمال الأصيلة. أعتقد أن الوطن العربي لم يبلغ بعد طور التحليل الذي يحسب حساب إمكانياته الحقيقية ومميزاته الأساسية ونواحي تقصيره. إن التحليل الذي يقوم به كبار النقاد أنفسهم ليس كافياً بعد. وفي هذا المجال يخيل إلي أنه يجب متابعة جهود أناس مثل محمد مندور في مصر وعلي الوردي في العراق وآخرين يسيرون في هذا الاتجاه. وبشكل عام، فإن المفكرين والنقاد العرب المعاصرين لم ينجحوا جميعاً في أن يجمعوا لحسابهم الخاص بين الخصوصية والعالمية. جميعهم تقريباً مدافعون عن خصوصية عربية يريدون أن يجعلوا منها خصماً أو إجابة على ما يعتقدون أنه تطور العالم. وفي هذا المجال أفكر بكثير من المفكرين ذوي النزعة الدينية. ومن ناحية أخرى، هناك مفكرون يستوحون بعمق ويتأثرون بالأفكار الغربية، ولكنهم غالباً لا يملكون حساسية عميقة إزاء مميزات وخصوصيات مجتمعاتهم. ومن المؤسف أن ثمة عدداً لا بأس به من المفكرين الماركسيين تخلوا بالمقابل عن هذه الناحية، أعني الخصوصية، لكي يلحّوا على واقع عالمي يوجد ولا شك لدى العرب ولكن مع فوارق دقيقة خاصة بهم. لذلك يمكن القول إن التعبير الحقيقي عن المجتمعات العربية، عن مشكلات المجتمعات العربية الخاصة منها والعامة، لا يوجد، في نقديري، في الدراسات الفكرية أو النقدية وإنما في الأعمال الفنية. ودرجة صدقها تعادلقيمة تحققها الفني. لذلك مثلاً فإن القصائد المكتوبة من قبل السياب عن القرية والمدينة تقول أكثر بكثير مما تقوله أية أطروحة في علم الاجتماع العربي المعاصر حول الهجرة من الريف، حول أزمة المجتمعات الريفية. كذلك الأمر في قصائد أدونيس والفيتوري والبياتي وعبد الصبور وغيرهم. إنهم بهذا المعنى أكثر دلالة من الآخرين. إلا أن دلالة فنهم يجب أن تجد ما يوازيها على مستوى التحليل الاجتماعي الحقيقي، وهذا في رأيي لم يتحقق بعد.

* والأنواع الأدبية الأخرى.. الرواية مثلاً؟

** مثلاً نجيب محفوظ. ثمة جزء وصفي من أعماله الأدبية يقدم لمواطنيه وللأجانب سحراً كبيراً في مجال وصف حياة الطبقات الشعبية والبورجوازية في القاهرة القديمة. ولكني أعتقد أن نجيب محفوظ لم يعبر عن حقيقة مصر من خلال هذا الجانب، وإنما من خلال كتب أخرى أقل واقعية ولاشك، وأهمها "أولاد حارتنا"، الرواية التي أفضلها على كافة أعمال نجيب محفوظ وأضعها فعلاً على مستوى الفن العظيم. في هذه الرواية استطاع نجيب محفوظ أن يتعمق جيداً سواء من خلال الحدث أو من خلال الخيال المبدع إن شئت في التحليل اللاشعوري ــ لأننا هنا بصدد عمل فني ــ وفي حقيقة الشعب المصري على كل حال.

* وحقيقة الشعب العربي بشكل عام؟

** التعبير عن واقع الشعب العربي عامة؟

* ذلك أساساً هو سؤالي. التعبير عن الشخصية العربية بشكل عام من خلال الأدب العربي، وما إذا كان الأديب العربي قد حقق ذلك.

** أعتقد أن الكتاب العرب في الوقت الحاضر قد حققوا نجاحات إقليمية. نجاحات مغربية ــ وخاصة في الأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الفرنسية ــ ونجاحات مصرية ونجاحات عراقية وسورية. إن وصف وتحليل "العروبة" ــ وهذا سيقودنا إلى نقطة هامة جداً ــ كان متابعاً من قبل العرب حتى الآن على مستوى الدعاية أكثر مما هو متابع على مستوى علمي حقيقي. ومن هنا كان الإخفاق في تحليل العروبة الذي تجلى في نتائجه العملية من خلال محاولات التعريب. ولنقلها بصراحة: إن التعريب حتى الآن لم ينجح. لم ينجح في مختلف بلدان المغرب العربي. لماذا؟ لأنه لم يحقق جدياً كقيمة علمية. لأنه وضع فقط على مستوى الدعاية والمشاعر. إذن، يجب أن يضع العرب أنفسهم على مستوى التحليل. ونحمد الله على أن التحليل الاجتماعي يملك اليوم تقنيات لا حدَّ لها أكثر تطوراً بكثير مما كانت عليه قبل جيل واحد فقط. وعندما سيحين الوقت الذي يصل فيه العرب إلى هذا المستوى من التحليل، فسوف يمتلكون لا العلم المحض فحسب، وإنما العلم التطبيقي، وخصوصاً علم التربية الذي يمكن أن يصل بهم إلى غاياتهم.

* كيف ترى دور الأدب في هذه العملية؟

** لاشك أن الأدب يستطيع أن يسهم إلى حد كبير في هذا المجال. إذ غالباً ما يستبق التحقيق الفني مهمة المفكرين. أعطني أي دراسة اجتماعية واحدة تتجاوز وصف توفيق الحكيم للريف المصري في روايته "يوميات نائب في الأرياف".

* لقد تحدثت مرة عن صعوبات الترجمة من اللغات الأوربية إلى اللغات العربية وبالعكس. فاللغات الأوربية هي لغات النسبية، في حين أن اللغة العربية هي لغة المطلق. إن من نتائج هذه الصعوبة ولا شك أن معظم ما ترجم إلى اللغة العربية كان صورة فاسدة ومشوهة عن نتاج العقل الأوربي. من ناحية أخرى، فإن وسائط الاتصال الجماهيري تحطم اليوم المسافات، لا المسافات الجغرافية فحسب، وإنما المسافات النفسية والعقلية. كيف يمكن برأيكم إحالة هذه الصعوبة، وربما الاستحالة، إلى إمكانية حقيقية؟ وهل لوسائط الاتصال دور ما في هذا المجال؟

** نحن في عصر تبادل الثقافات، وكما أقول دائماً، الثقافات تتواصل فيما بينها لا من خلال عمومياتها الكونية، وإنما من خلال ما تملكه من خصوصية وتفرد. ذلك يفترض كمالاً نسبياً في وسائط الاتصال أو النقل. وهذا الكمال متحقق حالياً في وسائط الاتصال الجماهيري أكثر مما هو متحقق في الترجمة. غير أن وسائط الاتصال الجماهيري تخضع للعموميات الكونية التي أشرت إليها وتنقل صورة محقِّرة للعالم وتؤدي إلى هبوط الذوق في العالم العربي. أما بالنسبة إلى الترجمة، فثمة كما هو واضح بعض الترجمات الجيدة التي ترتبط ببعض الأفراد أو الجماعات. هناك مثلاً لجنة الترجمة التابعة لمنظمة اليونسكو في بيروت التي حققت ترجمات ممتازة. عندما ترجم سركيس "الاعترافات" لجان جاك روسو" فقد حقق ترجمة أكثر من ممتازة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى جميل صليبا الذي ترجم "مقالة في الطريقة" لديكارت. إلا أن هذه الحالة ليست هي الغالبة بكل أسف. إذ غالباً ما تقع الترجمات في الشرك التجاريـ فيقوم بها أناس لا يبذلون أي جهد في قراءة النص الذي يترجمونه.

إنني أعتقد أن على الأجهزة الثقافية العربية، وأفكر الآن بالإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، أن تبذل جهداً هائلاً لتنظيم أو بالأحرى لتصويب هذه الترجمات. وأيضاً لوضع قيود على إذاعة الثقافة. إذ أني أعتقد أنه في عالمنا المعاصر لا يمكن الاستغناء عن لغة ثقافية مساعدة، وسيكون من المؤسف في عصر ينتقل فيه العالم إلى حوار بين الحضارات أن يزهد العرب بلغة الاتصال والثقافة العالمية التي تستطيع أن تكون في خدمتهم.

 



[1]   من المؤكد أننا لا نعني هنا النقد الأدبي الاجتماعي الذي يختلف في المقدمات وفي النتائج، وبالتالي في جملته عن علم اجتماع الأدب ومناهجه.
[2]  خصص لوسيان غولدمان كتابه (Le Dieu caché) لعلم اجتماع الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر. أما كتابه الآخر (Pour une sociologie du roman) فقد تضمن عدة دراسات في علم اجتماع الأدب منها دراسته المشار إليها عن روايات أندريه مالرو. (وقد قمتُ بعد سنوات من نشر هذه المقابلة بترجمة كتاب غولدمان الأخير إلى اللغة العربية مضيفاً إليه بعض الدراسات المتممة؛ انظر: لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجيا الرواية، ترجمة بدرالدين عرودكي، دار الحوار، اللاذقية 1994).
[3]  كان ذلك يتفق مع تاريخ إجراء هذه المقابلة ونشرها في شهر حزيران عام 1973. بعد ذلك توالت دراسات عديدة ولا سيما في تونس وفي المغرب، من بين أهمها دراسة الطاهر لبيب عن شعر الغزل العربي.
 
 
 * نشر هذا الحوار في مجلة المعرفة، دمشق، العدد 136، حزيران/يونيو 1973، ص. 59 ـ 70.
 

Jacques Berque

Les aventures de l’authenticité
Ou « Langages arabes du présent »

مغامرات الأصالة*

 قراءة أولى في كتاب جاك بيرك
 "كلمة العرب للعالم الجديد"[1] 

