mercredi 29 avril 2015


في نكبة فلسطين  ومآلاتها المنتظرة


بدرالدين  عرودكي
 

نكبة فلسطين؟

هما الآن مشهدان ثابتان في الذاكرة تفصل بينهما سبعة وستون عاماً، يجسدانها في نظري. أولاهما محفوظ حكاية في ذاكرة شخصية والثاني قائم ومستمر في سوريا خصوصاً منذ أربع سنوات على مرأى من العالم كله.

المشهد الأول، شخصي جداً بقدر عموميته، يقدم حكاية أسرة دمشقية كانت تعيش منذ سنوات طوال في حيفا. زوج وزوجته وأطفالهما الثلاثة. عاد ربُّها مساء يوم من أيام مايو 1948 من عمله ليجد جميع سكان العمارة التي يسكنها ومن بينهم زوجته وأولاده الثلاثة على أرصفة الشارع المحيط بها بعد قيام قوة صهيونية من الهاجاناه باحتلالها وإخراج سكانها عنوة من بيوتهم فيها. طردت الأسرة مساء اليوم نفسه مع سواها وحملت على ظهر مركب رسا بأفرادها في ميناء بيروت، واضطرت بعد نزولها لقضاء أكثر من ثلاثين يوماً سيراً على الأقدام كي تصل دمشق. كنتُ أرى للمرة الأولى خالي وزوجته وأطفاله حين وصولهم إلى بيتنا في حيّ الشيخ محي الدين. مشهد بقي في ذاكرتي طفلاً ولم تمحُه السنون، رغم كل المشاهد الأخرى التي شهدها أو عاشها أيُّ فرد عربي مثلي في أيِّ بلد عربي.. مشهد شخصي حقاً، لكنه كان مشهد آلاف الأسر في تلك السنة المأساوية في تاريخنا المعاصر التي كانت تهيم على وجهها. لا أظنها امحت من ذاكرة كلِّ من عاشها ممن استقر بهم الأمر في المخيمات داخل فلسطين أو خارجها.

هناك مشاهد أخرى من النكبة الفلسطينية ستتوالى ولا شكّ تباعاً على الأرض العربية، على معظم الأرض العربية. وستتخذ ألواناً وأسماءً شتى، ألوان وأسماء سكان مدن قناة السويس بعد هزيمة يونيو 1967، وأسماء وسكان الضفة الغربية وهم  يكررون ثانية هجرة بيوتهم وأراضيهم في السنة نفسها وفي الشهر نفسه، وسكان الجولان السوري وهم يزحفون نحو أطراف دمشق بعد إعلان سقوط القنيطرة قبل وصول العدوِّ إليها. ولسوف تتخذ أيضاً من بعدُ ألواناً أخرى في لبنان مرات عدّة وفي العراق خصوصاً شمالاً ووسطاً وجنوباً. كانت كلها تنويعات على المشهد الأول تبتعد أو تقترب منه لكنها ذات بطل واحد: الإنسان العربي المعاصر.

لكن المشهد الثاني لن يكون تكراراً للمشهد الأول بقدر ما سيكون ارتداداً له على نحو يتفجَّرُ فيه كلُّ ما تراكم على امتداد هذه السنوات التي تفصل بين المشهدين. ولأنه ليس مشهداً خاصاً كالأول، فلن يكون واحداً، بل سيضم مشاهد لا حصر لها تتوالى أمام أعيننا جميعاً منذ نيِّفٍ وأربع سنوات.. تستعيد مشهد النكبة الأولى في تلك السنة المشؤومة، لاسيّما وأنها تتمُّ باسمها ومن أجل تجاوزها ـ كما كان يُقالُ ويُكرر كلَّ يوم ولا يزال في أجهزة الإعلام العربية كلها، مثل مشاهد مسرحية تفصل بينها استراحات لا تكاد تنقضي حتى يُستأنف المشهد من جديد أكثر قوة وعنفواناً ومأساوية، فبعد نيِّف وأربعين عاماً من مشاهد تفريغ المجتمع السوري من كل شيء: من الحرية أولاً ومن الكرامة تالياً، ثمَّ من السياسة ومن العقل ومن التفكير ومن كل ما يسمح لمجتمع طبيعي أن ينمو ويتطور ويعيش عصره وزمنه، ها هي مشاهد القتل والطرد والتهجير القسري أو الهجرة خياراً وحيداً تستعيد جملة واحدة المأساة الفلسطينية/السورية/العربية في عناصرها كلها، عبر تغريبة السوريين، وتهديم بيوتهم ومدنهم وحيواتهم، في محاولة لتمزيق هويتهم الإنسانية أساساً، تماماً كما تجسّدت النكبة الأولى محاولة لإعدام شعب بأكمله عبر إنكار وجوده أساساً.

