lundi 30 mars 2015


قطع من "فسيفساء امرأة"


بدرالدين عرودكي

  

كنتِ في السابعة من عمرك.
 شجرة البرتقال في حديقة مقر المندوب السامي الفرنسي ـ وقد صار سفارة فرنسا بعد الاستقلال ـ  تطلُّ بأغصانها الكثيفة على باحة دار أبيك المجاور... وها هي تحمل ثمراتها الشهية تنعمين النظر فيها وتخفي في نفسكِ ما لا يمكن لكِ أن تبديه لأحدٍ من حولك، بانتظار اللحظة الملائمة.
ما أكثر ما أغرتكِ هذه الثمرات تتدلى وكأنها تناديكِ!. وها أنتِ، باكراً ذات صباح، تتسلقين الجدار الفاصل وقد زُيِّنَ لك أن الجميع نيام هنا وهناك. تودين أن تفاجئي أمك ببعض هذه الثمرات التي كانت تتمنى لو كانت في باحة دارها، وأن تقطفي بعضاً منها على حذر وفي غفلة من الجميع. وها هي يدك الصغيرة تمتدّ وقد تمكنتِ من أحد الأغصان القوية تقطفين أول برتقالة وتلقينَ بها إلى سلة وضعتِها أسفل الجدار. فجأة تشعرين بنفسك محمولة من خصرك بيد قوية. تلتفتين فلا ترين إلا عينيْن براقتين ووجهاً أسود البشرة وصوتاً يقول لك كلمتين ستحفظينهما طوال حياتك: جوتي آترابيه! (أمسكتُ بكِ) يكررها مراراً بينما تحاولين الخلاص من ذراعه عبثاً. لكنه يشجعك إذ يمدُّ لكِ بيده الأخرى برتقالة ثم اثنتين لكنك ترفضين أخذها منه. تحاولين الإفلات عبثاً من ذراعه مرة أخرى. ولا تستطيعين. كانت يدُ فرنسا كلها تمسكُ بكِ ولا تستطيعين فكاكاً منها. أهوَ فرنسيٌّ فعلاً؟ لكنه كان أسود البشرة! من يكون إذن؟ كان لسانك قد تحجّر في فمك. لا تستطيعين كلاماً أو صراخاً. ولا حركة. لا لغة بينكما. لم تكن الخشية منه بل من أن تراك أمُّك بين يديه! ما الذي سيحدث لها لو رأتكِ. لكنه وقد فقد الأمل في طمأنتكِ يحاول ثانية أن يضع يديك على غصن الشجرة والجدار كي تعودي أدراجك من حيث أتيتِ.. سرعان ما أدركتِ مُرادَهُ فانزلقتِ نحو أسفل الجدار بينما كان يرمي إليك ببرتقالات ثلاث وهو يقهقه هذه المرة بصوت سمعه الجميع، أخيراً.
قصصتِ عليَّ قصتك هذه مع فرنسا يوم قلتُ لك رغبتي في إتمام دراستي بباريس. كنت تخافينها خوفك من الجندي السنغالي الذي أمسك بكِ يومها وتجسَّدت لكِ فرنسا فيه.. كنتِ تخافين. لكنه خوف الأم تتغلب عليه رغبتها في أن ترى ابنها يحقق ما حلمت بتحقيقه يوماً يومَ كنتِ لا تزالين تحاولين.. 

* 

كنتُ في إجازة دمشقية صيف عام 1978 يوم طلبتِ إليّ أن أرافقك صحبة طريق بينما تقومين بأداء واحدة من الوظائف التي كانت تلقى إليك على غير انتظار. تفتحين خزانتك الخشبية وتتناولين منها لفافة قماشية سميكة تضعينها في كيس بلاستيكي ليسهل حملها.
نسير على أقدامنا باتجاه حي العفيف. وتحدثيني عن الفقراء الذين "يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف" والذين يمكن أن نعرفهم "بسيماهم" فهم  "لا يسألونَ الناس الحافا ". حين وصولنا قرب العمارة التي كانت مرامكِ، تطلبينَ إليَّ الوقوف بانتظاركِ على الرصيف المقابل. لا تريدين أن أرى ما تفعلين. أنتبهُ إلى أنَّ العمارة كانت قرب بيت رئيس جمهورية سابق من زمن مضى، يومَ كان العسكر في ثكناتهم لا في قصر الرئاسة! يُفتح لكِ الباب لكنك لا تدخلين. تمدين يدك بالكيس إلى شخص لم أره. ثم ها أنتِ تستديرين وقد أغلق الباب وراءكِ وتتقدمينَ نحوي حيث كنت أقف.
تقولين لي وقد استقرت غبطة عميقة في عينيْك وأعادت رسم قسمات وجهك : لنبحث الآن عن تكسي.  

*
كنا نقف على منعطف شارع العفيف الصاعد باتجاه حي المهاجرين والمنحدر نحو الجسر الأبيض. كانت سيارات التاكسي تتتالى. كنتِ كلما حاولتُ إيقاف أحدها تمسكين يدي: ليس هذا! أقول لكِ: إنها فارغة! لكنكِ تجيبيني باطمئنان عميق: انتظر..وتمر السيارات الصفراء كبيرة أو صغيرة، فارغة من الزبائن. أنظرُ إليكِ متسائلاً.. فجأة تقولين لي: أوْقِفْ هذا..كانت سيارة أمريكية صفراء اللون تعود إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي تسير ببطء وراء شاحنة متوسطة الحجم تنوء بما تحمله. أشيرُ إلى السائق بالتوقف فيقترب من مكاننا على الرصيف.  
حين جلسنا في المقعد الخلفي، سأل السائق: إلى أين؟
أجبتِ: "إبني. إبدأ أولاً بجعلى أرى بحرات دمشق. سأدفعُ لكَ كل عن كل بحرة تجعلني أراها خمسة وعشرين ليرة!
سرعان ما أجاب السائق جذلاً وقد حسبك تمزحين: إذن إلى السبع بحرات!
فأجبت بالسرعة نفسها: إذن صار لك بذمتي مائة وخمسة وسبعون ليرة!
وراح السائق يتذكر أين تتواجد البحرات في دمشق..ويسرد أسماء الأحياء واحداً بعد آخر كأنما يبغي مساعدة منكِ أو مني. لاذَ كلانا بالصمت كما لو كنتِ تمتحنين معرفته بشوراع دمشق وساحاتها..
وكان المبلغ يزيد كلما هتف: وهذه بحرة..
وفي إحدى المرات قلتِ له: هنا توجد بحرتان.. إذن خمسون ليرة!
حين قال لك: لم أعد أعرف إن كان هناك بحرات أيضاً، مددتِ له يدكِ بثلاثمائة وخمسة وسبعين ليرة وقلتِ: هذا حسابك. الآن يبدأ حساب جديد من هنا إلى المهاجرين!
أخذ السائق الشاب يجهش بكاء وهو يوقف سيارته على زاوية من الطريق كي لا يعيق السير وهو يردد: كيف عرفتِ؟ من قال لكِ؟ كيف؟ كيف؟
حاولتِ تهدئته. عبثاً..نوبة بكاء استمرت دقائق وبدت لنا دهراً.
عندما هدأ، طفق يروي حكايته: "كنت أملك سيارة أنقل بها المسافرين بين بيروت ودمشق. وكان لي في بيروت صديق يستقبلني في شقته كلما اضطررتُ ـ ونادراً ما كنتُ أفعل ذلك ـ لقضاء الليلة في بيروت. قبل شهر صدمتني هنا في دمشق سيارة عسكرية تابعة لسرايا الدفاع. تحطمت سيارتي كلياً. ورغم أن الصدام لم يكن نتيجة خطئي، نزل الجنود الثلاثة من الشاحنة وانهالوا عليّ ضرباً كيفما اتفق وهددوني بالقتل إن شكوتُ أو زعمتُ أن زميلهم هو المسؤول. هكذا فقدت أداة رزقي في اليوم الذي كان صديقي البيروتي يحضر إلى دمشق هارباً مما كان ينتظره ببيروت بعد أن دمرت مدافع الحرب الأهلية شقته في العمارة التي كان يسكنها. لم يكن بوسعي استقباله في بيت أهلي الذي يعيش فيه أبواي وشقيقاتي التسع.. حين علم أبي بالأمر، طلب إلي استئجار غرفة أسكن بها مع صديقي وأن أجعله يقضي الليلة في الفندق ريثما نعثر على غرفة للإيجار.  
"في اليوم التالي سكنا الغرفة معاً. وخلال شهر صرفنا كل ما نملكه من نقود. ثم استهلكنا كل مشترياتنا من الغذاء والمعلبات، وكان آخر ما استهلكناه ظهر هذا اليوم علبة فول مدمس!
"استلقى صديقي بعد وجبة الغذاء مستسلماً إلى  قيلولة اعتاد عليها بينما خرجتُ هائماً على وجهي لا أعرف ماذا ستكون عليه أمورنا هذا المساء.
"على طريق الصالحية، سمعتُ أحداً يهتف باسمي صراخاً. ألتفتُ يمنة ويسرة باحثاً إلى أن تبينتُ أن المُنادي كان صديقي وكان يقود إحدى سيارات التكسي التي يملكها. تقدم نحوي وهو يسألني: أين أنتَ يا رجل؟ حكيتُ له قصة سيارتي التي تحطمت.. فما كان منه إلا أن قال: هيا.. خذ هذه السيارة واشتغل.. كنتُ أقود السيارة لأحدهم لكنكَ أولى بالعمل عليها..
حللتُ مكانه وراء المقود واتجهت بعد أن أوصلته إلى مكتبه نحو حي المهاجرين بحثاً عن الرزق حين أوقفني ابنكِ.. وها أنتِ أول زبونة لي.."
ولا يكفّ وهو يعود بنا إلى حي المهاجرين عن سؤال كان ولا يزال أيضاً سؤالي: كيف عرفتِ .. كيف عرفتِ..
* نشرت في  العربي الجديد ـ الملحق الثقافي، بتاريخ 31 آذار 2015.




 

vendredi 27 mars 2015


فسيفساء امرأة
 

بدرالدين  عرودكي

 

                   إلى ذكرى يسرى الصباغ
 

النصوص المُختارة التالية عبارة عن قطع فسيفساء مختلفة الألوان يُفترض أن تؤلف مع سواها من النصوص الغائبة هنا لوحة فسيفساء كاملة تقدِّمُ شخصية المرأة التي تحمل اسم أمي: "يسرى"

 

الساعة الحادية عشرة صباحاً: موعد الشاي الأخضر. عادة رسخت مع الأيام منذ أن كان الرجل الذي عشقتِهِ على ما بينكما من فارق في العمر تجاوز الخمسة عشر عاماً يجلس في زاوية من الغرفة الوحيدة التي كنتما تسكنانها معاً منذ عقدِ قرانكما. قرقرة مياه الأركيلة توقِّع هنيهات لحظات تنتزعكما من هموم النهار: لا مال ولا طعام ولا لباس. والفتاة الصغيرة التي كنتِها لما تبلغ الثامنة عشر من عمرها تبتسم للعينيْن البرّاقتيْن النفّاذتيْن وقد رأتا وكأنها المرّة الأولى هذا البطن ينتفخ بعد أن كان ضامراً. يقولُ لكِ بعد أن وزَنَ كعادته كلَّ كلمة قبل أن ينطق بها: رزقه على الله. وما كان لبشرى طفل تنتظرين قدومه أن تنتزع رجُلَكِ، حبيبَكِ، مما رسخَ في أعماق كيانه من قناعات منذ أن أدرك في قرارة نفسه أنه والمال خطان مستقيمان كلٌّ يسير وجهته فلا يلتقيان.
لا يشغلكِ عنه شيء. هو أمامكِ بكل ما وسع خيالكِ أن يتمثل الرجولة تقولها قسماتُ وجهه وعروقُ يديه بأصابعها الدقيقة الطويلة القوية التي سيُقال لك عنها بعد سنوات طويلة من تلك اللحظة التي أنتِ فيها إنها أصابع عازف كان يمكن لها في زمن آخر في مكان آخر في بيئة أخرى أن تغني على البيانو ألحاناً سماوية تتفطر لها وبها القلوب والأرواح. لا شيء في الغرفة مما يشي بزوجيْن قريبي العهد من الزواج. بل إن نسيج أثاث الغرفة يكاد في بعض الزوايا يقول عمره الحقيقي وأسماء من تتالوا على امتلاكه من قبل أن يستقر هنا. تأسرُكِ ابتسامته. يستحوذ عليك حديثه. لم يعرف المدرسة ولا حمل شهادة منها ولا من غيرها. لكنه يتنقل بك في أرجاء العالم وكأنما قضى شطراً كبيراً من عمره في الترحال وفي الانتقال. ويطوف بك في الأزمنة منذ عهد آدم إلى عهد الأتراك وكأنما عاشها كلها من فرط دقة التفاصيل وطرافة النوادر. عالمك هو وحده صار بعد أن كان أبوكِ يملأ هذا العالم وحده.
تتأملين قسمات وجهه وقد أخذته النشوة فطفق ينشد ما يحب من قصائد حفظها عن ظهر قلب، أو يروي حكايات وأخبار قرأها في هذا الكتاب أو ذاك، فتسري النشوة ذاتها إلى أوصالك حتى ترتعش غبطة وبهجة.  مثلكِ لم يكن قد عرف المدرسة.. لكنه كان تواقاً، مثلكِ أيضاً، إلى الحروف وإلى الكلمات التي تعلم فكها وحده كل مساء بعد عودته من نهار عمل مُجهِدِ في كتاب وقع تحت يديه أو يرسمها بعد أن تلقفها من فم هذا العالم أو ذاك الأستاذ في هذا النادي أو في ذاك المسجد. وها هو قد صار ملاذ من ارتادوا المدارس والجامعات يسعون إلى حكمة لديه ولما يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره..


**  **  **  **

لم تكن أمكِ راضية عن هذا الرجل الذي اختاره لكِ أبوكِ. ككلِّ الأمهات كانت تريد لك زوجاً يليق ـ كما كانت تردد أمام كل من يسمعها ـ بذكائك الخارق وبجمالك الجذاب. لكن الرجل المُختارَ لم يكن ذلك الذي رسمت ملامحه في مخيلتها. فحاولت جاهدة أن تحول بينه وبينك. لكنك كنتِ وقد رأيته قد عزمت أمركِ بعد أن أصابت نظرته موضع القلب منك فنسيت كل التفاصيل الأخرى ولم يبق إلا ما أرسلته لك هاتان العينان السوداوان العميقتان من نظرة خاطفة كانت كافية كي تقول كل شيء.
انتبهتِ منذ اللحظة الأولى، منذ هذه النظرة الخاطفة، إلى أنك إزاء رجل يرى ولا ينظر. وصدق حدسك على مرّ الأيام والسنين. لم يكن كالآخرين ممن وضعوا الذهب بين يديْك. ولا من أؤلئك الذين أرادوا امتلاكك بجناتهم وأنهارهم فيما وراء الحدود. كان آخرَ فعلاً. ستسعدين كلما خطر لك الأمر كيف كانت البصيرة لباسَ حدسك ..
فقيراً ولد ونشأ  فقيراً. ولا يزال وقد صرتِ في كنفه أو صار بين يديْكِ. وها أنتِ تريدين أن تكفيه شر الألم الصامت الذي لا يخفى على عينيك وهو يحاول أن يطويه وراء قسمات ابتسامته أو ضحكاته إذ تحاولين بكلماتك اللمّاحة جعله ينسى.
لكنه لا ينسى. وها أنتِ تريْنَ أن الحظ قد يبتسم لك أكثر مما ابتسم له في طلب الرزق. لم يكن لديكما بعد سوى طفل واحد. وكان بوسعك أن تمحضيه عنايتك وتسهري عليه وأنت تعملين. واستحالت الغرفة الواسعة التي تسكنانها مصنعاً للملابس الصوفية تعمل على حياكتها فتيات الحي يعملن إلى جانبك كي يساعدنك على الاستجابة إلى عشرات الزبائن يرجون ما كنت تصنعينه ويتلقفونه من بين يديك كثروة هبطت من السماء.
وذات يوم ألقيت إلى حبيبك بورقة المائة ليرة. كان في الأربعين من عمره وكان يمسّها للمرة الأولى في حياته. نظرة العرفان استعادة نظرة الحب الأولى..
كان الحب يتضاعف عرفاناً.


**  **  **  ** 

أكانت الدنيا تبدو لك لحناً يصلكِ بما وراءها؟ وإلا فلماذا تشجيك هذه الأغنية إذ تتحرّك بها شفتاك وإذ تنير وجهك هذه الابتسامة التواقة ؟
كنتِ في العشرين. ومن حولكِ فتيات في عمركِ يشتغلن طوال النهار في حياكة الصوف تحتَ إشرافك في الغرفة الوحيدة التي أسكنكِ فيها زوجك. وتردِّدين ما كنتِ بين الحينِ والآخر تسمعين من أغانٍ لأمِ كلثوم أو عبد الوهاب: يا ليلة العيد، حاآبله بكره، بكره السفر..
لا يزال صدى الأغنيات يسكن جدران هذه الغرفة في هذا البيت المتداعي من حي الشيخ محي الدين بدمشق. كنتُ كلما مررت أمامه أكاد أسمعك، أسمع صوتك يرددها وأرى عيون الفتيات يرنون إليك معجبات مرددات وراءك كالجوقة: بكرا السفر!
كلّ ما كنتِ تطمحين إليه أن تتمكني من حيازة قروش قليلة (كان القرش أيام ذاك يتكلم، كما كان يُقال!) تسعدين بها زوجك الشاب وتشترين ثياباً تدفئ وليدك الثاني بعد أن أودت الحمى بالأوّل. لم تكن لديك مدفأة، بل وعاء تشعلين فيه القليل من الفحم لتدفئة اليديْن وغطاءات الفراش على الأرض تحمي من شتاء دمشق القارص.
والعيد حلم، والسفر حلم، ومن ستقابلينه حلم.. لكنه عيد وسفر وكائن ينتظرونك في الغداة، قبل أن يدركك القنوط (ما أكثر ما كنتِ ترددين: ولا تقنطوا من رحمة الله).
لم تكن كلمات الأغنية في أعماق روحك ووجودك تعني ما تعنيه لمن يسمعها مِمَّن حولك. كانت تعني دوماً شيئاً آخر. شيئاً كنت تتلهفين إليه وإلى بلوغه. كنتُ أسميهِ مع جنون الشباب ولما أبلغ التاسعة عشر من عمري المطلق، وكنتِ تسميه كليّ الحضور، ولم تكوني قد تعلمت بعدُ القراءة أو الكتابة، ولا كنتِ قد قرأتِ أو قرأ عليكِ أحدهم فتوحات ابن عربي المكيّة... 

**  **  **  **

لم تتح لكِ فرصة ارتياد المدرسة. كنتِ مسحورة أمامي طفلاً وأنا أعود منها مع كتبي مردِّداً ما تعلمته من أناشيد أو من قصائد. بقي ذلك سرّاً في أعماقك لا تبوحين به إلى أحدٍ ممن حولك.
وجاء يومٌ صار فيه العلم ضرورة من ضرورات حياتك. ما عادت حياكة الصوف ولا آلة الخياطة تملأ عليك وقتك ولا تحملُ لكِ من المسرّة ما كنت إليه تطمحين.
بعد وفاة طفلك البكر إثر مرض لم تستطيعا أنتِ وأبي أن تتغلبا عليه من فرط فقركما، ها هو ابنكِ الثاني، وقد صار بكراً، وقد صاروا ينادونك باسمه، يرتاد المدرسة، وهاهو أمامك، يحمل كلّ يوم كتاباً جديداً يأتي به ويقضي الساعات في التهامه كمَنْ به مسّ.
كنتِ، في غيابه، تنظرين إلى الكتب وتودّين لو فككتِ رموز الحروف والكلمات. مشتاقة أنتِ إلى ذلك، تواقة. صار الأمر هاجسكِ ولم تكوني تعرفين كيف يسعكِ أن تجدي السبيل إلى ذلك. وكيف يسعك إن وجدته أن تعثري على ساعة فيما وراء الساعات التي تقضينها في  خدمة أولادك الستة آنئذ (وقد صاروا تسعة من بعدُ،) وزوجك، وبيتكِ؟ لكنكِ كنتِ امرأة صابرة، لكنكِ كنتِ امرأة توّاقة، وها أنتِ، في ليلة كان القمر فيها بدراً، وقد خلد زوجك وأولادك إلى النوم، تصعدين درجات السلم المؤدي إلى الغرفة الوحيدة القائمة على سطح البيت: الغرفة الطيّارة، بما أنَّ الرياح كانت كلما هبّت تكاد تحملها.. لم يكن يصدر عنها أيّ ضوء، لكنكِ وقد كنتِ تريدين الاطمئنان إلى نوم ابنك، واصلتِ الصعود. لم يكن نائماً. ما إن وصلتِ إلى الغرفة حتى لمحت عبر النافذة بصيص ضوء خافت. كان ضوء الشمعة التي يقرأ أمامها كتابه.
افتتنتِ بالمنظر وخفتِ. تقولين له: قد نام أبوك، لاعليك أن تقرأ على ضوء الكهرباء. حذار عينيْك! وتلمع الفكرة في رأسك، وتستحيل كلمات خجلى سائلة:
ــ ابني، ما رأيك أن تعلمني القراءة والكتابة؟
والفخر يغمرني. أأنا الذي سيكون أستاذ أمه؟ بالتأكيد يا أمي. ولكن متى؟
ــ في مثل هذه الساعة من كلِّ يوم.
ها أنتِ، في الثلاثين من عمرك، تدخلين المدرسة التي ما أكثر ما تطلعت إلى ارتيادها بشوق ونهم..
وهاهو الموعد الذي بات يومياً، وها هو السهر يصير جزءاً من مسرّاتك اليومية: أما استحال الحلم حقيقة؟ ها أنت تبدأين درسك الأوّل، وتبادرين إلى رسم الحروف وتردادها. لكنّك كنتِ تستعجلين القراءة ولا تطيقين انتظاراً.
فكرة طرأت. أهي وحي؟ كيف جاءتكِ؟ ها أنتِ تتناولين وقد حفظتِ الحروف عن آخرها قراءة ورسماً المصحف، تفتحين صفحاته على السورة التي تحفظينها عن ظهر قلب: الفاتحة. وتبدأين قراءة حروف صرتِ تعرفينها فتتعرفينها كلمات ما كنتِ من قبل تدركينها. تبدو القراءة لك أسهل مما ظننتِ. ينفتح لك كتاب، وأيُّ كتاب، بأكمله. ثمّ يساورك الشكّ بين الحين والآخر كلما غابت الألف أو الواو أو الياء من كتابة كلمات الآيات التي لم تكوني تحفظينها عن ظهر قلب، فتهرعين إليه يفسِّر لك أنها الطريقة القديمة في كتابة بعض الكلمات. فيطمئنَّ قلبك، وتعودين إلى ما كنت مستغرقة فيه.
درس شبه يوميّ استمر عدداً من الشهور. كان أول كتاب بعد القرآن أردتِ أن تختبري قدرتك على القراءة فيه هو كتاب محي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية. تطلبين إليّ أن أفتح الكتاب مغمض َ العينين ثم سرعان ما تتناولينه من يديّ وتبدأين القراءة.. على حذر ورهبة سرعان ما استحالا غبطة تنير وجهك ومحياك..
هكذا وضعتِ نهاية لدوري كي يبدأ دوركِ أنتِ ..
آه، كم وددت لو أنني استطعت أن أسجل ما كنت تجودين به خلال ساعات ثلاث بين يدي جملة لا تتجاوز سطراً في كتاب الشيخ الأكبر..ما أشدّ الألم الذي يلبسني حين كنت أستمع إلى نثار مما قلته صباح اليوم نفسه أمام نساء جئن من كل فج عميق كي يستمعن إليك..
وها أنت تجتازين عتبة عالم بلا حدود..تدخلينه مطمئنة عبر أبواب واسعة عديدة ..

** **  **  ** 

هل تذكرين؟ سرٌّ فريدٌ كان يقودكِ كلَّ يوم إلى أبيك بعد الظهر. ما كانت تلك عادتك من قبل، لكنّ هذا المشوار، كلَّ يوم، بدا وكأنه من طبيعة الأشياء. من طبيعة حياتك كلّ يوم، لا يدري به إلا أنتِ.
كان أبوكِ في سنته الأخيرة. وكنتِ تبحثين عنده عن شيء يصلكِ به، لم يكن المال الذي كان ينقصك ولا كان بوسعه ولا بإرادته أن يمنحه إياكِ. كان شيئاً آخر، سرّاً من أسرار هذا الرجل الذي تصدّق ذات يوم على شجرة في خريف ذات سنة واضعاً عليها أرغفة الخبز التي ذهب يشتريها لأهله فنسيهم وقد رأى الأغصان عارية من أوراقها وكأنّها تتضوّر جوعاً وبرداً..سرّاً من أسرار هذا الرجل الذي كان يأوي إلى السرير وليس في بيته طعام يؤكل ولا مالٌ يُصرف ولا يدري كيف سيصحو في اليوم التالي ولا يهمّه أن يعرف ما سيكون عليه أهله في الغداة، يقيناً منه لا يتزعزع بحظ من الدنيا خصّه الله به، فلا قلق ولا حزَن.
كان أبوك في سنته الأخيرة، وكأنما الإحساس بذلك قد استحوذ عليكِ، فصرتِ تذهبين كلّ يوم كي تقومي ما وسعكِ على خدمته وتقصّين عليه هواجسك. هو الآخر لم يكن يدري ما يدفعك إلى المجيء كلّ يوم فيسألك إن كان هناك ما يعكِّرُ صفو حياتك في بيت زوجك فتفكرين بعد أن استقرَّت في أعماقك القناعة بأنه قدرك، وأنه قدر على ما فيه من صعوبة، جميل، جمال الحبّ الذي محضته إيّاه. كان قد أدرك ببصيرته ما آل أمرك إليه فأكبر فيكِ صفات نساءِ نادرة كالماس. لكنه لم يكن يدر بعدُ أنّكِ منذورة، وأنكِ بين أبنائه وبناته، كنتِ الوحيدة التي تصله فيما وراء علاقة الأبناء والبنات بآبائهم.
كان قد أدرك ببصيرته ما آل أمرك إليه، ثمّ جئتِه، على خوف ورهبة، تقصينَ عليه حلمك.
كنتِ في مدينة النبي، في الروضة مابين القبر والمنبر. يُقدَّمُ إليك تمرُ المدينة (ما أشدّ طيبته) فتأكلينَ منه. ويُقال لكِ إنكِ تتطعمين سورة البقرة وآل عمران، فتجدين شفاهكِ تصطبغان مع ما حولهما  بلون التمر. فجأة، ينقلك الحلم نفسه إلى غرفة أبيكِ التي أنتِ فيها الآن تقصّين فيها عليه حلمك. كان على سرير مرتفع ارتفاعاً يجعل وجهكِ قبالة قدميْه. تستيقظين فجأة. تدركين أنكِ كنتِ في حلم داخل حلم، وأن الحلميْن قد انتهيا، وأنه لا قبلَ لكِ بالانتظار، فتذهبين إليه من فورك تقصّينه عليه. فيدركُ كلّ شيء.
فهم أنَّ حلمك كان رسالة له وأنك تحملين هذه الرسالة لأنكٍ أنتِ من سيتابع الطريق من دون أبنائه جميعاً على سعة رغبتهم في الأمر، ذكوراً وإناثاً. أدرك أنه ليس هو من يختار بل تمّ الاختيار، وأنه لو أراد لما حاد.
يضع يده على رأسك المغطى. يطلب إليكِ الصلاة، والصلاة على النبيِّ خصوصاً. فهو الإمام، وهو الدليل، وهو الوسيلة، وهو الحبيب.
تستكين نفسك. تستعيدين المشوار منذ البداية. تبدأ الأشياء بالكشف عن معانيها واحداً بعد الآخر. فقركِ، زوجكِ، أولادك، استماتتكِ في تعلم القراءة والكتابة وقد تجاوز عمرك الثلاثين، وأملٌ غامضٌ يضيء وجهك نوراً ونفسك حيرة، لكنَّ السكينة تغمر أعماقك.

**  **  **  ** 

كنتِ كالذي يكتشف جديداً كلما كانوا يقولون لكِ ما كان تأثير ما كنتِ تقولينه لهم. تفاجئكِ هذه القدرة وتتساءلين: كيف. لم تكوني تعرفين، ولن تعرفي. فكنتِ تسلمين أمركِ إليه، هو، بما أنه هو، هو الذي يفعل ما يشاء على يديْك.
منذ اللحظة الأولى في سلوك الطريق، وحتى اللحظة الأخيرة قبل الرحيل الأخير.. كنتِ لا تدرين ما تفعلين. تقولين: أنا موظفة عنده، هو، وتشيرين بإصبعك إلى السماء. ثم تصرّين على أن تصنعي بيديْك حساءً غنيّاً بالحبوب وباللحوم كل أسبوع لأكثر من مائتي امرأة يأتين إليك سعياً من أرجاء دمشق وما حولها كي يستمعوا إلى معاني الحبّ تتدفق من ثغر بسّام، ومن روح كنسمة الربيع تداعب الوجوه وهي تعيد إليها نضارتها. وتغمر الدموع عينيْك حين تعلمين أن كثرة من هاتيك النساء لم يكنّ يذقنَ مع أولادهن طعم اللحم إلا مرة في الأسبوع أو في الشهر..
لم أكن أدري أن صديقي عمر أميرالاي كان قد نذر ذبيحتين للشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الذي كان جاره كلما أنجز فيلماً من أفلامه حين جاءني ذات يوم يطلب إليَّ أن أستأذنك في أن يحقق فيلماً عنكِ. قال لي: ما تفعله أمك هو أنها عرفت كيف يمكن أن تحلّ المشكلة الاجتماعية في بلادنا وتعمل في هذا الطريق الذي صار طريقها. اعتذرتِ بخجل شديد.. لم تكوني تعرفين ولن تعرفي أثر ما كنتِ تفعلين.  لكني علمتً بعد وفاته بأمر ذبيحتيْه وأدركتُ حينئذ ما كان بينك وبينه من صلة قربى خفية لا يدركها إلا من حظي بقلب شفاف وبصيرة.

**  **  **  ** 

تسهرين الليل وأمّك تندب حظك، وتتأوّه كعادتها من أنّ أباك لم يعرف كيف يختار من كان يجب أن يكون جديراً بك، بذكائك، بنباهتك.. ولا تعقبين، كأنما الأمر لا يعنيك، فالرجل الذي اختاره أبوك لك على شيء من مضض، هو من اختاره قلبك ومن كنتِ ستختارينه لو خُيِّرتِ!
كانت أمك قد أرغمتك على مغادرة العش الزوجي لعلها تفوز ـ أخيراً ـ بفصلك عن زوجك الفقير هذا وتزوجك من ابن عمتها الغني الذي ذاب عشقا فيك منذ طفولتكما..
أيام مضت وأنت في غضب مكتوم. أما زوجكِ، حبيبكِ، فلا يدري كيف يستطيع أن يستعيدك إلى عشكما الأثير. ها هو أبوكِ يمر أمام حانوته. يهرع صديق من اصدقائه كان على علم ليأتي به يشارك في جلسة الشاي الأخضر التي كانت شعيرة من شعائر حياته وحياة أصدقائه اليومية.
يجلس أبوكِ. يبادره زوجك بكأس الشاي الأخضر. يرشف الرشفة الأولى فيسأل:
ـ نسيتَ السكر!
يجيبه: "إشرب".
يكرر أبوكِ ثانية: "أقول لك إن الشاي مرٌّ، شديد المرارة!"
فيجيبه: "وأنا أقول لك إشرب"
فجأة أدرك أبوكِ. يخاطب زوجك: إذهب اليوم إلى بيت أمها واصطحب زوجتك إلى بيتكما!
وسرعان ما حضر السكر! 

** ** ** ** 

ها هو يطرق الباب. قلبك يقول إنه هو. وكل خلايا جسمك النحيل المتناسق تتفتح فجأة تقول لك إنه هو.
كنتما وحدكما، أمّك وأنتِ. تفتح أمكِ الباب. ها هو صوته الرخيم الرجولي ينطلق حنوناً. يلقي بأعذب التحيات على أمك. فتردُّ بجفاء. يغضّ الانتباه والطرفَ عن جفائها. يقول لها حِرقته، وحدته. بينما تتابعين أنتِ كلماته وتخاطبينه في أعماق قلبكِ، كلما تحرّق.، بصمت تنطق به عالياً قسماتُ وجهك:
هوـ: لم أعرف أمي،
أنتِ:  أنا أمّك،
هو:  ولم أعرف أبي،
أنتِ:  أنا أبوك،
هو: وليس لي من صديق،
أنتِ:  أنا صديقتك.. أنا صديقتك.. 

ثم ما تلبثين أن تُبعِدي أمّكِ كي تفتحي الباب وتطلبين إليه الدخول والانتظار ريثما تلبسين ثياب الخروج والعودة بصحبته.
كنتِ تعلمين أن قلبكِ لم يكن مخطئاً. كنتِ المرأة في أجمل تجلياتها عاشقة معشوقة.
وكان هو الرجل، الرجل المأمول..
ألم يحطم وهو في السبعين من عمره، بضربة واحدة تقاليد مئات السنين في الرجولة الفارغة حين قدم نفسه للملأ ذات يوم لا باسمه، إسماعيل، بل بوصفه زوج "أم بدرالدين"؟

   نشرت هذه النصوص في مجلة "الجديد" ، لندن، العدد الثالث، نيسان/ أبريل 2015، ص. 24 ـ 27  **
كما نشرت في صحيفة العرب الصادرة بتاريخ 19 نيسان/أبريل 2015

http://www.alarab.co.uk/?id=50313

http://www.alarab.co.uk/pdf/2015/04/19-04/p15.pdf

 
 

 

 

 

dimanche 22 mars 2015


شذرة من دفتر منسيّ
 

"هكذا، يمكن أن ننام جنباً إلى جنب، وهذا لا يعني النوم معك!.."

وبدت في الظاهر غير مقتنعة. فهي الليلة تريد أن تقضي الليلة وحدها. على أن تنظر في الأمر غداً. وخرجت من الغرفة بعد أن تمنت له ليلة سعيدة. أما هو فقد خلع ملابسه واندسّ عارياً في فراشه محاولاً الاستسلام للنوم. لم تكن مغادرتها له رفضاً لقضاء الليلة إلى جانبه أو معه. كأنما كانت تريد أن تكون على بصيرة كاملة بما ستفعله ومن ثم فهي بحاجة إلى بعض الوقت. مثل هذه الأمور تحتاج أحياناً إلى نوع من التأنّي على الرغم من أن عواقبها هي التي تذكر عادة بعد حصولها بضرورته. لم يكن يدري فيما إذا كان يرغب في العودة من جديد إلى استئناف علاقة بدت خلال حياتها القصيرة الماضية حسّاسة بأكثر من معنى وعلى وجوه متعددة. لكن طرقاتها على الباب لم تترك له مجال الاستمرار في أفكاره. لقد اتخذت قرارها، عازمة بقوة هذه المرّة، ولكن على ماذا؟

فتح لها الباب.

ودلفت إلى الغرفة مرحة جذلة. "حسناً! تريد أن أنام إلى جانبك. ها أنا جئتُ، ولكن لأنام فقط .." واندسّت في السرير بسروالها وقميصها الحريري بينما نزع هو عنه رداء الحمام الذي وضعه على كتفيه كي يفتح لها الباب وتمدد إلى جانبها عارياً تماماً. لم تدهش وهي تحسّ به يلتصق بها في ظلمة الغرفة. لكنها عادت تذكره ثانية بأنها إنما جاءت لتنام! وأمام عدم استجابتها للمساته ولحرارة جسده ابتعد عنها قليلاً ليحاول الاستغراق في النوم.

بدأ يدرك ما يجري له. لم يبحث عنه ولكنه كان على وشك أن يحدث تماماً كما لو كانت هناك قوة خارقة تدفع الأشياء بالاتجاه الذي بدأ يراه. أعزل من أي قوة على المقاومة. "هي ذي إذن حتمية التاريخ!". (ما أكثر ما عذبته هذه الفكرة. لكنها الآن تتراءى أمامه كما لو كانت جسماً!). لم يتساءل في الحق عما إذا كان سيقاوم، بل عما ستتخذه الوقائع التي ستتمّ من طابع. هي ذي هنا، إلى جانبه، ثمَّ لصقه، وها هو جسدها يتثنى مع حركات جسده. شيئاً فشيئاً أخذا، وبصمتٍ، يتعانقان ويندمجان في حركة واحدة نحو اللحظة المنتظرة. كان في أعماقه يشعر بسعادة غامرة. لم يكن القلق يساوره وهو يأتيها. إذ أن رجولته تتجلى في أكمل حللها ويشعر أنه ملك الأشياء ولو للحظات. هو ذا يتحرك كيف يشاء تشاء على جسدها. لو كانت أخرى تحته لبحث بجنون عن دخولها لكنه، معها، يتأنّى ويداري رغبة يستحيل جنونها عقلاً. وهو يتأوّه يحاول استنطاق الجسديْن بما يكنان من جمال. من قال إن الجنة الموعودة ليست من هذا العالم؟ هي ذي هنا. والفرق الوحيد أنها في هذا العالم لحظات معدودات، بينما الوعد أنها أبدية!

... وهو فيها يتحسس القاع، هيّن الخطو مروياً. أين منه كل من عرف من قبل ومن لم يعرف؟ تنظر إليه. يحاول أن يقول لها شيئاً لكن لسانه يتحرك دون صوت والكلمة تبقى مرسومة على شفتيْن تبحثان عن خدنيهما. عيناه والرجاء أن تستحيل اللحظات هيهات أبدية! عيناها أن ابقَ! عيناها وخيبة التكرار. يُغمضُهما بشفتيه دون جدوى. والإحساس في الأسفل برطوبة الدفء يطويه في ثناياها. كل شيء يبدأ من هنا ومن هنا البدء. يبحث في ذاكرته عن لحظة مثيلة. ولا جواب. يستقصي كل الثواني التي هتف فيها لنفسه أنها فريدة، أولى، ولا جواب. يتساءل عن الأين والكيف واللماذا، ولا جواب. يطويها بين ذراعيه ويترفق في جرّها إليه لكي يدخلها بعنف حنون فتصل أذنيْه آهة وشهقة لذة تسري في الخلايا كأنها دمٌ جديد. يعجب أنه ملك الأشياْء معها. يعجب أنه معها لها دون بحث أو جهد أو ألم. فيزداد قوة حانية. ويتصلب من حيث يواصلها على غير انتظار فتحاول استيعابه تشاركها كل مسامها وأحاسيسها وخلاياها ومواطن الجوع فيها. يتصلب لكي يزداد طعناً في حرير الدفء الرطب. يتصلبُ يواصلها. يتوحدان. والآهات تغدو بلا عدد بلا صاحب! ما الجمال، ما الغرامُ، ما الوصلُ، ما اللذة، ما الأبديةُ، ما الحلم، ما الواقع، ما الأريحية، ما الهيام، ما الانتظار، ما اللقاء، ما الحنانُ، ما الحب الأليم إن لم يكن كل هذا الذي كان يجري بينهما وكأنه بلا بدء بلا نهاية؟
 
 
 