بدرالدين عرودكي


يكشف كتاب جاك بيرك كلمة العرب للعالم الجديد أكثر من أي كتاب آخر من كتبه السابقة عن مشروعه الأساسي: متابعة العملية الحضارية الفريدة التي تتم منذ منتصف القرن الماضي على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، في المنطقة العربية، في محاولة لتحديد الملامح الأساسية لهذا الكائن التاريخي الذي نقوله عربياً، ومحاولة هذا الكائن التاريخية في أن يستخلص من أعماقه وأعماق الآخرين عناصر يؤلف بينها صانعاً بتأليفه هذا تجدده الخاص.
وإذا كانت فرادة هذه العملية الحضارية هي نتيجة الموقع الجغرافي والتاريخي والحضاري الذي تتميز به المنطقة العربية الواقعة على مفترق طرق الشرق والغرب تميزاً كان وما يزال يطوي قوة هذه المنطقة وثغرة الخطر فيها، فإن فرادة مشروع بيرك هي نتيجة أسباب متعددة مثلما هي ذات دلالات متعددة: فعندما كان يضع يده في كتابه العرب من الأمس إلى الغد (1959) على زاوية الرؤية لتاريخ العرب الحديث بتحديده العملية الحضارية بالانتقال من الأمس إلى الغد، فإنه كان يكشف أيضاً وفي الوقت نفسه عن الطريق المسدود الذي كان الاستشراق الكلاسيكي يسير فيه مستمراً في تجميع النصوص وشرحها[2] دون وضعها في مكانها الحالي من التغير الاجتماعي والتطور التاريخي ودلالاتها بالنسبة لهما، ويشرط للمستقبل أية محاولة جدية للاقتراب من العرب تاريخاً ومجتمعات بشروط لم يكن الاستشراق عاجزاً عن تحقيقها فحسب، وإنما الكثرة الكاثرة ممن كانوا يكتبون عن الشرق العربي.
لقد تركزت هذه الشروط في وضع شخصية العرب، أو بصورة أدق خصوصيتهم في "مركز أية رؤية تركيبية تجهد لتقييم مسيرة تقدمهم. فتكامل الرؤية ورهافة الحسّ والالتزام، وهي أمور عليها أن توازن لدى الباحث استخدام المناهج الموضوعية، ممكنة لتحقيق مثل هذا الاقتراب مالم يعش الباحث المجتمعات العربية من الداخل". مثل هذه المعايشة سوف تسمح له مثلاً باكتشاف أن شخصية العرب "تشرط كل حكم يتناولهم حتى ولو كان حكما يتعلق بالتفاصيل"[3]، وأنه ما لم يوضع هذا الشرط في مكانه من البحث ومن نتائجه فستظل النتيجة جزئية وبالتالي عاجزة عن قول هذه المجتمعات.
كان لابد من من الانطلاق من الاستشراق، وكان لابد في الوقت نفسه من تجاوزه تجاوزاً يصل إلى حدِّ تفجيره من الداخل. ذلك أن المشكلة أساساً تتركز في مسيرة الباحث وفي علاقته بالمجتمع الذي يجهد لدراسته وفي منهج هذه الدراسة. يكتب بيرك: "ومن أجل فهم واقع ما، كان لابد من الاستعانة بعلوم كان الاستشراق حتى ذلك الحين يروغ منها برصانة: بالاقتصاد الذي يمكن أن يجد فيه الاستقلال برهان وجوده، وبالتاريخ المعاصر الذي يطلق هذه الشعوب مرة واحدة وإلى الأبد من أسْر الانحطاط، وبالفنومنولوجيا القادرة على قراءة الكثير من الأحداث والإشارات والظروف بوصفها علاقات تشير إلى تيارات الأعماق، وبعلم الاجتماع، وخاصة بالأنثروبولوجيا، اللذين يضعان النقاش ضمن منظوراته الشاملة ويقترحان وسائل للفهم كانت حتى ذلك الحين ما تزال جديدة في هذا المجال"[4]. بذلك يمكن تجاوز التقييدات التي تناولت العرب ـ تقييدهم بنصوص تراثهم، أو تقييدهم في نضالهم للتحرر من الاستعمار، أو تقييدهم عبر تحديدهم كشعوب متخلفة ـ لرؤيتها ثانية من خلال منظومة جديدة شاملة، تستعيد التراث الذي وقف عنده الاستشراق طويلاً لا بوصفه مجرد نصوص قابلة للشرح وللتفسير فحسب وإنما بوصفه أيضاً تجربة معاشة في الماضي وأحد الملامح الأساسية في تجربة العرب المعاشة في الحاضر مع ما طرأ على هذه التجربة من تحولات كيفية، وتضع التحرر من الاستعمار والتحديث والتصنيع والإبداع والهوية في أماكنها الحقيقية من العملية الحضارية الشاملة.
وإذا تبيّنا أن الوصول إلى معالم هذه الرؤية كان حصيلة تجربة عميقة ممتدة في الزمان (حوالي أربعين عاماً من الاتصال المباشر بالعرب تاريخاً وجماعات وأفراداً ومجتمعات) وفي المكان (من أعماق المغرب العربي حتى أعماق الجزيرة العربية)، فإننا سنكتشف إمكان هذا المشروع الذي بدت مجموعة أعما جاك بيرك السابقة وكأنها تحضير مستمر، على المستويين النظري والعملي، لما سيؤلف أعمق وأشمل تكريس له عبر ما يمكن أن نطلق عليه قراءة الإنسان في حركة كليته الاجتماعية كما تبدو في تعبيرها عن نفسها وفي الدلالات التي تقدمها، أي قراءة الإنسان العربي تاريخاً ووجوداً.
كان أول اقتراب لجاك بيرك من العرب ككائن تاريخي قد تمَّ قبل أكثر من ستة عشر عاماً[5] في كتابه العرب، من الأمس إلى الغد. ولئن اعتبر المستشرق جيب هذا الكتاب حدّاً فاصلاً في تاريخ الاستشراق آن صدوره، فإننا اليوم، وبعد صدور كلمة العرب للعالم الجديد يمكن أن نعتبره إسهاماً أساسياً وتأسيساً في التاريخ الاجتماعي للعرب من ناحية وللإسلام بوصفه إطاراً ثقافياً وتجربة معاشة من ناحية أخرى. وستكون كتبه التالية: المغرب بين حربين[6] و رفع ملك العالم[7] و مصر، الإمبريالية والثورة[8] و الشرق الثاني[9] معالم أساسية في هذا الجهد الإبداعي الذي يتوِّجُه الكتاب الأخير.
إنَّ فرادة مشروع بيرك تستمد وجودها أيضاً من طبيعة هذا الجهد التي تضع بيرك نفسه في موقع بالغ التميز. فمن الواضح أنه يقف على مسافة من الاستشراق الذي بدأ منه، غير أنه مع ذلك لم يتخلَّ عن إخلاصه لجذوره الأساسية كمثقف غربي في الوقت الذي التزم به موقفاً نضالياً من العملية الحضارية العربية الحديثة وذلك عبر مشاركته البالغة العمق، وعلى عديد من المستويات، في الجهد الثقافي الضخم الذي دشنه رواد النهضة الأوائل وتتابعه اليوم الطليعة المثقفة في مختلف المناطق العربية.
يكتب: "إن عصرنا يدفعنا إلى أن نولي انتباهنا على وجه التخصيص للمركبات. ثمة مركبان هنا ـ أي المنطقة العربية ـ يجب أن يسترعيا هذا الانتباه: المركب الذي سمح للعربي في القرن الثاني للهجرة بدمج عدد من المواد الثقافية في ذلك العصر، ومن بينها الثقافة الهيلينية، والمركب الذي يجهد أمام أنظارنا لتنسيق عناصر مستمدة من المجتمعات الصناعية"[10].
هذا المركب الجديد الذي بدأ بالتكون وبدأت عناصره بالتفاعل، يدفع إلى مقدمة المشهد الحضاري العالمي الوجه الثاني لما كان يميز تاريخ العلاقة بين العرب والغرب الأوربي. كان الوجه الأول هو العداء الذي ساد مرحلة الاستعمار الغربي؛ أ         ما الوجه الثاني فهو المشاركة والتقارب اللذين قدما ثمراتهما في القرن الثاني للهجرة، ويبدآن اليوم بتقديم ثمرات أخرى عبر التفاعلات العميقة التي تميز المسيرة العربية منذ أكثر من قرن. في هذا الميدان نفسه يمكن أن تتحدد بوضوح ملامح الدور الذي يمكن أن يلعبه مثقف أوربي دفعت به ظروف حياته إلى أن يكون على مقربة مما يتم منه، مع صانعيه  ـ وإن كان من موقع مختلف ـ وأن يقف منه موقف الناقد. ذلك أن الثورة الصناعية التي حققتها أوربا هي، أصلاً، أساس كل التغيرات التي يشهدها العالم في مختلف أرجائه؛ وإذا كانت أوربا، بهذه الثورة وبالاستعمار، مركز العالم في القرون الماضية، فإن التحرر من الاستعمار كان بداية عصر جديد لشعوب حضارية عريقة.
ومن هنا يمكن أن تتضح دلالة رفض بيرك القاطع لأن يعتبر نفسه مستشرقاً[11]، (فالاستشراق هنا يغدو تقييداً آخر لجهد إبداعي يتجاوز بمراحل مجرد كونه اختصاصاً ما!) أو لأن يتخلى في الوقت نفسه عن هويته كفرنسيٍّ أساساً[12].
هذا الموقع المتميز الذي يكاد جاك بيرك أن ينفرد به من بين معظم المثقفين الأوربيين المهتمين بالمنطقة العربية وفرادة مشروعه هما اللذان يتيحان، ربما للمرة الأولى، فرصة إقامة حوار عميق مع العملية الحضارية العربية كما تعبر عن نفسها، يتناول الحاضر والمستقبل، وينطلق من مفهوميْن أساسيين سنتعرض لهما بالتفصيل هما الخصوصية والأصالة. سيكون الطرف الأول في الحوار إذن الثقافة العربية المعاصرة، بوصفها الجانب التعبيري والدلالي لحركية الكلية الاجتماعية، أو إن شئنا للعملية الحضارية التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي؛ أما الطرف الثاني فهو مؤرخ اجتماعي أوربي يستقرئ هذه الثقافة ويعرِّضها لمفاهيم كانت حصيلة تجربة معاشة مزدوجة على شاطئي المتوسط الشمالي والجنوبي.
من الواضح والحالة هذه أن قراءة هذا الحوار النقدي الذي يكرسه كتاب كلمة العرب إلى العالم الجديد يمكن أن تؤدي إلى حوار آخر بل إلى حوارات، خاصة إذا تمت هذه القراءة من الطرف الأول. على أن هذه القراءة الأولى لا تطمح إلى أكثر من استعراض الحوار الأساسي والكشف عن محاوره الرئيسة وتبين عناصره الأساسية. إنها إذن مجرّد خطوة، أو هي تطمح إلى أن تكونها!