وإذا كان المشهد الأول قد اكتسب عموميته في الوعي وفي الواقع معاً بدءاً من صفته الشخصية، فإن المشهد الثاني يتخذ طريقاً معاكساً حين يكتسب الصفة الشخصية من عموميته. ذلك أنه إذ لا يقتصر على مشهد واحد ولا على عشرات منها بل ولا على مئاتها مما لا يزال ماثلاً في الذاكرة البصرية والشعورية لمئات الألوف، بل للملايين في مشارق الأرض وفي مغاربها: من خلال مشاهد البشر وقد حملوا ما يستطيعون على ظهورههم، نساءً ورجالاً، أو على مراكبهم من حيوانات أو آلات مهترئة، مما يمكن أن يقيهم البرد أو الجوع لأيام معدودات، أو على قوارب بحرية تتسع لعشرات لكنها تحمل المئات وهي تغور في المياه على مسافة مئات الأمتار من شاطئ كان يمثل الخلاص ولو لهنيهات. وربما كانت مشاهد السوريين على إثر الفلسطينيين بعد سبعة وستين عاماً وهم يهيمون على وجوههم في سهوب سوريا أو جبالها ثم في البحر الذي شهد قديما انطلاق أمواج الحضارة منها، وبعد وخلال ذلك مشاهد الفلسطينيين في مخيم اليرموك وكأنهم في يوم الحشر يخرجون جموعاً بحثاً عن لقمة لأطفالهم ولأنفسهم، هي المشاهد الأكثر فصاحة وبياناً في التعبير عن النكبة الأولى وقد صارت نكبات، وعن عدد يُحصى بمئات الألوف صار يُحصى اليوم بالملايين، وعن عدوٍّ كان واحداً معروف الوجه والقسمات والهوية ثم استحال أعداءً لا حصر لهم، أشخاصاً ونظماً ومؤسسات عائلية أو قبلية تحاول لبوس دولة وهي أقرب إلى العصابة.

كيف أمكن لهذه النكبة الفلسطينية أن تصير على التوالي نكبات مصرية ولبنانية وعراقية كي تستقرّ أخيراً سورية بامتياز؟ وكيف استحال الحلمُ بعودة سريعة واقعَ هجرات متوالية؟ وكيف اتخذت النكبة التي بدأت فلسطينية جنسيات عربية أخرى؟ وكيف استطاع العدو الأول، سارق الأرض مزيف التاريخ، أن يتكاثر تكاثر جرثومة خبيثة في ضروبٍ من أفراد مرضى بالكرسيّ وبالسلطة، أو في أنظمة تمثّلت أصول السلوك المافيوي قبل أن تعرف معنى السياسة والمجتمع والمدينة، أو في عصابات وجدت في السرقة قانونها وفي التزييف أخلاقها وفي القتل سلاحها؟

كأنها إحدى بدايات التاريخ المعاصر للعرب، لكنها بداية تبدو الآن أمام أعيننا أكثر حقيقية وأشدّ مأساوية بعد أن استقرت شيئاً فشيئاً وعلى نحو مراوغ ديمومة في تاريخهم القريب المستمرِّ منذ نيف ونصف القرن.

سوى أنها كانت بداية عيشت كما لو أنها حدث عابر سرعان ما سيستحيل من المنسيّات. وراحت الصيغ الجاهزة توحي بل تغري بذلك وهي تغطي عناوين الصحف وأعمدتها وتجري على ألسنة الناس حقائق دامغة لا تستدعي فحصاً أو نقداً أو دراسة. كانت قد أطلقت إحدى هذه الصيغ على من اعتبروا وراء هذه النكبة وسببها تتجلى في عبارة "شذاذ الآفاق". لكنَّ شذاذ الآفاق هؤلاء تمكنوا، على وجودهم وسط محيطات بشريٍّة واسعة ممن لا يمكن اعتبارهم كذلك، أن يصيروا هم الضابط الأساس للزمان وللمكان وللحدث وللتاريخ في آن معاً.  كما لو كان ذلك كله يحدث خارج الزمان أو خارج حدود العقل. على هذا النحو، ومع توالي المشاهد المتماثلة، تلاشت تحت ثقل صروف الأيام كثرة من الأوهام،  وتمَّ الانتقال من أشدها حضوراً "سنرجع حتماً" إلى حلم "سنرجع يوماً".

جاء الانقلاب العسكري في سوريا عام 1949 حلقة أولى في سلسلة انقلابات أخرى في سوريا كانت وهي تتوالى تقدم نفسها بوصفها "ردّاً" على "ضياع فلسطين" أو "عقاباً" لمن فرط بها من السياسيين أو "مشروع استعادة" لـ"الوطن السليب". لكنها كانت جميعها تقوم بتدشين ـ كما يسعنا اليوم أن نرى ـ سلسلة من نكباتٍ أخرى لا تكاد تختلف عن النكبة الأولى إلا في هوية المُسَبِّبِ أو في طبيعة السبب. وعلى أن السوريين بأطيافهم المختلفة عاشوا النكبة الفلسطينية وجدانياً ومادياً بقدر من الكثافة والحدّة قد لا يجاريهم أو يماثلهم فيهما سواهم في البلدان العربية الأخرى، إلا أن النظام السياسي السوري في بداياته سرعان ما استحوذ عليها حجة لكل تصرفاته وتبريراً في سلوكه لكل ما سيؤلف أخطاءه. لكنه إثر آخر حلقة في الانقلابات العسكرية جرت تحت عنوان مراوغ، أي حين استحال نظاماً عائلياً وفئوياً، سيجعل من النكبة الفلسطينية حجر الأساس الذي سيستحيل الشعار السياسي الأول. من "النضال لاسترجاع فلسطين" إلى "الصمود والتصدي" إلى "المقاومة" إلى "الممانعة" ثم إلى "المقاومة والممانعة" معاً.  باسم ذلك كله وبحجته وبعد أن فرغ المجتمع السوري من كل شيء: السياسة والكرامة والحرية، سيتمّ باسم ذلك كله أيضاً قتل السوريين أنفسهم. وبمساعدة حثيثة وأريحية من بلد غير عربي: إيران.

إذ بعد أن انتبهتْ هذه الأخيرة إلى الفراغ السياسي الفاضح على معظم الرقعة العربية ولاسيما تلك التي تجاورها، وجدت أن بوسعها استخدام أداتين يمكن أن تطال بهما أعماق البلدان العربية على اختلافها: بحجة "قرابة دينية" تخفي بها النوازع والمطامع القومية الدفينة أولاً، ثم بحجة "تحرير القدس" و"محو إسرائيل من الخريطة" وأخيراً "المقاومة والممانعة" شعارها وشعار عملائها في ما صارت تعتبره مجالها الحيوي: العراق وسورية ولبنان. أنشأت من أجل ذلك أحزاباً أو كتائب (مما كان سيعتبر في بلدان  سليمة سياسياً واجتماعياً "الطابور الخامس" ويُساق إلى المحاكم بتهمة الخيانة العظمى) صارت هي الآمرة الناهية في مواقف ومصائر عدة بلدان عربية. لا بل إنها استطاعت بحنكة وخبث لا تجاريها فيه أية قوة إقليمية أخرى أن تستعبد في سوريا نظاماً صار رهن إرادتها وسياستها وتحت رحمتها.

هو ذا إذن مشهد النكبة الثاني الارتدادي في أوج تجلياته وأشدها بلاغة، يمثلُ السوريون فيه هذه المرة مثلما مثل فيه الفلسطينيون من قبلُ في مشهد النكبة الأولى. وها هو مخيم اليرموك الذي يسكنه الفلسطينيون اللاجئون منذ النكبة الأولى وقد جاورهم في سكناهم السوريون، يحاصرُه منذ سنتين نظامُ "المقاومة والممانعة"، مثلما حاصر صهاينة الهاجاناه العمارة في حيفا مثلما حاصروا ثم هدموا القرى العربية وصهينوا سواها من المدن؛ ها هو مخيم اليرموك اليوم يجسِّدُ رمزَ هذين  المشهدين، رمز هاتين النكبتين: السوري فلسطينياً والفلسطيني سورياً، ودمهما المسفوح مباحاً على أيدي تجار القضايا المقدسة  وباسم هذه القضايا، زوراً وبهتاناً، لا في سبيلها.

 

* نشر هذا المقال في مجلة الهلال، أيار/مايو 2015، ص. 24 ـــ 29.

 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire