mardi 30 septembre 2014


فيروز : الصوت والشعر والذكرى

بدرالدين  عرودكي


من شأن مبدعات الفنون الأصيلة أن تنطلق بك خارج حدود الزمان والمكان وأن تحيلك ولو للحظات إلى كائن هلامي يسبح في فضاء الكون الواسع. ومن شأنها أيضاً، وهي تفعل ذلك، أن تردّك ما إن تتلقاها إلى مكان يحمل اسماً وإلى زمن يرتبط به وكأنك ما غادرت هذا المكان يوماً وما غاب زمنه في أعماق ذاكرتك وصار من الذكريات تنسى أو تستعاد.

ذلك هو شأن صوت فيروز في مبدعاتها. مضى زمن لم ألجأ إليها ولم ألتق بصوتها لا عفواً ولا قصداً هو الذي كان لا يفارقني صباح مساء منذ أن سمعتها للمرة الأولى وكنتُ فتىً نشأتُ واستمتعت أذنايَ بأداء الشيخ محمد رفعت ينشد الآيات القرآنية بصوت كنسمات الفجر أو دعاء الكروان والشيخ مصطفى إسماعيل يتغنّى الآيات نفسها بصوتٍ يستحيلُ عناصر الطبيعة كلها وهي تشدو معاً في ربيع ثريّ الألوان والظلال.. وتابعتُ معهما جنباً إلى جنب من انتمى إلى مدرستهما في مجال آخر من أمثال ماري جبران في سورية أو صالح عبد الحي في مصر ثم مع الجميع وبحضورهم صحبة أم كلثوم في قديمها وفي حديثها تشدو هي الأخرى منتزعة من الزمان ديمومة خاصّة وخالصة، سواء امتدت أغنياتها دقائق أو ساعات.

وما كان لهذا الابتعاد العفوي ـ والآنيّ مع ذلك ـ أن يستثير فضولي لمعرفة سببه لولا سماعي بين الحين والآخر صديقة أوصديقاً يتحدث عنها أو يُستشهد ببعض أغنياتها كتحية صباحية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما مِن قبل مَنْ هاجروا أو أرغموا على الهجرة..

ألأن هذا الصوت يحمل عبق معاني دمشق كلها وأخشى حنيناً مرضياً إليها يستحوذ عليّ فلا أستطيع له دفعاً؟ ربما. بل وجب أن أقول: بلا أي شك!  فمنذ عام 1953، كانت دمشق، بفضل مدير برامج ذي بصيرة فذة في إذاعة دمشق، هو الأمير يحيى الشهابي، أول مدينة عربية احتضنتها صوتاً عبقرياً مثلما احتضنت معها موسيقا الرحابنة ظاهرة استثنائية في تاريخنا الفني الحديث. بات السوريون يستمعون إلى أولى أغنياتها ثم ما لبثوا أن أحبوها حين أحيت أولى حفلاتها الكبرى بمناسبة معرض دمشق الدولي عام 1956  وغنت فيها ما يدغدغ مشاعر السوريين الأندلسية خصوصاً من الموشحات: جادك الغيث، لما بدا يتثنى..وبلغت الذروة عام 1961 حين افتتحت القصائد الشامية لسعيد عقل بهذه القصيدة:

"سائليني يا شآم
                     حين عطرت السلام
                     كيف غار الورد
واعتلَّ الخزام
                    وأنا لو رحتُ
                    أسترضي الشذى
لانثنى لبنانُ عطراً يا شآم.."

أو من هذه القصيدة التي تضرب بها فيروز للسوريين موعداً سنوياً:

"شآم أهلوك أحبابي وموعدنا
                    أواخر الصيف آن الكرْم يعتصر
                    نعتق النغمات البيض نرشفها
                    يوم الأماسي لا خمر ولا سهر.."


حين تسمع بعد سنوات من الغياب مثل هذه الأغنيات خصوصاً فإنها تستثير فيكَ الشجون والآلام إذ تحيلك إلى بعض تاريخكَ في سورية وإلى ما يواجهه شعبها منذ أن وقف يطالب بالحرية وبالكرامة مع بداية ربيع 2011.

ففي ستينيات القرن الماضي، وكانت فيروز في بداية تألقها الدمشقي ثم السوري ثم العربي، اختار لفيف من طلبة جامعة دمشق، صاروا من بعد أصدقائي، أن يجتمعوا من حول اسمها وأن يؤلفوا حلقة يحمل اسمُها انتماءَهم إليها: "الفيروزيون"، وأن يلتقوا بانتظام يستمعون إلى أغنياتها كل أسبوع، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن يؤسسوا في بداية الستينيات من القرن الماضي حلقة "المنتدى الاجتماعي" الذي كانت سهرته الشامية السنوية تتألق بأغنيات فيروز فضلاً عن أنه شهد أسماء أهم المفكرين والأدباء تتالى على منبره كل يوم اثنين من الأسبوع..

