mercredi 29 octobre 2014


جائزة نوبل والعرب *

 

داليا عاصم، صحيفة الشرق الأوسط

تحقيق حول ابتعاد جائزة نوبل عن الأدباء العرب، برغم الفرص الكثيرة التي أتاحتها العولمة لإزاحة الفواصل بين الغرب والشرق .
وأحاول في هذا التحقيق الوقوف على أهم الأسباب التي تمنع وصول أسماء الكثير من الأدباء العرب لنيل الجائزة  :
هل لأن الرواية أصبحت سلعة والطريق السهل للشهرة ؟ هل السبب في تراجع النقد الأدبي؟
تهميش الأدب الجيد؟ أم بسبب انحسار الترجمة وحصرها على أعمال كتاب بعينهم؟
وقد ردد البعض أن أدونيس وأمين معلوف أصبحا مرشحان أبديان للجائزة، في حين أنه لا توجد أي ترشيحات أعلنت من قبل الأكاديمية السويدية؟ وبرأيك من هو المرشح العربي الأحق بالجائزة؟

 

بدرالدين عرودكي

أرى من وجهة نظري أن علينا قبل أن نؤكد أو ننفي مسألة ابتعاد جائزة نوبل عن الأدباء العرب ـ كما تقولين ـ أن نعود إلى تاريخ هذه الجائزة منذ بدايتها عام 1901 وحتى الآن، والنظر في جنسيات من نالوها والثقافات التي ينتمون إليها واللغات التي كتبوا بها. لدينا حول هذا الموضوع التحليل الذي قامت به صحيفة اللوموند قبل عدة أسابيع على 114 حائز على جائزة نوبل، وكانت النتيجة استخلاص القواسم المشتركة بينهم التي أتاحت وضع عناصر صورة شبه نمطية لحامل جائزة نوبل تتضمن العناصر التالية: 1) أن يكون فرنسياً أو كاتباً باللغة الإنجليزية؛ 2) أن يكون أوربي الأصل؛ 3) أن يكتب مبدعات نثرية؛ 4) أن يكن من جنس الذكور.
على أن الأهم في هذا التحليل هو الانتماء القومي لحائزي الجائزة  واللغة التي يكتبون بها.
فإذا أخذنا الانتماء القومي، وجدنا أن الفرنسيين يأتون في المرتبة الأولى (15/114) في حين يأتي الإنجليز في المرتبة الثانية (12/114) والأمريكان في المرتبة الثالثة (10/114) وإذا أخذنا الانتماء إلى قارات العالم الخمس لوجدنا أن أوربا تأتي في المرتبة الأولى (77/114).
أما اللغة السائدة لدى الكتاب الحائزين على الجائزة فهي كذلك اللغات الأوربية: تأتي اللغة الإنجليزية في المرتبة الأولى (28/114) وبعدها اللغة الفرنسية (16/114) ثم اللغة الألمانية (13/114) ثم اللغة الإسبانية (11/114) ثمَّ تأتي بعدها اللغات الأخرى التي يتراوح عدد كتابها الذين مُنِحوا الجائزة من 1 (العربية والبرتغالية  والتشيكية  والتركية والعبرية) إلى 2 (اليونانية واليابانية والصينية والدانماركية) إلى 3 (النروجية) إلى 4 (البولونية) إلى 5 ( الروسية) إلى 6 (الإيطالية) إلى 7 (السويدية)..
من الواضح إذن في ضوء هذه الأرقام أن جائزة نوبل تبقى جائزة أوربية أولاً وغربية ثانياً، ولا تأتي عالميتها إلا من أخذها بعين الاعتبار  بين الحين والآخر اللغات الأخرى كما نرى من منحها لكاتب يكتب بلغة غير أوربية (شريطة أن تكون أعماله قد ترجمت على كل حال إلى إحدى هذه اللغات بالطبع ولاسيما أحد اللغتيْن الإنجليزية أو الفرنسية).
ذلك يقودنا إل الشق الثاني من تساؤلك. فالرواية التي تكتب بالعربية اليوم، أياً كان الرأي فيها، لا علاقة لها، بناء على ما تقدم،  بابتعاد جائزة نوبل عن الأدباء العرب. ذلك أن الجائزة لا تمنح عادة إلا للكاتب على مجموع أعماله لا على عملٍ بالذات حتى وإن صادف وأشارت اللجنة المانحة إلى عمل محدد في تقريرها. ومن ثم لا علاقة لمستوى الكتابة الروائية ولا لتراجع النقد الأدبي ولا لتهميش الأدب الجيد ولا بانحسار الترجمة بمنح الجائزة لكاتب عربي..
أما بالنسبة للشق الأخير من سؤالك فأود أن أسترعي الانتباه إلى أننا لو طبقنا الصورة النمطية التي رسمتها صحيفة اللوموند على الحائز على جائزة نوبل على أدونيس مثلاً لقلنا إنه لن يحصل عليها إلا باستثناء تاريخي..أعني الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. إذ لا ينطبق عليه أيٌّ من العناصر الضرورية المتواجدة في الصورة النمطية لمن يحمل نوبل.. أما بالنسبة لأمين معلوف فإنه يملأ عددا من العناصر الضرورية لنيل الجائزة حسب الصورة النمطية المذكورة. لكنه إن حصل عليها فلن يعتبر بين الكتاب الكتاب العرب لأنه لم يكتب مبدعاته باللغة العربية (مثل نحيب محفوظ مثلاً) بل سيعتبر من الكتاب الفرنسيين نظراً لأنه لم يكتب إلا بالفرنسية ومن ثم فهو من الكتاب الفرنكوفونيين، فضلاً عن أنه عضو كامل العضوية في الأكاديمية الفرنسية.
يبقى أن أجيب على سؤالك الأخير: من هو المرشح العربي الأحق بالجائزة؟
ما أكثرهم وما أقلهم! لو كانت الجائزة تمنح لمن رحلواـ وما أكثرهم ـ  لكان الخيار شديد الصعوبة. ولو اقتصر الأمر على من هم على قيد الحياة لكان الخيار أكثر سهولة نظراً لضآلة العدد الذي لا أظنه يتجاوز ـ هذا إن بلغ ـ عدد أصابع اليد الواحدة!



