Jacques Berque
Les aventures de l’authenticité
Ou « Langages arabes du présent »
مغامرات الأصالة*
قراءة
أولى في كتاب جاك بيرك
"كلمة
العرب للعالم الجديد"
بدرالدين عرودكي
يكشف كتاب جاك بيرك كلمة العرب للعالم الجديد
أكثر من أي كتاب آخر من كتبه السابقة عن مشروعه الأساسي: متابعة العملية الحضارية
الفريدة التي تتم منذ منتصف القرن الماضي على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، في
المنطقة العربية، في محاولة لتحديد الملامح الأساسية لهذا الكائن التاريخي الذي
نقوله عربياً، ومحاولة هذا الكائن التاريخية في أن يستخلص من أعماقه وأعماق
الآخرين عناصر يؤلف بينها صانعاً بتأليفه هذا تجدده الخاص.
وإذا كانت فرادة هذه العملية الحضارية هي نتيجة الموقع
الجغرافي والتاريخي والحضاري الذي تتميز به المنطقة العربية الواقعة على مفترق طرق
الشرق والغرب تميزاً كان وما يزال يطوي قوة هذه المنطقة وثغرة الخطر فيها، فإن
فرادة مشروع بيرك هي نتيجة أسباب متعددة مثلما هي ذات دلالات متعددة: فعندما كان
يضع يده في كتابه العرب من الأمس إلى الغد (1959) على زاوية الرؤية لتاريخ
العرب الحديث بتحديده العملية الحضارية بالانتقال من الأمس إلى الغد، فإنه كان
يكشف أيضاً وفي الوقت نفسه عن الطريق المسدود الذي كان الاستشراق الكلاسيكي يسير
فيه مستمراً في تجميع النصوص وشرحها
دون وضعها في مكانها الحالي من التغير الاجتماعي والتطور التاريخي ودلالاتها
بالنسبة لهما، ويشرط للمستقبل أية محاولة جدية للاقتراب من العرب تاريخاً ومجتمعات
بشروط لم يكن الاستشراق عاجزاً عن تحقيقها فحسب، وإنما الكثرة الكاثرة ممن كانوا
يكتبون عن الشرق العربي.
لقد تركزت هذه الشروط في وضع شخصية العرب، أو بصورة أدق
خصوصيتهم في "مركز أية رؤية تركيبية تجهد لتقييم مسيرة تقدمهم. فتكامل الرؤية
ورهافة الحسّ والالتزام، وهي أمور عليها أن توازن لدى الباحث استخدام المناهج
الموضوعية، ممكنة لتحقيق مثل هذا الاقتراب مالم يعش الباحث المجتمعات العربية من
الداخل". مثل هذه المعايشة سوف تسمح له مثلاً باكتشاف أن شخصية العرب
"تشرط كل حكم يتناولهم حتى ولو كان حكما يتعلق بالتفاصيل"،
وأنه ما لم يوضع هذا الشرط في مكانه من البحث ومن نتائجه فستظل النتيجة جزئية
وبالتالي عاجزة عن قول هذه المجتمعات.
كان لابد من من الانطلاق من الاستشراق، وكان لابد في
الوقت نفسه من تجاوزه تجاوزاً يصل إلى حدِّ تفجيره من الداخل. ذلك أن المشكلة أساساً
تتركز في مسيرة الباحث وفي علاقته بالمجتمع الذي يجهد لدراسته وفي منهج هذه
الدراسة. يكتب بيرك: "ومن أجل فهم واقع ما، كان لابد من الاستعانة بعلوم كان
الاستشراق حتى ذلك الحين يروغ منها برصانة: بالاقتصاد الذي يمكن أن يجد فيه
الاستقلال برهان وجوده، وبالتاريخ المعاصر الذي يطلق هذه الشعوب مرة واحدة وإلى
الأبد من أسْر الانحطاط، وبالفنومنولوجيا القادرة على قراءة الكثير من الأحداث
والإشارات والظروف بوصفها علاقات تشير إلى تيارات الأعماق، وبعلم الاجتماع، وخاصة
بالأنثروبولوجيا، اللذين يضعان النقاش ضمن منظوراته الشاملة ويقترحان وسائل للفهم
كانت حتى ذلك الحين ما تزال جديدة في هذا المجال".
بذلك يمكن تجاوز التقييدات التي تناولت العرب ـ تقييدهم بنصوص تراثهم، أو تقييدهم
في نضالهم للتحرر من الاستعمار، أو تقييدهم عبر تحديدهم كشعوب متخلفة ـ لرؤيتها
ثانية من خلال منظومة جديدة شاملة، تستعيد التراث الذي وقف عنده الاستشراق طويلاً
لا بوصفه مجرد نصوص قابلة للشرح وللتفسير فحسب وإنما بوصفه أيضاً تجربة معاشة في
الماضي وأحد الملامح الأساسية في تجربة العرب المعاشة في الحاضر مع ما طرأ على هذه
التجربة من تحولات كيفية، وتضع التحرر من الاستعمار والتحديث والتصنيع والإبداع
والهوية في أماكنها الحقيقية من العملية الحضارية الشاملة.
وإذا تبيّنا أن الوصول إلى معالم هذه الرؤية كان حصيلة
تجربة عميقة ممتدة في الزمان (حوالي أربعين عاماً من الاتصال المباشر بالعرب
تاريخاً وجماعات وأفراداً ومجتمعات) وفي المكان (من أعماق المغرب العربي حتى أعماق
الجزيرة العربية)، فإننا سنكتشف إمكان هذا المشروع الذي بدت مجموعة أعما جاك بيرك
السابقة وكأنها تحضير مستمر، على المستويين النظري والعملي، لما سيؤلف أعمق وأشمل
تكريس له عبر ما يمكن أن نطلق عليه قراءة الإنسان في حركة كليته الاجتماعية كما
تبدو في تعبيرها عن نفسها وفي الدلالات التي تقدمها، أي قراءة الإنسان العربي
تاريخاً ووجوداً.
كان أول اقتراب لجاك بيرك من العرب ككائن تاريخي قد تمَّ
قبل أكثر من ستة عشر عاماً في
كتابه العرب، من الأمس إلى الغد. ولئن اعتبر المستشرق جيب هذا الكتاب حدّاً
فاصلاً في تاريخ الاستشراق آن صدوره، فإننا اليوم، وبعد صدور كلمة العرب للعالم
الجديد يمكن أن نعتبره إسهاماً أساسياً وتأسيساً في التاريخ الاجتماعي للعرب
من ناحية وللإسلام بوصفه إطاراً ثقافياً وتجربة معاشة من ناحية أخرى. وستكون كتبه
التالية: المغرب بين حربين
و رفع ملك العالم
و مصر، الإمبريالية والثورة
و الشرق الثاني
معالم أساسية في هذا الجهد الإبداعي الذي يتوِّجُه الكتاب الأخير.
إنَّ فرادة مشروع بيرك تستمد وجودها أيضاً من طبيعة هذا
الجهد التي تضع بيرك نفسه في موقع بالغ التميز. فمن الواضح أنه يقف على مسافة من
الاستشراق الذي بدأ منه، غير أنه مع ذلك لم يتخلَّ عن إخلاصه لجذوره الأساسية
كمثقف غربي في الوقت الذي التزم به موقفاً نضالياً من العملية الحضارية العربية
الحديثة وذلك عبر مشاركته البالغة العمق، وعلى عديد من المستويات، في الجهد
الثقافي الضخم الذي دشنه رواد النهضة الأوائل وتتابعه اليوم الطليعة المثقفة في
مختلف المناطق العربية.
يكتب: "إن عصرنا يدفعنا إلى أن نولي انتباهنا على
وجه التخصيص للمركبات. ثمة مركبان هنا ـ أي المنطقة العربية ـ يجب أن يسترعيا هذا
الانتباه: المركب الذي سمح للعربي في القرن الثاني للهجرة بدمج عدد من المواد
الثقافية في ذلك العصر، ومن بينها الثقافة الهيلينية، والمركب الذي يجهد أمام
أنظارنا لتنسيق عناصر مستمدة من المجتمعات الصناعية".
هذا المركب الجديد الذي بدأ بالتكون وبدأت عناصره
بالتفاعل، يدفع إلى مقدمة المشهد الحضاري العالمي الوجه الثاني لما كان يميز تاريخ
العلاقة بين العرب والغرب الأوربي. كان الوجه الأول هو العداء الذي ساد مرحلة
الاستعمار الغربي؛ أ ما الوجه الثاني فهو المشاركة
والتقارب اللذين قدما ثمراتهما في القرن الثاني للهجرة، ويبدآن اليوم بتقديم ثمرات
أخرى عبر التفاعلات العميقة التي تميز المسيرة العربية منذ أكثر من قرن. في هذا
الميدان نفسه يمكن أن تتحدد بوضوح ملامح الدور الذي يمكن أن يلعبه مثقف أوربي دفعت
به ظروف حياته إلى أن يكون على مقربة مما يتم منه، مع صانعيه ـ وإن كان من موقع مختلف ـ وأن يقف منه موقف
الناقد. ذلك أن الثورة الصناعية التي حققتها أوربا هي، أصلاً، أساس كل التغيرات
التي يشهدها العالم في مختلف أرجائه؛ وإذا كانت أوربا، بهذه الثورة وبالاستعمار،
مركز العالم في القرون الماضية، فإن التحرر من الاستعمار كان بداية عصر جديد لشعوب
حضارية عريقة.
ومن هنا يمكن أن تتضح دلالة رفض بيرك القاطع لأن يعتبر
نفسه مستشرقاً،
(فالاستشراق هنا يغدو تقييداً آخر لجهد إبداعي يتجاوز بمراحل مجرد كونه اختصاصاً
ما!) أو لأن يتخلى في الوقت نفسه عن هويته كفرنسيٍّ أساساً.