**  **  **

كان مشروع هذا الكتاب إذن استقصاء العملية الحضارية الكبرى التي التزمها العرب من خلال جهد هذه العملية في التعبير عن نفسها وبحثها عن دلالتها. إن أتساع هذا المشروع سوف يفرض ـ كما أشرنا في البداية ـ منهجاً يستعين بمختلف الفروع العلمية، وسيستدعي كذلك إطاراً نظرياً يضعه موضع التطبيق، وبناء سيكون من أولى سماته تعدد أصوات يؤالف بينها وحدة الهدف الذي يحرك هذا المشروع وأعني به هذا التساؤل النقدي الذي يضعه بيرك في مقدمة الكتاب: "هل ثمة ثقافة عربية معاصرة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف نعرفها بالنسبة إلى ماضيها وبالنسبة إلى التغيرات الراهنة في العالم؟ وما هي المنظورات العملية والنظرية التي تستخلص من مثل هذا الكشف بالنسبة إلى العرب وبالنسبة إلى الآخرين؟ ثمَّ، بأيّ مقياس يجيب التعبير الذي يعبر به العرب عن أنفسهم على مشكلاتهم ويستخلص قيماً صالحة للجميع؟" (ص. 14).
وللمباشرة في الإجابة عن مجموعة هذه الأسئلة التي تنطوي في الحقيقة على سؤال ذي طابع وجودي، لابدّ من جرد مفصّل وإجمالي لمختلف أوجه الواقع العربي يلح خاصة على الوجه التاريخي وعلى الوجه الاجتماعي ويركز في النتيجة على المفاصل الأساسية التي تبرز بوصفها المحاور المركزية في العملية التي أطلق عليها العرب في أواخر القرن الماضي اسم النهضة، والتي تباينت مع ذلك مسمياتها عندما كانت تقاس  بالغرب الصناعي بين تمدن وعمران وثقافة لكي تستقر في النهاية على "الحضارة" التي يعنيها جاك بيرك بكلمة "الثقافة"، بما أنها ــ حسب تعريفه الخاص ــ حركة الكلية الاجتماعية في جهدها للتعبير عن نفسها وللبحث عن دلالاتها.
والوسائل إلى تحقيق هذال الجرد متعددة: الوصف المباشر، والشهادة الشخصية، والوثيقة التاريخية، واللقاءات الإنسانية. بمثل هذه الوسائل تتم قراءة المشاهد العمرانية في مختلف المدن العربية: القاهرة والجزائر، بغداد وفاس، وكذلك قراءة الصحف العربية، بوصف الصحيفة مقطعاً من الومن ومفصلاً من مفاصل المدينة الحديثة، لاستخلاص طبيعة الإشكالية العربية الراهنة التي تتوزع على قطبين رئيسيين: قطب التطوير التقني والتحولات الاجتماعية التي تعبر عنه وقطب نشاط المجموعات الأخرى التي يمكن أن نصفها بالمجموعات الثقافية، أي الخصائص المادية من جهة والرموز الجمعية من جهة أخرى وبينهما العنصر الذي يشترك به القطبان على التساوي، ونعني به عنصر اللغة.
يكشف بيرك عن أن بين هذين القطبيْن شقاقاً خطيراً يؤزم الغرب مثلما يؤزم العرب. "غير أن العرب يزيدون من خطورته بالتضاد الممزق بين عظمة التراث الكلاسيكي وبؤس الحاضر، بين الإسلام بوصفه حافظاً للكلي وبين الاتجاه المتقدم نحو العلمانية".
فهل يتناقض القطبان في الأساس؟ وهل يمكن للعرب أن يحافظوا على هويتهم مع سعيهم لتحقيق الثورة الصناعية في مجتمعاتهم؟
إن القول بالتناقض  ينطلق من فرضية إشراط أحد أبعاد الحياة الاجتماعية (الاقتصاد أو التكنولوجيا) للأبعاد الأخرى. وبذلك فإننا سنواجه في واقع اجتماعي كالواقع العربي دلالات متمايزة ولغات مختلفة: لغة العصر الناعي ولغة الهوية. بيد أن بيرك يرفض هذه الثنائية: فالحركية الاجتماعية لا تصدر عن التقنية كما أنها ليست انعكاساً لها، والهوية لا تنكر التكنولوجيا مثلما أن التكنولوجيا لا تنكر الهوية، لا بل إن جماعهما هو الحداثة. فما السبب إذن في وجود تفاوت يصل حدَّ الخطورة أحياناً بين مختلف الأبعاد، وما هي دلالة هذا الاختلاف؟ وبعبارة أخرىكيف يمكن تفسير هذه الهوة القائمة بين قطب التطور التقني وقطب الهوية الجماعية، وكيف يمكن ردمها؟
إن لبيرك إجابة تختلف، من وجوه عديدة، عن مختلف الإجابات التي قدمت عن هذه التساؤلات: فإذا كان النمو الصناعي يشرط استجابة العرب لإيقاعات العصر، فإن هذه الاستجابة تظل خاصة بالعرب. وإذا كان ثمة تفاوت في مستوى مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية فإن هذا التفاوت لا يعكس فشلاً وإنما اختلالاً هو من طبيعة الأشياء يمكن تجاوزه بجعله هو ذاته محركاً لتطوير العلاقة بين الأبعاد المختلفة. "فلكي يبقى العرب مثلاً أنفسهم مع وصولهم إلى العالم الصناعي الذي يحاصرهم من الخارج ويستثمرهم من الداخل فإنه لابد من جعل الأبعاد الأخرى تتحرك وفق إيقاع التنمية المادية ذاتها. أي لابد للإبداعية من أن تتعدد وتتحقق في مختلف الأبعاد على مستوى تحققها في البعد التكنولوجي".
تثير هذه الإجابة ولاشك عدداً من التسؤلات تتناول مفاهيم لابد من توضيحها وخاصة مفاهيم الخصوصية والهوية الجماعية والأبعاد المتعددة للحركية الاجتماعية والعلاقات بينها، تلك التي يمكن اعتبارها مفاتيح أساسية لفهم التحليلات التي يقوم بها بيرك. لذلك سوف نتوقف قليلاً عن الأساس النظري الذي تنطلق منه هذه الإجابة والذي تضعه موضع التطبيق فصول عديدة من الكتاب موضوع هذا البحث، ونعني به نظرية بيرك في تعدد منطق التقدم.
يرى بيرك أن التناقضات التي يعاني منها العصر الصناعي ترجع كلها إلى "ما طرأ على المجموعات الطبيعية أو الاجتماعية من عجز في التوازن نتيجة لنموِّ عامل واحد نمواً من طرف واحد هو عامل التكنولوجيا"[13]. هذا العامل قد أدى كذلك إلى صياغة فكرة عن التقدم لابدّ من إخضاعها الآن، نتيجة عجز التوازن الذي سبب التناقضات، إلى نقد جذري.
لقد طابق العالم المحكوم بالتكنولوجيا بين هذه الأخيرة وبين فكرة التقدم مهملاً بذلك أبعاد الحركة الاجتماعية الأخرى إهمالاً فاضحاً. إننا نلاحظ على سبيل المثال أن قسماً محدوداً من الثقافات والشعوب، هي على وجه التحديد الثقافات والشعوب الغربية، تمتلك هذه التكنولوجيا وتستفيد منها، الأمر الذي يؤدي على مستوى العالم كله إلى حالة من اللامساواة والشقاق والاضطراب تبدو آثارها في القلق الذي بات يميز الشخصية الجماعية ويمكن أن يؤدي إلى تشويهها. "صحيح أنه قد تحقق بعض التقدم، غير أنه إذا كان التقدم يعني التكنولوجيا، فهل يعني ذلك أن تعمل المجتمعات كلها لحساب الغرب؟ ذلك هو إحراج الإنسان المعاصر، ولا بد من إيجاد الوسائل النظرية والعملية لتلافيه. هذه الوسائل يمكن أن تستخلص من فرضية تنطلق أساساً من عدم المطابقة بين التكنولوجيا وفكرة التقدم ذات الطابع الشمولي من ناحية، أي اعتبار العتبة الحالية من التطور التكنولوجي لا تشكل حضارة بالمعنى الشمولي للكلمة، وإنما يمكن أن تؤدي إلى حضارة عالمية حقيقية من ناحية أخرى، شريطة قيام تناظرات متعددة بين تحرر الشخصية الفردية والتحرر الاجتماعي وتحرر الهويات الجماعية، وذلك بأن يأخذ على عاتقه الاعتراف بتعدد الهويات الجماعية، أي بالتعدد الثقافي، أي الخصوصيات الثقافية.
كيف يمكن استخلاص هذه التناظرات؟
بالكف عن مختلف التقييدات (De - réduction) التي قيدت الإنسان تارة بوصفه منتجاً وتارة بوصفه مواطناً دون أن تأخذ بعين الاعتبار كونه كائناً كلياً وكون الثورة التي يفجرها ظاهرة اجتماعية كلية. الأمر الذي سيؤدي إلى تجاوز الاتجاهات الثنائية أو الدرجية التي تجعل من بعد من الأبعاد أو المقولات أو القطاعات في الحياة قاعدة تتموضع عليها وتتحدد تبعاً لها الأبعاد الأخرى. فالحركية الاجتماعية لا يمكن أن تقيَّدَ ببنى فوقية وببنى تحتية كما هو الأمر في الماركسية، أو بالهو ـ الأنا ـ الأنا الأعلى كما هو الأمر في الفرويدية. ذلك أنها ذات أبعاد متعددة تنطلق من قاعدة لا تشكل بعداً وإنما أساساً.
سيكون الرسم التخطيطي إذن لهذه الحركة عبارة عن رسم شعاعي يسجل ازدهار مختلف الأبعاد أو المقولات لحياة مجتمع ما. وسيكون "رسماً بنائياً، لكنه أيضاً تطوري من حيث إنه يسجل الاختلاف التدريجي لفعاليات الجماعة البدائية. وهو أيضاً تاريخي، لأنه يصور الازدهار المباشر لهذه المجتمعات منذ القرن التاسع عشر حيث تلتقي الثورة البورجوازية وأول ثورة صناعية. وهو كذلك تجريبي، بما أن كل ممارسة حالية تميز على الأقل جزئياً بوصفها قطاعاً أو بعداً أو منظومة أو مقولة في الحياة الاجتماعية"[14].
ماهي هذه القاعدة؟ وما هي هذه الأبعاد؟
القاعدة هي بطبيعة الحال: الطبيعة (وبيرك يتبنى المعنى الذي يضفيه ماركس على هذه الكلمة كلياً). أما الأبعاد فمن الممكن أن تكون لامحدودة: بعد التكنولوجيا والجماليات والمقدسات والنشاط الحر...إلخ.
يتحقق التقدم، على المستوى النظري، بتقارب مستوى الأبعاد المختلفة جميعاً بوصفها تنطلق كلها من قاعدة واحدة. إن تعددية هذه الأبعاد يمكن أن تلاحظ بوضوح على مستوى الحياة اليومية، أما على مستوى العلاقات فإننا إزاء نوعين منها: علاقات كل واحد من هذه الأبعاد مع القاعدة من جهة والعلاقات التبادلية بين مختلف الأبعاد من جهة أخرى. غير أنه بإضافة المجموع الاجتماعي يمكننا إضافة نوع آخر من العلاقات ونعني به علاقة هذا المجموع بتجربته المعاشة.
إذا حاولنا إذن تعديل هذا الرسم التخطيطي الشعاعي في ضوء التطور التاريخي الموضوعي لواقع ما لكان علينا أن نحدّ فيه من بعض الأبعاد، في حين نترك بعداً أو أكثر يصل إلى أقصى نقطة في الرسم وذلك حسب المرحلة التاريخية التي نعمل على تحليلها (والخطوط الأفقية في الرسم تشير إلى مختلف المراحل التاريخية). سنلاحظ مثلاً بصدد المجتمعات الصناعية أن ثمة قفزة هائلة يسجلها البعد التكنولوجي منذ القرن التاسع عشر، في حين أن الأبعاد المورفولوجية التنظيمية أو المعيارية لا تكاد تقارن به. سيعكس الرسم التخطيطي إذن في هذه الحالة نوعاً من اللاتناسق والشقاق، هو ما نراه في الواقع عجزاً في التوازن وتناقضات تسم العصر الصناعي. فهل نتحدث إذن عن "تقدم" أو عن "التقدم"؟
يشير بيرك إلى أن قفزة البعد التكنولوجي قد سجلت تقدماً هائلاً. غير أن اعتبار هذه القفزة هي "التقدم" يرجع إلى أن العالم الذي تحكمه التكنولوجيا قد صاغ لنفسه فكرة عن التقدم من وجهة نظره هو؛ إلا أن هذه الفكرة تعاني من سوء السمعة نظراً لفقدان التوازن ولاستحكام اللاتناسق وسيطرة الخيبة والإحباط على الشخصية الفردية والجماعية. والوصول إلى تحقيق توازن نسبي لا يمكن أن يتم إلا مع أخذ الأبعاد الأخرى بعين الاعتبار. صحيح أنها مشروطة بالبعد الأكثر حركية، ونعني به البعد التكنولوجي، إلا أن هذا الإشراط لا يتناول المضمون الخاص لكلٍّ منها وإنما يرتبط بإيقاع حركيتها، بمعنى "إجبار الأبعاد الأخرى على أن تزدهر وفق نفس الحيوية والحركية التي تميز البعد الأكثر تسارعاً في هذا المجتمع، أي بالنسبة إلى عصرنا، التكنولوجيا. بيد أن ازدهار هذه الحركية في الأبعاد الأخرى سوف يتم بطريقة خاصة بكل بعد على حدة. إن تقدم التقنية على سبيل المثال ليس ذا طبيعة  تؤدي إلى القضاء بعد أجل طويل أو قصير على الاعتقاد الديني كما ظن بعض الوضعيين في فرنسا في القرن التاسع عشر وكثير منهم اليوم، وإنما سيرغم الاعتقاد الديني على أن يتلبس بطريقته الخاصة أساليب متجددة وأشكالاً متجددة لا تفعل في الواقع أكثر من أن تعكس التسارعات التاريخية لعصرنا"[15].
منذئذ، يغدو الديالكتيك تعددياً، ويتحقق على مستوى مختلف الأبعاد في علاقتها التبادلية فيما بينها، وفي علاقتها مع القاعدة التي تنطلق منها. وبقدر ما يحقق المجتمع إبداعية على مستوى مختلف الأبعاد، تقترب في إيقاعها من إيقاع إبداعيته في البعد الأكثر تقدماً، بقدر ما يتحقق هذا الديالكتيك التعددي في أفضل صوره، بحيث يبلغ المجتمع شدة إبداعية عامة وتوازناً نسبياً بين مختلف فعالياته[16]. بذلك يمكن أن نلاحظ إلى أي حدٍّ يبدو كلٌّ من مصطلحيْ التقدم والتخلف مصطلحاً نسبياً وقاصراً، في واقع المجتمعات المختلفة في عصرنا، عن التعبير عن حالة كلٍّ منها.
لقد أشرنا إلى أنه لا يمكن قيام حضارة عالمية حقيقية إلا إذا أخذ التعدد الثقافي بعين الاعتبار. ويتيح لنا تعدد منطق التقدم أن نصل إلى أساس هذا التعدد في الهويات الجماعية أو الثقافات ونعني به مفهوم الخصوصية. يكتب بيرك: "إن خصوم الخصوصية الذين يعتقدون بضرورة فرض نمط من أنماط الرب الليبرالي أو الغرب الاشتراكي على الكرة الأرضية كلها يطابقون بين الخصوصية والمحافظة... بيد أن كل مجتمع يريد أن يصل إلى العالمية الإنسانية أو التاريخية لا يمكن أن يصل إلا انطلاقاً من مواقعه ومن نفسه. فما هي هذه الخصوصية؟ إنها معادلة، علاقة خاصة بالمجموع المنظور إليه، بين علاقات أبعاده فيما بينها من ناحية وفيما بينه وبين قاعدته من ناحية ثانية، وبينه وبين تجربته المعاشة الجمعية من جهة ثالثة. وكل من يتمكن من وصف العلاقة بين هذه الأشياء الثلاثة يقدم بياناً عن الخصوصية في مجموع اجتماعي."[17]. هذا يعني أن الخصوصية لا تقوم على مضمون موضوعي ثابت، وإنما تقوم على علاقة تميز منظومة ما عن غيرها. لقد استمرت اللغة الفارسية مثلاً في الوجود على الرغم من أن الكلمات العربية تصل لدى بعض كتابها حتى نسبة 60%. ذلك أن اللغة لا تقوم على كلمات وإنما على علاقات أي على منظومة، يعني استمرارها استمرار المجتمع الذي تنتمي إليه. أما الأصالة فلن تعني، انطلاقاً مما سبق، مقاومة التقنية باسم تراث عريق، أي لن تقوم على نفي التطور المادي باسم الهوية الجماعية، كما أنها، بالمقابل، لن تنتفي في حال تحقيق التطور المادي، وإنما ستعني ببساطة الرجوع إلى القواعد. لقد قلنا إن العلاقة مع القواعد هي جزء من كلٍّ يكون خصوصية مجتمع ما. لكن ما الذي نعنيه بقاعدة مجموع اجتماعي محدد؟ إنها "أكثر مستويات تشابكه مع دعامته الطبيعية مباشرة. على أن القول  بالبيئة يستدعي أيضاً إدخال ماضي المجتمع، بل وحتى ماضيه الأكثر ابتعاداً في الحساب، فضلاً عن أن العلاقة مع الذات الأخرى، تعتبر كذلك جزءاً من هذه القاعدة"[18].
إن النظر إلى الأصالة من حيث هي العلاقة مع القواعد، والنظر إلى القواعد على النحو المشار إليه، يؤدي بنا إلى تعريف للطبقات الاجتماعية يوسع تعريفها السوسيولوجي بجعله تعريفاً أنتروبولوجياً: "فالطبقات الاجتماعية لا يجب أن تفسر ببساطة بالنسبة للمجتمع أو بالنسبة لعلاقات الإنتاج بوجه خاص وإنما يجب أن تفسر بالعلاقة مع علاقات أكثر اتساعاً لهذا المجتمع مع الطبيعة"[19]: "فأكثر الناس استغراقاً في التشابك مع الطبيعة هم الفلاحون الذين يحرثون الأرض، والعمال الذين يحرثون ـ إذا جاز التعبير ـ المادة. أما المثقفون والفنانون فإنهم يقترحون على المجتمع علاقات بين تجربته المعاشة وبين أصوله"[20].
 
