mardi 30 septembre 2014


في ضرورة استعادة طه حسين*
 

بدرالدين عرودكي


كما لو أن النكوص الاجتماعي والثقافي والفكري هو العلامة المميزة للمشهد العربي القائم اليوم. فبعد عشرات السنين من القرن الماضي التي شهدت النضال من أجل الخلاص من الاستعمار ومثيلاتها التي شهدت ولادة مشروعات التحرر والبناء ورسخت أملاً بامتلاك مستقبل لا ينكر الماضي بقدر ما يستعيده من أجل تجاوزه، ها نحن نشهد ضرباً من عودة صارخة إلى ما يشبه بداية البدايات بعض علاماتها إلغاء التاريخ والزمان واعتماد الجهل والتجهيل أساساً في رؤية المجتمع والثقافة والفكر. ولا يمكن أن يخفى في الحقيقة رغم قسوة هذا المشهد وتفوقه في الغرابة واللامعقولية كي لا نقول الجنون أن ثمة شيئاً من الصنعة الدرامية المتقنة في إعداد وتنظيم وترتيب الأدوار، اعتمدت طبيعة ما يسمى البيئات الحاضنة على أصعدة الأيديولوجية والدين والمستوى التعليمي.
وإذا كان مشهد اليوم  يختلف اختلافاً شديداً عما كان عليه مشهد بدايات القرن الماضي حين كان طه حسين ينهي أولى مراحل الدراسة في الأزهر ثم في الجامعة المصرية التي سيكون أول من سيحمل شهادة الدكتوراه فيها، فلأنَّ المشهد الأول كان امتداداً لما اصطلح على تسميته عصر محاولات النهضة في كل مجال، لا يزال فيه القديم المتجذر في صراع مع كلِّ جديد، ولا يزال فيه كلّ حديث موصوماً بسمعة المصدر القادم منه: الغرب الاستعماري. فكان من الطبيعي أن تكون المعركة بين القديم والجديد على أشدها، وأن يحتج أنصار القديم بالمطلق وأن يرد عليهم دعاة الجديد بالنسبي وبالممكن. وإذا كان بوسع الفريق الأول أن يكتفي بما نشأ عليه من معرفة بالتراث القديم، فقد كان لابد للفريق الثاني من أن يمتلك ناصية هذه المعرفة وأن يضيف إليها أخرى لا تقل عنها أهمية، أي تلك الخاصة بعناصر التراث الحضاري الحديث، وكان لابد له في الوقت نفسه من امتلاك القدرة على الموازنة والمقارنة ثم المواءمة بين حصيلتي هاتين المعرفتين في رؤية مستقبلية تطال الثقافة والمجتمع والانتماء والوعي بأهمية دور المثقف في مختلف ميادين الفعاليات الاجتماعية.
كان ذلك تكوين عدد من كبار المثقفين الذين عرفتهم تلك الحقبة في مصر وفي العالم العربي. وكان هذا أيضاً بوجه خاص تكوين طه حسين الذي يقف في المقدمة منهم. ذلك لأنه يقدم النموذج الأكمل للمثقف الذي إذا كانت الحقبة التاريخية في بدايات القرن الماضي تتطلب مثيله نظراً لما كانت الحداثة الغربية تفرضه من تحدٍّ على كل مناطق العالم الأخرى ومنه بالطبع عالمنا العربي، فإن حقبتنا الحالية أشد طلباً له بعد أن اختلطت الأمور وبتنا نعيش جنون غياب العقل بل والاستسلام لكل ضروب القراءات الخرافية لتراثنا ولماضينا ولحاضرنا. وصرنا نكتشف حاجتنا الشديدة لكل من حوربوا ولوحقوا وكُمَّت أفواههم بطريقة أو