هذا الموقع المتميز الذي يكاد جاك بيرك أن ينفرد به من
بين معظم المثقفين الأوربيين المهتمين بالمنطقة العربية وفرادة مشروعه هما اللذان
يتيحان، ربما للمرة الأولى، فرصة إقامة حوار عميق مع العملية الحضارية العربية كما
تعبر عن نفسها، يتناول الحاضر والمستقبل، وينطلق من مفهوميْن أساسيين سنتعرض لهما
بالتفصيل هما الخصوصية والأصالة. سيكون الطرف الأول في الحوار إذن الثقافة العربية
المعاصرة، بوصفها الجانب التعبيري والدلالي لحركية الكلية الاجتماعية، أو إن شئنا
للعملية الحضارية التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي؛ أما الطرف الثاني فهو مؤرخ
اجتماعي أوربي يستقرئ هذه الثقافة ويعرِّضها لمفاهيم كانت حصيلة تجربة معاشة
مزدوجة على شاطئي المتوسط الشمالي والجنوبي.
من الواضح والحالة هذه أن قراءة هذا الحوار النقدي الذي
يكرسه كتاب كلمة العرب إلى العالم الجديد يمكن أن تؤدي إلى حوار آخر بل إلى
حوارات، خاصة إذا تمت هذه القراءة من الطرف الأول. على أن هذه القراءة الأولى لا
تطمح إلى أكثر من استعراض الحوار الأساسي والكشف عن محاوره الرئيسة وتبين عناصره
الأساسية. إنها إذن مجرّد خطوة، أو هي تطمح إلى أن تكونها!
** ** **
كان مشروع هذا الكتاب إذن استقصاء العملية الحضارية
الكبرى التي التزمها العرب من خلال جهد هذه العملية في التعبير عن نفسها وبحثها عن
دلالتها. إن أتساع هذا المشروع سوف يفرض ـ كما أشرنا في البداية ـ منهجاً يستعين
بمختلف الفروع العلمية، وسيستدعي كذلك إطاراً نظرياً يضعه موضع التطبيق، وبناء
سيكون من أولى سماته تعدد أصوات يؤالف بينها وحدة الهدف الذي يحرك هذا المشروع
وأعني به هذا التساؤل النقدي الذي يضعه بيرك في مقدمة الكتاب: "هل ثمة ثقافة
عربية معاصرة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف نعرفها بالنسبة إلى ماضيها وبالنسبة
إلى التغيرات الراهنة في العالم؟ وما هي المنظورات العملية والنظرية التي تستخلص
من مثل هذا الكشف بالنسبة إلى العرب وبالنسبة إلى الآخرين؟ ثمَّ، بأيّ مقياس يجيب
التعبير الذي يعبر به العرب عن أنفسهم على مشكلاتهم ويستخلص قيماً صالحة
للجميع؟" (ص. 14).
وللمباشرة في الإجابة عن مجموعة هذه الأسئلة التي تنطوي
في الحقيقة على سؤال ذي طابع وجودي، لابدّ من جرد مفصّل وإجمالي لمختلف أوجه
الواقع العربي يلح خاصة على الوجه التاريخي وعلى الوجه الاجتماعي ويركز في النتيجة
على المفاصل الأساسية التي تبرز بوصفها المحاور المركزية في العملية التي أطلق
عليها العرب في أواخر القرن الماضي اسم النهضة، والتي تباينت مع ذلك مسمياتها
عندما كانت تقاس بالغرب الصناعي بين تمدن
وعمران وثقافة لكي تستقر في النهاية على "الحضارة" التي يعنيها جاك بيرك
بكلمة "الثقافة"، بما أنها ــ حسب تعريفه الخاص ــ حركة الكلية
الاجتماعية في جهدها للتعبير عن نفسها وللبحث عن دلالاتها.
والوسائل إلى تحقيق هذال الجرد متعددة: الوصف المباشر،
والشهادة الشخصية، والوثيقة التاريخية، واللقاءات الإنسانية. بمثل هذه الوسائل تتم
قراءة المشاهد العمرانية في مختلف المدن العربية: القاهرة والجزائر، بغداد وفاس،
وكذلك قراءة الصحف العربية، بوصف الصحيفة مقطعاً من الومن ومفصلاً من مفاصل
المدينة الحديثة، لاستخلاص طبيعة الإشكالية العربية الراهنة التي تتوزع على قطبين
رئيسيين: قطب التطوير التقني والتحولات الاجتماعية التي تعبر عنه وقطب نشاط
المجموعات الأخرى التي يمكن أن نصفها بالمجموعات الثقافية، أي الخصائص المادية من
جهة والرموز الجمعية من جهة أخرى وبينهما العنصر الذي يشترك به القطبان على
التساوي، ونعني به عنصر اللغة.
يكشف بيرك عن أن بين هذين القطبيْن شقاقاً خطيراً يؤزم
الغرب مثلما يؤزم العرب. "غير أن العرب يزيدون من خطورته بالتضاد الممزق بين
عظمة التراث الكلاسيكي وبؤس الحاضر، بين الإسلام بوصفه حافظاً للكلي وبين الاتجاه
المتقدم نحو العلمانية".
فهل يتناقض القطبان في الأساس؟ وهل يمكن للعرب أن
يحافظوا على هويتهم مع سعيهم لتحقيق الثورة الصناعية في مجتمعاتهم؟
إن القول بالتناقض
ينطلق من فرضية إشراط أحد أبعاد الحياة الاجتماعية (الاقتصاد أو
التكنولوجيا) للأبعاد الأخرى. وبذلك فإننا سنواجه في واقع اجتماعي كالواقع العربي
دلالات متمايزة ولغات مختلفة: لغة العصر الناعي ولغة الهوية. بيد أن بيرك يرفض هذه
الثنائية: فالحركية الاجتماعية لا تصدر عن التقنية كما أنها ليست انعكاساً لها،
والهوية لا تنكر التكنولوجيا مثلما أن التكنولوجيا لا تنكر الهوية، لا بل إن
جماعهما هو الحداثة. فما السبب إذن في وجود تفاوت يصل حدَّ الخطورة أحياناً بين
مختلف الأبعاد، وما هي دلالة هذا الاختلاف؟ وبعبارة أخرىكيف يمكن تفسير هذه الهوة
القائمة بين قطب التطور التقني وقطب الهوية الجماعية، وكيف يمكن ردمها؟
إن لبيرك إجابة تختلف، من وجوه عديدة، عن مختلف الإجابات
التي قدمت عن هذه التساؤلات: فإذا كان النمو الصناعي يشرط استجابة العرب لإيقاعات
العصر، فإن هذه الاستجابة تظل خاصة بالعرب. وإذا كان ثمة تفاوت في مستوى مختلف
أبعاد الحركية الاجتماعية فإن هذا التفاوت لا يعكس فشلاً وإنما اختلالاً هو من
طبيعة الأشياء يمكن تجاوزه بجعله هو ذاته محركاً لتطوير العلاقة بين الأبعاد
المختلفة. "فلكي يبقى العرب مثلاً أنفسهم مع وصولهم إلى العالم الصناعي الذي
يحاصرهم من الخارج ويستثمرهم من الداخل فإنه لابد من جعل الأبعاد الأخرى تتحرك وفق
إيقاع التنمية المادية ذاتها. أي لابد للإبداعية من أن تتعدد وتتحقق في مختلف
الأبعاد على مستوى تحققها في البعد التكنولوجي".
تثير هذه الإجابة ولاشك عدداً من التسؤلات تتناول مفاهيم
لابد من توضيحها وخاصة مفاهيم الخصوصية والهوية الجماعية والأبعاد المتعددة
للحركية الاجتماعية والعلاقات بينها، تلك التي يمكن اعتبارها مفاتيح أساسية لفهم
التحليلات التي يقوم بها بيرك. لذلك سوف نتوقف قليلاً عن الأساس النظري الذي تنطلق
منه هذه الإجابة والذي تضعه موضع التطبيق فصول عديدة من الكتاب موضوع هذا البحث،
ونعني به نظرية بيرك في تعدد منطق التقدم.
يرى بيرك أن التناقضات التي يعاني منها العصر الصناعي
ترجع كلها إلى "ما طرأ على المجموعات الطبيعية أو الاجتماعية من عجز في
التوازن نتيجة لنموِّ عامل واحد نمواً من طرف واحد هو عامل التكنولوجيا".
هذا العامل قد أدى كذلك إلى صياغة فكرة عن التقدم لابدّ من إخضاعها الآن، نتيجة
عجز التوازن الذي سبب التناقضات، إلى نقد جذري.
لقد طابق العالم المحكوم بالتكنولوجيا بين هذه الأخيرة
وبين فكرة التقدم مهملاً بذلك أبعاد الحركة الاجتماعية الأخرى إهمالاً فاضحاً.
إننا نلاحظ على سبيل المثال أن قسماً محدوداً من الثقافات والشعوب، هي على وجه
التحديد الثقافات والشعوب الغربية، تمتلك هذه التكنولوجيا وتستفيد منها، الأمر
الذي يؤدي على مستوى العالم كله إلى حالة من اللامساواة والشقاق والاضطراب تبدو
آثارها في القلق الذي بات يميز الشخصية الجماعية ويمكن أن يؤدي إلى تشويهها.