**  **  **

في ضوء هذا العرض الموجز لنظرية تعدد منطق تقدم الحركية الاجتماعية يمكن الآن أن نستعيد السؤال الأساس الذي سيكون محور الكتاب ونعني به التساؤل عن وجود ثقافة عربية معاصرة. وسيكون بوسعنا منذ الآن أن نرى مشروع الإجابة: فانطلاقاً من اعتبار الثقافة حركة الكلية الاجتماعية في جهدها للتعبير عن نفسها وللبحث عن دلالاتها، سيتركز البحث حول مختلف أبعاد هذه الحركة في المجتمع العربي الشامل، في مستوياتها بالعلاقة مع البعد الأكثر انطلاقاً في عصرنا ونعني به البعد التكنولوجي الذي يفرض إيقاعه بقوة؛ وفي علاقاتها مع القاعدة الأساسية للمجتمع العربي، أي في مقدار أصالتها وما تعنيه أيضاً هذه القاعدة من ماض ثقافي وتاريخي؛ ثن في مستوى التعبير عن هذه الحركة جمالياً: في الشعر أو في القصة أو في الرواية أو في المسرح أو في السينما.
وسيتم رصد مختلف أنواع التفاوت والخلل في مستويات هذه الأبعاد وفي علاقاتها فيما بينها. وبإيجاز سيتم البحث عن الإبداعية في تحققها في مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية، ومستوى هذه الإبداعية بالمقارنة مع تسارعات عصرنا الأساسية.
يبدأ بيرك من العنصر المشترك بين القطبين اللذين تكشف المشاهد العمرانية في المدن العربية من تعارضهما ونعني به اللغة. على أن النظر إلى اللغة العربية يجب أن يتم ضمن "إطار مجموع التطورات اللغوية التي يشهدها العالم منذ قرن ونصف"[21]. وفي هذا المجال يقدم العالم اللغوي رومان جاكوبسون فرضية بالغة الأهمية تتناول هذه التطورات وردت في مقال شهير له "ماهو الشعر؟"[22] ويستعيدها بيرك في بداية بحثه : يلاحظ جاكوبسون "أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان عصر تضخم مفاجئ في الدلالات اللغوية. وقد جهدت أكثر التظاهرات الثقافية نمطية في هذه الحقبة لكي تخفي بأي ثمن هذا التضخم اللفظي ولكي تزيد بكل الوسائل الثقة بالكلمة، كلمة الورق هذه: وضعية وواقعية ساذجة في الفلسفة، ليبرالية في السياسة، اتجاه نحوي في علم اللغة، خداعية مهدهدة في الأدب وعلى المسرح؛ وأياً كان المقصود هنا: سواء أكان الأمر مجر إيحاء طبيعي ساذج أو إيحاء انحطاطي أو أحادي تصوري أو مناهج ذرية لعلم الأدب (وللعلم بشكل عام في واقع الأمر)، فقد ثبت، بفعل مختلف هذه الوسائل، رصيد الكلمة وتعزز الإيمان بقيمتها الحقيقية".
على أنه بدون تحديد العمليات التي أدت إلى هذا التضخم، فإن هذه الفرضية تظل ناقصة. ولذلك فإن بيرك يستدعي معطيات علم الاجتماع التاريخي لإتمامها من هذه الناحية.
فلم يكن التضخم اللفظي ظاهرة معزولة ولا يمكن له أن يكون كذلك. ولوضع هذه الظاهرة في إطارها الاجتماعي التاريخي المناسب لابد من العودة إلى جذور كل التسارعات التي شهدها ذلك العصر، ونعني بها الثورة الصناعية. فقد كان التوسع غير المحدود في المضمون المادي والاقتصادي والتقني للمجتمعات الغربية نتيجة لتقد التكنولوجيا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يكن توسع الكلمة سوى أحد الانتظامات (Régularité) التي حاولت هذه المجتمعات تحقيقها آنذاك بصيغ بالغة الاختلاف والتنوع. على أن الثورة البورجوازية والتغير الأسلوبي الذي يطابق هو نفسه تغيراً في المخيلة وفي الذوق تعتبر انتظامات أخرى. وكان البحث عن توازن أبعاد الحركية الاجتماعية الأخرى مع البعد التكنولوجي يتم تحت وطأة الاختلال؛ بيد أن التوازن المنشود لن يتحقق، وسينشر اختلال الأبعاد المختلفة للفرد وللمجتمع شعور عدم الرضا الذي لن يجد متنفسه الوحيد إلا عبر الأدب والموسيقى والرسم، وهو ما عرف بالموجة الرومانتيكية.  بيد أن إبداعية الرومانتيكيين التي كانت خليقة بتحقيق توازن مع الخصائص المادية للعصر كان من صنع نخبة بعيدة عن الجماهير، (فتوحد العبقرية سيتعرف نفسه رومانتيكياً)، ولم يكن ثمة مقابل مورفولوجي للتحولات الهائلة سوى قناع الكلمات التي كانت تزيد من خطورة الاختلال بمحاولتها إخفاءه. ذلك أن التوازن والانتظام لا يمكن أن يتحقق إلا بثورة تبلغ من العمق عمق ما وصل إليه البعد التكنولوجي الذي كان يمضي قدماً. ومن هنا إذا كان رومان جاكوبسون يحدد منتصف القرن التاسع عشر كلحظة انطلاق ظاهرة التضخم اللفظي، فإن بيرك يشير كذلك إلى أن هذه اللحظة كانت أيضاً لحظة صدور البيان الشيوعي.
وهي تشكل أيضاً في تاريخ المجتمعات الغربية حداً فاصلاً بين مرحلتين: الانحطاط الذي كان ينتهي والنهضة التي كانت تبدأ. ولفهم ما كان يحدث على مستوى الظاهرة اللغوية العربية آنذاك لابد أيضاً من العودة إلى الجذر، إلى الثورة الصناعية، بيد أننا سنكون هنا إزاء فارق أساسي: ففي حين كانت اللغة أو اللغات الأوربية تحاول أن تحقق توازناً مع البعد التكنولوجي ضمن دائرة تاريخية واجتماعية محددة، فإن التوازن الذي ستسعى إليه المجتمعات العربية كان يختلف كلياً: فالبعد التكنولوجي فيها لا يزيد في تقدمه عن الأبعاد الأخرى، وهو لذلك ليس توازناً بين أبعاد حركية واحدة، وإنما هو توازن حركية مع حركية أخرى، لابل مع أهم أبعاد هذه الحركية الأخرى وأكثرها تسارعاً وهو البعد التكنولوجي. ومن هنا، فإن التقدم كان يستقبل باعتباره ضياعاً، أما اللغة فقد قدمت أيضاً موازياً للجهد التعويضي الذي تمثل في ظاهرة التضخم اللفظي في أوربا مع فارقين يستمدان أصولهما من الاختلاف المشار إليه: "فاللغة العربية كانت تصطدم ببيان قديم كرسه نموذج يستحيل تجاوزه هو القرآن من جهة، وكان عليها، من جهة أخرى، أن تستعير معظم مضامين الآخر الجديدة. وسيبقى الفحوى الحقيقي للكلمة العربية كامناً لأمد طويل في جهد القائل كيما يتكيف مع العالم الحديث مع محافظته فيه على هويته أكثر من كمونه فيما تشير إليه أو تعنيه"[23].
كانت المشكلة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر بالنسبة للمجتمعات العربية تتركز في ما إذا كان بوسع هذه المجتمعات أن تكون خلاقة ومبدعة على مختلف المستويات. ذلك أن الفصاحة تظل شيئاً آخر يختلف اختلافاً كلياً عن إبداع أعمال تليق بمستوى عظمة الماضي العريق. وكانت أكثر الأعمال الأدبية لا تزيد عن كونها تقليداً لهذا الماضي بحيث كان ثمة مبرر لليأس من إمكان إنجاز تعبير حديث.
لكن الإمكانات لم تكن تنقص اللغة العربية. وكان لابد من انتظار حركية الأبعاد الأخرى في المجتمع لكي تواجه تحدي "الآخر" المتمثل في الغرب، حركية بدأت قبل الحرب العالمية الأولى، كما تتبدى هذه المواجهة في الخطب الدينية مع الشيخ محمد عبده، والخطبة السياسية مع مصطفى كامل، ولغة الصحافة التي أخذت بالتطور، وكيما تتجلى كذلك في أعمال أدبية لئن لم ترتفع إلى مستوى الروائع الكلاسيكية  فإنها تكرس مع ذلك قابلية هذه اللغة على التجدد، وتعدّ لقفزة في العملية الحضارية الجديدة التي بدأت قبل ذلك بنحو نصف قرن، ونعني بها النهضة.
ومع ذلك فقد كان لابد من أن يتحرك البعد التكنولوجي لكي تتم القفزة الحقيقية في اللغة: "كان على العالم العربي أن ينتظر الثلاثينيات لكي يبدأ جهده التصنيعي"[24]. وهو جهد لن يتوقف بعد ذلك؛ آنذاك، سيضع طلعت حرب العمل الاقتصادي والعمل اللغوي على خطين متوازييْن: (لابد من أن تكون اللغة العربية لغة المصارف أيضاً)، وسيكون بوسعنا أن نميز عدداً من الملامح الأساسية التي تعكس محاولة اللغة العربية تكوين انتظام يتوازن مع تجدد أبعاد الحركية الاجتماعية: "تقدم في مجال التعبير عن التقنية، ومحاولة للتقريب بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية عبر هذه اللغة الثالثة أو اللغة الوسطى التي تؤلف اليوم لغة الصحافة والإذاعة. ذلك أنه كان لابد للغة من أن تكون قادرة على نقل التجارب الحديثة وأن تخضع للتجدد المستمر في الحياة"[25]. بيد أن اللغة الوسطى لم تكن وليست في نظر عديد من المثقفين العرب الوسيلة الوحيدة لتطوير اللغة. لقد كان طه حسين يعمل مثلاً على تحقيق أسلوب يستعيد عبره العبقرية الكلاسيكية لكاتب كالجاحظ لاستنباتها من مفاهيم جديدة. وعلى النقيض من هذه المحاولة، كان ثمة محاولة تتطور ببطء ولكن بثبات: اللهجات العامية، وهي أخطر ما يهدد الإبداعية العربية.
ومهما يكن من أمر، فإن جهد اللغة قد بدا أكثر فاعلية من غيره، فانعكس تقدمها في انكماشها الذي يجعلها تبدوملتصقة أكثر فأكثر لا بالواقع فحسب، بل بواقعها نفسه الذي هو رهانها الخاص. لقد بات واضحاً اليوم أن اللغة العربية تعالج أكثر المشكلات المعاصرة دقة وتعقيداً.