بأخرى، منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم، أي منذ الكواكبي ومحمد عبده مروراً بطه حسين وعلي عبد الرازق وليس انتهاء بفرج فودة ونصر حامد أبو زيد. وهذا ما نرمي إليه من ضرورة استعادة طه حسين، اليوم بوصفه نموذجاً: في التكوين الفكري، وفي الممارسة اليومية، وفي تطابق السلوك والعقيدة، وفي قول ما يعتقده الحق كائناً ما كان مُخاطَبه، وفي ربط القول بالفعل، وفي رفض المهادنة والنفاق في أولوية الحق والعدل.
قبل أن يسافر إلى فرنسا لدراسة التاريخ وقبل أن ينهل فكر الثقافة الغربية وآدابها ومناهجها، كان طه حسين شديد المراس عصياً في كتاباته وفي مواقفه النقدية إزاء ما كان يتلقاه من تعليم حتى في مواجهة أساتذته الأقربين. وهي مواقف بدأ حتى قبل أن يخرج بأفكاره على الملأ بدفع ثمنها غالياً حين حرمه الأزهر بعد ثماني سنوات قضاها فيه وبقرار تعسفي مسبق من شهادة العالمية وحين لم تتمكن اللجنة الفاحصة في الجامعة من منحه درجة الامتياز التي يستحقها في الدكتوراه لقاء ما وجهه من نقد علني أثناء دفاعه عن رسالته إلى أستاذه المشرف على الرسالة. سوى أن خياره الأكبر لموضوع هذه الرسالة كان يقدم أول إشارة إلى الطريق الذي اختاره لنفسه، طريق العقل الذي كان أبو العلاء المعري خير من يمثله.
حين سافر إلى فرنسا أقبل ينهل من المعرفة بطريقة لا قبل لطالب عادي أن يجاريه فيها. وعلى غرار ما فعله في مصر حين عاد إلى الأصول فدرس اللغات السامية والأدب والتاريخ القديمين في الأزهر وفي الجامعة، عزم على ألا يكتفي بدراسة التاريخ التي أوفد من أجلها، بل أن يعود إلى أصول الثقافة الغربية حين شرع في دراسة الثقافة الإغريقية ثم الثقافة اللاتينية بادئاً بلغتيهما، حتى إذا بلغ منهما غايته انصرف إلى الأدب الحديث والمعاصر إلى جانب إعداده رسالة الدكتوراه عن ابن خلدون.
هكذا كان اختيار موضوع كلٍّ من الرسالتين من أجل الدكتوراه المصرية عن أبي العلاء ثم من أجل الدكتوراه الفرنسية عن ابن خلدون شديدَ الدلالة: المنهج العقلي مجسداً فيمن اتخذ من العقل إماماً، والمنهج العلمي مجسداً فيمن خطَّ كتابة التاريخ منزهاً عن الخرافات والأساطير. كلٌّ منهما يوضح مساراً فكرياً صارماً لن يسم كتابة وسلوك ونشاط  طه حسين طوال حياته فحسب، بل سيساعد على أن يجعل من السلوك والفكر وحدة استثنائية  في شخص طه حسين وكذلك في شخص العديد والحق يقال من مثقفي تلك الحقبة في مصر وفي العالم العربي. 
ذلك كله وفي وجدانه مصر التي ما إن عاد إليها حتى باشر العمل في كل اتجاه يمكن لمثقف مثله العمل فيه: في التدريس وفي الصحافة وفي النقد الأدبي وفي إعادة قراءة التاريخ، بل وكذلك في النقد الاجتماعي والتربوي، بعد أن جمع إلى مواهبه الطبيعية في الفهم وفي التحليل وفي التوليف عناصر الثقافتين الأساس، العربية والغربية، يستطيع بفضلها أن ينتقل بين الحضارتين انتقال العارف الخبير.