"صحيح أنه قد تحقق بعض التقدم، غير أنه إذا كان التقدم يعني التكنولوجيا، فهل
يعني ذلك أن تعمل المجتمعات كلها لحساب الغرب؟ ذلك هو إحراج الإنسان المعاصر، ولا
بد من إيجاد الوسائل النظرية والعملية لتلافيه. هذه الوسائل يمكن أن تستخلص من
فرضية تنطلق أساساً من عدم المطابقة بين التكنولوجيا وفكرة التقدم ذات الطابع
الشمولي من ناحية، أي اعتبار العتبة الحالية من التطور التكنولوجي لا تشكل حضارة
بالمعنى الشمولي للكلمة، وإنما يمكن أن تؤدي إلى حضارة عالمية حقيقية من ناحية
أخرى، شريطة قيام تناظرات متعددة بين تحرر الشخصية الفردية والتحرر الاجتماعي
وتحرر الهويات الجماعية، وذلك بأن يأخذ على عاتقه الاعتراف بتعدد الهويات
الجماعية، أي بالتعدد الثقافي، أي الخصوصيات الثقافية.
كيف يمكن استخلاص هذه التناظرات؟
بالكف عن مختلف التقييدات (De - réduction) التي قيدت الإنسان تارة بوصفه منتجاً وتارة بوصفه
مواطناً دون أن تأخذ بعين الاعتبار كونه كائناً كلياً وكون الثورة التي يفجرها
ظاهرة اجتماعية كلية. الأمر الذي سيؤدي إلى تجاوز الاتجاهات الثنائية أو الدرجية
التي تجعل من بعد من الأبعاد أو المقولات أو القطاعات في الحياة قاعدة تتموضع
عليها وتتحدد تبعاً لها الأبعاد الأخرى. فالحركية الاجتماعية لا يمكن أن تقيَّدَ
ببنى فوقية وببنى تحتية كما هو الأمر في الماركسية، أو بالهو ـ الأنا ـ الأنا
الأعلى كما هو الأمر في الفرويدية. ذلك أنها ذات أبعاد متعددة تنطلق من قاعدة لا
تشكل بعداً وإنما أساساً.
سيكون الرسم التخطيطي إذن لهذه الحركة عبارة عن رسم
شعاعي يسجل ازدهار مختلف الأبعاد أو المقولات لحياة مجتمع ما. وسيكون "رسماً
بنائياً، لكنه أيضاً تطوري من حيث إنه يسجل الاختلاف التدريجي لفعاليات الجماعة
البدائية. وهو أيضاً تاريخي، لأنه يصور الازدهار المباشر لهذه المجتمعات منذ القرن
التاسع عشر حيث تلتقي الثورة البورجوازية وأول ثورة صناعية. وهو كذلك تجريبي، بما
أن كل ممارسة حالية تميز على الأقل جزئياً بوصفها قطاعاً أو بعداً أو منظومة أو
مقولة في الحياة الاجتماعية".
ماهي هذه القاعدة؟ وما هي هذه الأبعاد؟
القاعدة هي بطبيعة الحال: الطبيعة (وبيرك يتبنى المعنى
الذي يضفيه ماركس على هذه الكلمة كلياً). أما الأبعاد فمن الممكن أن تكون
لامحدودة: بعد التكنولوجيا والجماليات والمقدسات والنشاط الحر...إلخ.
يتحقق التقدم، على المستوى النظري، بتقارب مستوى الأبعاد
المختلفة جميعاً بوصفها تنطلق كلها من قاعدة واحدة. إن تعددية هذه الأبعاد يمكن أن
تلاحظ بوضوح على مستوى الحياة اليومية، أما على مستوى العلاقات فإننا إزاء نوعين
منها: علاقات كل واحد من هذه الأبعاد مع القاعدة من جهة والعلاقات التبادلية بين
مختلف الأبعاد من جهة أخرى. غير أنه بإضافة المجموع الاجتماعي يمكننا إضافة نوع
آخر من العلاقات ونعني به علاقة هذا المجموع بتجربته المعاشة.
إذا حاولنا إذن تعديل هذا الرسم التخطيطي الشعاعي في ضوء
التطور التاريخي الموضوعي لواقع ما لكان علينا أن نحدّ فيه من بعض الأبعاد، في حين
نترك بعداً أو أكثر يصل إلى أقصى نقطة في الرسم وذلك حسب المرحلة التاريخية التي
نعمل على تحليلها (والخطوط الأفقية في الرسم تشير إلى مختلف المراحل التاريخية).
سنلاحظ مثلاً بصدد المجتمعات الصناعية أن ثمة قفزة هائلة يسجلها البعد التكنولوجي
منذ القرن التاسع عشر، في حين أن الأبعاد المورفولوجية التنظيمية أو المعيارية لا
تكاد تقارن به. سيعكس الرسم التخطيطي إذن في هذه الحالة نوعاً من اللاتناسق
والشقاق، هو ما نراه في الواقع عجزاً في التوازن وتناقضات تسم العصر الصناعي. فهل
نتحدث إذن عن "تقدم" أو عن "التقدم"؟
يشير بيرك إلى أن قفزة البعد التكنولوجي قد سجلت تقدماً
هائلاً. غير أن اعتبار هذه القفزة هي "التقدم" يرجع إلى أن العالم الذي
تحكمه التكنولوجيا قد صاغ لنفسه فكرة عن التقدم من وجهة نظره هو؛ إلا أن هذه
الفكرة تعاني من سوء السمعة نظراً لفقدان التوازن ولاستحكام اللاتناسق وسيطرة
الخيبة والإحباط على الشخصية الفردية والجماعية. والوصول إلى تحقيق توازن نسبي لا
يمكن أن يتم إلا مع أخذ الأبعاد الأخرى بعين الاعتبار. صحيح أنها مشروطة بالبعد
الأكثر حركية، ونعني به البعد التكنولوجي، إلا أن هذا الإشراط لا يتناول المضمون
الخاص لكلٍّ منها وإنما يرتبط بإيقاع حركيتها، بمعنى "إجبار الأبعاد الأخرى
على أن تزدهر وفق نفس الحيوية والحركية التي تميز البعد الأكثر تسارعاً في هذا
المجتمع، أي بالنسبة إلى عصرنا، التكنولوجيا. بيد أن ازدهار هذه الحركية في
الأبعاد الأخرى سوف يتم بطريقة خاصة بكل بعد على حدة. إن تقدم التقنية على سبيل
المثال ليس ذا طبيعة تؤدي إلى القضاء بعد
أجل طويل أو قصير على الاعتقاد الديني كما ظن بعض الوضعيين في فرنسا في القرن
التاسع عشر وكثير منهم اليوم، وإنما سيرغم الاعتقاد الديني على أن يتلبس بطريقته
الخاصة أساليب متجددة وأشكالاً متجددة لا تفعل في الواقع أكثر من أن تعكس
التسارعات التاريخية لعصرنا".
منذئذ، يغدو الديالكتيك تعددياً، ويتحقق على مستوى مختلف
الأبعاد في علاقتها التبادلية فيما بينها، وفي علاقتها مع القاعدة التي تنطلق
منها. وبقدر ما يحقق المجتمع إبداعية على مستوى مختلف الأبعاد، تقترب في إيقاعها
من إيقاع إبداعيته في البعد الأكثر تقدماً، بقدر ما يتحقق هذا الديالكتيك التعددي
في أفضل صوره، بحيث يبلغ المجتمع شدة إبداعية عامة وتوازناً نسبياً بين مختلف
فعالياته.
بذلك يمكن أن نلاحظ إلى أي حدٍّ يبدو كلٌّ من مصطلحيْ التقدم والتخلف مصطلحاً
نسبياً وقاصراً، في واقع المجتمعات المختلفة في عصرنا، عن التعبير عن حالة كلٍّ
منها.
لقد أشرنا إلى أنه لا يمكن قيام حضارة عالمية حقيقية إلا
إذا أخذ التعدد الثقافي بعين الاعتبار. ويتيح لنا تعدد منطق التقدم أن نصل إلى
أساس هذا التعدد في الهويات الجماعية أو الثقافات ونعني به مفهوم الخصوصية. يكتب
بيرك: "إن خصوم الخصوصية الذين يعتقدون بضرورة فرض نمط من أنماط الرب
الليبرالي أو الغرب الاشتراكي على الكرة الأرضية كلها يطابقون بين الخصوصية
والمحافظة... بيد أن كل مجتمع يريد أن يصل إلى العالمية الإنسانية أو التاريخية لا
يمكن أن يصل إلا انطلاقاً من مواقعه ومن نفسه. فما هي هذه الخصوصية؟ إنها معادلة،
علاقة خاصة بالمجموع المنظور إليه، بين علاقات أبعاده فيما بينها من ناحية وفيما
بينه وبين قاعدته من ناحية ثانية، وبينه وبين تجربته المعاشة الجمعية من جهة
ثالثة. وكل من يتمكن من وصف العلاقة بين هذه الأشياء الثلاثة يقدم بياناً عن
الخصوصية في مجموع اجتماعي.".
هذا يعني أن الخصوصية لا تقوم على مضمون موضوعي ثابت، وإنما تقوم على علاقة تميز
منظومة ما عن غيرها. لقد استمرت اللغة الفارسية مثلاً في الوجود على الرغم من أن
الكلمات العربية تصل لدى بعض كتابها حتى نسبة 60%. ذلك أن اللغة لا تقوم على كلمات
وإنما على علاقات أي على منظومة، يعني استمرارها استمرار المجتمع الذي تنتمي إليه.