**  **  **

لكن لتطوير اللغة وجهاً آخر، لعله أهم وجوهها، ونعني به مشكلة التعريب. بيد أن بيرك يطرح هذه المشكلة ضمن إطار آخر غير إطار اللغة الذي انطلق منه، باعتبارها ترتبط في الحقيقة بواقعة بارزة في التاريخ العربي المعاصر: واقعة الوحدة والتعدد.
على المستوى التاريخي، تبدو هذه الواقعة بجلاء في حقيقتين بارزتين: فهناك من جهة عالم عربي واحد إذا نظر إليه من خلال تراثه ولغته ومثله وتضامن أجزائه، وهناك من جهة مقابلة عالم عربي متعدد إذا نظر إليه من خلال الاختلافات الاجتماعية.
على المستوى الثقافي/التاريخي، هناك أيضاً الثقافة الشاملة الواحدة والثقافات المحلية أو الفرعية (sous-culture).
وعلى مستوى الثقافة الواحدة، هناك اللغة الواحدة من ناحية، والتعددية اللغوية (hétérophonie) من ناحية أخرى: ترتبط مشكلة التعريب بالأولى، ويرتبط تحقيق التقدم والحداثة بالأخرى.
وعلى مختلف المستويات يقدم بيرك بياناً من الوقائع وتحليلاً يردي إلى صياغة أسئلة حاسمة: علاقة المغرب بالمشرق: على أي مستوى من تصنيف الجماعات يريد المغرب أن يضع نفسه بالعلاقة مع بقية العالم العربي: المجتمعات الشاملة أم الجزئية الشاملة أم الشاملة كلياً؟؛ والوحدة ىالعربية: إن بوسع هذه الوحدة أن تتحقق، بل لابد من تحقيقها، ولكن لابد من عدم المطابقة بين الحلم والواقع، ولابد من التساؤل والإجابة فعلياً وواقعياً عن هذا التساؤل: ما الوحدوي على مستوى الواقع في العالم العربي وما المتعدد؟، والتعريب: مشكلة ذات وجهين، وجه يتعلق بجهد التحرر من آثار المرحلة الاستعمارية ويتجلى بوجه خاص في المغرب العربي، وآخر يتعلق بالحداثة ويتناول العالم العربي ككل. غير أن المشكلة في وجهيها لابد من أن تطرح في نظر بيرك بمصطلحات بناء إبداعية عربية باللغة العربية[26]، وهي مشكلة لا تطرح إلا بالعلاقة الحميمة والواقعية مع حركة العالم، وهذا يعني أن يصاحب تعريب الكلمة شرطياً تحديث المجتمعات العربية. أما فيما يتعلق بالوجه الأول قيلاحظ بيرك أن التعريب يدب ألا يعني الاقتصار في مجال التعليم على اللغة الأم. فالتعددية اللغوية يمكن أن تحقق نتائج بالغة الأهمية، بحيث لن تلبث أن تفرض نفسها على المجتمعات الغربية نفسها: فاللغة الأم تحافظ في وعي الطفل على القواعد العميقة وتضمن استمرار الهوية وتحقق جدليته الطبيعة والثقافة التي لا تنتهي، في حين تؤدي اللغةالثانية وظائف محددة لها مسبقاً. وستتيح الفوارق بين اللغات السامية والهندوـ أوربية إمكان الحصول على تراكيب خصبة كتلك التي حفل بها في العصور الكلاسيكية نثر البيروني وابن المقفع.
ذلك لن يعني بطبيعة الحال إنكاراً لاختلاف الثقافات، "فمن حق الثقافة العربية أن تطالب بحقها في الاختلاف".
على أن تعليم اللغات ليس إلا جزءاً من التعليم بوجه عام. ويخصص بيرك لهذا المجال فصلاً كاملاً يستعرض في قسم منه سيرة واحد من كبار المثقفين العرب، ونعني به طه حسين، الذي يجد بيرك في حياته وفي أعماله وفي مسيرته نموذجاً يرتبط عضوياً بالمسيرة الثقافية العربية منذ الربع الأول من القرن العشرين. ومن أعمال طه حسين، وبشكل خاص كتابه البالغ الأهمية "مستقبل الثقافة في مصر" ـ 1944 ـ يكشف بيرك عن مختلف التطورات التي يقدمها العرب عن التربية والتعليم، منتقلاً  إلى كتاب جميل صليبا "مستقبل التربية في الشرق العربي" ـ 1962 ـ، ومختتماً بمناقشة كتاب عبد اللع عبد الدايم "التخطيط التربوي" ـ 1966 ـ .

**  **  **

لئن كانت اللغة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر قد حاولت بجهد تعويضي في البداية ما لبث فيما بعد أن استحال جهداً إبداعياً، أن تؤسس عملية النهضة الحضارية، فإن الثوريين العرب بالمقابل كانوا "قد اكتشفوا أن التقدم إما أن يكون شاملاً أو لا يكون، زحطموا، بالإنجازات المباشرة، كل الصيغ الاستعمارية القديمة التي تحدثت عن استحالة التصنيع بسبب القدرية أو العجز". "لقد غدا المصنع من صميم مشهد الحياة العربية"، ومع ذلك، فإن من الممكن التساؤل: إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار المصانع الجاهزة التي تتزايد في المنطقة العربية محققة لتطور فعلي؟  من المؤكد ـ يقول بيرك ـ أنها تقاس بالخدمات التي تؤديها، وبالدلالات الجديدة التي تستثيرها في مجمل الحركية الاجتماعية: بالقيم المصافة إلى الإنتاج الوطني، وبما تعكسه لدى المواطن العربي من انتهاج التصنيع، وبالشروط التي توفرها لتطوير طبقة عاملة وقطاع نقابي... كل ذلك يرسم للمستقبل نموذذجاً إنسانياً جديداً. المصنع.. بل وكذلك الثقافة الاقتصادية والثقافة السياسية، ذلك أنها تعكس اليوم كلها صورة عن تبادل وتطور مختلف أنماط الحركية الاجتماعية الذي هو معيار التقدم الحقيقي.
لكن السؤال ما يزال مطروحاً. فالإبداعية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يعاد صنع الآلة المستوردة وبناء المعمل قطعة قطعة بأيد وطنية، وإلا عندما يصنع المجتمع من الآلات ما يكفي كيلا يتوقف في جهده من أجل التجديد على الأجنبي.
هذه الإبداعية، هل يعجز العرب عن تحقيقها؟
يكتب بيرك بإيمان، ولكن بمرارة أيضاً: ليست المعلومات هي ما ينقص العرب، لا ولا الاستعدادات أو الشخصيات. إن الصحف العربية تشير مثلاً إلى الدكتور مشرفة في مصر، وإلى آخرين، ولكن ماعدد الشخصيات التي يشار إليها والتي تمارس فعالياتها الخلاقة ومبادهاتها الصناعية أو الأكاديمية في البلاد الأجنبية ومن أجل هذه البلاد الأجنبية؟..
"لكن ذلك في نهاية الأمر نتيجة خطـأكم! [27]
ــ أشك في ذلك.
ــ إن تكوينكم إياهم قد جعل منهم منفيين بالقوة. لقد فصلتهم شهاداتهم عن بلادهم.
ــ أو أنها جعلت منهم سفراء أو وزراء بدلاً من أن تجعل منهم بحاثين أو أطباء محليين..
ــ كان ذلك عملاً شنيعاً.
ــ ولكنه مشروع ناجح. ففي القرى المغربية اليوم يستبدل الطبيب الفرنسي بأطباء بلغار أو صينيين في حين يفتح الطبيب المغربي عيادة خاصة فخمة.
ــ إنك تبالغ.
ــ أبالغ! لنتابع مغ ذلك البحث عن المسؤولين عن ضرر تصريف حملة الشهادات.
ــ إنهم منفيون بالقوة. لقد حططتم من عزائمهم. وكان طبيعياً أن تستعيدوهم إلى سوقكم العالمي الشهير،  وأن تستردوا منهم أكثر مما صرفتم عليهم من منح وأساتذة وأدوات و...، ومع ذلك فإن المواطنين الصالحين يبقون في أعمالهم.
ــ أتراك ستقول لي، بناء على ذلك أن بلادك قد خصصت لهم مكاناً ومنحتهم الفرصة لكي يحققوا ذواتهم ويعملوا ويتكلموا؟
ــ لن أذهب بعيداً، لكنه خطأهم بعد كل شيء.
ــ إنني أشك في ذلك أيضاً.
ــ إنهم مثقفون معزولون عن الجماهير.
ــ في حين أنكم أنتم، الشعب.. أليس كذلك؟
ــ أنت وأنا، يمكن أن نتفق على شيء واحد على الأقل...
ــ نعم: على ضرورة القيام بترحيل الثقافة وتكوين المثقفين إلى الوطن...
ــ وماذا أيضاً؟
ــ على ضرورة أن نتخلى عن هذه الطريقة في التربية التي لا تقوم إلا على الإغراءات والرشوات.
ــ وماذا أيضاً؟
ــ هذه تعنيكم الآن، أنتم على الأقل.
ــ ما هي إذن؟
ــ حرية التعبير بالنسبة إلى مثقفيكم، دون أن نتحدث عن الحريات الأخرى!
ــ ها..ها...الحريات البورجوازية!
ــ إن على الحرية الاشتراكية أن تزيد منها لا أن ترجع القهقرى وراء تلك الحريات.. بدون ذلك فإن الخروج سيستمر..
ــ لقد أسسنا "سمة الخروج".
ــ من تعني بضمير "نا" في أسسنا؟