لم تعد حلقة الفيروزيين منذئذ وقفاً على حفنة من الطلبة الذواقة، بل اتسعت لتشمل السوريين في غالبيتهم العظمى. صحيح أنه كان هناك من ينتصر لأم كلثوم أو للطرب الكلاسيكي كما كان يقدمه القصبجي على سبيل المثال، لكنهم سرعان ما أعجبوا بها حين انتبهوا إلى قدراتها في أداء الليالي والموالات والموشحات، وفي انتقالها من الإيقاعات الغربية التي وسمت أغانيها الأولى إلى المقامات الشرقية بسهولة عجيبة ثم منها إلى الغربية المعربة ثانية ولاسيما حين غنت لحناً مستوحى من سمفونية موزار الأربعين..

غنت لكبار الشعراء الذين عرفهم السوريون واللبنانيون وأحبوهم: نزار قباني، عمر أبوريشة، الأخطل الصغير، جبران خليل جبران، سعيد عقل، بدوي الجبل، أبو سلمى، وتغنت بألحان وضعها خصوصاً الرحبانيان فضلاً بالطبع عن فيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب ..ثم ابنها زياد الرحباني.

فكانت أغانيها وهي تنتقل من العامية إلى الفصحى بلا تكلف، تعبر عن هموم وهواجس وعواطف الناس الذين جاءت من بينهم، شأنها شأن الرحبانييْن، مثلما كانت تشحن الشعر الكلاسيكي بمشاعر آنية جاعلة القديمَ حديثاً بل وراهناً. لم تمسّ شغاف قلوب السوريين بأغانيها التي تحكي حياتهم اليومية العادية في كل تفاصيلها، في أفراحها كما في أتراحها فحسب، بل كذلك بتلك التي ارتبطت بحياتهم العامة وبصورة عميقة، نكبة فلسطين: راجعون، زهرة المدائن، على سبيل المثال.

أكثر من سبعمائة أغنية فضلاً عن أغاني خمسة عشر مسرحية غنائية تتردد ولا تزال في برنامج يومي منتظم منذ خمسينيات القرن الماضي على موجات إذاعة دمشق.

ذلك كله ما كان يحمل كثرة من السوريين كل صباح إلى آفاق أحلام يحبونها ويستريحون إليها. وعلى أنهم في أرجاء سورية كلها ذواقة في مجال الغناء يتابعون كل جديد فيه، إلا أن ما حظيت به فيروز من مكانة في قلوبهم وفي ذاكرتهم لا يقارن بما حظيت به ظواهر الغناء العربي الحديث على اختلافها. لذلك تراهم يستعيدونها حيثما كانوا ولاسيما الآن في نزوحهم المأساوي: فهي جزء من وطن يحملوه معهم، ووهي فضاء يتغلبون وهم في أرجائه على عذاب منفىً لم يكن خيارهم، وهي خصوصاً، أنس قلوبهم الكليلة في وحدتهم. ذلك أن فيروز، أياً كانت الألقاب التي منحت لها وما أكثرها وما أشدّ التصاقها بها، تبقى في مجال التلقي ظاهرة سورية استثنائية تجسدت في الاستقبال والاحتفاء والتقدير والحب الذي حظيت به مبدعاتها لدى السوريين على مرِّ نيِّف وستين عاماً.

ذلك كله، وذكرى خصوصية وحميمة ارتبطت لديَّ بفيروز وأغانيها. فقد سمعت صدفة ذات يوم ابنتي وهي تدندن بعفوية طفلة في الثالثة من عمرها أغنية فيروز "نسَّم علينا الهوى" بإتقان جعلني أنتبه إلى امتلاكها أذنا موسيقية شديدة الحساسية. أكد لي ذلك صديق فرنسي حين أدّت أمامه الأغنية ذاتها خلال سهرة عائلية في بداية إقامتي بباريس. وكان ذلك ما دفع بي بعد سنوات إلى الاهتمام بموهبتها وبصقلها على أيدي أساتذة كبار أعدّوها كي تقبل في الكونسرفاتوار الوطني العالي للموسيقى بباريس في الحادية عشر من عمرها ثم لتتابع دراستها في كونسرفاتوار تشايكوفسكي بموسكو لتصير من بعد عازفة البيانو المعروفة في أوربا والتي ربما سمعتم بعضاً من عزفها أو عرفتم شيئاً عنها..

فكيف يمكن لفيروز ألا تكون دائمة الحضور في القلب وفي الذكرى؟

أستمع الآن إليها. هي ذي تعود من جديد تصدح على مسمعي بأغنياتها وتعيد إلى ذاكرتي وجوه أصدقائي من حلقة الفيروزيين ممن مضى بعضهم ولا يزال بعضهم الآخر ينتظر. وها هي تعيد إليَّ اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، عبق دمشق وسورية حيّاً فوّاحاً..

هاهي أيضاً تحملني على أن أردِّدُ، مادامت وحدة الحال مع فلسطين تجلت مرة أخرى، وأكثر من أي وقت مضى بفعل التزامن، في العدوان الأخير على غزة، ما أنشدته بمناسبة فلسطين: الغضب الساطع آتٍ، آتٍ، آت.

وعلى أن أقول معها أيضاً كما يقول السوريون جميعاً: راجعون.


* نشرت في "الأهرام العربي"، القاهرة، السبت 27 كانون الأول/ديسمبر  2014(عدد خاص عن فيروز) 
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire