في ضرورة استعادة
طه حسين*
بدرالدين
عرودكي
كما لو أن النكوص الاجتماعي والثقافي والفكري هو العلامة
المميزة للمشهد العربي القائم اليوم. فبعد عشرات السنين من القرن الماضي التي شهدت
النضال من أجل الخلاص من الاستعمار ومثيلاتها التي شهدت ولادة مشروعات التحرر والبناء
ورسخت أملاً بامتلاك مستقبل لا ينكر الماضي بقدر ما يستعيده من أجل تجاوزه، ها نحن
نشهد ضرباً من عودة صارخة إلى ما يشبه بداية البدايات بعض علاماتها إلغاء التاريخ
والزمان واعتماد الجهل والتجهيل أساساً في رؤية المجتمع والثقافة والفكر. ولا يمكن
أن يخفى في الحقيقة رغم قسوة هذا المشهد وتفوقه في الغرابة واللامعقولية كي لا
نقول الجنون أن ثمة شيئاً من الصنعة الدرامية المتقنة في إعداد وتنظيم وترتيب
الأدوار، اعتمدت طبيعة ما يسمى البيئات الحاضنة على أصعدة الأيديولوجية والدين
والمستوى التعليمي.
وإذا كان مشهد اليوم
يختلف اختلافاً شديداً عما كان عليه مشهد بدايات القرن الماضي حين كان طه
حسين ينهي أولى مراحل الدراسة في الأزهر ثم في الجامعة المصرية التي سيكون أول من
سيحمل شهادة الدكتوراه فيها، فلأنَّ المشهد الأول كان امتداداً لما اصطلح على
تسميته عصر محاولات النهضة في كل مجال، لا يزال فيه القديم المتجذر في صراع مع
كلِّ جديد، ولا يزال فيه كلّ حديث موصوماً بسمعة المصدر القادم منه: الغرب
الاستعماري. فكان من الطبيعي أن تكون المعركة بين القديم والجديد على أشدها، وأن
يحتج أنصار القديم بالمطلق وأن يرد عليهم دعاة الجديد بالنسبي وبالممكن. وإذا كان
بوسع الفريق الأول أن يكتفي بما نشأ عليه من معرفة بالتراث القديم، فقد كان لابد
للفريق الثاني من أن يمتلك ناصية هذه المعرفة وأن يضيف إليها أخرى لا تقل عنها
أهمية، أي تلك الخاصة بعناصر التراث الحضاري الحديث، وكان لابد له في الوقت نفسه
من امتلاك القدرة على الموازنة والمقارنة ثم المواءمة بين حصيلتي هاتين المعرفتين
في رؤية مستقبلية تطال الثقافة والمجتمع والانتماء والوعي بأهمية دور المثقف في
مختلف ميادين الفعاليات الاجتماعية.
كان ذلك تكوين عدد من كبار المثقفين الذين عرفتهم تلك
الحقبة في مصر وفي العالم العربي. وكان هذا أيضاً بوجه خاص تكوين طه حسين الذي يقف
في المقدمة منهم. ذلك لأنه يقدم النموذج الأكمل للمثقف الذي إذا كانت الحقبة
التاريخية في بدايات القرن الماضي تتطلب مثيله نظراً لما كانت الحداثة الغربية
تفرضه من تحدٍّ على كل مناطق العالم الأخرى ومنه بالطبع عالمنا العربي، فإن حقبتنا
الحالية أشد طلباً له بعد أن اختلطت الأمور وبتنا نعيش جنون غياب العقل بل
والاستسلام لكل ضروب القراءات الخرافية لتراثنا ولماضينا ولحاضرنا. وصرنا نكتشف
حاجتنا الشديدة لكل من حوربوا ولوحقوا وكُمَّت أفواههم بطريقة أو بأخرى، منذ
بدايات القرن الماضي وحتى اليوم، أي منذ الكواكبي ومحمد عبده مروراً بطه حسين وعلي
عبد الرازق وليس انتهاء بفرج فودة ونصر حامد أبو زيد. وهذا ما نرمي إليه من ضرورة
استعادة طه حسين، اليوم بوصفه نموذجاً: في التكوين الفكري، وفي الممارسة اليومية،
وفي تطابق السلوك والعقيدة، وفي قول ما يعتقده الحق كائناً ما كان مُخاطَبه، وفي
ربط القول بالفعل، وفي رفض المهادنة والنفاق في أولوية الحق والعدل.
قبل أن يسافر إلى فرنسا لدراسة التاريخ وقبل أن ينهل فكر
الثقافة الغربية وآدابها ومناهجها، كان طه حسين شديد المراس عصياً في كتاباته وفي
مواقفه النقدية إزاء ما كان يتلقاه من تعليم حتى في مواجهة أساتذته الأقربين. وهي
مواقف بدأ حتى قبل أن يخرج بأفكاره على الملأ بدفع ثمنها غالياً حين حرمه الأزهر
بعد ثماني سنوات قضاها فيه وبقرار تعسفي مسبق من شهادة العالمية وحين لم تتمكن
اللجنة الفاحصة في الجامعة من منحه درجة الامتياز التي يستحقها في الدكتوراه لقاء
ما وجهه من نقد علني أثناء دفاعه عن رسالته إلى أستاذه المشرف على الرسالة. سوى أن
خياره الأكبر لموضوع هذه الرسالة كان يقدم أول إشارة إلى الطريق الذي اختاره
لنفسه، طريق العقل الذي كان أبو العلاء المعري خير من يمثله.