**  **  **

لقد تركز القسم الأول من كتاب بيرك، الذي حاولنا إبراز محاوره الأساسية، على تحديد ملامح الثقافة العربية المعاصرة في علاقتها مع نفسها وفي علاقتها مع ثقافة عالمية تنتمي إلى العصر الحديث. أما في القسم الثاني، فإنه ينتقل إلى مشروع آخر يبدو للوهلة الأولى وكأنه لا يمتّ إلى الأول بصلة، لكنه يرتبط به في الحقيقة برباط عضوي: علاقة هذه الثقافة بماضيها الخاص.
ولكي يبرز إلى العيان ملامح هذه العلاقة، فإنه يدعو قارئه إلى القيام معه برحلة في الزمان وفي المكان! سيمضي في الزمان إلى العصر الجاهلي ثم إلى عصر القرآن، وفي المكان سيحط  رحاله في أرض الجزيرة العربية: أرض اليوم وأرض الأمس وسيقتفي، في النصف الثاني من القرن العشرين، آثار امرئ القيس.
هل هي عودة إلى الاستشراق؟
نعم ولا!
نعم، من حيث إن الاقتراب من الشعر الجاهلي ومن القرآن يتطلب اختصاصاً ومنهجاً خصوصياً ما يزالان، بالنسبة إلى المثقفين الغربيين، وقفاً على الاستشراق.
ولا، من حيث إن الاقتراب الذي يقوم به بيرك ينطلق من الاستشراق لكي يتجاوزه ويفيض عنه. ذلك أن موضوع هذا الاقتراب ليس الشعر العربي الكلاسيكي والقرآن في ذاتهما، وإنما بوصفهما مرجعين أساسيين للثقافة العربية المعاصرة، أي، العلاقة بينهما وبين هذه الثقافة.
ولا أيضاً، من حيث إن اختيار الجزيرة العربية مكاناً لهذه الرحلة يحمل أكثر من دلالة: فهذه المنطقة من العالم العربي، التي كانت مهد الحضارة العربية الكلاسيكية، تقع الآن في منطقة بين الماضي والحاضر، بين الخام والمصنوع. وبسبب هذا الموقع فهي تبدو أكثر المناطق العربية صلاحية لدراسة ميدانية للعملية الحضارية الراهنة، أو، بتعبير أدق، لأساس هذه العملية. فهنا، يمكن استكشاف الكيفية التي تتم بها معادلة تأنيس الطبيعة وتطبيع الإنسان، المعيار الحقيقي، منذ الآن، لكل أصالة.
ولتحقيق هذه الرحلة تجتمع مواد عديدة: الوثيقة والشهادة الحية والإبداع الشعري. تتداخل أو توضع جميعاً في علاقات متداخلة لكي تعكس الصورة: فإذا كان يمكن الافتراض أن "الشعر العربي كان في بداية القرن السادس الميلادي ثورة الثقافة والمجتمعات العربية، فإن ثورة القرآن كانت أشد حسماً بقطعها صلاتها مع كل التقاليد القديمة، مقدمة خطاباً إلهياً للإنسانية جمعاء، ومبدعة في آن واحد الكلمة والإيقاع والتصنيف"[28]. هاتان الثورتان، الشعر والقرآن، إذا كانا أساس الثقافة العربية الكلاسيكية، فإنهما يتداخلان في الثقافة العربية المعاصرة ويتجلى هذا التداخل في ما يطلق عليه بيرك"الذكرى".
على أن الرجوع إلى القرآن وشعر الصحراء لا يعني أن "الذكرى" تقتصر في الثقافة العربية على هذه البدايات. فقد أضيف إليها خلال أربعة عشر قرناً "استنبات هائل للأفكار والسلوك والأعمال، كانت تعد لهما أحياناً وتناقضهما أحياناً أخرى". بيد أن هذه العلاقة ليست هي الوحيدة التي تكون الميراث العربي، كما أنها لا تكفي لوحدها بطبيعة الحال لنُعرِّف كائناً تاريخياً كرسته الأزمنة الحديثة لأن يستخلص من أعماقه وأعماق الآخرين تجدده الخاص. ذلك هو ما يجعل المعادلة الصعبة ممكنة: الانفكاك عن الماضي دون التخلي عن الإيمان به أو الإخلاص له، معادلة يجد بيرك تعبيرها الجمالي في قصيدة لشاعر عربي معاصر تحمل اسم "ميلاد"[29].
 

**  **  **

ويجد كذلك تعبيرها في مجمل الإنتاج الثقافي في العالم العربي. ففي القسم الثالث من الكتاب سيركز على تعبير العرب عن أنفسهم وعن الدلالات التي يبحثون عنها. ويسجل بيرك في هذا الصدد أن جهد العرب لتأصيل المكتسبات والتحولات وجهدهم للمحافظة على هويتهم يتحقق بقدر من الغموض يحفل بالوعود وعتوره النذر. والخطر الأكبر الذي يهدد مسيرتهم هو هذه القطيعة القائمة بين تقدمهم في ميدتن التكنولوجيا وبين حركة الأبعاد الأخرى للإنسان والجماعة.
على أن هذا الخطر بالذات هو الذي يمنح الثقافة العربية المعاصرة أهميتها القصوى من حيث إنها تترجم أولاً، بتوقفها أو بتراجعها، واقعة استقلال مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية في ممارستها، كلاً لوحده، دوره منفصلاً عن غيره، ومن حيث إنها تستبق، ثانياً، كلاً من الممارسة والسياسة: الممارسة، لأنها تتنبأ بالنمط الثقافي للإبداع، والسياس، من حيث هي جهد لإقامة التواصل بين مختلف القطاعات لبناء حركة شاملة، وهو جهد لا يمكن للسياسة أن تحققه بدون مثل وصور ثورية، أي بدون حدوس محض ثقافية.
ولكن، كيف يمكن تفسير ظاهرة الاختلال في ثقافة ما؟
لقد أشرنا في بداية هذا العرض إلى أن بيرك ينظر إلى الاختلال بوصفه ظاهرة لا مفرَّ منها، وهي، على سلبيتها، يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في دفع مختلف أبعاد الحركة الاجتماعية نحو التقدم وفق إيقاع البعد الأكثر تسارعاً. ولعل أوضح مثال على ذلك، ما يورده بيرك حول المعركة التي قامت بين مصطفى صادق الرافعي وطه حسين حول قضية الشعر الجاهلي. فقد استنفر الرافعي قوى التراث الإسلامي والمجتمع المصري في عصره ضد طه حسين الذي كان، بجرأته، يبدو داعية التقدم والتجديد. كان اللاافعي يمثل قيماً ثابتة في الثقافة العربية، بينما كان طه حسين يمثل اختلالً في هذه الثقافة. لكن هذا الاختلال لم يكن إلا انتظاماً موقوفاً، لن يلبث أن يعود إلى حركته، مع اقتراب الأبعاد الأخرى منه.
ومن هنا فإن التساؤل سيتركز على العلاقة بين القيمة الجمالية والتاريخ، لاغياً بذلك كل التساؤلات الأخرىعن أولية هذه أو ذاك. فالتحليل يكشف ـ كما يقول بيرك ـ عن وجود صلات حميمة، بما أن الثقافة ليست في نهاية التحليل سوى حركة الكلية الاجتماعية في بحثها عن تعبيرها وعن دلالاتها. على أن هذا البحث "يؤثر أساساً على المجموع الاجتماعي مثلما يتأثر به". وبذلك يغدو العمل الإبداعي "عملاً ياتقي مع اتجاه الأكثرية بحيث يفسره تفسيراً عميقاً، وبحيث يظل هذا التفسير صالحاً لأمد طويل. انطلاقاً من ذلك، فإن دراسة الأعمال الإبداعية لن تكون خصبة إلا إذا تمت في إطار الكشف عن التفاوت بين الاستعدادات الأساسية وبين الخصائص الأدبية أو الفنية، أي في إطار العلاقة بين التعبيرية (Expressivité) و التاريخانية (Historicité)[30]. وضمن هذا المنظور يصوغ بيرك مختلف إشكاليات الإبداع الفني والأدبي في العالم العربي، متعرضاً بوجه خاص إلى الموسيقى  والرسم والنقد والرواية والقصة القصيرة والمقالة[31].
يبدأ بيرك بوضع أساس فرضي لفحص نتائج تحديث الثقافة العربية؛ وهو يقوم على أساس أن تحديث هذه الثقافة يخضع، كيفما كان جانب الاستمرارية فيها، إلى ازدهار في الأنواع وإلى شروط في الشكل تتوقف، في الحقبة الراهنة، على الثقافات السائدة في العالم. ويتحقق ذلك وفق صيغ يسيطر فيها حسب الحالة التقارب أو التصارع، بما يؤدي إلى نتائج جمالية واجتماعية في آن واحد.
وانطلاقاً من ذلك يرسم بيرك معالم التطور الذي طرأ على مختلف الأنواع الأدبية والفنية في الثقافة العربية المعاصرة على النحو التالي:
"ــ من المؤكد أن امتياز المسرح أنه ابتدع لا وظيفته بالطبع، وإنما نمطاً من التعبير النادر في الشرق حتى أمد قريب. كذلك الرسم والنحت. وإلى حرية هذه الحركة يمكن أن نضيف ولا شك نجاحات هذه الأنواع المبكرة والمؤكدة.
" ــ ولكن كيف يمكن النظر إلى الآثار المعاكسة في حالة السينما والتخييل الروائي؟ في الحالة الأولى، نواجه فناً يعتمد الاقتصاد الصناعي ويمتد قدماً عبر الاتصال الجماهيري. والحق أنه حتى الآن لم يكن للتوصل إلى الجماهير وإلى التمويل الواسع للسينما المصرية التي تسود السوق مقابل إبداعي على الرغم من ظهور أفلام ذات قيمة. وكان على السينما العربية أن تضحي بنفسها في سبيل الذوق المتوسط للجماهير العريضة. إن الحداثة تصطنع في السينما كتثاقف أو كتسوية بين القديم والمستورد أكثر مما تصنع نفسها إبداعاً.
" ــ وعلى الرغم من بعض النجاحات المثيرة في الرواية والقصة فإن هذا النوع يعاني نفس هذا النمط من التناقض. فلم يكن على حظ من الجدّة لكي يتحرر من تراث، وكان كثير الجدة لكي يحقق تغيير استمرارية ما.
" ــ لكن الوضع نفسه ينعكس فيما يتعلق بالمقالة. ومن الممكن القول بصددها أن خصائصها على قدر شكِّ المجتمع الذ تعبر عنه بما أنه يكوِّن مادتها ويشرط في الوقت نفسه أسلوبها فضلاً عن أنها تشارك بتراث كان طه حسين يجد في الجاحظ مُبْدِعَهُ الأول.
"ــ أما بالنسبة إلى الموسيقى، فإن الأعماق الشعبية حقاً لقواعدها هي التي لا تتيح للحداثة أن تتوسل إليه إلا ببعض الإسهامات الآلية وبنجاح التقليد الذي يقوم به بعض مديري المسارح. ولذلك فإن هذه المصالحة ترضي جمهوراً عريضاً يرفض التجارب التي يقوم بها مؤلفون نادرون وفق الطريقة الحديثة، في حين أنها تنتمي في أنواع أخرى كابحث والرواية، وإلى حدٍّ ما في الشعر، إلى أشكال جديدة في الإبداعية"[32].
تؤدي هذه النتائج إلى فكرة مؤداها أن ما يجعل الإبداع ممكناً في الأنواع التي تستخدم الوسائل اللغوية إنما هو حيوية اللغة العربية الاجتماعية وقوتها الجمالية، بحيث كان يمكن إعادة تأصيل هذا الفن أو ذاك. ومن هنا، فإن الشعر ـ كما يرى بيرك ـ الذي هو أساساً عمل في اللغة، يتمتع بأولوية لغويةتطبع من نواح كثيرة الثقافة إن لم تسم المجتمعات العربية المعاصرة.
إن الدراسة المطولة التي يقوم بها بيرك لعدد من أعمال الشعراء العرب المعاصرين تتم عبر نفس المنظور، ونعني به منظور العلاقة بين التاريخ والقيمة الجمالية التي يمثلها الشعر الآن. وكان السؤال الذي عملت هذه الدراسة على الإجابة عنه: بأي حدٍّ يتجاوز الإبداع الجواب على الآخر والاستيحاء من الآخر أو الثورة ضده، سواء أكان هذا الآخر هو الأجنبي أم الأجداد؟
يكتب بيرك: "لقد كان الشعر العربي المعاصر، شأنه شأن التكنولوجيا والنضال الاجتماعي، أحد الوسائل بالنسبة للعرب لكي يجدوا العالم في أعماقهم ولكي يؤكدوا أنفسهم إزاءه... ذلك أن التحليل الموضوعي لعدد من أعمال الشعراء المعاصرين يكشف فيها ما لا يكشفه التحقيق العلمي في هذه المجتمعات إلا نادراً"[33].
إن العلاقة الحية بين الشاعر العربي المعاصر والواقع الذي يشارك فيه ويؤثر أو يتأثر تقف وراء هذه الإبداعية التي يمكن القول إنها في المقدمة من إبداعيات الأنواع الأدبية الأخرى في الثقافة العربية المعاصرة. فالشعر المعاصر، بتحقيقه أخطر ثورة في الأدب العربي المعاصر، أي بتحطيمه أوزان الخليل التي سار عليها الشعر العربية منذ أعماق العصر الجاهلي، مع استمراره في الإخلاص للبنية الأساسية في هذا الشعر، أي المنظومة اللغوية، أي بتعبير آخر في علاقة هذا الشعر مع قاعدته ومع التجربة المعاشة الواقعية والحركة الاجتماعية الراهنة إنما أمكن له أن يقدم التعبير الأعمق عن الثقافة العربية المعاصرة في جهدها لترجمة حركة الواقع وطرح مقدمات مستقبله.
 