أما الأصالة فلن تعني، انطلاقاً مما سبق، مقاومة التقنية باسم تراث عريق، أي لن
تقوم على نفي التطور المادي باسم الهوية الجماعية، كما أنها، بالمقابل، لن تنتفي
في حال تحقيق التطور المادي، وإنما ستعني ببساطة الرجوع إلى القواعد. لقد قلنا إن
العلاقة مع القواعد هي جزء من كلٍّ يكون خصوصية مجتمع ما. لكن ما الذي نعنيه
بقاعدة مجموع اجتماعي محدد؟ إنها "أكثر مستويات تشابكه مع دعامته الطبيعية
مباشرة. على أن القول بالبيئة يستدعي
أيضاً إدخال ماضي المجتمع، بل وحتى ماضيه الأكثر ابتعاداً في الحساب، فضلاً عن أن
العلاقة مع الذات الأخرى، تعتبر كذلك جزءاً من هذه القاعدة".
إن النظر إلى الأصالة من حيث هي العلاقة مع القواعد،
والنظر إلى القواعد على النحو المشار إليه، يؤدي بنا إلى تعريف للطبقات الاجتماعية
يوسع تعريفها السوسيولوجي بجعله تعريفاً أنتروبولوجياً: "فالطبقات الاجتماعية
لا يجب أن تفسر ببساطة بالنسبة للمجتمع أو بالنسبة لعلاقات الإنتاج بوجه خاص وإنما
يجب أن تفسر بالعلاقة مع علاقات أكثر اتساعاً لهذا المجتمع مع الطبيعة":
"فأكثر الناس استغراقاً في التشابك مع الطبيعة هم الفلاحون الذين يحرثون
الأرض، والعمال الذين يحرثون ـ إذا جاز التعبير ـ المادة. أما المثقفون والفنانون
فإنهم يقترحون على المجتمع علاقات بين تجربته المعاشة وبين أصوله".
** ** **
في ضوء هذا العرض الموجز لنظرية تعدد منطق تقدم الحركية
الاجتماعية يمكن الآن أن نستعيد السؤال الأساس الذي سيكون محور الكتاب ونعني به
التساؤل عن وجود ثقافة عربية معاصرة. وسيكون بوسعنا منذ الآن أن نرى مشروع
الإجابة: فانطلاقاً من اعتبار الثقافة حركة الكلية الاجتماعية في جهدها للتعبير عن
نفسها وللبحث عن دلالاتها، سيتركز البحث حول مختلف أبعاد هذه الحركة في المجتمع
العربي الشامل، في مستوياتها بالعلاقة مع البعد الأكثر انطلاقاً في عصرنا ونعني به
البعد التكنولوجي الذي يفرض إيقاعه بقوة؛ وفي علاقاتها مع القاعدة الأساسية
للمجتمع العربي، أي في مقدار أصالتها وما تعنيه أيضاً هذه القاعدة من ماض ثقافي
وتاريخي؛ ثن في مستوى التعبير عن هذه الحركة جمالياً: في الشعر أو في القصة أو في
الرواية أو في المسرح أو في السينما.
وسيتم رصد مختلف أنواع التفاوت والخلل في مستويات هذه
الأبعاد وفي علاقاتها فيما بينها. وبإيجاز سيتم البحث عن الإبداعية في تحققها في
مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية، ومستوى هذه الإبداعية بالمقارنة مع تسارعات عصرنا
الأساسية.
يبدأ بيرك من العنصر المشترك بين القطبين اللذين تكشف
المشاهد العمرانية في المدن العربية من تعارضهما ونعني به اللغة. على أن النظر إلى
اللغة العربية يجب أن يتم ضمن "إطار مجموع التطورات اللغوية التي يشهدها
العالم منذ قرن ونصف".
وفي هذا المجال يقدم العالم اللغوي رومان جاكوبسون فرضية بالغة الأهمية تتناول هذه
التطورات وردت في مقال شهير له "ماهو الشعر؟"
ويستعيدها بيرك في بداية بحثه : يلاحظ جاكوبسون "أن النصف الثاني من القرن
التاسع عشر كان عصر تضخم مفاجئ في الدلالات اللغوية. وقد جهدت أكثر التظاهرات
الثقافية نمطية في هذه الحقبة لكي تخفي بأي ثمن هذا التضخم اللفظي ولكي تزيد بكل
الوسائل الثقة بالكلمة، كلمة الورق هذه: وضعية وواقعية ساذجة في الفلسفة، ليبرالية
في السياسة، اتجاه نحوي في علم اللغة، خداعية مهدهدة في الأدب وعلى المسرح؛ وأياً
كان المقصود هنا: سواء أكان الأمر مجر إيحاء طبيعي ساذج أو إيحاء انحطاطي أو أحادي
تصوري أو مناهج ذرية لعلم الأدب (وللعلم بشكل عام في واقع الأمر)، فقد ثبت، بفعل
مختلف هذه الوسائل، رصيد الكلمة وتعزز الإيمان بقيمتها الحقيقية".
على أنه بدون تحديد العمليات التي أدت إلى هذا التضخم،
فإن هذه الفرضية تظل ناقصة. ولذلك فإن بيرك يستدعي معطيات علم الاجتماع التاريخي
لإتمامها من هذه الناحية.
فلم يكن التضخم اللفظي ظاهرة معزولة ولا يمكن له أن يكون
كذلك. ولوضع هذه الظاهرة في إطارها الاجتماعي التاريخي المناسب لابد من العودة إلى
جذور كل التسارعات التي شهدها ذلك العصر، ونعني بها الثورة الصناعية. فقد كان
التوسع غير المحدود في المضمون المادي والاقتصادي والتقني للمجتمعات الغربية نتيجة
لتقد التكنولوجيا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يكن توسع الكلمة سوى أحد
الانتظامات (Régularité) التي حاولت هذه المجتمعات
تحقيقها آنذاك بصيغ بالغة الاختلاف والتنوع. على أن الثورة البورجوازية والتغير
الأسلوبي الذي يطابق هو نفسه تغيراً في المخيلة وفي الذوق تعتبر انتظامات أخرى.
وكان البحث عن توازن أبعاد الحركية الاجتماعية الأخرى مع البعد التكنولوجي يتم تحت
وطأة الاختلال؛ بيد أن التوازن المنشود لن يتحقق، وسينشر اختلال الأبعاد المختلفة
للفرد وللمجتمع شعور عدم الرضا الذي لن يجد متنفسه الوحيد إلا عبر الأدب والموسيقى
والرسم، وهو ما عرف بالموجة الرومانتيكية.
بيد أن إبداعية الرومانتيكيين التي كانت خليقة بتحقيق توازن مع الخصائص
المادية للعصر كان من صنع نخبة بعيدة عن الجماهير، (فتوحد العبقرية سيتعرف نفسه
رومانتيكياً)، ولم يكن ثمة مقابل مورفولوجي للتحولات الهائلة سوى قناع الكلمات
التي كانت تزيد من خطورة الاختلال بمحاولتها إخفاءه. ذلك أن التوازن والانتظام لا
يمكن أن يتحقق إلا بثورة تبلغ من العمق عمق ما وصل إليه البعد التكنولوجي الذي كان
يمضي قدماً. ومن هنا إذا كان رومان جاكوبسون يحدد منتصف القرن التاسع عشر كلحظة
انطلاق ظاهرة التضخم اللفظي، فإن بيرك يشير كذلك إلى أن هذه اللحظة كانت أيضاً
لحظة صدور البيان الشيوعي.
وهي تشكل أيضاً في تاريخ المجتمعات الغربية حداً فاصلاً
بين مرحلتين: الانحطاط الذي كان ينتهي والنهضة التي كانت تبدأ. ولفهم ما كان يحدث
على مستوى الظاهرة اللغوية العربية آنذاك لابد أيضاً من العودة إلى الجذر، إلى
الثورة الصناعية، بيد أننا سنكون هنا إزاء فارق أساسي: ففي حين كانت اللغة أو
اللغات الأوربية تحاول أن تحقق توازناً مع البعد التكنولوجي ضمن دائرة تاريخية
واجتماعية محددة، فإن التوازن الذي ستسعى إليه المجتمعات العربية كان يختلف كلياً:
فالبعد التكنولوجي فيها لا يزيد في تقدمه عن الأبعاد الأخرى، وهو لذلك ليس توازناً
بين أبعاد حركية واحدة، وإنما هو توازن حركية مع حركية أخرى، لابل مع أهم أبعاد
هذه الحركية الأخرى وأكثرها تسارعاً وهو البعد التكنولوجي. ومن هنا، فإن التقدم
كان يستقبل باعتباره ضياعاً، أما اللغة فقد قدمت أيضاً موازياً للجهد التعويضي
الذي تمثل في ظاهرة التضخم اللفظي في أوربا مع فارقين يستمدان أصولهما من الاختلاف
المشار إليه: "فاللغة العربية كانت تصطدم ببيان قديم كرسه نموذج يستحيل تجاوزه
هو القرآن من جهة، وكان عليها، من جهة أخرى، أن تستعير معظم مضامين الآخر الجديدة.
وسيبقى الفحوى الحقيقي للكلمة العربية كامناً لأمد طويل في جهد القائل كيما يتكيف
مع العالم الحديث مع محافظته فيه على هويته أكثر من كمونه فيما تشير إليه أو
تعنيه".
كانت المشكلة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر
بالنسبة للمجتمعات العربية تتركز في ما إذا كان بوسع هذه المجتمعات أن تكون خلاقة
ومبدعة على مختلف المستويات. ذلك أن الفصاحة تظل شيئاً آخر يختلف اختلافاً كلياً
عن إبداع أعمال تليق بمستوى عظمة الماضي العريق. وكانت أكثر الأعمال الأدبية لا
تزيد عن كونها تقليداً لهذا الماضي بحيث كان ثمة مبرر لليأس من إمكان إنجاز تعبير
حديث.