*  نشر في صحيفة الشرق الأوسط، العدد 13119 بتاريخ 20 تشرين أول/اكتوبر 2014، فضاءات.
 
 
 
 

lundi 20 octobre 2014


 

سوزان بريسّو وطه حسين

قصة حبّ*

بدرالدين عرودكي

 

"يقلقني عجزي عن إعادتكَ إلى قربي ويقنطني. أعرف أنكَ تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرفُ أنَّ بوسعي أن أخاطبك، وأنَّ بوسعكَ أن تجيبني، لكنكَ تفلتُ مني، وتفلتُ من نفسك، آه، ما أبعدكَ يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلبَ على هذا الضيق الذي يثقل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركتُ نفسي لهواها لبكيت دون توقف. كنت في الحديقة بصحبة كتاب. ولم يغيِّر ذلك من الأمر شيئاً. ولقد ألقيتُ نظرة مكتئبة على الممشى الصغير الذي كنتُ قد هيّأته لكَ لتجلسَ فيه عصرَ ذات يوم؛ كان ضيِّقاً، وارفَ الظلِّ مزهراً، وكنتُ أفكرُ أننا سنقضي فيه لحظات هادئة لكنّك لم ترغب في النزول إليه"**

ذلك ما كتبته سوزان بريسو مخاطبة حبيبها وزوجها طه حسين إثر رحيله عنها وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على لقائها به.

وكان طه حسين قد كتب لها ذات يوم وهي على سفر:

""أودّ لو أصف لكِ ضيقي عندما تركتُ السفينة، عندما رجعتُ إلى القاهرة، عندما عدتُ من فوري إلى البيت: فقد دخلت غرفتنا وقبلت الزهرة وغطيت بالقبلات الصورة التي لا أراها... ومع ذلك فقد فعل أصدقائي كلّ ما بوسعهم لتسليتي (...) ولكن أنتِ، من يسهر عليكِ؟ من يُعنى بكِ؟.  "لو أنني قربكِ، لا لشيء إلا لكي أحمل لكِ مؤنس، وألبس عنكِ أمينة، وأعطيك روح النعناع! (...)  يستحيل عليَّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدكِ في كلّ مكان دون أن أعثر عليكِ... كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتِها لي لأضع فيها رسائلك ــ سأقبلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليَّ أن أزورها كلّ يوم. ولو أنكِ رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمسُ الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك..."***

**  **  **

لم يكن من الممكن لأشد ضروب الخيال جنوحاً أن يتوقع لقاءً يستحيل من فوره وبمثل هذه السهولة قصة حبٍّ عجيبة تبدأ معه ولا تنتهي.

لم يكن ثمة، للوهلة الأولى، في الظاهر على الأقل،  ما يجمعهما. فهي فرنسية وهو مصري؛ وهي مسيحية وهو مسلم؛ وفوق هذا وذاك كان له عينان حُرِمتا البصر مبكراً فحَرَمَتاهُ من أن يأمل بحبٍّ يبدأ بنظرة تأسرُه وتستحوذ عليه.. وما كان بوسعه أن يلتقي بها بعد أن ألزم نفسه ـ على غرار أبي العلاء المعري بما لا يلزم ـ منذ وصوله إلى هذه المدينة في جنوب فرنسا، أي بشيء من القسوة حين قصر نشاطه اليومي على الذهاب إلى الجامعة لمتابعة المحاضرات  ـ إذ لم تكن طالبة في الجامعة يمكن أن يلتقي بها ـ ، وعلى البقاء في الغرفة يقرأ فيها ويدرس، ويتناول فيها الطعام وينام، لا يحيد عن ذلك رغم إلحاح الأصدقاء في الخروج أيام الآحاد في شوارع المدينة ومقاهيها، أو للتريض في منتزهاتها وفي ريفها. لكنه سيلقاها، من حيث لم يكن ينتظر، ذات يوم، صوتاً عذباً رفيقاً "يشيع فيه البرُّ والحنان" يتناهى إلى سمعه حين جاءته بصحبة والدتها تعرض خدماتها في أن تكون القارئة التي أعلن عن حاجته إليها. 

وكأنما فتح هذا الصوت أمامه عالماً كان حتى تلك اللحظة مغلقاً أمامه. عالم من الفرح والموسيقا والألوان سيبدأ منذ تلك اللحظة في رؤيته بعينيْها. وسيعيش فترة يستسلم فيها لحدْسه، ولمشاعره، ولضرب من اليقين خفيٍّ لا يغادره ولا يتخلى عنه. وحين يضطر مع زملائه المبعوثين المصريين بأمر من سلطات الجامعة المصرية إلى ركوب البحر في عودة سريعة إلى مصر بسبب أخطار الحرب، سيبقى صوتها يتردد في أرجاء نفسه حاضراً على الدوام. وحين يعود بعد أشهر معدودات ويعثر، حين وصوله نابولي على طريقه إلى باريس، في البريد، على رسالتين منها تنتظرانه، يلحُّ على صديقه أن يقرأهما له مثنى وثلاث ورباع حتى يملَّ هذا الصديق ويرغمه على الكف عن الإلحاح.

هي ذي إذن حاضرة لا من خلال صوتها فحسب بل بكلماتها يستعيدها بهذا الصوت دون كلل. حتى إذا عاد واستقر في باريس وعرضت عليه أن يستأجر غرفة في الشقة التي تسكنها مع أمها لم يتردد لحظة واحدة. فقد صار بوسع هذا الصوت أن يصل إلى أسماعه خارج أوقات القراءة والدراسة: "يلقي عليه تحية الصباح، حين يخرج من غرفته ذاهبًا إلى السوربون، ويلقي عليه تحية المساء حين يتقدَّم الليل ويأوى أهل البيت إلى مضاجعهم، ويقرأ عليه بين ذلك ما شاء لله من آيات الأدب الفرنسي"***.

لكنه يخفي في نفسه ما لا يسع ملامحه إلا أن تبديه. كأنما كان يستحي من هذا الشعور الذي سكن أرجاءه. لكن الأرق يحل محلَّ النوم، ثم ما تلبث أثاره أن تظهر "ويلحظها أهل البيت،  وتلحظها معهم ذات الصوت العذب، وهم يسألونه عن أمره فيلتوي بالجواب، وهم يريدون أن يعرضوه على الطبيب فلا يستجيب لما يريدون، وإنما يزعم لهم أن ليس به بأس. وما يزال هذا شأنه حتى يظهر عليه بعض الضرِّ، وتسأله الفتاة ذات يوموقد خلت إليه تقرأ عليه بعض ما كانا يَقرآنفيريد أن يلتوي بالجواب، فتلحُّ عليه، وإذا هو ينبئها مريدًا أو غير مريد بأمره كله"**. يقول لها: ""اغفري لي، لا بدّ من أن أقول لك ذلك، فأنا أحبّك"*. سوى أنَّ المفاجأة تذهلها، فتجيب على غير إرادة منها: "ولكني لا أحبك"*. كانت تعني الحب بين الرجل والمرأة لا المودة التي لا تنكر شعورها بها نحوه. وها هو يجيبها حزيناً، مُكذِّباً حدسه: " آه، إنني أعرف ذلك جيداً، وأعرف جيداً كذلك أنه مستحيل"**.

ثم تقول له ذات يوم وقد همت بالانصراف: "وإذن فماذا تريد؟"** وتسمعه يقول: "لا أريد شيئاً"**. لكنها ستعلن لأهلها بعد لأي وبوضوح: "أريد الزواج من هذا الشاب"! فكان ردّ الفعل سريعاً ومنتَظَراً: "كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟ لاشك أنكِ جننتِ تماماً!"**.

نحن في فرنسا في بدايات القرن العشرين. ما كان سهلاً ولا طبيعياً أن تقبل أسرة فرنسية محافظة زواج ابنتها من رجل يجمع هذه العلامات الفارقة كلها ولاسيما العلامة الأخيرة، اختلاف الدين. لكن عاهته لم تكن أقل أهمية في نظر بعض أهلها. ولسوف نعرف فيما بعد بعض أصداء ما قيل عن هذا الزواج من واحد منهم، ميشيل تورنييه، الذي التقى سوزان وطه عدة مرات في شبابه ـ قبل أن يصير أحد كبار الروائيين الفرنسيين ـ  والذي كتب في مذكراته بقدر من الغلظة لا تفسرها إلا الجملة الأخيرة: "كانت ابنة خالة أمي قد عرفت بباريس طالباً شاباً مصرياً كان أعمى. وقد ارتبطت به وصارت بمعنى من المعاني عصاه البيضاء. وقد انتهت إلى الزواج منه (...). يوحي إليّ العميان بضرب من إرهاب مقدس. لقد اكتشفتُ ذلك طفلاً في حضور الكاتب المصري طه حسين الذي كانت زوجته ابنة خالة أمي (...) وإني لعلى قناعة أن العمى في نظري سيكون انتحاراً فورياً.."**.

لكن سوزان كما كانت تشير الدلائل كلها كانت قد اتخذت قرارها. فهل كان حبها قراراً إرادياً ـ وبالتالي قراراً عقلانياً ـ كما ظن البعض؟ 

كان العام الدراسي قد انتهى وبدأت الإعداد لقضاء الصيف في منزل أهلها بجنوب فرنسا. وقبل أن تغادر، أخبرته إنها قد فكرت فيما قاله لها، وأنها أطالت التفكير.. لكنها لن تفضي له بما انتهت إليه من قرار إلا بعد مهلة كانت تحتاج إليها. فإذا انقضت المهلة وأرسلت إليه حيث ستقيم صيفاً تدعوه أن ينفق بقية إجازة الصيف في بيت أهلها فسيعني ذلك أنها تستجيب إلى ما أراد وإن لم تفعل فستبقى العلاقة على ما هي عليه: رابطة صداقة صادقة بينهما.

سيسمع طه حسين هذا الجواب وسيسعد في أعماقه. "وكانت آية سعادته أنه أطرق ولم يقل شيئاً"***. كأنما كان يحدس في أعماقه حبها له. وكأنما كان يدرك في الوقت نفسه صعوبة حمل الأسرة على قبول قرارها فلعلها إذن بحاجة إلى مهلة تستطيع خلالها أن تسعى إلى رضا والدتها وأسرتها بما يكفل لها الحفاظ على حنان الأهل وحبهم وهي التي ستواجه إن تزوجته الغربة والبعاد عنهم. ولعلها كانت في هذه الحال من القلق والتفكير حين حدثته عن المهلة ولم تحدثه عن حبٍّ تبادله إياه حتى لا تجعله يأمل فيما يمكن أن يصير مستحيلاً إن عاندت أسرتها وقطعت برفض الرجل وباستحالة المشروع.

كان قد قال لها: "لعل ما بيننا يفوق الحب"**. أما في يتعلق بها فقد كان ـ كما تقول هي ـ " هناك هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتثلم الكائن الذي أقاسمه حياته"**.

حين ترى الرضا في وجهه تطلب إلى صديقة لها أن تكون هي من سيقرأ له الرسائل التي ستجري بينهما خلال غيابها بعيدة عن باريس حتى يبقى السرّ في حرز أمين.  

سيتلقى الرسالة بعد ما يقرب من شهر تدعوه فيها إلى الحضور. وسيحمله القطار من باريس إلى جنوب فرنسا ليلة كاملة وبعض صباح اليوم التالي حتى إذا بلغ غايته استقبله "الصوت العذب" يدعوه "في رفق وحنان، ويشعر بأنه منذ اليوم سيخلق خلقاً جديداً"***.

خلال شهر كامل حاولت سوزان بكل ما تستطيع أن تناضل دفاعاً عن قرارها. وها هي تدعو خالاً لها كان قسّاً، هو الأب إدوار جوستاف فورنييه، وكانت تكنُّ له إعجاباً عظيماً، كي يتعرف بطه وقد وصل من باريس. وهاهو القس يخرج بصحبة طه ويتنزه معه وحيداً طوال ساعتين كي يعود ويقول لها: "بوسعكِ أن تنفذي ما عزمتِ عليه.. لا تخافي. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنّه سيتجاوزكِ باستمرار"*. وقد حَسَمَ هذا العوْن الذي تلقته في نضالها الأمر فتحققت بذلك نبؤة أستاذه الإيطالي، الأعمى هو الآخر،  الذي كان يدرّسه اللغة اللاتينية والذي قال له حين رآها: "سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك"**.

منذ تلك اللحظة صارت سوزان عينيْ طه، وحبيبته، وصديقته. تناديه باستمرار : "يا صديقي، ياصديقي الحبيب" ** ولن تكفَّ عن مناداته حتى بعد رحيله لأنه "قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، كان أفضل صديق لي وكان، بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة، صديقي الوحيد"**.

ومنذ تلك اللحظة صار طه يحب أن يخرج للنزهة وأن يتمتع بمباهج الطبيعة التي كان يراها بعينيها ويتحسسها ببصيرته الخارقة. ها هي الموسيقى في تجلياتها المختلفة تدخل حياته بحيث صارت جزءاً لا يتجزأ من وجودهما معاً؛ وها هو على فقره وضيق ذات يده يشتري من شارع بونابرت بباريس نسخة من لوحة "عذراء لندن" لبوتيشللي يفاجئ بها، هو الأعمى، حبيبته في عيد ميلادها، لوحة سوف تحتفظ بها سوزان في غرفتها على الدوام.

كان عليهما وقد عقدا العزم على العيش معاً أن يعملا على أن ينهي طه ما جاء إلى فرنسا من أجل تحقيقه. وها هي معه، قارئته وحبيبته ورفيقة دربه. وسيتمكن طه بفضلها من أن يحقق في أربع سنوات ما لم يستطع سواه تحقيقه في أضعافها: فقد تعلم خلالها اللغتين اللاتينية والإغريقية، وحصل على إجازة ودبلوم في الدراسات العليا فضلاً عن إنجازه رسالة الدكتوراه.

حين عودتهما إلى مصر وقيامها مع زوجها بزيارة أسرته في بلدتهما، ستفاجأ سوزان بوالد طه حسين يخرج معها في جولة في البلدة: "شيخ وقور معمم بصحبة امرأة شابة سافرة،أجنبية مسيحية تعتمر القبعة!"* لكنها ستفاجأ أكثر بما لم تستطع أن تتخيله: أن تسأل حماتها، المسلمة المتدينة، ابنها طه عن أي نوع من النبيذ يجب شراؤه من أجلها! أكبر الظن أنها قارنت بين موقف اهلها من طه وموقف أهله منها. ولعل ذلك قد ترك أثراً في نفسها لا يمّحي ما دامت تستعيد الحادثتيْن بحبور وامتنان بعد خمسين عاماً من وقوعهما قائلة: "عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي لا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب"** ..