وهو يكتب في الصحافة يعيد النظر في دراسة مبدعات العرب القديمة شعراً ونثراً، وينقل إلى الجيل الجديد في الجامعة المصرية معارف لم يألفها الطلبة من قبل ولاسيما في الأزهر، سوف يخرج على الناس بعد سنوات من عودته، وفي عام 1926 تحديداً، بكتابه الثاني "في الشعر الجاهلي"، أي بعد سنة تقريباً من صدور كتاب صديقه علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم". ستثور عاصفة سياسية عارمة، وسيصادر الكتاب مثلما صودر كتاب علي عبد الرازق، ولن يجد طه حسين، كصديقه من قبله، من يدافع عنه أو يحميه بلاء الذين أرادوا تكفيره ورجمه وعزله.
لن تفتَّ حجج المستنكرين في عضد طه حسين، فقد كانت كلها خارج السياق، وبالتالي خارج كل اعتبار تاريخي أو علمي. أما العاصفة فسياسية كلها. وكان من أثاروها أعلمَ الناس بمرامي الكتاب وبما يمكن أن يؤدي إليه. لكنه لم يتراجع قيد أنملة عما كتبه. وتحمل مثلما فعل في السابق كل ما ترتب على الكتاب قولاً وسلوكاً. حيل بينه وبين الجامعة، ومع ذلك تابع معاركه بلا هوادة. وعندما نشر كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1938، كان يقدم برنامجاً عملياً وواقعياً للنهوض بمصر في مجال التعليم والتربية والثقافة، وسيحاول وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ خلال السنتين اللتين شغل فيهما ضمن الحكومة الوفدية منصب وزير المعارف (1950 ـ 1952) حيث ستكون مجانية التعليم من أهمّ إن لم يكن أهمّ قراراته.
جنباً إلى جنب سيعيد قراءة التاريخ العربي الإسلامي، والأدبي، والثقافي، وسيحاول تخليص كل مصادره من كل ما اعتراها على مر السنين والعصور من ضروب الخيال أو الخرافات أو المقاصد السياسية الآنية. وسيترجم أو يشجع على ترجمة ما تيسر له من آثار الإغريق الأقدمين أو من آثار المحدثين. وسيقدم لقرائه في الصحافة مبدعات الكتاب الأوربيين أو المصريين ولاسيما الشباب منهم. وسيكون بيته موئل مثقفي العالم كله من الشرق أو من الغرب لا تكتمل زيارتهم إلى مصر دون زيارته والحديث إليه. من طاغور إلى أندريه جيد، إلى جاك بيرك، إلى علماء الاجتماع والإنسانيات من مشرق العالم ومغربه.
وعلى كثرة المشكلات وتعقيدها، لا يمكن لأي مراقب في تلك الآونة أو دارس للحقبة المعنية في يومنا الحاضر أن ينكر خصوبة تلك الحقبة التي كان طه حسين عميدها بحق. لكن النكوص سرعان ما صار عنوان الحقبة التالية، سياسياً وتربوياً وفكرياً. وصار أمثال طه حسين أو ممن ساروا على نهجه في إعمال العقل في الفكر وفي الأدب هدف الجهل والقتلة.
سوى أن الأجيال الجديدة التي خرجت في مصر خاصة تنادي بالحرية وبالكرامة كانت تستعيد في حقيقة الأمر نهج طه حسين. وهي استعادة إن تجلت على صعيد الأمنيات لابدّ لها من أن تتحقق على صعيد الواقع: حاضراً لا إمام فيه سوى العقل في صبحه والمساء.