**  **  **

هل يعني ذلك أن العملية الحضارية في العالم العربي قد استطاعت شق طريق لتجاوز التناقضات الأساسية التي فجرتها الثورة الصناعية في الغرب؟
لقد أوضحت التحليلات السابقة مدى ضخامة المشكلات التي تواجهها هذه العملية منذ قرن ونصف على عديد من المستويات: مستوى التنمية التقنية ومستوى الهوية، مستوى العلاقة بين مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية وتسارع ونمو كل بعد وفق إيقاع البعد التكنولوجي. ومع ذلك فإن تجربة العالم الثالث، الذي يعيش ثورة التحرر من الاستعمار بكل أبعادها، ومن ضمنه العالم العربي بطبيعة الحال، قد طرحت أساساً لحل كل المشكلات التي تطرحها هذه الثورة، ونعني به إعادة هذه المشكلات إلى جذورها.
ولكن أية جذور؟
يجيب بيرك: "الجذور البيئية أولاً. فكل مشكلة يجب أن تعاد إلى مستوى التقاء المجتمع مع الطبيعة من جهة وإلى العالمية التي تفرضها مسيرة كل السعوب نحو وحدة الكوكب الأرضي من جهة أخرى. ثانياً، وهذه الملاحظة تستخلص من الأولى، إن هذا المشروع يجب أن  يستعيد الإنسان والجماعة بدءاً من القاعدة، أي بشكل جذري، وهذا ما يطلق عليه اسم الثورة. ثالثاً، إن هذا المجتمع المرغم على وضع هويته التي اكتسبها من أعماق العصور بمصطلحات العصور الحديثة، لابد أن يخضع هذه الهوية إلى حركة منتظمة. ذلك أن تثبيت هذه الهوية يعني قتلها؛ فلا بد بالتالي من تفجير كل المشكلات  وتوسيع مداها حتى تصل إلى حدودها الإنسانية الأساسية، بما أن الجهد الأساسي هو رفض المجتمع بوصفه شكلاً لإعادة صنعه بوصفه ممارسة لامحدودة للإنسان الجماعي. إن مشروعاً من هذا القبيل لن يكون من فضائله الصبر  والدراسة فحسب، وإنما المغامرة والرهان. رابعاً، المناداة بحق الاختلاف، حق التخلص من صيغ وربما من قوانين العالم الصناعي[34].
هل يعني ذلك التخلي عن صراع الطبقات؟
مرة أخرى يحيل بيرك الإجابة إلى حوار:

" ــ صراع الطبقات إذن؟
ــ إننا نضعه في حجمه الحقيقي، وهو حجم ليس اجتماعياً فحسب وإنما أنثروبولوجي.
ــ إنك تنزع منه ...
ــ التبسيط؟ الاحتكار؟ لا، إنه ليس الوحيد الذي يناضل في العالم. وهو أمر ليس فيه ما يحزن. وإذا كان الهدف أكثر ضخامة من مجرد استعادة فضل القيمة المسروق، وإذا كان يُعرَّفُ على وجه الخصوص بوصفه استعادة لما بقي تحت الحساب فهل يغدو أقلَّ إقناعاً؟
ــ إحذر الغموض والتضليل.
ــ إحذر التقييد والوهم.
ــ يبدو أنك تريد القول إن البروليتاري الحقيقي...
ــ إن البروليتاري الأكبر في العصر الصناعي هو الطبيعة، وما هو موجود من طبيعة فينا. ولذلك فإن الرأسمالية تشوه المجتمع، وإلى أجل الإنسان وحتى الطبيعة.
ــ كأنك تدافع عن الخائفين من التلوث.
ــ على العكس تماماً. إنني أظل مخلصاً للتفاؤلية التكنولوجية التي كانت بالأمس تفاؤليتكم، والتي تقفون منها اليوم موقفاً يتسم بالرصانة. إلا إذا...
ــ إلا إذا ماذا؟
ــ إلا إذا كان المجتمع تعددياً، ويزدهر في أبعاده المختلفة، ومن بينها البعد التكنولوجي، فإن هذا الأخير يمارس جاذبيته على الأبعاد الأخرى، وعلى كل الأبعاد الأخرى أن تتقدم...
ــ أتقول "تتقدم"؟
ــ أقول تتقدم وفق إيقاعها،ولكن وفق المنطق الخاص بكلٍّ منها.
ــ أعد، أرجوك.
ــ إن الإيمان بزمنية الإزدهار الإنساني في مختلف أنماطه، والإيمان بالتسارعات التي يفرضها عليه المشروع الصناعي، قد بات اليوم أحد مصادرات الاشتراكية ةالديمقراطية وربما أكثرها صحة. لكن...
ــ لكن؟
ــ ما يحطم هذا الاعتقاد ويتلفه أن تفرض على أبعاد مماثلة ومتداخلة ولكنها مستقلة ايقاع وحدود بعدٍ واحدٍ منها. إذا كنت تسمي ذلك ماركسية فإنني أسميه وضعية من أكثر الوضعيات بدائية.
ــ لنعد، أرجوك، إلى التلوث.
إن النادمين على النمو قد جعلوا منه فزاعة تستخدم للقضاء على كل المطالب في صرخة كبرى تدعو للهرب من العصر الصناعي.
ــ تقول إن الإتلاف يتجاوز إلى حدٍّ كبير مجرد العلاقة بين الطبقات، من حيث هو يشوه البيئة أو يحولها إلى بروليتاريا. ألا يعني ذلك صرف النظر عن المشكلات الأخرى؟
ــ لذلك، إذا نظرنا إلى التلوث الذي تلوح به المجتمعات الواصلة كفزاعة تعزل كل الآفات الأخرى في الظل، فإن العالم الثالث يرفض اعتباره مشكلة مأساوية. غير أنه لا العالم الثالث ولا الاشتراكية يبدو عليهما أنهما يريدان الإجابة على الواقع الذي تغطيه وتشوهه هذه الخدعة.
ــ ما الذي يمكن أن يكونه الجواب؟
ــ توسيع إطار الثورة الاجتماعية لتشمل كل ما هو بيئي.
ــ ماذا تعني بذلك؟
ــ إعادة العمل على ازدهار علاقة الطبيعة/الثقافة، التي حطمتها وقمعتها السيطرة ضمن عديد من الأشكال الأخرى غير شكل استغلال الطبقة العاملة. إعادة تطبيع الثقافة، إعادة تثقيف الطبيعة: هوذا المعنى الحقيقي للتحرر من الاستعمار والمعنى الحقيقي لكل ثورة.
ــ ولكن لماذا العرب؟
ــ لاشك أن ميادين أخرى على كوكبنا الأرضي وتواريخ أخرى للإنسان تسمح لنا بهذه الصيغ وهذه الآمال. أما هم، فإنهم يحققونها عبر خصوصيات هي بالنسبة إلي (وبالنسبة إليهم) مفعمة بالمذاق.
ــ بالمذاق؟ لكني أظنكَ عالم اجتماع!" [35]

 
**  **  **

لماذا العرب؟ هذا هو السؤال الذي بدأ به بيرك كتابه، لكي يستعيده ثانية في القسم الأخير منه.
ألأنَّ إسهام تاريخهم المعاصر ــ كما يقول ــ "في نظرية وممارسة الحضارات يعود إلى ما يشترك به هذا التاريخ مع غيره، أم إلى ما هو أكثر، إلى ما يتميز به عن غيره؟"
يوضح بيرك: "إن المجتمع العربي يكرس من بين مجتمعات عديدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية هذه الملامح التي أتينا على استخلاصها قبل قليل، سواء في نواحيها الإيجابية، أو في نواحيها السلبية. والأمر هو من الوضوح بحيث أن هذه الفرضيات قد استخلصت مباشرة من تجربتهم الراهنة، بل إني لأجدها لدى عديد من بحاثيهم، وخصوصاً لدى شعرائهم، مصاغة ومُقدَّمة على طريقتهم." [36]
ذلك أن الوجدان العربي، وهو مفهوم يلخص كل هذه الفرضيات، "بربط مباشريات التجربة المعاشة بحضور الأصولي، ويذيب بعدد من المواقف المسافات والتناقضات التي سبقت الإشارة إليها. صحيح أن الأصولي، بالنسبة إلى الوجدان العربي، هو المتعالي عادة وأن التاريخ المعاصر يفهم بطريقة أخرى عملية الرجوع إلى القواعد، غير أنه يبقى أن هذا الحضور للقواعد (سواء عرفناها بصيغة دينية أم طبيعية) وهذا الانبعاث إلى التجربة المعاشة الشخصية والجماعية يسمان سلوك العرب باستمرار." [37]
هذه السمات تميز كذلك طبيعة عملية النهضة الحضارية التي بدأها العرب منذ قرن ونصف وتلون كذلك أصالتهم ـ من حيث إن الأصالة هي العلاقة المستمرة والمتحركة مع القواعد ومن حيث إنها لا تنكر الحداثة أو الهوية ـ أي مغامرات هذه الأصالة، بالمعنى النبيل لكلمة مغامرة.
لقد نظر إلى شخصية العرب باستمرار انطلاقاً من علاقة هذه الشخصية بالمتعالي، وهي علاقة يحددها ويرسم معانيها الإسلام: فالإسلام دين الفطرة؛ وهو بهذا المعنى "يحفظ طبيعة الإنسان والطبيعة بشكل عام، ولا يرغم الإنسان إلا على طاعة القانون الإلهي". بيد أن الإسلام إذا كان يعكس كثيراً من ملامح العرب، فإنه لا يعكسها كلها: "لقد صنعنا منهم ولزمن طويل أبطالاً ميتافيزيقيين وممثلين للمطلق، في حين أنهم لم يكونوا كذلك حتى زمن الخلفاء الراشدين". بمعنى أن ثمة ملامح أخرى للعرب تعود إلى ما قبل الإسلام وتشارك في تكوين الشخصية العربية على الرغم من طبع الإسلام لهذه الشخصية.
ومن هنا فإن الكشف عن هوية العرب الجماعية عبر تجربتهم المعاشة يوضح لنا عدة انتظامات بالغة الأهمية. يكتب بيرك:
"1) هناك بطبيعة الحال المرجع إلى الإله، كما يقيمه القرآن وكما تفترضه العديد من مسالكهم؛ غير أن من يريد استدعاء ثوابت أخرى غير الثوابت المتعالية فإن بوسعه أن يجدها؛
2) كذلك في استمراريات تاريخية نتيجة العلاقات بين الجماعة والبيئة، أو
3)عاكسة للاستمراريات في المواقف أو لرؤية للعالم خلت من تغير جدير بالذكر عبر قرون؛
4) إننا نلاحظ إذن وجود تنظيمات ثابتة تبني وحدة متزامنة لمجموع ما ولاستمراره في الزمان: فالوحدة تبقى في تنوع أو أنها لا تتنوع إلا بعد أجل طويل جداً"[38].
تنعكس هذه الاستمرارية التاريخية في سلوك العرب إذن علاقة قوية مع ما يطلق عليه بيرك اسم الجذور أو الأنماط أو الثوابت، تتميز بغناها المحسوس والحسي.
أما على مستوى التجربة المعاشة، فإن هذه العلاقة مع الجذور يمكن لها أن تتخذ اتجاهات متباينة بل ومتعارضة، حسبما تكون طبيعة هذه الجذور أو الثوابت: الأصول الدينية أو الطبيعية
وإذا كان ذلك يؤدي إلى نتيجة تبدو غامضة، فإن الأساس في هذه الاستمرارية أو في هذه الخصوصية العربية هو الحضور أمام الذات. هذا الحضور هو الذي يجعل الفعل مصيراً ويجعل المستقبل مغامرة.