حين سافر إلى فرنسا أقبل ينهل من المعرفة بطريقة لا قبل
لطالب عادي أن يجاريه فيها. وعلى غرار ما فعله في مصر حين عاد إلى الأصول فدرس
اللغات السامية والأدب والتاريخ القديمين في الأزهر وفي الجامعة، عزم على ألا
يكتفي بدراسة التاريخ التي أوفد من أجلها، بل أن يعود إلى أصول الثقافة الغربية
حين شرع في دراسة الثقافة الإغريقية ثم الثقافة اللاتينية بادئاً بلغتيهما، حتى
إذا بلغ منهما غايته انصرف إلى الأدب الحديث والمعاصر إلى جانب إعداده رسالة
الدكتوراه عن ابن خلدون.
هكذا كان اختيار موضوع كلٍّ من الرسالتين من أجل
الدكتوراه المصرية عن أبي العلاء ثم من أجل الدكتوراه الفرنسية عن ابن خلدون شديدَ
الدلالة: المنهج العقلي مجسداً فيمن اتخذ من العقل إماماً، والمنهج العلمي مجسداً
فيمن خطَّ كتابة التاريخ منزهاً عن الخرافات والأساطير. كلٌّ منهما يوضح مساراً فكرياً
صارماً لن يسم كتابة وسلوك ونشاط طه حسين
طوال حياته فحسب، بل سيساعد على أن يجعل من السلوك والفكر وحدة استثنائية في شخص طه حسين وكذلك في شخص العديد والحق يقال
من مثقفي تلك الحقبة في مصر وفي العالم العربي.
ذلك كله وفي وجدانه مصر التي ما إن عاد إليها حتى باشر
العمل في كل اتجاه يمكن لمثقف مثله العمل فيه: في التدريس وفي الصحافة وفي النقد
الأدبي وفي إعادة قراءة التاريخ، بل وكذلك في النقد الاجتماعي والتربوي، بعد أن جمع
إلى مواهبه الطبيعية في الفهم وفي التحليل وفي التوليف عناصر الثقافتين الأساس،
العربية والغربية، يستطيع بفضلها أن ينتقل بين الحضارتين انتقال العارف الخبير.
وهو يكتب في الصحافة يعيد النظر في دراسة مبدعات العرب
القديمة شعراً ونثراً، وينقل إلى الجيل الجديد في الجامعة المصرية معارف لم يألفها
الطلبة من قبل ولاسيما في الأزهر، سوف يخرج على الناس بعد سنوات من عودته، وفي عام
1926 تحديداً، بكتابه الثاني "في الشعر الجاهلي"، أي بعد سنة
تقريباً من صدور كتاب صديقه علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم".
ستثور عاصفة سياسية عارمة، وسيصادر الكتاب مثلما صودر كتاب علي عبد الرازق، ولن
يجد طه حسين، كصديقه من قبله، من يدافع عنه أو يحميه بلاء الذين أرادوا تكفيره
ورجمه وعزله.
لن تفتَّ حجج المستنكرين في عضد طه حسين، فقد كانت كلها
خارج السياق، وبالتالي خارج كل اعتبار تاريخي أو علمي. أما العاصفة فسياسية كلها.
وكان من أثاروها أعلمَ الناس بمرامي الكتاب وبما يمكن أن يؤدي إليه. لكنه لم
يتراجع قيد أنملة عما كتبه. وتحمل مثلما فعل في السابق كل ما ترتب على الكتاب
قولاً وسلوكاً. حيل بينه وبين الجامعة، ومع ذلك تابع معاركه بلا هوادة. وعندما نشر
كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، كان يقدم برنامجاً عملياً
وواقعياً للنهوض بمصر في مجال التعليم والتربية والثقافة، وسيحاول وضع هذا
البرنامج موضع التنفيذ خلال السنتين اللتين شغل فيهما ضمن الحكومة الوفدية منصب
وزير المعارف (1950 ـ 1952) حيث ستكون مجانية التعليم من أهمّ إن لم يكن أهمّ
قراراته.
جنباً إلى جنب سيعيد قراءة التاريخ العربي الإسلامي،
والأدبي، والثقافي، وسيحاول تخليص كل مصادره من كل ما اعتراها على مر السنين
والعصور من ضروب الخيال أو الخرافات أو المقاصد السياسية الآنية. وسيترجم أو يشجع
على ترجمة ما تيسر له من آثار الإغريق الأقدمين أو من آثار المحدثين. وسيقدم
لقرائه في الصحافة مبدعات الكتاب الأوربيين أو المصريين ولاسيما الشباب منهم.
وسيكون بيته موئل مثقفي العالم كله من الشرق أو من الغرب لا تكتمل زيارتهم إلى مصر
دون زيارته والحديث إليه. من طاغور إلى أندريه جيد، إلى جاك بيرك، إلى علماء
الاجتماع والإنسانيات من مشرق العالم ومغربه.
وعلى كثرة المشكلات وتعقيدها، لا يمكن لأي مراقب في تلك
الآونة أو دارس للحقبة المعنية في يومنا الحاضر أن ينكر خصوبة تلك الحقبة التي كان
طه حسين عميدها بحق. لكن النكوص سرعان ما صار عنوان الحقبة التالية، سياسياً
وتربوياً وفكرياً. وصار أمثال طه حسين أو ممن ساروا على نهجه في إعمال العقل في
الفكر وفي الأدب هدف الجهل والقتلة.
سوى أن الأجيال الجديدة التي خرجت في مصر خاصة تنادي بالحرية وبالكرامة كانت تستعيد في حقيقة الأمر نهج طه حسين. وهي استعادة إن تجلت على صعيد الأمنيات لابدّ لها من أن تتحقق على صعيد الواقع: حاضراً لا إمام فيه سوى العقل في صبحه والمساء.
* نشر في مجلة الهلال، تشرين أول/ أكتوبر 2014