mercredi 4 mars 2015



الإعادة  أم  الاستعادة؟

ملاحظات أولية من أجل قراءة التاريخ والتراث*


بدرالدين  عرودكي

إلى ذكرى أنطون المقدسي



الإعادة أم الاستعادة؟ ألم يكن علينا أن نطرح هذا السؤال ما إن بدأنا نطفو على سطح الزمان بعد غياب عن مسرح التاريخ دام ما لا يقل عن ستة قرون، أي منذ أن بدأنا ما أطلقنا عليه من بعد النهضة العربية اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر؟  
ربما. وربما حاول البعض طرحه، وقد حدث ذلك بالفعل في لحظات استثنائية من تاريخنا الحديث، لكنه ووجه بكل المفاهيم وزوايا الرؤية التي سادت في ما يعتبر عصر ازدهار الفكر وإشعاع الحضارة العربية الإسلامية، أي قبل أكثر من عشرة قرون. وهي مفاهيم اعتبرت عند صياغتها بدعة تارة وكفراً أو خروجاً على الإجماع تارة أخرى، لكنها استطاعت الازدهار زمناً لاستجابتها إلى حاجات زمنها وإلى مقتضياته، ثم استحالت بفعل الكسل الفكري إلى ثوابت جامدة عفا عليها الزمان وباتت شواهد ماض لا علامات تمهد طرق الحاضر أو المستقبل. وهي على ذلك كله، أي على جمودها وقصورها اليوم، وجدت من يحاربها كبدعة لابد من تخليص "الأصل" من آثارها بالعودة إليه وإليه وحده من جديد تحت عناوين التجديد والأصالة.
الإعادة أم الاستعادة؟ سؤال كان يطرح نفسه بصورة أو بأخرى، صراحة أو ضمناً، عند بدء كل مشروع جماعي، أياً كان مداه، أو شموله، أو ميدانه. أجاب ويجيب عنه على الدوام في تاريخنا القديم والحديث والمعاصر طرفان. كل طرف فيه يشير إلى رؤية محددة للتاريخ خاصة به وإلى نهج تفرضه هذه الرؤية على صاحب المشروع لا يستطيع بفعل مقتضياته أن يحيد عنه.
ومن الممكن القول إن إجابة كل طرف من طرفي هذا السؤال قد طبعت حقباً من تاريخ الثقافات في العالم ولاسيما الثقافة العربية الإسلامية خصوصاً لكنه لم يكن وقفاً عليها. سنلاحظ خلال نظرة سريعة نلقيها أنَّ الإعادة كانت على الدوام شعار كل عصر من عصور النكسات والانهيار أو التدهور الحضاري، وأنَّ الاستعادة كانت نهج كل مشروع مستقبلي يحاول الاستجابة إلى أسئلة الحاضر والمستقبل على الأصعدة كافة.  
ولكن ما الإعادة؟ وما الاستعادة؟
يستقرئ مفهومُ الإعادة عموماً حقبة أو مرحلة من الزمان والتاريخ، واقعية أو مفترضة، دينية أو قومية،  كما لو أنها دائرة مغلقة ووحيدة تكوّنت في لحظة ما واكتملت، لا يمكن أن تتعايش مع دوائر أخرى أو أن تنفتح عليها أو أن تتقاطع معها، لكنها تقتضي أو تتطلب ديمومة تكاد تتسع للأبدية. ويَرى فيها عالماً قائماً متكاملاً مكتفياً بذاته وضعاً وشروطاً، دائم الحضور، عصياً على التغيير بما أنه يمتُّ إلى المطلق بصلةٍ وثيقة إن لم يكن يزعم أنه المطلق بعينه. عالمٌ يعتمد قواعد وصفات ومصطلحات تتماهى فيه وتصير جزءاً لا يتجزأ منه.  يقوم على خدمة هذا المفهوم سدنة أشداء وجدوا في كل العصور بلا استثناء، قدموا أنفسهم تارة خلفاء الله على الأرض، وتارة الناطقين باسمه، المتواصلين معه، القادرين على فهم مرامي كلماته ومعانيها، الساهرين على تفسيرها وفرض فهمهم لمعانيها المباشرة، معانٍ لا تحول لا في الزمان ولا في المكان، ولا تزول مهما اقتضت ضرورات الحياة.
باستثناء بعض المراحل التاريخية القصيرة بين القرن الثامن والعاشر الميلادي، لم يكفّ سدنة مفهوم الإعادة على اختلاف صِيَغِهِ عن التواجد على امتداد التاريخ العربي الإسلامي. ففي وجه محاولات المجددين من الفقهاء والعلماء مثلاً بإعادة القراءة في ضوء حاجات زمنهم ومجتمعهم من أجل صياغة إجابات تستجيب للمشكلات المطروحة، وقف هؤلاء لا دفاعاً عن القول الأصل، أو ما اتفقوا على اعتباره كذلك، بل عن كل ما يوافق هواهم فيه مما يزعمون أنه يعيد ألق العصر الذهبي كما يرونه بعد أن رسموا له صورة نمطية مثالية، خالية من أية تضاريس تعكس واقعيتها أو حقيقة وجود موضوعها، إذ لا وجود لها إلا في خيال من فرض عناصرها وحدّدَ ألوانها!
ذلك ضرب من الإعادة طبع قروناً عديدة من التاريخ العربي والإسلامي. لكن نموذجاً آخر من الإعادة، ظهر حديثاً مع نهاية النصف الأول من القرن الماضي، ابتكر مرجعيته مع قوامها "الفكري" و"تاريخها" المزعوم وقدَّمها مسلمة لا تحتاج إلى أي برهان. ولأنها كانت خالية من النصوص فقد كتب نصوصها، ولأنها كانت خالية من الأساطير فقد أنشأ لها أساطيرها، ولأنها كانت بلا قاعدة تاريخية فقد سعى بكل قواه خلال ربع قرن إلى تجسيدها عقيدة حزب وجيش ودولة ونجح في ذلك نجاحاً كارثياً بكل ما تعنيه كلمة الكارثة من معنى.
سعى دعاة الإعادة في كلٍّ من الصيغتيْن المشار إليهما إذن إلى جعل مضمونها عقيدة الدولة. كان على الأولى التي بقيت مخلصة لأصوليتها الأساس أن تغلق أبواب الدولة والمجتمع على العالم الحديث إلا في مظاهره المادية المباشرة: كالعمارة خصوصاً ووسائل الرفاه.  أما دعاة النسخة الثانية وهي الأقل قوة ونفاذاً بما أنها بدعة كلها، فقد زعموا الحداثة والرفاه والعلمانية في بناء الدولة وفي تنظيم المجتمع، وتظاهروا بالانفتاح على العالم بكل ما فيه على كل الأصعدة، بما في ذلك الصعيد السياسي، لكنهم فرّغوا الدولة والمجتمع من مضامينهما الحديثة فلم يبقيا إلا هيكلاً يتلألأ في الخارج ويسوده النخر في الداخل.
أسهمت في تكريس الصيغة الأولى من الإعادة عوامل عدة أساسها تراث كامل من الفهم للنصوص اكتسب مع النقل والتكرار قدسية نصوص الأصول فاعتبرت كلُّ محاولة نقد أو تفنيد أو اجتهاد يخرج عنها استجابة لضرورات مكانية وزمانية لم تكن معروفة في عصرها خروجاً على الإجماع يؤدي بصاحبها إلى العزل الكامل إن لم يؤدِّ إلى سجنه أو قتله أو حرق كتبه.  والأمثلة، على تغييبها أو السكوت عنها أو تبريرها، في التاريخ العربي الإسلامي، لا تحصى.
ولعل أهمَّ عنصر أساس نجح سدنة هذه الإعادة في ترسيخه واعتباره قانوناً مطلقاً هي مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن من جهة، وما عرف بالسنة النبوية من خلال الصحاح الستة التي اعترف بمرجعيتها التاريخية. تعني المسألة الأولى إلغاء مفهوم التاريخانية إلغاءً كاملاً في النص القرآني الذي تكامل خلال ثلاثة وعشرين سنة، وتطور نصاً وغرضاً وصياغة مع تطور الدعوة المحمدية من مرحلتها المكية حتى نهاية مرحلتها المدينية.
وقفت معظم النصوص عند التفسير الحرفي للآية الذي لم يرَ فيها سوى استبدال آية بآية أخرى خيراً من الأولى، مع غض النظر عن دلالة هذا النسخ أو السكوت عن معناه الحقيقي "ما ننسخ من آية نأت بخير منها.." الذي فهمه صحابة النبي في عصره وعملوا به من بعده وعزف عنه وعن الأخذ به بعد قرن من ذلك أكثر الفقهاء الذين بدأوا سيرة الإعادة منذ ذلك الحين. 
أدّى إلغاء التاريخانية هذا الذي كان واضحاً أشد الوضوح وموضع تطبيق  ثريّ في عصر النبي وفترة تكامل القرآن من ناحية إلى إلغاء مفهوم التغيُّر والتطوّر الحاصل في الزمان وفي المكان، ومن ناحية ثانية إلى إغلإق النص القرآني ذي التاريخانية الواضحة في تكامله على امتداد ثلاثة وعشرين عاماً منجماً ومستجيباً لتطور نواة المجتمع الإسلامي الوليد، ومن ناحية ثالثة إلى إلغاء الزمان والمكان بحيث صار ما عاشه مجتمع القرن السابع الميلادي في منطقة جغرافية محددة هو المرجع الأول واجب التطبيق في كل زمان ومكان. لا بل إن بعض محاولات وضع هذه الإعادة موضع التطبيق في مراحل تاريخية معروفة ولا سيما في بدايات القرن الماضي بدا وكأنه في صراع مع الأصل ذاته حين عمل مثلاً على ما يمكن أن نطلق عليه "تنزيه التنزيه" حينما هدمت بيوت ومساجد بل وقبور ذات دلالات تاريخية شديدة الإيحاء في منطقة الحجاز من الجزيرة العربية.
الذين فهموا القرآن في تسلسل آياته الزمني في عصره أدركوا على سبيل المثال معاني ودلالات تغيير وجهة الصلاة أو القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بمكة، مثلما أدركوا معاني ودلالات تقرير مناسك الحج السنوية التي كان العرب يقومون بها سنوياً وهم الذين مارسوها قبل الرسالة المحمدية واستأنفوا ممارستها عند تقريرها ركناً من أركان الدين الإسلامي وبات إلههم، بعد أن كانت آلهتهم أشتاتاً، إلهاً واحداً.
ولقد سار توظيف "الحديث النبوي" في شرعنة هذه الإعادة على نهج الفهم الحرفي للنص القرآني. فإذا كان إلغاء التاريخانية في النص القرآني الأساس الذي قامت عليه الإعادة، فقد قامت أساساً، في ما يخص "السنة النبوية"، في اعتبار صحة نسبة الأحاديث إلى النبي، لا على إلغاء التاريخ فحسب بل وكذلك على تجاهل الظروف السياسية والاجتماعية والصراعات السياسية العنيفة التي حفل بها عصر تدوين الحديث. وكان تنسيق الأحاديث وتصنيفها في صحيح وحسن وضعيف اعتماداً على سلسلة النقلة والرواة وما إليها من القواعد التي اعتمدها مدونو الأحاديث يكفي في نظر سدنة الإعادة لشرعنتها ثم لإضفاء القداسة عليها واعتبارها مرجعاً أساسياً وعلى مستوى النص القرآني نفسه في التقنين وفي الحكم وفي القضاء.
ولعلَّ ما فاقم من تداعيات شرعنة الإعادة واعتبارها الهدف الأساس (إذ ها نحن نشهد بعد قرن من سقوط السلطنة العثمانية دعوة جديدة إلى "العودة" إلى الخلافة في مشرق العالم العربي كما في مغربه!) ضروب التحريم التي طالت كل محاولة لتكييف النصوص مع متطلبات الأزمنة الجديدة في مختلف اصقاع العالم العربي والإسلامي. فمن المحرمات الدائمة القيام بدراسات تتناول تاريخ القرآن، أو كيفية تدوين القرآن، أو كيفية نقل القرآن، أو دراسة مختلف الروايات الصحيح منها والمزيف حول تدوينه ونقله وروايته؛ ومن المحرمات أيضاً قراءة القرآن مثلما قرأه معاصروه خلال ثلاثة وعشرين سنة بين مكة والمدينة واستخلاص الدلالات والمعاني التي تؤدي إليها مثل هذه القراءة؛ ومن شبه المحرمات اجتهادات تتجاوز تلك التي تم تكريسها باسم المذاهب الأربعة والتي ألغيت منها، هي الأخرى، تاريخانيتها، على وضوحها وصراحتها في مضامينها ولاسيما لدى الإماميْن: أبي حنيفة والشافعي . لا بل إن القاعدة الفقهية  المُدرجة مثلاً في مجلة الأحكام العدلية التي كانت بمثابة القانون المدني في الإمبراطورية العثمانية "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" والتي كانت تأخذ على وجه التدقيق بمستلزمات الاستجابة إلى الظروف الزمانية والمكانية في استنباط الأحكام الشرعية سيراً على نهج أئمة الفقهاء الأولين اعتبرت من قبل البعض باطلة من أساسها لأنها، كما وصفوها، "قاعدة مستوردة"، يراد بها تكييف الشريعة وفق الحضارة الغربية من ناحية، ولأنها تكسر في نظر هذا البعض ديمومة الأحكام الإلهية وصلاحيتها في كل زمان ومكان، رغم أن هذه القاعدة لم توضع لتتناول الأحكام الخاصة بشؤون العقيدة بل من أجل تلك التي تطال شؤون الحياة اليومية المادية، من ناحية أخرى.
وعلى أن تجسيد هذه الإعادة في عقيدة بعض الدول العربية كان قائماً على نحو صريح أو ضمني، إلا أن دعاتها وسدنتها متواجدون في كل البلدان العربية بلا استثناء سواء من خلال بنىً حزبية سياسية علنية أو سرية، أو عبر فضائيات لا تحصى ديدنها اليومي تعميم هذه الدعوة بشتى وسائل الترغيب والترهيب، أو من خلال مفكرين اتخذوا من الدعوة إلى الإعادة وفلسفتها وتبريرها واستنفار الجماهير من حولها عملاً يومياً دعاوياً لهم. يسهل مهمتهم جمهور عريض لا يزال يرزح تحت سيطرة البؤس والجهل والأمية مؤلفاً بذلك بيئة حاضنة، ولاسيما أوساط الشباب الذين يمثلون نسبة كبيرة من سكان معظم الدول العربية ولا يزالون يشكون التهميش فضلاً عن البطالة والحرمان من بناء مستقبلهم.
تتفق الصيغة الأخرى من الإعادة مع الصيغة السابقة في المنهج وتختلف عنها في المرجعية وفي الأهداف وفي السلوك وفي الإنجازات كما في الانكسارات. ذلك أنها اصطنعت مرجعية "تاريخية" لم يكن لها من وجود حقيقي على النحو الذي قدمت به، بل كانت توليفاً من مجموعة عناصر متباينة إن انتمت إلى مراحل من التاريخ متباعدة إلا أن بينها قواسم مشتركة أتاحت صياغة صورة نمطية لمرحلة مثالية في التاريخ العربي. ولأنها كانت استجابة ـ متأخرة رغم كل شيء لكنها تندرج ضمن ما عرف بالوعي القومي الذي عرفته المنطقة العربية في نهاية العصر العثماني ـ واستمراراً للحركة القومية العربية التي ظهرت للعلن تعبيراً سياسياً واضحاً منذ بداية القرن الماضي من خلال العديد من الجمعيات والمؤتمرات والدعوات الفكرية، فقد بدت حركة جديدة مُجَدِّدة تحاول التكيف مع  معطيات العصر الحديث ومقتضياته سواء من خلال التنظيم السياسي أو الاجتماعي. لا بل إنها بدت في تعبيرها الأول وكأنها محاولة "استعادة" لصورة أولى تجسّدت في النبي العربي مع بدايات القرن السابع الميلادي.
غير أن غياب رؤية فكرية وتاريخية متماسكة سرعان ما أدى إلى النظر إلى هذه الصورة كحلم مثالي أمكن التخلي عنه مع الأيام لصالح صورة أخرى إن بقيت على الدوام أساس هذه الإعادة إلا أن ملامحها كانت تتغير وتزداد تشوهاً مع مرور السنوات ولاسيما حين استحالت أداة أيديولوجية في خدمة العسكريتاريا اعتباراً من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
لن تكون ثمة إذن مرحلة محددة تاريخياً بكل ما تنطوي عليه من فكر ومشروع وإنجاز يمكن الاعتماد عليها من أجل العمل على إعادتها ، بل مجرد صورة حلم ضبابي يعتمد قراءة للتاريخ لا تحتفظ منه إلا بلحظاته المزدهرة أو المجيدة أو الوردية، وتتجاهل أو تلغي منه كل ما اعتوره من صفحات سوداء.
ولقد جُسِّدَت هذه الصورة النمطية في شعار يلهب مشاعر البعض ويصيب باليأس والخيبة البعض الآخر.  وهو ما سمح لا بتأجيل التفكير أو البت في مشكلات اجتماعية ذات بعد قومي وتاريخي إلى أجل غير مسمى فحسب بل إلى عدم الاعتراف بوجودها أو العمل على طمسها من خلال محاولات دفنها حية.
لكن الهدف الأول والأساس كان الوصول إلى السلطة. كل الوسائل مباحة: العنف والتصفيات والنفاق والكذب. ولم تكن الأيديولوجية القومية التي وضع أسسها مثقفون مثاليون حالمون وآمنوا بها حقاً إلا اداة بين أدوات أخرى لتحقيق هذا الغرض. كان الوعد بالحداثة والتقدم وبالوحدة وبالحرية وبالإشتراكية للوصول إلى مجتمع يعيد أمجاد الماضي وهو يحقق القطيعة مع التخلف ومع هيمنة القوى الاستعمارية في أشكالها السياسية والاقتصادية والثقافية؛ لكن السلطة العسكرية التي وقفت في البداية وراء سلطة مدنية لم تكن تملك مهما كانت نواياها في الحقيقة من أمرها شيئاً ما لبثت أن انقلبت على هذه الأخيرة وأزاحتها وحلت مباشرة محلها لتقوم بعملية إخضاع للمجتمع وهيمنة عليه قلّ أن شهدت البلدان العربية الأخرى مثيلها. ولقد تبدّى منذ اللحظات الأولى لاستلامها السلطة أنها تسعى إلى شخصنتها على الصعيد الفردي في البداية ثم إلى جعلها ملكاً شخصياً يورّث سيراً على خطى أول من كرس وراثة السلطة في الإسلام، معاوية بن أبي سفيان، ضاربة عرض الحائط بكل ما تعنيه مفاهيم الدولة أو الجمهورية أو الديمقراطية أو الحداثة التي استخدمتها في مشروعها لتحقيق هدفها.
هذه الإعادة التي يمكن وصفها بالانتقائية، التي لم تعترف بمرجعية تاريخية ما سوى تلك التي اصطنعتها، سارت في تحقيق ما أرادته على نهجها في ابتداع هذه الأخيرة. فقد نبذت منذ البداية الصيغة الأولى من الإعادة بعد وسمها بالرجعية وبالتخلف، وطفقت تبني اعتماداً على ما اصطنعته وبالتدريج نظاماً كل ما هو معلن فيه على الملأ يشير إلى ما يمكن أن يرضي "الخارج" في تبنيه دولة مؤسسات حديثة ومجتمعاً مدنياً يستمدان عناصرهما من "خصوصية" هي الأخرى مفترضة. فمن يبحث عن السلطات الثلاث سيجدها قائمة في مجلس للشعب "منتخب" وفي حكومة تنفيذية وفي قضاء "مستقل"، ومن يبحث عن المجتمع المدني سيجد الأحزاب السياسية المتباينة في أيديولوجياتها والنقابات المهنية المختلفة، ومن يسأل عن الصحافة سيعثر على الصحف الحكومية والحزبية وصحفاً أخرى تحاول التظاهر بالاستقلال. ومن ثم فلا يمكن لمراقب خارجي إلا أن يقرّ وهو يطوف بنظره في بنى النظام الخارجية بحداثة النظام بالمقارنة مع الأنظمة التي اعتمدت الصيغة الأولى من الإعادة، وأن يغض النظر عن خصوصية حداثة تبقى مبررة في الدول النامية "ريثما تقوم بقفزة نوعية" تقترب بها من حداثة الغرب.
لكن خصوصية هذه الإعادة الحقيقية لا تتجلى في اللعب على المفاهيم وتوظيف مختلف الوسائل الفكرية والسياسية والتاريخية لبناء ديمومة ملكية السلطة والبلاد فحسب، بل كذلك في مجموعة من ضروب السلوك والمواقف تجلت أساساً من ناحية، في الطريقة التي برع في استخدامها سدنة هذه الصيغة من أجل وضع اليد حرفياً على سلوك وعمل وتفكير ومستقبل أي مواطن داخل البلاد، طريقة لا تضاهي في اعتمادها وفي سلوكها إلا النظم الشمولية التي قامت في بداية القرن الماضي في الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية؛ ومن ناحية ثانية وعلى غرار تفريغ مؤسسات الدولة والمجتمع من وظائفها الأساس ووضعها في خدمة السلطة الحاكمة، في تفريغ المجتمع  في مجموعه من السياسة بعد القضاء سجناً أو تشريداً أو قتلاً على بقايا الطبقة السياسية التقليدية في البلاد ومن الثقافة بعد سجن المثقفين والمفكرين أو تهجينهم وتطويعهم بمختلف الوسائل؛ وأخيراً في اتباع سياسة خارجية سواء على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي لا تخرج عن النهج السابق: يروَّجُ لها في السوق المحلية باعتبارها سياسة صمود وتصدٍّ في يوم ثم سياسة ممانعة في يوم لآخر، في الوقت الذي تكرس فيه ضرباً من التعاون الضمني مع القوى المؤثرة إقليمياً ودولياً من أجل تأمين ديمومة السلطة ونظامها مجسدة في الفرد أولاً ثم في العائلة لاحقاً.
هكذا آلت الصورة النمطية المصطنعة لأمة "عربية واحدة ذات رسالة خالدة"  التي برَّرت في البداية إعادة ضرب من مجد تليد في ثوب حداثي إلى كارثة سياسية واجتماعية وتاريخية لا تزال تجري وقائعها وتنتج آثارها في البلدين اللذين تمت فيهما هذه الصيغة على مابين الممارستيْن من تباين وتفاوت.
لا يعني ذلك بالطبع أن الصيغة الأولى من الإعادة التي سبق ذكرها قد آتت أكُلها المرجوة. يكفي عرض بعض المشكلات التي تطرح في مجتمعاتها اليوم مما يعتبر من المكتسبات التي عفا عليه الزمن وتجاوزها كي تُقَدَّرَ المسافات اللامتناهية التي عليها أن تقطعها لتعيش عصرها كما كان يجب أن تعيشه.
وكما كشفت كتابات مجموعة من الأطفال على جدران مدرستهم هشاشة البنيان الذي شيد خلال نصف قرن حجراً فوق حجر، فلم يجد بناته وسدنته بداً من اللجوء إلى العنف الموصوف وغير المسبوق للدفاع عما كانوا يعتبرونه ملكاً شخصياً لهم، كذلك يمكن لحركة ما أن تؤدي إلى الكشف عن ضروب الخلل وأنماط القصور السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية في نظام اتخذ من قدرات الموارد الخيالية جداراً حامياً ـ حتى حين ـ من إمكان هبوب عواصف مفاجئة تنطلق من واحد من مكامن الخلل أو القصور، يعضده في ذلك أصحاب المصالح في بقائه مثلما عاضدوا وحالوا من قبل دون انهيار النظام الآخر نظراً للخدمات الجوهرية التي كان يؤديها لهم.
هكذا تتجلى صيغ الإعادة وكأنها النهج الوحيد الذي سارت بموجبه مشروعات النهضة العربية منذ ما يقارب القرنين من التاريخ العربي الحديث. صيغ كرست قدسية الماضي وقوانينه ورؤاه وهيمنته على مختلف جوانب الحياة اليومية والعامة.  
لقد حاولت صيغ الإعادة وهي تدعو للماضي أن تحرِّم استخدام أي نهج غير نهجها في النظر إليه، مغلقة على غرار الغزالي لا أبواب الاجتهاد فحسب بل أبواب التفكير في غير ما تراه وتفسره أو تؤوله أو تأمر به. ومن هنا لم يكن ثمة فرق في التحجّر على الصعيديْن الفكري والعملي ما بين الإعادة إلى ما يراد اعتباره المجتمع الديني الأمثل أو العصر الذهبي لمجد تليد مُتخيّل.
يكفي التأمل ملياً في الكيفية التي تطورت بموجبها كبرى المشروعات التاريخية للتحقق من أنها لم تنكر الماضي ولم تقطع معه لا واقعياً ولا معرفيّاً، بل بدأت بوضعه في زمانه وفي مكانه عاملة على احتوائه ضمن حركة تتطلع نحو المستقبل وترمي إلى البناء من أجله. تستلهمه، فتستوحي قيمه ومثله مادامت تستجيب لمتطلبات الحاضر أو تجيب عن أسئلته التي يطرحها وتستبعد أو تهمل كل ما ما لا يمتّ إلى المشكلات الآنية بصلة.
وهذا على وجه الدقة ما يمكن تسميته مفهوم الاستعادة. وهو مفهوم لا يسمح بقراءة دقيقة لبعض التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها الإنسانية في الماضي البعيد مثلما هو الأمر في الماضي الأقل بعداً أو في الماضي الحديث فحسب، بل يتيح كذلك فهم العديد من الأعمال الفكرية في مجال الفلسفة والتاريخ والآداب وقراءتها في ضوئه. والأمثلة لبيان ذلك عديدة ومتاحة يمكن في عجالة ذكر بعض منها.
أول وأهمُّ مثل يجدر الحديث عنه أو قل يفرض نفسه في هذا المجال هو الدعوة الإسلامية في بداياتها على وجه التحديد. إذ يتيح مجرد إلقاء نظرة سريعة على الكيفية التي بدأت بها هذه الدعوة إلى الدين الجديد في القرن السابع الميلادي ملاحظة عمل هذا المفهوم خلال الأعوام الثلاثة والعشرين التي شهدت ترسيخ الدعوة واكتمال القرآن. ففي الحاضرة التي كانت قبل الإسلام قبلة العرب الدينية والتجارية والثقافية والتي كانت تغلي خلال مواسمها بنشاط ديني ودنيوي لا مثيل له في غناه وفي خصوبته في أنحاء الجزيرة العربية الأخرى كلها، استطاعت الدعوة أن تفرض نفسها حين بدا للعرب جميعاً أنها تستعيد شيئاً فشيئاً كل هذه الخصوبة الدينية باحتوائها بادئ ذي بدء الديانتين اليهودية والمسيحية جاعلة نفسها في آن واحد امتداداً لهما واكتمالاً بهما في جوهريهما ـ التوحيد ـ .
ثم بعد ذلك وللتخصيص باستيعابها أكبر وأهم تقاليد العرب الدينية على اختلاف آلهتهم، الحج، بتبني شعائره التي كانت مُتَّبَعة قبل الإسلام  جملة وتفصيلاً مع التغيير الجوهري والأساس المتمثل في التوحيد: "وإلهكم إله واحد". كان لهذه الدعوة أن تنفي نفسها بنفسها لو أنها اعتمدت الإعادة طريقاً: إعادة اليهودية إلى أصولها الأولى أو المسيحية إلى جذورها في عهد عيسى بن مريم. وحين أعلنت النبي إبراهيم أب الجميع وباني الكعبة، كانت تشمل الجميع تحت ظلها: يهوداً ومسيحيين ووثنيين.
بإعمال هذا المفهوم يمكن، فضلاً عن ذلك، إدراك معاني ودلالات تغيير قبلة الصلاة من المسجد الأقصى بالقدس إلى المسجد الحرام بمكة الذي تمَّ ـ تاريخياً ـ بعيْد القطيعة مع يهود المدينة، أو تلك الخاصة بالناسخ والمنسوخ في الآيات القرآنية التي كانت باستثناء تلك الخاصة بعقيدة التوحيد وبالإيمان تستجيب لقضايا المجتمع الجديد وتتكيف في استجابتها مع ما كان يطرحه من تساؤلات أو يواجهه من مشكلات كان من الضروري حلها لا اعتماداً على ما كان سائداً من أعراف وتقاليد وعادات، بل بناء على ما تقتضيه طبيعة الدعوة بما لا يخالف العقل والمنطق أو يصدم كذلك في جوهرها ثقافة كانت منفتحة على حضارتين كبيرتين قائمتين كانت الدعوة الجديدة تتطلع إلى احتوائهما بل وإلى الحلول مكانهما.
سيكون ممكناً أيضاً استخدام هذا المفهوم في دراسة الكيفية التي تمت بها ظروف النهضة الأوربية اعتباراً من القرن السادس عشر. لم يكن العصر آنئذ على غرار القرن السابع الميلادي في الجزيرة العربية عصر دعوات دينية أو تحقيق نهضة من خلال دين جديد. كما لم يكن مشروعاً فرديا وما كان يمكن له أن يكون. بل مشروع مجموعة من نخب أمم حاولت أن تستعيد (وللفعل هنا معناه الكامل) المبادرة التاريخية التي كان العرب قد استحوذوا عليها عدداً من القرون. وكان الإرث الفني والفكري والأدبي والسياسي اليوناني خصوصاً ثم الروماني هو الذي سيستعاد قراءة وترجمة واستلهاماً وعلى الأصعدة كافة. سينظر إلى هذا التراث بوصفه معجزة تاريخية فريدة، لكن هذه النظرة لن تبلغ حدّ التقديس. ستستعاد الملاحم والفنون النحتية والتشكيلية والمسرحية مثلما ستستعاد نشراً ودراسة مبدعات الفكر الفلسفي بتجلياته كلها، أي من المنطق إلى الميتافيزيقا، بما في ذلك ما حظي به من تأويلات ودراسات قام بها العرب من قبلهم، ولاسيما ابن رشد (الذي كان مصدراً اساساً في تفسير الفلسفة الأرسطية حتى نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا). وستدرس الديمقراطية الأثينية والقوانين الرومانية وسيكونان حاضران على الدوام خلال عصر التنوير خصوصاً في فكر وعمل النخب الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية عند تكريس النظم الديمقراطية وصياغة القوانين الحديثة التي لم تقم في ما حققته بقطيعة مع الماضي بقدر ما احتوته استيعاباً ثم تجاوزاً. ولا تزال.
بهذا المفهوم أيضاً، أو في ضوء مقتضياته، يمكن دراسة جهود الفلاسفة الإسلاميين العقلانيين، المتكلمين منهم في المشرق وابن رشد  في الأندلس في العصور الوسطى العربية مثلما يمكن دراسة الجهد الكبير الذي حاوله في بدايات القرن الماضي وعلى امتداده كل من عبد الرحمن الكواكبي وطه حسين وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبي زيد على سبيل المثال لا الحصر. لقد واجه هذا المجهود الذي تمَّ بذله على صعيد الفكر من أجل التمهيد لحركة واسعة كي يستعيد العرب بها زمام المبادرة التاريخية من جديد كلَّ ما يمكن تصوره من عنت ورفض واستنكار ومقاومة وعدوان مسَّ الأشخاص في حياتهم اليومية مثلما لا يزال يطالهم في ذكراهم. إذ لم يكن محض صدفة بالطبع أن يتجه طه حسين على سبيل المثال إلى التراث الثقافي العربي بامتياز، الشعر الجاهلي، فيضعه على محك التحليل والتفنيد مستعيناً بأدوات العقل لا بأدوات التقليد والنقل، أو أن يتجه علي عبد الرازق إلى أصول الحكم في الإسلام كي يفتح أفقاً جديداً لم تكن السلطة الحاكمة آنئذ ترضى به وهي التي كانت تعمل على "إعادة" إنتاج نظام الخلافة الإسلامية لا في صيغته الراشدية على الأقل بل في صيغته العثمانية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. لن يتراجع طه حسين عن قناعاته وسيعمل بصورة أخرى على بث قناعاته سواء من خلال كتبه في استعادة العصور الأولى من التاريخ الإسلامي دراسة وتمحيصاً، أو من خلال مشروعاته وزيراً على وجه الخصوص؛ وسيصر علي عبد الرازق على قناعاته دافعاً الثمن الأكبر الذي يمكن لمفكر أن يدفعه: تهميشه وإرغامه على الصمت. بعد نيف وخمسين عاماً من هاتين المحاولتيْن، سيحاول نصر حامد أبو زيد أن يسير على الطريق الذي شقه طه حسين، من خلال قراءة جديدة للتراث الإسلامي بدءاً بالقرآن. وسرعان ما تضافر ضده سدنة الإعادة من كل حدب وصوب وحالوا بينه وبكل الوسائل الرخيصة وبين إتمام مشروع بدا هو الآخر واعداً.
وفي ضوء هذا المفهوم أخيراً يمكن إدراك الأسباب الأعمق لرفض أية محاولة للإعادة أياً كان مصدرها ولا سيما للذين لا يزالون يتشبثون بإمكان إلغاء الزمان والمكان والاستعاضة عنهما بتخييل عصر ذهبي لم يكن له وجود أصلاً. ومن ثمَّ، وبعد أن سقطت صيغة الإعادة "العلمانية" سقطتها المريعة في نسختيها اللتين سادتا منذ ستينيات القرن الماضي طوال نصف قرن، لا بد خصوصاً للذين ينادون بانتمائهم للدين الإسلامي وإلى تراثه الفكري والفقهي والسياسي أحزاباً وجماعات ومفكرين من أن يعودوا إلى بداية الإسلام الأولى لا لكي يعيدوا إنتاجه على النحو الذي عرفه المجتمع العربي في القرن السابع، بل لكي ينعموا النظر طويلاً وملياً في الكيفية التي  سار عليها نبي الإسلام نفسه في إدارة مشروعه الهائل. لاشك أنهم سيفتقرون إلى وحيه الإلهي، لكنهم يستطيعون على الأقل  أن يستوحوا نهجه، أي طريقته في العمل وفي التفاعل مع ما سبقه ومع ما كان يتطلع إلى بنائه.


* نشر هذا المقال في مجلة "الجديد"، لندن، العدد 2، آذار/مارس 2015، ص.18 ـ 23.
كما نشر في صحيفة العرب بتاريخ 18 آذار/مارس 2015 ، العدد 9860، ص. 15.
http://www.alarab.co.uk/?id=47755
 
وقد نشر المقال أيضاً في مجلة "الكلمة" اللندنية، العدد  96، نيسان/أبريل 2015