* نشر في مجلة الهلال، تشرين أول/ أكتوبر 2014
 
 
 
 

 

فيروز : الصوت والشعر والذكرى

بدرالدين  عرودكي


من شأن مبدعات الفنون الأصيلة أن تنطلق بك خارج حدود الزمان والمكان وأن تحيلك ولو للحظات إلى كائن هلامي يسبح في فضاء الكون الواسع. ومن شأنها أيضاً، وهي تفعل ذلك، أن تردّك ما إن تتلقاها إلى مكان يحمل اسماً وإلى زمن يرتبط به وكأنك ما غادرت هذا المكان يوماً وما غاب زمنه في أعماق ذاكرتك وصار من الذكريات تنسى أو تستعاد.

ذلك هو شأن صوت فيروز في مبدعاتها. مضى زمن لم ألجأ إليها ولم ألتق بصوتها لا عفواً ولا قصداً هو الذي كان لا يفارقني صباح مساء منذ أن سمعتها للمرة الأولى وكنتُ فتىً نشأتُ واستمتعت أذنايَ بأداء الشيخ محمد رفعت ينشد الآيات القرآنية بصوت كنسمات الفجر أو دعاء الكروان والشيخ مصطفى إسماعيل يتغنّى الآيات نفسها بصوتٍ يستحيلُ عناصر الطبيعة كلها وهي تشدو معاً في ربيع ثريّ الألوان والظلال.. وتابعتُ معهما جنباً إلى جنب من انتمى إلى مدرستهما في مجال آخر من أمثال ماري جبران في سورية أو صالح عبد الحي في مصر ثم مع الجميع وبحضورهم صحبة أم كلثوم في قديمها وفي حديثها تشدو هي الأخرى منتزعة من الزمان ديمومة خاصّة وخالصة، سواء امتدت أغنياتها دقائق أو ساعات.

وما كان لهذا الابتعاد العفوي ـ والآنيّ مع ذلك ـ أن يستثير فضولي لمعرفة سببه لولا سماعي بين الحين والآخر صديقة أوصديقاً يتحدث عنها أو يُستشهد ببعض أغنياتها كتحية صباحية على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما مِن قبل مَنْ هاجروا أو أرغموا على الهجرة..

ألأن هذا الصوت يحمل عبق معاني دمشق كلها وأخشى حنيناً مرضياً إليها يستحوذ عليّ فلا أستطيع له دفعاً؟ ربما. بل وجب أن أقول: بلا أي شك!  فمنذ عام 1953، كانت دمشق، بفضل مدير برامج ذي بصيرة فذة في إذاعة دمشق، هو الأمير يحيى الشهابي، أول مدينة عربية احتضنتها صوتاً عبقرياً مثلما احتضنت معها موسيقا الرحابنة ظاهرة استثنائية في تاريخنا الفني الحديث. بات السوريون يستمعون إلى أولى أغنياتها ثم ما لبثوا أن أحبوها حين أحيت أولى حفلاتها الكبرى بمناسبة معرض دمشق الدولي عام 1956  وغنت فيها ما يدغدغ مشاعر السوريين الأندلسية خصوصاً من الموشحات: جادك الغيث، لما بدا يتثنى..وبلغت الذروة عام 1961 حين افتتحت القصائد الشامية لسعيد عقل بهذه القصيدة:

"سائليني يا شآم
                     حين عطرت السلام
                     كيف غار الورد
واعتلَّ الخزام
                    وأنا لو رحتُ
                    أسترضي الشذى
لانثنى لبنانُ عطراً يا شآم.."

أو من هذه القصيدة التي تضرب بها فيروز للسوريين موعداً سنوياً:

"شآم أهلوك أحبابي وموعدنا
                    أواخر الصيف آن الكرْم يعتصر
                    نعتق النغمات البيض نرشفها
                    يوم الأماسي لا خمر ولا سهر.."


حين تسمع بعد سنوات من الغياب مثل هذه الأغنيات خصوصاً فإنها تستثير فيكَ الشجون والآلام إذ تحيلك إلى بعض تاريخكَ في سورية وإلى ما يواجهه شعبها منذ أن وقف يطالب بالحرية وبالكرامة مع بداية ربيع 2011.

ففي ستينيات القرن الماضي، وكانت فيروز في بداية تألقها الدمشقي ثم السوري ثم العربي، اختار لفيف من طلبة جامعة دمشق، صاروا من بعد أصدقائي، أن يجتمعوا من حول اسمها وأن يؤلفوا حلقة يحمل اسمُها انتماءَهم إليها: "الفيروزيون"، وأن يلتقوا بانتظام يستمعون إلى أغنياتها كل أسبوع، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن يؤسسوا في بداية الستينيات من القرن الماضي حلقة "المنتدى الاجتماعي" الذي كانت سهرته الشامية السنوية تتألق بأغنيات فيروز فضلاً عن أنه شهد أسماء أهم المفكرين والأدباء تتالى على منبره كل يوم اثنين من الأسبوع..

لم تعد حلقة الفيروزيين منذئذ وقفاً على حفنة من الطلبة الذواقة، بل اتسعت لتشمل السوريين في غالبيتهم العظمى. صحيح أنه كان هناك من ينتصر لأم كلثوم أو للطرب الكلاسيكي كما كان يقدمه القصبجي على سبيل المثال، لكنهم سرعان ما أعجبوا بها حين انتبهوا إلى قدراتها في أداء الليالي والموالات والموشحات، وفي انتقالها من الإيقاعات الغربية التي وسمت أغانيها الأولى إلى المقامات الشرقية بسهولة عجيبة ثم منها إلى الغربية المعربة ثانية ولاسيما حين غنت لحناً مستوحى من سمفونية موزار الأربعين..

غنت لكبار الشعراء الذين عرفهم السوريون واللبنانيون وأحبوهم: نزار قباني، عمر أبوريشة، الأخطل الصغير، جبران خليل جبران، سعيد عقل، بدوي الجبل، أبو سلمى، وتغنت بألحان وضعها خصوصاً الرحبانيان فضلاً بالطبع عن فيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب ..ثم ابنها زياد الرحباني.

فكانت أغانيها وهي تنتقل من العامية إلى الفصحى بلا تكلف، تعبر عن هموم وهواجس وعواطف الناس الذين جاءت من بينهم، شأنها شأن الرحبانييْن، مثلما كانت تشحن الشعر الكلاسيكي بمشاعر آنية جاعلة القديمَ حديثاً بل وراهناً. لم تمسّ شغاف قلوب السوريين بأغانيها التي تحكي حياتهم اليومية العادية في كل تفاصيلها، في أفراحها كما في أتراحها فحسب، بل كذلك بتلك التي ارتبطت بحياتهم العامة وبصورة عميقة، نكبة فلسطين: راجعون، زهرة المدائن، على سبيل المثال.

أكثر من سبعمائة أغنية فضلاً عن أغاني خمسة عشر مسرحية غنائية تتردد ولا تزال في برنامج يومي منتظم منذ خمسينيات القرن الماضي على موجات إذاعة دمشق.

ذلك كله ما كان يحمل كثرة من السوريين كل صباح إلى آفاق أحلام يحبونها ويستريحون إليها. وعلى أنهم في أرجاء سورية كلها ذواقة في مجال الغناء يتابعون كل جديد فيه، إلا أن ما حظيت به فيروز من مكانة في قلوبهم وفي ذاكرتهم لا يقارن بما حظيت به ظواهر الغناء العربي الحديث على اختلافها. لذلك تراهم يستعيدونها حيثما كانوا ولاسيما الآن في نزوحهم المأساوي: فهي جزء من وطن يحملوه معهم، ووهي فضاء يتغلبون وهم في أرجائه على عذاب منفىً لم يكن خيارهم، وهي خصوصاً، أنس قلوبهم الكليلة في وحدتهم. ذلك أن فيروز، أياً كانت الألقاب التي منحت لها وما أكثرها وما أشدّ التصاقها بها، تبقى في مجال التلقي ظاهرة سورية استثنائية تجسدت في الاستقبال والاحتفاء والتقدير والحب الذي حظيت به مبدعاتها لدى السوريين على مرِّ نيِّف وستين عاماً.

ذلك كله، وذكرى خصوصية وحميمة ارتبطت لديَّ بفيروز وأغانيها. فقد سمعت صدفة ذات يوم ابنتي وهي تدندن بعفوية طفلة في الثالثة من عمرها أغنية فيروز "نسَّم علينا الهوى" بإتقان جعلني أنتبه إلى امتلاكها أذنا موسيقية شديدة الحساسية. أكد لي ذلك صديق فرنسي حين أدّت أمامه الأغنية ذاتها خلال سهرة عائلية في بداية إقامتي بباريس. وكان ذلك ما دفع بي بعد سنوات إلى الاهتمام بموهبتها وبصقلها على أيدي أساتذة كبار أعدّوها كي تقبل في الكونسرفاتوار الوطني العالي للموسيقى بباريس في الحادية عشر من عمرها ثم لتتابع دراستها في كونسرفاتوار تشايكوفسكي بموسكو لتصير من بعد عازفة البيانو المعروفة في أوربا والتي ربما سمعتم بعضاً من عزفها أو عرفتم شيئاً عنها..