لكن الإمكانات لم تكن تنقص اللغة العربية. وكان لابد من
انتظار حركية الأبعاد الأخرى في المجتمع لكي تواجه تحدي "الآخر" المتمثل
في الغرب، حركية بدأت قبل الحرب العالمية الأولى، كما تتبدى هذه المواجهة في الخطب
الدينية مع الشيخ محمد عبده، والخطبة السياسية مع مصطفى كامل، ولغة الصحافة التي
أخذت بالتطور، وكيما تتجلى كذلك في أعمال أدبية لئن لم ترتفع إلى مستوى الروائع
الكلاسيكية فإنها تكرس مع ذلك قابلية هذه اللغة
على التجدد، وتعدّ لقفزة في العملية الحضارية الجديدة التي بدأت قبل ذلك بنحو نصف
قرن، ونعني بها النهضة.
ومع ذلك فقد كان لابد من أن يتحرك البعد التكنولوجي لكي
تتم القفزة الحقيقية في اللغة: "كان على العالم العربي أن ينتظر الثلاثينيات
لكي يبدأ جهده التصنيعي".
وهو جهد لن يتوقف بعد ذلك؛ آنذاك، سيضع طلعت حرب العمل الاقتصادي والعمل اللغوي
على خطين متوازييْن: (لابد من أن تكون اللغة العربية لغة المصارف أيضاً)، وسيكون
بوسعنا أن نميز عدداً من الملامح الأساسية التي تعكس محاولة اللغة العربية تكوين
انتظام يتوازن مع تجدد أبعاد الحركية الاجتماعية: "تقدم في مجال التعبير عن
التقنية، ومحاولة للتقريب بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية عبر هذه اللغة
الثالثة أو اللغة الوسطى التي تؤلف اليوم لغة الصحافة والإذاعة. ذلك أنه كان لابد للغة
من أن تكون قادرة على نقل التجارب الحديثة وأن تخضع للتجدد المستمر في
الحياة".
بيد أن اللغة الوسطى لم تكن وليست في نظر عديد من المثقفين العرب الوسيلة الوحيدة
لتطوير اللغة. لقد كان طه حسين يعمل مثلاً على تحقيق أسلوب يستعيد عبره العبقرية
الكلاسيكية لكاتب كالجاحظ لاستنباتها من مفاهيم جديدة. وعلى النقيض من هذه
المحاولة، كان ثمة محاولة تتطور ببطء ولكن بثبات: اللهجات العامية، وهي أخطر ما
يهدد الإبداعية العربية.
ومهما يكن من أمر، فإن جهد اللغة قد بدا أكثر فاعلية من
غيره، فانعكس تقدمها في انكماشها الذي يجعلها تبدوملتصقة أكثر فأكثر لا بالواقع
فحسب، بل بواقعها نفسه الذي هو رهانها الخاص. لقد بات واضحاً اليوم أن اللغة
العربية تعالج أكثر المشكلات المعاصرة دقة وتعقيداً.
** ** **
لكن لتطوير اللغة وجهاً آخر، لعله أهم وجوهها، ونعني به
مشكلة التعريب. بيد أن بيرك يطرح هذه المشكلة ضمن إطار آخر غير إطار اللغة الذي
انطلق منه، باعتبارها ترتبط في الحقيقة بواقعة بارزة في التاريخ العربي المعاصر:
واقعة الوحدة والتعدد.
على المستوى التاريخي، تبدو هذه الواقعة بجلاء في
حقيقتين بارزتين: فهناك من جهة عالم عربي واحد إذا نظر إليه من خلال تراثه ولغته
ومثله وتضامن أجزائه، وهناك من جهة مقابلة عالم عربي متعدد إذا نظر إليه من خلال
الاختلافات الاجتماعية.
على المستوى الثقافي/التاريخي، هناك أيضاً الثقافة الشاملة
الواحدة والثقافات المحلية أو الفرعية (sous-culture).
وعلى مستوى الثقافة الواحدة، هناك اللغة الواحدة من
ناحية، والتعددية اللغوية (hétérophonie) من ناحية أخرى: ترتبط مشكلة
التعريب بالأولى، ويرتبط تحقيق التقدم والحداثة بالأخرى.
وعلى مختلف المستويات يقدم بيرك بياناً من الوقائع
وتحليلاً يردي إلى صياغة أسئلة حاسمة: علاقة المغرب بالمشرق: على أي مستوى من
تصنيف الجماعات يريد المغرب أن يضع نفسه بالعلاقة مع بقية العالم العربي:
المجتمعات الشاملة أم الجزئية الشاملة أم الشاملة كلياً؟؛ والوحدة ىالعربية: إن
بوسع هذه الوحدة أن تتحقق، بل لابد من تحقيقها، ولكن لابد من عدم المطابقة بين
الحلم والواقع، ولابد من التساؤل والإجابة فعلياً وواقعياً عن هذا التساؤل: ما
الوحدوي على مستوى الواقع في العالم العربي وما المتعدد؟، والتعريب: مشكلة ذات
وجهين، وجه يتعلق بجهد التحرر من آثار المرحلة الاستعمارية ويتجلى بوجه خاص في
المغرب العربي، وآخر يتعلق بالحداثة ويتناول العالم العربي ككل. غير أن المشكلة في
وجهيها لابد من أن تطرح في نظر بيرك بمصطلحات بناء إبداعية عربية باللغة العربية،
وهي مشكلة لا تطرح إلا بالعلاقة الحميمة والواقعية مع حركة العالم، وهذا يعني أن
يصاحب تعريب الكلمة شرطياً تحديث المجتمعات العربية. أما فيما يتعلق بالوجه الأول
قيلاحظ بيرك أن التعريب يدب ألا يعني الاقتصار في مجال التعليم على اللغة الأم.
فالتعددية اللغوية يمكن أن تحقق نتائج بالغة الأهمية، بحيث لن تلبث أن تفرض نفسها
على المجتمعات الغربية نفسها: فاللغة الأم تحافظ في وعي الطفل على القواعد العميقة
وتضمن استمرار الهوية وتحقق جدليته الطبيعة والثقافة التي لا تنتهي، في حين تؤدي
اللغةالثانية وظائف محددة لها مسبقاً. وستتيح الفوارق بين اللغات السامية والهندوـ
أوربية إمكان الحصول على تراكيب خصبة كتلك التي حفل بها في العصور الكلاسيكية نثر
البيروني وابن المقفع.
ذلك لن يعني بطبيعة الحال إنكاراً لاختلاف الثقافات،
"فمن حق الثقافة العربية أن تطالب بحقها في الاختلاف".
على أن تعليم اللغات ليس إلا جزءاً من التعليم بوجه عام.
ويخصص بيرك لهذا المجال فصلاً كاملاً يستعرض في قسم منه سيرة واحد من كبار
المثقفين العرب، ونعني به طه حسين، الذي يجد بيرك في حياته وفي أعماله وفي مسيرته
نموذجاً يرتبط عضوياً بالمسيرة الثقافية العربية منذ الربع الأول من القرن
العشرين. ومن أعمال طه حسين، وبشكل خاص كتابه البالغ الأهمية "مستقبل الثقافة
في مصر" ـ 1944 ـ يكشف بيرك عن مختلف التطورات التي يقدمها العرب عن التربية
والتعليم، منتقلاً إلى كتاب جميل صليبا
"مستقبل التربية في الشرق العربي" ـ 1962 ـ، ومختتماً بمناقشة كتاب عبد
اللع عبد الدايم "التخطيط التربوي" ـ 1966 ـ .
** ** **
لئن كانت اللغة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر قد
حاولت بجهد تعويضي في البداية ما لبث فيما بعد أن استحال جهداً إبداعياً، أن تؤسس
عملية النهضة الحضارية، فإن الثوريين العرب بالمقابل كانوا "قد اكتشفوا أن
التقدم إما أن يكون شاملاً أو لا يكون، زحطموا، بالإنجازات المباشرة، كل الصيغ
الاستعمارية القديمة التي تحدثت عن استحالة التصنيع بسبب القدرية أو العجز".
"لقد غدا المصنع من صميم مشهد الحياة العربية"، ومع ذلك، فإن من الممكن
التساؤل: إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار المصانع الجاهزة التي تتزايد في المنطقة العربية
محققة لتطور فعلي؟ من المؤكد ـ يقول بيرك
ـ أنها تقاس بالخدمات التي تؤديها، وبالدلالات الجديدة التي تستثيرها في مجمل
الحركية الاجتماعية: بالقيم المصافة إلى الإنتاج الوطني، وبما تعكسه لدى المواطن
العربي من انتهاج التصنيع، وبالشروط التي توفرها لتطوير طبقة عاملة وقطاع نقابي...
كل ذلك يرسم للمستقبل نموذذجاً إنسانياً جديداً. المصنع.. بل وكذلك الثقافة
الاقتصادية والثقافة السياسية، ذلك أنها تعكس اليوم كلها صورة عن تبادل وتطور
مختلف أنماط الحركية الاجتماعية الذي هو معيار التقدم الحقيقي.
لكن السؤال ما يزال مطروحاً. فالإبداعية الحقيقية لا
يمكن أن تتحقق إلا عندما يعاد صنع الآلة المستوردة وبناء المعمل قطعة قطعة بأيد
وطنية، وإلا عندما يصنع المجتمع من الآلات ما يكفي كيلا يتوقف في جهده من أجل
التجديد على الأجنبي.
هذه الإبداعية، هل يعجز العرب عن تحقيقها؟
يكتب بيرك بإيمان، ولكن بمرارة أيضاً: ليست المعلومات هي
ما ينقص العرب، لا ولا الاستعدادات أو الشخصيات. إن الصحف العربية تشير مثلاً إلى
الدكتور مشرفة في مصر، وإلى آخرين، ولكن ماعدد الشخصيات التي يشار إليها والتي
تمارس فعالياتها الخلاقة ومبادهاتها الصناعية أو الأكاديمية في البلاد الأجنبية
ومن أجل هذه البلاد الأجنبية؟..