ومع ذلك، فلم يكن هذا حال أوساط النخبة. فباستثناء عدد من أصدقاء طه حسين على صعيد الفكر والسلوك من أمثال أحمد لطفي السيد والأخوين مصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق، كان سواهم ممن ينظرون بعين الريبة بل والاستنكار أحياناً لا إلى الزواج المختلط فحسب بل إلى حضور المرأة إلى جانب الرجل في ميادين الثقافة والسياسة.. حدث مرة أثناء الإعداد لاحتفال من أجل تخليد ذكرى الشيخ محمد عبده أن طرح طه حسين خلال أحد الاجتماعات هذا السؤال الذي لم يكن يخلو من الخبث: "هل ستشارك النساء في هذا الاحتفال؟"* وسيثير سؤاله الفضول والعجب لدى بعض من جعلوا من أنفسهم سدنة الدين والدنيا معاً. يقول له في الاجتماع نفسه من خلف الشيخ محمد عبده في في منصب المفتي الأكبر، وهو الشيخ بخيت :

"لكني بعد كلّ شيء يا دكتور طه أودّ أن أفهم الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية.. فأنتَ مصري طيب ووطني طيب عظيم الذكاء.. فكيف أقدمتَ على مثل هذا العمل؟"

ويجيبه طه حسين:

"ـ قابلت فتاة، وأحببتها، فتزوجتها. ولو لم أفعل لبقيت عزباً أو لتزوجت ـ نفاقاً، بما أنني أحبّ امرأة أخرى ـ امرأة مصرية، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!".

" ـ هذا أمرٌ لا أستطيع تصوره!"

" ـ هذا أمر لن تستطيع تصوره دوماً يا فضيلة الشيخ، فنحن لا ننظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها أبداً"**.

 

**  **  **
 

خلال نيف ونصف قرن، عاش طه حسين وسوزان بريسو التي حملت اسمه منذ زواجها في انصهار لا يكادان يتباعدان إلا لأمر طارئ ـ وقلما تباعدا خلال هذه السنوات الطوال ـ حتى يدعوهما الشوق وألم الفراق إلى اللقاء من جديد. لكن ذلك الانصهار والتلاحم حفل بأجمل ما يمكن أن يميِّز علاقة عاشقيْن: حبٌّ مفعم بالاحترام، واتحاد كائنيْن لا يذيب فردية وحرية كلٍّ منهما أو ينال منهما قيد شعرة. لم تنكر دينها ولم ينكره عليها مثلما أنه لم ينكر دينه ولم تنكره عليه. واختارت بإرادتها الواعية أن تعيش في ظل رجل أدركت منذ البداية أهمية الرسالة التي نذر نفسه لتحقيقها ومشاقّ الطريق لتحقيقها، تحميه بحبها، وتغذيه من حنانها، وتسهر على تمكينه من تحقيق ما نذر نفسه له.

ذات يوم وكانا يتابعان تمريناً على الإنقاذ على ظهر سفينة في طريق عودتهما من فرنسا إلى مصر، لمح قائد السفينة كيساً بارزاً كانت سوزان تحمله تحت زنارها، فقال لها  مبتسماً: "إنها ولاشك مجوهراتك يا سيدتي؟" فأجابته: "لا يا سيدي القائد. إنه مخطوط كتاب زوجي"! وكان المخطوط يؤلف الجزء الثاني من كتاب "الأيام" قبل نشره!

تكتب سوزان تخاطبه: " أكنتَ تعرف أنتَ ما كنتُ أعانيه عندما تحمل لي واحداً من كتبكَ صدر أخيراً؟. آه!.. لم يكن ما أعانيه زهواً ولا ـ أسألك العفو ـ كان مسرّة مشروعة. لا! إذ أنّ ما كان يقلقني ـ ولا يزال يقلقني أكثر كلما تذكرت ذلك ـ هو الحركة التي كنتَ تمدّ لي بها يدكَ بالكتاب؛ كانت حركة مرتبكة تقريباً، كما لو أنّكَ تعتذر، كما لو أنك كنتَ تقدّم لي شيئاً ضئيلاً جدّاً في حين كنتَ تمنحني أفضل ما لديك وتمنحني ما كان الآخرون ينتظرونه بفراغ صبر!. آه، ما أكثر تواضعك، وما أشدّ ثبات هذا التواضع! ما أكثر ما أحببتك!، وأحبكَ بسبب هذا! ولم أعرف كيف أعبِّر لك عن هذا الحب."**

لكنها، هي التي لم تكتب في حياتها كتاباً ما، تخط أجمل رسالة حبٍّ يمكن لعاشقة متيمة أن تكتبها، تستعيد فيها رحلتهما معاً طوال أكثر من خمسين عاماً ..

فكان كتابها: "معكَ".