فكيف يمكن لفيروز ألا تكون دائمة الحضور في القلب وفي الذكرى؟

أستمع الآن إليها. هي ذي تعود من جديد تصدح على مسمعي بأغنياتها وتعيد إلى ذاكرتي وجوه أصدقائي من حلقة الفيروزيين ممن مضى بعضهم ولا يزال بعضهم الآخر ينتظر. وها هي تعيد إليَّ اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، عبق دمشق وسورية حيّاً فوّاحاً..

هاهي أيضاً تحملني على أن أردِّدُ، مادامت وحدة الحال مع فلسطين تجلت مرة أخرى، وأكثر من أي وقت مضى بفعل التزامن، في العدوان الأخير على غزة، ما أنشدته بمناسبة فلسطين: الغضب الساطع آتٍ، آتٍ، آت.

وعلى أن أقول معها أيضاً كما يقول السوريون جميعاً: راجعون.


* نشرت في "الأهرام العربي"، القاهرة، السبت 27 كانون الأول/ديسمبر  2014(عدد خاص عن فيروز) 
 

lundi 1 septembre 2014

 



صناعة الجثث

       بدرالدين عرودكي


حيثما جال نظرنا اليوم في خارطة العالم العربي سنرى أن صناعة الجثث، أو تقنية القتل، تسود على نحو بدا لنا مريباً في البداية. أردنا التخلص من ظلها الثقيل من خلال البحث عن مثال في تاريخنا في محاولة لفهم معناها. ومن أجل المحاولة نفسها حاولنا ـ كعادتنا ـ أن نجعل منها طارئاً غريباً فجاً على ثقافتنا وتاريخنا وقيمنا. لكن الظاهرة تنتشر انتشار النار في الهشيم. وتتخذ من الأشكال ما لم يكن من الممكن حتى تصوره: قاتل بلباس القرون الغابرة، يحاضر في كيفية جزِّ الرقبة على أحسن وجه وكأنه في غيبوبة نشوة جنسية، وأمامه حاسوب كأنما يلهمه ما فيه ما هو في السبيل إلى قوله.
جنباً إلى جنب، وسائل العصور القديمة وتقنيات العصور الحديثة. جز الرقاب ودفن البشر أحياء في مقابر جماعية وحصار وتجويع وتعذيب أو قصف بالبراميل أو الأسلحة الكيمياوية..
يحدث هذا أمام أعيننا جميعاً وأمام أنظار العالم كله الذي يشهد ساكناً أو دهشاً كأنما يعجب مما فعلت يداه!
هل هي بالفعل صناعة محلية صناعة الجثث القائمة الآن؟ أم أنها أقدم وأعرق مما نتصور؟
شهد العالم في القرن الماضي حروباً سميت عالمية وحروباً سميت محلية كانت الإبادة فيها جميعاً عنوانها الأكبر. لكن صعود النازية مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي مهد الأرض والعقل الجمعي لطرق هذه الإبادة المنتظمة..
وكان الفيلسوف الألماني هيدجر الذي رأى حلمه ببناء دين جديد على أنقاض الكنيسة ينهار مع صعود النازية التي آمن بها في البداية وصمت عن جرائمها أول من تنبأ باتساع التقنية الجديدة التي ابتكرتها إلى أرجاء العالم كله.

وها نحن الآن في القلب منها. ألا نقول اليوم إن العالم قرية نحن ذرة فيها؟

* نشر في مجلة الهلال، القاهرة، عدد أيلول/سبتمبر 2014.