"لكن ذلك في نهاية الأمر نتيجة خطـأكم!
ــ أشك في ذلك.
ــ إن تكوينكم إياهم قد جعل منهم منفيين بالقوة. لقد
فصلتهم شهاداتهم عن بلادهم.
ــ أو أنها جعلت منهم سفراء أو وزراء بدلاً من أن تجعل
منهم بحاثين أو أطباء محليين..
ــ كان ذلك عملاً شنيعاً.
ــ ولكنه مشروع ناجح. ففي القرى المغربية اليوم يستبدل
الطبيب الفرنسي بأطباء بلغار أو صينيين في حين يفتح الطبيب المغربي عيادة خاصة
فخمة.
ــ إنك تبالغ.
ــ أبالغ! لنتابع مغ ذلك البحث عن المسؤولين عن ضرر
تصريف حملة الشهادات.
ــ إنهم منفيون بالقوة. لقد حططتم من عزائمهم. وكان
طبيعياً أن تستعيدوهم إلى سوقكم العالمي الشهير، وأن تستردوا منهم أكثر مما صرفتم عليهم من منح
وأساتذة وأدوات و...، ومع ذلك فإن المواطنين الصالحين يبقون في أعمالهم.
ــ أتراك ستقول لي، بناء على ذلك أن بلادك قد خصصت لهم
مكاناً ومنحتهم الفرصة لكي يحققوا ذواتهم ويعملوا ويتكلموا؟
ــ لن أذهب بعيداً، لكنه خطأهم بعد كل شيء.
ــ إنني أشك في ذلك أيضاً.
ــ إنهم مثقفون معزولون عن الجماهير.
ــ في حين أنكم أنتم، الشعب.. أليس كذلك؟
ــ أنت وأنا، يمكن أن نتفق على شيء واحد على الأقل...
ــ نعم: على ضرورة القيام بترحيل الثقافة وتكوين
المثقفين إلى الوطن...
ــ وماذا أيضاً؟
ــ على ضرورة أن نتخلى عن هذه الطريقة في التربية التي
لا تقوم إلا على الإغراءات والرشوات.
ــ وماذا أيضاً؟
ــ هذه تعنيكم الآن، أنتم على الأقل.
ــ ما هي إذن؟
ــ حرية التعبير بالنسبة إلى مثقفيكم، دون أن نتحدث عن
الحريات الأخرى!
ــ ها..ها...الحريات البورجوازية!
ــ إن على الحرية الاشتراكية أن تزيد منها لا أن ترجع
القهقرى وراء تلك الحريات.. بدون ذلك فإن الخروج سيستمر..
ــ لقد أسسنا "سمة الخروج".
ــ من تعني بضمير "نا" في أسسنا؟
** ** **
لقد تركز القسم الأول من كتاب بيرك، الذي حاولنا إبراز
محاوره الأساسية، على تحديد ملامح الثقافة العربية المعاصرة في علاقتها مع نفسها
وفي علاقتها مع ثقافة عالمية تنتمي إلى العصر الحديث. أما في القسم الثاني، فإنه
ينتقل إلى مشروع آخر يبدو للوهلة الأولى وكأنه لا يمتّ إلى الأول بصلة، لكنه يرتبط
به في الحقيقة برباط عضوي: علاقة هذه الثقافة بماضيها الخاص.
ولكي يبرز إلى العيان ملامح هذه العلاقة، فإنه يدعو
قارئه إلى القيام معه برحلة في الزمان وفي المكان! سيمضي في الزمان إلى العصر
الجاهلي ثم إلى عصر القرآن، وفي المكان سيحط
رحاله في أرض الجزيرة العربية: أرض اليوم وأرض الأمس وسيقتفي، في النصف
الثاني من القرن العشرين، آثار امرئ القيس.
هل هي عودة إلى الاستشراق؟
نعم ولا!
نعم، من حيث إن الاقتراب من الشعر الجاهلي ومن القرآن
يتطلب اختصاصاً ومنهجاً خصوصياً ما يزالان، بالنسبة إلى المثقفين الغربيين، وقفاً
على الاستشراق.
ولا، من حيث إن الاقتراب الذي يقوم به بيرك ينطلق من
الاستشراق لكي يتجاوزه ويفيض عنه. ذلك أن موضوع هذا الاقتراب ليس الشعر العربي
الكلاسيكي والقرآن في ذاتهما، وإنما بوصفهما مرجعين أساسيين للثقافة العربية
المعاصرة، أي، العلاقة بينهما وبين هذه الثقافة.
ولا أيضاً، من حيث إن اختيار الجزيرة العربية مكاناً
لهذه الرحلة يحمل أكثر من دلالة: فهذه المنطقة من العالم العربي، التي كانت مهد
الحضارة العربية الكلاسيكية، تقع الآن في منطقة بين الماضي والحاضر، بين الخام
والمصنوع. وبسبب هذا الموقع فهي تبدو أكثر المناطق العربية صلاحية لدراسة ميدانية
للعملية الحضارية الراهنة، أو، بتعبير أدق، لأساس هذه العملية. فهنا، يمكن استكشاف
الكيفية التي تتم بها معادلة تأنيس الطبيعة وتطبيع الإنسان، المعيار الحقيقي، منذ
الآن، لكل أصالة.
ولتحقيق هذه الرحلة تجتمع مواد عديدة: الوثيقة والشهادة
الحية والإبداع الشعري. تتداخل أو توضع جميعاً في علاقات متداخلة لكي تعكس الصورة:
فإذا كان يمكن الافتراض أن "الشعر العربي كان في بداية القرن السادس الميلادي
ثورة الثقافة والمجتمعات العربية، فإن ثورة القرآن كانت أشد حسماً بقطعها صلاتها
مع كل التقاليد القديمة، مقدمة خطاباً إلهياً للإنسانية جمعاء، ومبدعة في آن واحد
الكلمة والإيقاع والتصنيف".
هاتان الثورتان، الشعر والقرآن، إذا كانا أساس الثقافة العربية الكلاسيكية، فإنهما
يتداخلان في الثقافة العربية المعاصرة ويتجلى هذا التداخل في ما يطلق عليه
بيرك"الذكرى".
على أن الرجوع إلى القرآن وشعر الصحراء لا يعني أن
"الذكرى" تقتصر في الثقافة العربية على هذه البدايات. فقد أضيف إليها
خلال أربعة عشر قرناً "استنبات هائل للأفكار والسلوك والأعمال، كانت تعد لهما
أحياناً وتناقضهما أحياناً أخرى". بيد أن هذه العلاقة ليست هي الوحيدة التي
تكون الميراث العربي، كما أنها لا تكفي لوحدها بطبيعة الحال لنُعرِّف كائناً
تاريخياً كرسته الأزمنة الحديثة لأن يستخلص من أعماقه وأعماق الآخرين تجدده الخاص.
ذلك هو ما يجعل المعادلة الصعبة ممكنة: الانفكاك عن الماضي دون التخلي عن الإيمان
به أو الإخلاص له، معادلة يجد بيرك تعبيرها الجمالي في قصيدة لشاعر عربي معاصر
تحمل اسم "ميلاد".
** ** **
ويجد كذلك تعبيرها في مجمل الإنتاج الثقافي في العالم
العربي. ففي القسم الثالث من الكتاب سيركز على تعبير العرب عن أنفسهم وعن الدلالات
التي يبحثون عنها. ويسجل بيرك في هذا الصدد أن جهد العرب لتأصيل المكتسبات
والتحولات وجهدهم للمحافظة على هويتهم يتحقق بقدر من الغموض يحفل بالوعود وعتوره
النذر. والخطر الأكبر الذي يهدد مسيرتهم هو هذه القطيعة القائمة بين تقدمهم في
ميدتن التكنولوجيا وبين حركة الأبعاد الأخرى للإنسان والجماعة.
على أن هذا الخطر بالذات هو الذي يمنح الثقافة العربية
المعاصرة أهميتها القصوى من حيث إنها تترجم أولاً، بتوقفها أو بتراجعها، واقعة
استقلال مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية في ممارستها، كلاً لوحده، دوره منفصلاً عن
غيره، ومن حيث إنها تستبق، ثانياً، كلاً من الممارسة والسياسة: الممارسة، لأنها
تتنبأ بالنمط الثقافي للإبداع، والسياس، من حيث هي جهد لإقامة التواصل بين مختلف
القطاعات لبناء حركة شاملة، وهو جهد لا يمكن للسياسة أن تحققه بدون مثل وصور
ثورية، أي بدون حدوس محض ثقافية.
ولكن، كيف يمكن تفسير ظاهرة الاختلال في ثقافة ما؟
لقد أشرنا في بداية هذا العرض إلى أن بيرك ينظر إلى
الاختلال بوصفه ظاهرة لا مفرَّ منها، وهي، على سلبيتها، يمكن أن تلعب دوراً
إيجابياً في دفع مختلف أبعاد الحركة الاجتماعية نحو التقدم وفق إيقاع البعد الأكثر
تسارعاً. ولعل أوضح مثال على ذلك، ما يورده بيرك حول المعركة التي قامت بين مصطفى
صادق الرافعي وطه حسين حول قضية الشعر الجاهلي. فقد استنفر الرافعي قوى التراث
الإسلامي والمجتمع المصري في عصره ضد طه حسين الذي كان، بجرأته، يبدو داعية التقدم
والتجديد. كان اللاافعي يمثل قيماً ثابتة في الثقافة العربية، بينما كان طه حسين
يمثل اختلالً في هذه الثقافة. لكن هذا الاختلال لم يكن إلا انتظاماً موقوفاً، لن
يلبث أن يعود إلى حركته، مع اقتراب الأبعاد الأخرى منه.