 *    نشر هذا المقال في جريدة القاهرة، العدد 748، 21 تشرين أول/أكتوبر 2014.
**   من كتاب "معك" لسوزان طه حسين، ترجمة بدرالدين عرودكي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009.
*** من كتاب "الأيام" لطه حسين، الجزء الثالث، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1992.




مقتطفات من رسائل طه حسين إلى سوزان

"ما أغرب الأمر. كنتُ أظن أنني سأتعزى في غيابك بإنتاج غزير؛ ولكني لا أنتج شيئاً. أوحي لي يا ملهمتي، قولي لي إنه يجب أن أكتب الكتاب الشهير، وأن أتمّ ترجمتي، وأن أعمل في "كتاب السيد رينار" وأن أكتب المقالات. كلّ ذلك ضروري. لكني بدون تشجيعك لن أحقق منه شيئاً.. رحلتٍ فلحقَ بكِ ذكائي، كلّ قلبي، كلّ نفسي، كل شيء في هذه الرسالة.. ماذا أقول؟ أو لم تحملي كلّ ذلك معك؟".

"يستحيل عليَّ القيام بشيء آخر غير التفكير بكِ. ولا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلما دخلت الغرفة؛ فأنا أجدك في كلّ مكان دون أن أعثر عليك... كانت الزهرة قد ذبلت، فوضعتها في العلبة التي تركتها لي لأضع فيها رسائلك ــ سأقبلها كل يوم. لقد استحالت الغرف معابد، وعليَّ أن أزورها كلّ يوم. ولو أنك رأيتني أخرج من غرفة لأدخل أخرى، ألمس الأشياء، وأنثر القبلات هنا وهناك...

"لنقل إنني في القاهرة في سبيل حماقة ما. إني في طريقي لتبديد ثلاثة أشهر من عمري... هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقويني؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما في نفسي بحرّية؟ ستقولين لي: عليك أن تكتب لي، لكنك تعلمين جيداً أن الكتابة غير التحدّث، وأنّ قراءة رسالة ليست هي الاستماع إلى صوت، ثم إنك تعلمين جيداً أنني كثيراً ما لا أقول شيئاً وإنما أتناول يدك وأضع رأسي على كتفك... ثلاثة أشهر... ثلاثة أشهر... فترة رهيبة. لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق؛ وكان لابدّ لي من أن أكتب لك لكي تتبدّد هذه الظلمة. أترين، كيف أنك ضيائي حاضرة كنتِ أم غائبة؟".

"ضيعتِ وقتك وأنتِ تشرحين لي تنظيم خزانتكِ. وكنتُ أصغي إليكِ بأذنٍ شاردة، وتركتُ لكِ يدي دون أن أشعر على وجه اليقين ما كنت تجعلينني أمسّه ــ فقد كانت المناشف والملاحف والمماسح دوماً سراً في نظري ــ وأمس، كنتُ أريد منشفة، فأرسل الباب شيئاً من الأنين بحيث يحسب المرء أنّ المنشفة كانت تصرخ بي: لا تمسّني... كان ذلك جنوناً!".

"كنتُ على ثقة من أنني سأتلقى رسالة منك اليوم، إلا أن صندوق البريد كان فارغاً، فاستعدتُ المفتاح من أحمد بدون أية كلمة، معقود اللسان؛ لابدّ لي أن أغرق حزني في قلبي، ولا بدّ لي من أن أصطنع لنفسي ملامح وجهي.. فالرسائل لا تصل بفضل هذيْن الأبلهيْن: الزمان والمكان ـ إذ لولا وجودهما لما كنا منفصليْن ـ وأتخيّل حياة لا زمان فيها ولا مكان. وعندما يستدعيني الواقع أبقى لحظة خائفاً من كلّ شيء، وإذ ذاك ألجأ للسيجارة. لا نعُد إلى ذلك أبداً، فأنا غير قادر عليه".

"ها نحن أولاء معاً من جديد ـ وأكْبِتُ النحيب، وأترك جفنيَّ شبه مغمضيْن لأمنع سيلان الدموع".

"اعذري فرنسيتي (كان يتوهم، فقد كان يكتب على نحو رائع) اعذري أفكاري فأنا لا أفكر ـ وإنما أحبّ. ما أصعب قول ذلك! لن يعرف الإنسان نفسه على الإطلاق، وسيبقى دوماً في أنفسنا شيء ما نستشعره دون أن نفهمه أبداً".

"كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحابّ فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيْهما، تبحث كلٌّ منهما عن الأخرى، وعندما يوجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنيْن وإنما كائن واحد. إنني أؤمن بذلك تماماً.. أتعلمين أنني أصبح صوفيّاً!. لو كنتُ شاعراً لألفتُ الأناشيد ولغنيتها بنشوة، لا يهم؛ فقلبي يؤلفها ويغنيها؛ ونفسي ترق وقلبي يلين؛ إنني لم أعد أتعرّف على نفسي أبداً.. فلديّ شخصيتان؛ واحدة للعالم كله، وأخرى لكِ، لي، لنا؛ وفكرتكِ وحدَها هي التي تجعلها تعيش.. ولكن أترين يا سوزان، أنا لا أتحدّث إلا عني، إنني أناني.. وكل الصوفيين أنانيون".