[1]   "كلمة العرب للعالم الجديد" هي الترجمة العربية التي اقترحها جاك بيرك لعنوان كتابه Langages arabes du présent منشورات Gallimard، باريس 1974. ومن الواضح أنه يعني مختلف الأساليب التي يعبر بها العرب عن أنفسهم في الوقت الراهن عبر تطلعهم نحو المستقبل.
[2]  إننا نعني هنا على وجه التحديد الاستشراق الذي مورس كاختصاص محدد عبر الاهتمام بالتراث العربي جمعاً ودراسة وشرحاً (ذلك أن الاستشراق يقال على عدة معان)؛ وكان لابد من انتظار المؤتمر التاسع والعشرين الدولي للمستشرقين (باريس، تموز/يوليو 1973) لكي يتم الاعتراف بهذه الحقيقة لا بالنسبة إلى الاستشراق المختص بالمنطقة العربية، وإنما بالنسبة إلى الاستشراق بشكل عام.
[3]  Les arabes, d’hier à demain, Le Seuil, Paris 1969, p. 18. 
[4]  المرجع السابق، ص. 8 ـ 9.
[5]  كتب المقال الحالي ونشر في عام 1975.
 [6]  Le Maghreb entre deux guerres, Le Seuil, Paris 1962.
[7]  Dépossession du monde, Le Seuil, Paris, 1964.
[8]  L’Egypte, impérialisme et révolution, Gallimard, Paris, 1967.
[9]  L’Orient second, Gallimard, Paris 1970.
[10]  L’Orient second, Gallimard, Paris 1970.
[11]  حوار مع جاك بيرك، صحيفة اللوموند، 28 شباط/فبراير 1975.
[12] يقول بيرك: "لقد أسست علاقاتي مع العالم العربي على الصراحة والإخلاص لهويتي. إن هويتي فرنسية، وإني لأذكر دوماً لقائي بوزراء جزائريين منفيين في تونس أثناء حرب الجزائر. وإذ كنت أقول لهم ما أقوله لك الآن، من أن هويتي الفرنسية محترمة ولا بدّ من أن تحترم، أجابني واحدٌ منهم بهذه الإجابة المثيرة للإعجاب والتي لن أنساها أبداً: (إننا بحاجة إلى أصدقاء، ولسنا بحاجة إلى متواطئين). وإني لآمل أنني كنت، وأنني أستمر في أن أكون دوماً هذا الصديق. إنني في حالتي أعتبر أن على كل واحد أن يبقى مخلصاً لأصالته، وبهذا الشرط وحده نستطيع أن نبني أصالة عالمية). ـ من مقابلة مسجلة أجريتها مع جاك بيرك في 24 شباط/فبراير 1975.
[13]  تعدد منطق التقدم، ديوجين (الطبعة العربية)، العدد 24، 1974، ص. 13.
[14]  عدم تقييد التاريخانية (Dé-réduction de l’historicité)، محاضرة افتتاحية لجاك بيرك في الحلقة الدراسية في لوفان (AUPELF)، 1973.
[15]  من مقابلة مسجلة مع بيرك بتاريخ 24/3/1975.
[16]  حاول السيد أحمد علبي أن يقدم لنا فكرة عن نظرية بيرك هذه، ويبدو أنه كان  ـ بسبب من أفكاره القبلية ـ غير قادر على إدراك أن هذه النظرية تعتبر ـ في الأساس ـ نقداً وتجاوزاً  لكل ما يعتبره هو نقداً لها، فضلاً عن قيامه ـ أحياناً ـ  بنقد النظرية اعتماداً على أحد مقدماتها الأساسية! (العلاقة بين الأبعاد، والتفاوت فيما بينها...إلخ.)؛ ولذلك جاء عرضه خليطاً بائساً من سوء الفهم والتحيز المسبق ـ وهو أدنى ما يوصف به تلخيصه إذا شئنا ألا نخوض في النوايا!. انظر مجلة الآداب، العدد الأول، كانون الثاني/يناير 1974، ص. 50.
[17]  بيرك، عدم تقييد التاريخية، لوفان 1973.
[18]  المرجع السابق.
[19]  من المقابلة المسجلة مع بيرك بتاريخ 24 آذار/مارس 1975.
[20]  عدم تقييد التاريخية: آمل أن يكون هذا العرض التخطيطي المُبَسّط واضحاً للقارئ. على أنه إذا شاء التفصيل فبوسعه الرجوع إلى المصادر التي اعتمدنا عليها في وضع هذا العرض: هناك بطبيعة الحال كتاب بيرك موضوع هذا العرض، كلمة العرب إلى العالم الجديد (راجع الهامش رقم "1" هنا)، وهناك من ناحية أخرى دراسة بيرك التي تحمل عنوان تعدد منطق التقدم (Logiques plurales du progrès) التي نشرت في مجلة ديوجين، الطبعة الفرنسية، العدد 79، 1972، وفي الطبعة العربية، العدد24، 1974 بترجمة الدكتور عثمان أمين. وكذلك محاضرة جاك بيرك الافتتاحية للحلقة الدراسية (AUPELF) في مدينة لوفان تحت عنوان عدم تقييد التاريخية (De-réduction de l’historicité)، 1973؛ ثم الفصل الخامس من القسم الأول من كتاب بيرك L’Orient second بعنوان "ماهي القاعدة؟، منشورات جاليمار Gallimard، 1970؛ ثم مقالة بيرك التعدد (Pluriels) المنشورة في عدد شهر آب/أغسطس 1973، من مجلة Esprit.
ونود أن نشير هنا إلى أن قول بيرك "إن التقنية تشرط الأبعاد الأخرى في الحياة الاجتماعية" لا يعني أن هذه الأبعاد تصدر عن التقنية بوصفها قاعدة ــ وإلا لما اختلف قوله في ذلك عما تقوله الماركسية الوضعية ــ وإنما يعني أنها ترغم الأبعاد الأخرى على أن تزدهر وفق نفس الحيوية أو الحركية التي تظدهر بوصفها البعد الأكثر تسارعاً في عصرنا. كما أن كثيراً من الفعاليات التي تنظر إليها الماركسية الوضعية على أنها بنى فوقية لا أصل لها في الاقتصاد الذي تعتبره قاعدة أو بنية تحتية. ولابد من الإشارة إلى أننا هنا بصدد الحديث عن تكنولوجيا لا عن اقتصاد. إن ديالكيتيك المجتمعات ليس ديالكتيكاً ثنائياً وإنما هو ديالكتيك تعددي.
[21] Jacques Berque, Langages arabes du présent, p. 39.
[22]  مقال كتبه جاكوبسون خلال عامي 1933/1934 ونشر بالفرنسية في كتاب (Questions de poétique) من منشورات (Seuil)، باريس 1973. راجع أيضاً ص. 39 من كتاب بيرك المذكور.
[23]  Langages arabes du présent, p. 42.
[24]  المرجع السابق، ص. 52.
[25]  المرجع السابق، ص 54.
[26] وهذا هو السبب في اقتصار بيرك في كتابه على تحليل الأعمال التي تمت كتابتها باللغة العربية أساساً مستبعداً بذلك كثيراً من أعمال العرب المكتوبة باللغات الأخرى والتي لا ينكر أهميتها، لكنه لا يرى فيها إبداعية عربية خالصة مادامت كتابتها قد تمت بلغات أخرى. ويرد بيرك على المعترضين: "عندما يعتبر العرب ابن المقفع عربياً رغم أصله الفارسي فذلك لأن إبداعيته قد تمت باللغة ىالعربية. ذلك أن هذه الإبداعية تجعل من النسب عنصراً لا وزن له بالمقارنة معها... إن المؤلفين العرب الذين يكتبون بالفرنسية أو الإنكليزية يكونون شيئاً آخر غير الروافد العربية للآداب الفرنسية والإنكليزية. ما يهم هو اللغة؛ والتعريب ليس مجرد تطوير الدلالة وإنما هو تطوير الأشياء ذاتهاأيضاً، وعليه أن يترجم حركة كلية يدخل ويصرف فيها الوقائع والدلالات" ـ من المقابلة المسجلة بتاريخ 24 آذار/مارس 1975.
[27]  يناقش بيرك المشكلة التي يثيرها السؤال الأخيرفي هذه الصيغة الحوارية التي نترجمها للقارئ حرفياً. راجع ص. 104 و 105.
[28]  Langages arabes du présent, p.172.
[29]  سميح القاسم، في ديوانه "دمي على كفي".
[30]  "التاريخانية" ـ في نظر بيرك ـ لا تقتصر على مشاركة مجتمع ما في التاريخ فحسب وإنما تتجاوز ذلك إلى وعيه وإلى التعبير عن هذا الوعي. أما "التعبيرية" فهي، بالنسبة إلى الثقافة، خلق أشكال من التعبير تتلاءم مع نفسها وتتجاوز ذاتها إلى إسقاطات لاحقة. إن تعبيرية رامبو ومالارميه مثلاً كانت متقدمة على الثقافة واللغة الفرنسيتين في عصرهما.
ـ من المقابلة المسجلة بتاريخ 24 آذار 1975 ـ .
[31]  تتضمن الفصول التي خصصها بيرك لدراسة التعبير والدلالة فصلان رئيسيان يتألف أولهما من مقاطع مختارة بعناية فائقة من عشر قصص قصيرة، وثانيهما من مقاطع مقتطفة من خمس روايات عربية. وقد عمل بيرك على أن يترك الكلمة عبر عملية المونتاج هذه إلى الإبداع الخثالي، حسب تعبيره، لك تعكس لا الشخصية العربية والهوية العربية وملامح التجربة المعيشة الراهنة فحسب، وإنما كذلك المستوى الفني والتكويني لهذه الأعمال الأدبية. اختيرت مقاطع القصص القصيرة من قصص كلٍّ من عبد السلام العجيلي وفؤاد التكرلي وغادة السمان ويحي حقي وزكريا تامر وحيدر حيدر ويوسف إدريس ومحمد المنسي قنديل. أما مقاطع الروايات فقد اختيرت من أعمل كل من نجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد وجبرا إبراهيم جبرا والطيب صالح. أما في مجال النقد، فقد اختار بيرك دراسة النقاد الثلاثة: محمد مندور ولويس عوض وجبرا إبراهيم جبرا. أما في مجال علم الاجتماع فقد درس كلاً من علي الوردي والحسين فوزي.
[32] .Langages arabes du présent, p. 292-293
[33]  المرجع السابق، ص. 206.
[34]  المرجع السابق، ص. 353.
[35]  المرجع السابق، ص. 354 ـ 355.
[36]  المرجع السابق، ص. 355.
[37]  المرجع السابق، ص. 356.
[38]  المرجع السابق، ص. 362.


121   نشر هذا المقال في مجلة المعرفة، العدد 162، الصادر في شهر آب/أغسطس 1975، ص. 92 ـ **