ومن هنا فإن التساؤل سيتركز على العلاقة بين القيمة
الجمالية والتاريخ، لاغياً بذلك كل التساؤلات الأخرىعن أولية هذه أو ذاك. فالتحليل
يكشف ـ كما يقول بيرك ـ عن وجود صلات حميمة، بما أن الثقافة ليست في نهاية التحليل
سوى حركة الكلية الاجتماعية في بحثها عن تعبيرها وعن دلالاتها. على أن هذا البحث
"يؤثر أساساً على المجموع الاجتماعي مثلما يتأثر به". وبذلك يغدو العمل
الإبداعي "عملاً ياتقي مع اتجاه الأكثرية بحيث يفسره تفسيراً عميقاً، وبحيث
يظل هذا التفسير صالحاً لأمد طويل. انطلاقاً من ذلك، فإن دراسة الأعمال الإبداعية
لن تكون خصبة إلا إذا تمت في إطار الكشف عن التفاوت بين الاستعدادات الأساسية وبين
الخصائص الأدبية أو الفنية، أي في إطار العلاقة بين التعبيرية (Expressivité) و التاريخانية (Historicité).
وضمن هذا المنظور يصوغ بيرك مختلف إشكاليات الإبداع الفني والأدبي في العالم
العربي، متعرضاً بوجه خاص إلى الموسيقى والرسم والنقد والرواية والقصة القصيرة والمقالة.
يبدأ بيرك بوضع أساس فرضي لفحص نتائج تحديث الثقافة
العربية؛ وهو يقوم على أساس أن تحديث هذه الثقافة يخضع، كيفما كان جانب
الاستمرارية فيها، إلى ازدهار في الأنواع وإلى شروط في الشكل تتوقف، في الحقبة
الراهنة، على الثقافات السائدة في العالم. ويتحقق ذلك وفق صيغ يسيطر فيها حسب
الحالة التقارب أو التصارع، بما يؤدي إلى نتائج جمالية واجتماعية في آن واحد.
وانطلاقاً من ذلك يرسم بيرك معالم التطور الذي طرأ على
مختلف الأنواع الأدبية والفنية في الثقافة العربية المعاصرة على النحو التالي:
"ــ من المؤكد أن امتياز المسرح أنه ابتدع لا
وظيفته بالطبع، وإنما نمطاً من التعبير النادر في الشرق حتى أمد قريب. كذلك الرسم
والنحت. وإلى حرية هذه الحركة يمكن أن نضيف ولا شك نجاحات هذه الأنواع المبكرة
والمؤكدة.
" ــ ولكن كيف يمكن النظر إلى الآثار المعاكسة في
حالة السينما والتخييل الروائي؟ في الحالة الأولى، نواجه فناً يعتمد الاقتصاد
الصناعي ويمتد قدماً عبر الاتصال الجماهيري. والحق أنه حتى الآن لم يكن للتوصل إلى
الجماهير وإلى التمويل الواسع للسينما المصرية التي تسود السوق مقابل إبداعي على
الرغم من ظهور أفلام ذات قيمة. وكان على السينما العربية أن تضحي بنفسها في سبيل
الذوق المتوسط للجماهير العريضة. إن الحداثة تصطنع في السينما كتثاقف أو كتسوية
بين القديم والمستورد أكثر مما تصنع نفسها إبداعاً.
" ــ وعلى الرغم من بعض النجاحات المثيرة في
الرواية والقصة فإن هذا النوع يعاني نفس هذا النمط من التناقض. فلم يكن على حظ من
الجدّة لكي يتحرر من تراث، وكان كثير الجدة لكي يحقق تغيير استمرارية ما.
" ــ لكن الوضع نفسه ينعكس فيما يتعلق بالمقالة.
ومن الممكن القول بصددها أن خصائصها على قدر شكِّ المجتمع الذ تعبر عنه بما أنه
يكوِّن مادتها ويشرط في الوقت نفسه أسلوبها فضلاً عن أنها تشارك بتراث كان طه حسين
يجد في الجاحظ مُبْدِعَهُ الأول.
"ــ أما بالنسبة إلى الموسيقى، فإن الأعماق الشعبية
حقاً لقواعدها هي التي لا تتيح للحداثة أن تتوسل إليه إلا ببعض الإسهامات الآلية
وبنجاح التقليد الذي يقوم به بعض مديري المسارح. ولذلك فإن هذه المصالحة ترضي
جمهوراً عريضاً يرفض التجارب التي يقوم بها مؤلفون نادرون وفق الطريقة الحديثة، في
حين أنها تنتمي في أنواع أخرى كابحث والرواية، وإلى حدٍّ ما في الشعر، إلى أشكال
جديدة في الإبداعية".
تؤدي هذه النتائج إلى فكرة مؤداها أن ما يجعل الإبداع
ممكناً في الأنواع التي تستخدم الوسائل اللغوية إنما هو حيوية اللغة العربية
الاجتماعية وقوتها الجمالية، بحيث كان يمكن إعادة تأصيل هذا الفن أو ذاك. ومن هنا،
فإن الشعر ـ كما يرى بيرك ـ الذي هو أساساً عمل في اللغة، يتمتع بأولوية لغويةتطبع
من نواح كثيرة الثقافة إن لم تسم المجتمعات العربية المعاصرة.
إن الدراسة المطولة التي يقوم بها بيرك لعدد من أعمال
الشعراء العرب المعاصرين تتم عبر نفس المنظور، ونعني به منظور العلاقة بين التاريخ
والقيمة الجمالية التي يمثلها الشعر الآن. وكان السؤال الذي عملت هذه الدراسة على
الإجابة عنه: بأي حدٍّ يتجاوز الإبداع الجواب على الآخر والاستيحاء من الآخر أو
الثورة ضده، سواء أكان هذا الآخر هو الأجنبي أم الأجداد؟
يكتب بيرك: "لقد كان الشعر العربي المعاصر، شأنه
شأن التكنولوجيا والنضال الاجتماعي، أحد الوسائل بالنسبة للعرب لكي يجدوا العالم
في أعماقهم ولكي يؤكدوا أنفسهم إزاءه... ذلك أن التحليل الموضوعي لعدد من أعمال
الشعراء المعاصرين يكشف فيها ما لا يكشفه التحقيق العلمي في هذه المجتمعات إلا
نادراً".
إن العلاقة الحية بين الشاعر العربي المعاصر والواقع
الذي يشارك فيه ويؤثر أو يتأثر تقف وراء هذه الإبداعية التي يمكن القول إنها في
المقدمة من إبداعيات الأنواع الأدبية الأخرى في الثقافة العربية المعاصرة. فالشعر
المعاصر، بتحقيقه أخطر ثورة في الأدب العربي المعاصر، أي بتحطيمه أوزان الخليل
التي سار عليها الشعر العربية منذ أعماق العصر الجاهلي، مع استمراره في الإخلاص
للبنية الأساسية في هذا الشعر، أي المنظومة اللغوية، أي بتعبير آخر في علاقة هذا
الشعر مع قاعدته ومع التجربة المعاشة الواقعية والحركة الاجتماعية الراهنة إنما
أمكن له أن يقدم التعبير الأعمق عن الثقافة العربية المعاصرة في جهدها لترجمة حركة
الواقع وطرح مقدمات مستقبله.
** ** **
هل يعني ذلك أن العملية الحضارية في العالم العربي قد
استطاعت شق طريق لتجاوز التناقضات الأساسية التي فجرتها الثورة الصناعية في الغرب؟
لقد أوضحت التحليلات السابقة مدى ضخامة المشكلات التي
تواجهها هذه العملية منذ قرن ونصف على عديد من المستويات: مستوى التنمية التقنية
ومستوى الهوية، مستوى العلاقة بين مختلف أبعاد الحركية الاجتماعية وتسارع ونمو كل
بعد وفق إيقاع البعد التكنولوجي. ومع ذلك فإن تجربة العالم الثالث، الذي يعيش ثورة
التحرر من الاستعمار بكل أبعادها، ومن ضمنه العالم العربي بطبيعة الحال، قد طرحت
أساساً لحل كل المشكلات التي تطرحها هذه الثورة، ونعني به إعادة هذه المشكلات إلى
جذورها.
ولكن أية جذور؟
يجيب بيرك: "الجذور البيئية أولاً. فكل مشكلة يجب أن
تعاد إلى مستوى التقاء المجتمع مع الطبيعة من جهة وإلى العالمية التي تفرضها مسيرة
كل السعوب نحو وحدة الكوكب الأرضي من جهة أخرى. ثانياً، وهذه الملاحظة تستخلص من
الأولى، إن هذا المشروع يجب أن يستعيد
الإنسان والجماعة بدءاً من القاعدة، أي بشكل جذري، وهذا ما يطلق عليه اسم الثورة.
ثالثاً، إن هذا المجتمع المرغم على وضع هويته التي اكتسبها من أعماق العصور
بمصطلحات العصور الحديثة، لابد أن يخضع هذه الهوية إلى حركة منتظمة. ذلك أن تثبيت
هذه الهوية يعني قتلها؛ فلا بد بالتالي من تفجير كل المشكلات وتوسيع مداها حتى تصل إلى حدودها الإنسانية
الأساسية، بما أن الجهد الأساسي هو رفض المجتمع بوصفه شكلاً لإعادة صنعه بوصفه
ممارسة لامحدودة للإنسان الجماعي. إن مشروعاً من هذا القبيل لن يكون من فضائله
الصبر والدراسة فحسب، وإنما المغامرة
والرهان. رابعاً، المناداة بحق الاختلاف، حق التخلص من صيغ وربما من قوانين العالم
الصناعي.