"أحتاجُ إلى رسائلكِ. تصوري كيف أنني وحدي في كل مصر أرغم على أن أتحمّل كلّ أنواع البؤس وكلّ الأحداث دون أن أجدكِ إلى جانبي".

"لو قارنت نفسي بشيء ما، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل في مصر العليا، تلك الأرض التي ما إن يلمسها المرء، ولو مجرّد لمسة خفيفة، حتى يتفجّر الماء منها".






 

samedi 18 octobre 2014


 

 باتريك موديانو

فن الذاكرة

 

بدرالدين عرودكي

 

على أن معظم رواياته ترجمت إلى ستة وثلاثين لغة لكنه يبقى أقل شهرة خارج حدود فرنسا من تلك التي يتمتع بها  فيليب روث مثلاً أو ميلان كونديرا. لكن القارئ الفرنسي يعرف تماماً من هو باتريك موديانو الذي التقاه ولم يكن قد أتم الثالثة والعشرين من عمره بعدُ، حين نشر أول رواية له "ساحة النجمة" عام 1968 طارحاً قبل المؤرخين أنفسهم أشد الأسئلة حرجاً على تاريخ بلاده القريب، وراسما منذ هذا العمل الأول معالم عالمه، محدداً أسلوبه، مقدماً رؤيته، معتبراً نشرها "صكّ ولادته الحقيقي".
منذ ذلك الحين لم يتوقف باتريك موديانو عن إدهاش الجمهور الذي كان يتسع باستمرار مع كل رواية جديدة ينشرها. كما لو أنه كان يستثير في وعي قرائه ذكرى روائي سبق أن سحرهم من قبل إذ اعتمد الذاكرة نبعاً خصباً استوحاه في رواية واحدة كتبها وإن بدت في الظاهر روايات عديدة: مارسيل بروست. لكنه لن يصنع صنيعه فيسبغ عليها عنواناً واحداً كما فعل هذا الأخير. إذ سيدع قارئه يكتشف أنه أمام تنويع آخر في كل رواية جديدة يقرؤها على ثيمة أساس.
وهذه الثيمة هي تاريخه الحميم الخاص. لم يشهد الحرب العالمية الثانية التي ولد بعد أن وضعت أوزارها، ولا الاحتلال الألماني لفرنسا،  ولا عاش في باريس في ظل هذا الأخير. لكن جراحات هذا كله ستتجلى في وعيه وفي مخيلته وكأنما اختزنها نطفة ثم علقة ثم جنيناً قبل أن يولد طفلاً. مثلما ستؤرقه مسألة انتمائه وهويته. فالأم بلجيكية، فلمنكية الأصل، دائمة الترحال بسبب مهنتها كممثلة، والأب يهودي ذو أصل إيطالي، استطاع على يهوديته أن يعيش فترة احتلال باريس دون أن يمسّه أذى بفعل ارتباطاته المريبة بأوساط السوق السوداء المزدهرة آنئذ. يفتقد حضور كليهما طفلاً فيلجأ إلى التعلق بأخ يصغره ما لبث أن خطفه الموت في سنيّه العشر مخلفاً وراءه جرحاً آخر سيبقى غائراً على الدوام. وسيكون غيابه هو الحضور اليوميّ الممزق.
ذلك كله في زمان هو زمان الذاكرة لا زمان سواه، ولا حدود لمداه. لكنها هنا  ذاكرة زمان هو على وجه الدقة زمان باريس تحت الاحتلال. إليها تتوجه الأسئلة، وفي ثناياها يتم البحث عن مصائر بشر لم يلتق بهم وجهاً لوجه ولم يسبق له أن عرفهم، لكنهم يؤرقون وجوده ويمتزجون بكيانه كأنما يبحث فيهم عن نفسه، وفي هويتهم عن هويته، وفي خصوصياتهم عن خصوصيته،  وفي وجودهم عن وجوده.
أما المكان فهو مدينة باريس. باريس حصراً، حتى لنظن أنها ـ مثل مدينة دبلن في رواية جيمس جويس عوليس أو مدينة الإسكندرية في رواية لورنس داريل رباعية الإسكندرية ـ هي البطل الحقيقي للروايات/الرواية كلها. فهي بشوارعها وأزقتها وحاراتها وفنادقها ومساكنها مستقر الذكريات والذاكرة الراسخ، تتجلى أمامنا بدقة وصرامة كما لو أنها اليقين الوحيد والمطلق.
ثم يحضر الروائي، باتريك موديانو، الذي إذ يستجوب تاريخ أبويه وتاريخه الحميم يستخلص عناصرهما فيمزجها ويعجنها ويسحقها ثم يصفيها وينثرها رذاذاً، كما يقول هو نفسه، ليجعل من ذلك كله عالماً متماسكاً وهو ينوس فيه بين جغرافية مكان واضحة المعالم، موصوفة بدقة وثائقية، وبين مصائر غامضة لأشخاص يتشابهون في جراحاتهم، أو في هروبهم، أو في تعقيد هوياتهم، أو في اضطراب وجودهم وهم يستجوبون ماضيهم المسكونين به شاؤوا أم أبوا.
بين الحلم والواقع، أو بين الشعر والواقع.  