هل يعني ذلك التخلي عن صراع الطبقات؟
مرة أخرى يحيل بيرك الإجابة إلى حوار:
" ــ صراع الطبقات إذن؟
ــ إننا نضعه في حجمه الحقيقي، وهو حجم ليس اجتماعياً
فحسب وإنما أنثروبولوجي.
ــ إنك تنزع منه ...
ــ التبسيط؟ الاحتكار؟ لا، إنه ليس الوحيد الذي يناضل في
العالم. وهو أمر ليس فيه ما يحزن. وإذا كان الهدف أكثر ضخامة من مجرد استعادة فضل
القيمة المسروق، وإذا كان يُعرَّفُ على وجه الخصوص بوصفه استعادة لما بقي تحت
الحساب فهل يغدو أقلَّ إقناعاً؟
ــ إحذر الغموض والتضليل.
ــ إحذر التقييد والوهم.
ــ يبدو أنك تريد القول إن البروليتاري الحقيقي...
ــ إن البروليتاري الأكبر في العصر الصناعي هو الطبيعة،
وما هو موجود من طبيعة فينا. ولذلك فإن الرأسمالية تشوه المجتمع، وإلى أجل الإنسان
وحتى الطبيعة.
ــ كأنك تدافع عن الخائفين من التلوث.
ــ على العكس تماماً. إنني أظل مخلصاً للتفاؤلية
التكنولوجية التي كانت بالأمس تفاؤليتكم، والتي تقفون منها اليوم موقفاً يتسم
بالرصانة. إلا إذا...
ــ إلا إذا ماذا؟
ــ إلا إذا كان المجتمع تعددياً، ويزدهر في أبعاده
المختلفة، ومن بينها البعد التكنولوجي، فإن هذا الأخير يمارس جاذبيته على الأبعاد
الأخرى، وعلى كل الأبعاد الأخرى أن تتقدم...
ــ أتقول "تتقدم"؟
ــ أقول تتقدم وفق إيقاعها،ولكن وفق المنطق الخاص بكلٍّ
منها.
ــ أعد، أرجوك.
ــ إن الإيمان بزمنية الإزدهار الإنساني في مختلف
أنماطه، والإيمان بالتسارعات التي يفرضها عليه المشروع الصناعي، قد بات اليوم أحد
مصادرات الاشتراكية ةالديمقراطية وربما أكثرها صحة. لكن...
ــ لكن؟
ــ ما يحطم هذا الاعتقاد ويتلفه أن تفرض على أبعاد
مماثلة ومتداخلة ولكنها مستقلة ايقاع وحدود بعدٍ واحدٍ منها. إذا كنت تسمي ذلك
ماركسية فإنني أسميه وضعية من أكثر الوضعيات بدائية.
ــ لنعد، أرجوك، إلى التلوث.
إن النادمين على النمو قد جعلوا منه فزاعة تستخدم للقضاء
على كل المطالب في صرخة كبرى تدعو للهرب من العصر الصناعي.
ــ تقول إن الإتلاف يتجاوز إلى حدٍّ كبير مجرد العلاقة
بين الطبقات، من حيث هو يشوه البيئة أو يحولها إلى بروليتاريا. ألا يعني ذلك صرف
النظر عن المشكلات الأخرى؟
ــ لذلك، إذا نظرنا إلى التلوث الذي تلوح به المجتمعات
الواصلة كفزاعة تعزل كل الآفات الأخرى في الظل، فإن العالم الثالث يرفض اعتباره
مشكلة مأساوية. غير أنه لا العالم الثالث ولا الاشتراكية يبدو عليهما أنهما يريدان
الإجابة على الواقع الذي تغطيه وتشوهه هذه الخدعة.
ــ ما الذي يمكن أن يكونه الجواب؟
ــ توسيع إطار الثورة الاجتماعية لتشمل كل ما هو بيئي.
ــ ماذا تعني بذلك؟
ــ إعادة العمل على ازدهار علاقة الطبيعة/الثقافة، التي
حطمتها وقمعتها السيطرة ضمن عديد من الأشكال الأخرى غير شكل استغلال الطبقة
العاملة. إعادة تطبيع الثقافة، إعادة تثقيف الطبيعة: هوذا المعنى الحقيقي للتحرر
من الاستعمار والمعنى الحقيقي لكل ثورة.
ــ ولكن لماذا العرب؟
ــ لاشك أن ميادين أخرى على كوكبنا الأرضي وتواريخ أخرى
للإنسان تسمح لنا بهذه الصيغ وهذه الآمال. أما هم، فإنهم يحققونها عبر خصوصيات هي
بالنسبة إلي (وبالنسبة إليهم) مفعمة بالمذاق.
ــ بالمذاق؟ لكني أظنكَ عالم اجتماع!"
** ** **
لماذا العرب؟ هذا هو السؤال الذي بدأ به بيرك كتابه، لكي
يستعيده ثانية في القسم الأخير منه.
ألأنَّ إسهام تاريخهم المعاصر ــ كما يقول ــ "في
نظرية وممارسة الحضارات يعود إلى ما يشترك به هذا التاريخ مع غيره، أم إلى ما هو
أكثر، إلى ما يتميز به عن غيره؟"
يوضح بيرك: "إن المجتمع العربي يكرس من بين مجتمعات
عديدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية هذه الملامح التي أتينا على استخلاصها
قبل قليل، سواء في نواحيها الإيجابية، أو في نواحيها السلبية. والأمر هو من الوضوح
بحيث أن هذه الفرضيات قد استخلصت مباشرة من تجربتهم الراهنة، بل إني لأجدها لدى
عديد من بحاثيهم، وخصوصاً لدى شعرائهم، مصاغة ومُقدَّمة على طريقتهم."
ذلك أن الوجدان العربي، وهو مفهوم يلخص كل هذه الفرضيات،
"بربط مباشريات التجربة المعاشة بحضور الأصولي، ويذيب بعدد من المواقف
المسافات والتناقضات التي سبقت الإشارة إليها. صحيح أن الأصولي، بالنسبة إلى
الوجدان العربي، هو المتعالي عادة وأن التاريخ المعاصر يفهم بطريقة أخرى عملية
الرجوع إلى القواعد، غير أنه يبقى أن هذا الحضور للقواعد (سواء عرفناها بصيغة
دينية أم طبيعية) وهذا الانبعاث إلى التجربة المعاشة الشخصية والجماعية يسمان سلوك
العرب باستمرار."
هذه السمات تميز كذلك طبيعة عملية النهضة الحضارية التي
بدأها العرب منذ قرن ونصف وتلون كذلك أصالتهم ـ من حيث إن الأصالة هي العلاقة
المستمرة والمتحركة مع القواعد ومن حيث إنها لا تنكر الحداثة أو الهوية ـ أي
مغامرات هذه الأصالة، بالمعنى النبيل لكلمة مغامرة.
لقد نظر إلى شخصية العرب باستمرار انطلاقاً من علاقة هذه
الشخصية بالمتعالي، وهي علاقة يحددها ويرسم معانيها الإسلام: فالإسلام دين الفطرة؛
وهو بهذا المعنى "يحفظ طبيعة الإنسان والطبيعة بشكل عام، ولا يرغم الإنسان
إلا على طاعة القانون الإلهي". بيد أن الإسلام إذا كان يعكس كثيراً من ملامح
العرب، فإنه لا يعكسها كلها: "لقد صنعنا منهم ولزمن طويل أبطالاً
ميتافيزيقيين وممثلين للمطلق، في حين أنهم لم يكونوا كذلك حتى زمن الخلفاء
الراشدين". بمعنى أن ثمة ملامح أخرى للعرب تعود إلى ما قبل الإسلام وتشارك في
تكوين الشخصية العربية على الرغم من طبع الإسلام لهذه الشخصية.
ومن هنا فإن الكشف عن هوية العرب الجماعية عبر تجربتهم
المعاشة يوضح لنا عدة انتظامات بالغة الأهمية. يكتب بيرك:
"1) هناك بطبيعة الحال المرجع إلى الإله، كما يقيمه
القرآن وكما تفترضه العديد من مسالكهم؛ غير أن من يريد استدعاء ثوابت أخرى غير
الثوابت المتعالية فإن بوسعه أن يجدها؛
2) كذلك في استمراريات تاريخية نتيجة العلاقات بين
الجماعة والبيئة، أو
3)عاكسة للاستمراريات في المواقف أو لرؤية للعالم خلت من
تغير جدير بالذكر عبر قرون؛
4) إننا نلاحظ إذن وجود تنظيمات ثابتة تبني وحدة متزامنة
لمجموع ما ولاستمراره في الزمان: فالوحدة تبقى في تنوع أو أنها لا تتنوع إلا بعد
أجل طويل جداً".
تنعكس هذه الاستمرارية التاريخية في سلوك العرب إذن
علاقة قوية مع ما يطلق عليه بيرك اسم الجذور أو الأنماط أو الثوابت، تتميز بغناها
المحسوس والحسي.
أما على مستوى التجربة المعاشة، فإن هذه العلاقة مع
الجذور يمكن لها أن تتخذ اتجاهات متباينة بل ومتعارضة، حسبما تكون طبيعة هذه
الجذور أو الثوابت: الأصول الدينية أو الطبيعية
وإذا كان ذلك يؤدي إلى نتيجة تبدو غامضة، فإن الأساس في
هذه الاستمرارية أو في هذه الخصوصية العربية هو الحضور أمام الذات. هذا الحضور هو
الذي يجعل الفعل مصيراً ويجعل المستقبل مغامرة.
121 نشر هذا المقال في مجلة المعرفة، العدد 162، الصادر في شهر آب/أغسطس 1975، ص. 92 ـ **