ألم يعنون جوته من قبل ذكرياته شعر وحقيقة بما أنه كان يستجوب ذاكرته هو الآخر؟ ذلك أيضاً شأن تقنية موديانو الروائية. تقنية ولدت من رحم موضوعها نفسه. فهي لذلك لا تكاد تُرى. وهي لذلك جعلت أسلوبه وهو ينوس بين الدقة في الجمل الواضحة كالبداهة وبين المراوغة في الجمل القصيرة الكثيفة الشعرية يمحو الحدود بين العالمين بواسطة سحاب أتقن استخدامه.
يُقال إن الروائي لا يكتب إلا رواية واحدة مهما تعددت رواياته. ذلك ينطبق على بروست الذي جعل كما سبق القول لرواياته جميعاً عنواناً واحداً. لم يفعل باتريك موديانو شيئاً من هذا، إلا أن  رواياته كلها، من الرواية الأولى حتى الرواية الأخيرة، وقوامها البحث والاستجواب والكشف عن مصائر تتباعد أو تتلاقى في مصير واحد، تبدو وكأنها رواية واحدة، سيرة ذاتية على غرار سيرة جوته، لكن أدواتها تنتمي إلى حقبتنا، وتقنيتها تمتح من معيشنا، ويبتكر أسلوبها لغته الخاصة في دقتها وفي مراوغتها وفي سحرها. في ذلك إذن وفي استخدام فن الذاكرة كلٌّ على شاكلته إنما يمكن استدعاء بروست  حين الحديث عن موديانو، كما فعل البعض على كل حال.
فمنذ روايته الأولى "ساحة النجمة" التي يضع في مقدمتها حكاية يهودية تتحدث عن ضابط ألماني سأل شاباً على الطريق أن يدله إلى ساحة النجمة فأشار الشاب إلى الجانب الأيسر من صدره، حيث كان اليهود خلال الاحتلال الألماني مرغمين على وضع النجمة الصفراء لتدلّ عليهم، لا يتجلى زمن الاحتلال في خلفية الرواية بوصفه إطاراً تاريخياً، بقدر ما  ينسج جواً ضبابياً تختلط فيه الشخصيات الحقيقية (فرويد، دريو لاروشيل، مارسيل بروست، الكابتين دريفوس، هتلر، إيفا براون..) مع الشخصيات الخيالية وذلك من خلال شخصية هوجاء ذات هويات لا حصر لها، يمتزج فيها المأساوي بالمضحك...كلها نماذج ملأت وعي الشاب الذي كانه موديانو وهو يخط سطور هذه الرواية، مثلما كانت تخطُّ من خلال الحفر في الذاكرة ملامح بطلها الذي يقوله بمعنى ما.
لا تخرج روايته شارع الحوانيت المعتمة التي حازت جائزة الجونكور عند صدورها عام 1978 عن هذا الإطار. فهي تقدم مشهد بحث رجل فقد ذاكرته. تنفتح خلال البحث مسارات متعددة، وتمتزج وتنغلق ضمن حقل من علامات الاستفهام أمام جي رولان، الذي يحاول الحصول على نتف من حياة شخص يدعى ماكيفوا. هل هذا الأخير هو نفسه؟ أم هو شخص آخر؟ ليس مهماً في الحقيقة طالما أن عتمة الهوية هي التربة الخصبة لتخييل موديانو، وهوسه الذي استحال في هذه الرواية كلمات: ممرات سرية، وشراك مضطربة، وأشباح متطفلين، تحت ظلال الحرب والاحتلال، وبإيجاز كل العناصر الضرورية لبحث ربما لن ينتهي أبداً. 
كذلك روايته الأخيرة حتى لا تتيه في الحي التي لن تحيد عن سابقاتها بوصفها جزءاً من سيرة ذاتية سبق أن كتبت في صيغ عديدة من قبل.
هكذا وعلى أن روايات/رواية موديانو تبدو على علاقة وثيقة بالتاريخ بما أنها تستعيد زمن الاحتلال الألماني لباريس فإنها ليست كذلك على الإطلاق. ومن هنا اختلافها الجذري، في كل عناصرها، عن الرواية التي تستجوب التاريخ أو رجاله أو أحداثه. لا وجود للحدث التاريخي ( أي الاحتلال) بمعناه الواقعي في مُبدع موديانو ولا يعالَج روائياً بوصفه كذلك. لكنه موجود في قاع الذاكرة التي تستحضر وتستجوب وتستحيل في النهاية هذا العالم الذي ينوس بين النور والظل، بين الحقيقة والشعر.
رغم أن باتريك موديانو عاصر الرواية الجديدة وروائييها مثلما عاصر كتاب ما بعد الحداثة، فإن كتابته الروائية تبقى عسيرة على التصنيف أو حتى على المقارنة بسواها بما امتازت به من جدة وابتكار. ذلك في الحقيقة ما جعله كاتباً يستقبله النقاد والجمهور الواسع بالحماس نفسه وبالإعجاب ذاته. لا يشاركه في ذلك إلا قلة من الروائيين الفرنسيين المعاصرين.

 
  

* مقدمة الترجمة العربية لرواية شارع الحوانيت المظلمة التي صدرت ضمن روايات الهلال، القاهرة، تشرين أول/اكتوبر 2014.
كما نشر في مجلة الهلال، عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2014 وعلى موقع دار الهلال:

http://www.daralhilal.com.eg/show-2135.html