dimanche 31 août 2014


 

 

مارتان هيدغر والنازية
 
بدرالدين عرودكي
 
 

يستعيد كتاب: محاضرة هيدلبرغ 1988، هيدغر، دلالة فكره الفلسفية والسياسية (منشورات لينيو/إيميك ـ باريس) بعد نيف وربع قرن (1988) محاضرة بثلاثة أصوات (هانز غيورغ غادامير ـ جاك دريدا ـ فيليب لاكو لابارت)  ألقيت في القاعة نفسها التي كان هيدغر وكان عميد جامعة فريبورغ آنئذ، قد ألقى فيها قبل أكثر من ثمانين عاما (30 حزيران/يونيو 1933) ـ أي في بداية العهد النازي ـ خطابه الشهير "الجامعة في الرايخ الجديد"، الذي استدعى وحمل ثلاثة من كبار فلاسفة القرن العشرين على العودة ثانية وثالثة إلى فكر الفيلسوف الكبير، من خلال دلالاته الفلسفية والسياسية، ولاسيما بعد أن صدر في فرنسا  كتاب فيكتور فارياس تحت عنوان مثير "هيدغر والنازية" عام 1987.
على أنه بمعزل عن الصدى الإعلامي الواسع في فرنسا الذي حظي به، لن يكون لهذا الكتاب من أهمية تذكر في نظر المحاضرين الثلاثة ولن يتعرضوا له بالنقاش، لاسيما وأن أولهم، هانز غيورغ غادامير، لم يكن يرى فيه إلا كتاباً إعلامياً كل ما فيه معروف من قبل الجمهور الألماني على صعيد الوقائع فضلاً عن فجاجته على الصعيد الفلسفي المحض. طرح المشكلة موضوع هذه المحاضرة كان بالتأكيد سابقاً زمنياً على صدوره كما أنه لم يكن في الحقيقة يمت إليه بصلة.
 يوثق الكتاب إذن حدثاً  يبقى شديد الأهمية على الصعيد الفلسفي. هو ذا فيلسوف كبير يعين عميداً لجامعة عريقة ويلقي خطاباً ـ بات منذئذ شهيراً ـ يشي بالتزامه الفكري والسياسي نظامَ الوطنية الاشتراكية  النازي الذي قدم له دعماً مفاجئاً وغير مفهوم. حضر تلك المحاضرة عدد كبير من الأساتذة والطلبة. وكان من بينهم فيلسوف ألماني كبير آخر، كارل ياسبرز، الذي سجل انطباعه عما سمعه ونشره من بعد في كتابه "السيرة الفلسفية": "كان خطاباً أستاذياً في الشكل، وبرنامج تجديد وطني اشتراكي للجامعة في المحتوى. كان يطلب تغييراً كلياً في جوهر العقل. وكان الأساتذة المتواجدون آنئذ على رأس عملهم عاجزين في غالبيتهم عن إنجاز المهمة الجديدة. سيتكون، خلال عشر سنوات، جيل جديد من الجامعيين المختصين. وبانتظار ذلك، ستكون تلك مرحلة انتقالية.  استنكر عدداً من مظاهر الحياة الجامعية بما فيها الرواتب المرتفعة. وتلقى شكراً على ذلك تصفيقاً رائعاً من قبل الطلبة ومن بعض الأساتذة النادرين. كنتُ جالساً في الأمام، على الحافة، وساقاي ممتدتان، ويداي في جيبيَّ لا أتحرك."
يسجل هذا الوصف بوضوح تورط  هيدغر إزاء ديكتاتورية الرايخ الثالث الذي صمت عنه طوال حياته، وفي الوقت نفسه الجوّ السائد آنذاك. هكذا، سيكون هذا اللقاء بين ثلاثة فلاسفة معنيين مباشرة بهذا الموضوع لا لأنهم يدينون لمبدع هيدغر فحسب بل لأنهم قرؤوه وفسروه كما لم يقرأه ويفسره سواهم من معاصريه أو من التالين عليه. غير أن القراءة التي قاموا بها في هذين اليومين من عام 1988 لم تكن صدىً لمحاضرة 1933 فحسب بل تستجيب لمطلبها المُلِحّ و"الباهظ" كما تقول ميري كول غروبر في مقدمتها للكتاب.
يمكن أن نقسم السؤال الذي شغل الجميع إلى أسئلة ثلاثة: الأول، كيف استطاع أكبر فيلسوف في عصرنا أن ينخرط فكرياً وسياسياً في الحزب الوطني الاشتراكي (النازي)، والثاني، ألم يشعر بنفسه مسؤولاً عن النتائج الرهيبة لاستلام هتلر للسلطة، وعن البربرية الجديدة، وعن قوانين نورمبرغ (حماية الدم والشرف الألماني)، وعن الإرهاب، وعن الدم المُراق ـ ولكي ننتهي، عن العار الذي لا يمحي لمعسكرات الإبادة؟ والثالث، هل يعني أن علينا إزاء صمته المطلق عن كل ما سبق أن نكف عن الحوار معه؟
كان أول المتحدثين الثلاثة (بالفرنسية وأمام جمهور ألماني!) هانز غيورغ غادامير (1900 ـ 2002)، أكبر الثلاثة سناً، وتلميذ هيدغر (1889 ـ 1976) ثم زميله خلال عشرينيات القرن الماضي. كان هناك نقاش بين غادامير ودريدا جرى بباريس عام 1981 حول "النصّ والتأويل" لم يؤدِّ إلى اتفاق بينهما وكان البعض يتساءل عما سيكون عليه النقاش بعد سبع سنوات حول موضوع آخر لكنه ليس بعيداً عن ذلك الذي ناقشاه آنذاك. تحدث غادامير  عن المفاجأة التي شكلها انضمام هيدغر إلى الحركة الوطنية الاشتراكية ورأى أن على هذا الالتزام أن يسمح بطرح المشكلة الجوهرية التي هي مشكلة النازية الألمانية من خلال هيدغر على وجه الدقة. ذلك يعني ضرورة محاولة فهم موقفه الحقيقي لاسيما وأن الجميع في ألمانيا ـ بخلاف فرنسا ـ لايمكنه الزعم أنه اكتشف بقاء هيدغر في الحزب النازي بعد تركه منصب العمادة عام 1934 في جامعة فريبورغ. إذ لم يكن الأمر بهذه البساطة لاسيما وأن الناس ظنوا أن معاداة السامية لم تكن إلا حجة انتخابية استخدمها "الطبل" ـ وهو لقب هتلر آنئذ ـ وأنها سرعان ما ستتلاشى. على ذلك أن يحملنا إذن على ألا نرتكب خطأ الفصل أو التمييز بين ما اعتبر ضلال هيدغر السياسي وبين فلسفته كي لا نرتكب "إهانة مفكر من مستواه"، لاسيما وأن مثل هذا الفصل لا يمكن أن يستقيم مع التنبؤات التي قدمها هيدغر منذ سنوات 1950 حول الثورة الصناعية والتكنولوجية التي تبدو  ونحن نشهد آثارها اليوم مذهلة بكل المعايير.
لم يكن التزام هيدغر السياسي ـ رغم أنه كان يؤمن بهتلر ـ ذا علاقة مع الواقع السياسي. ذلك أنه كان يحلم بدين شعبي وظن أنه سيسهم في تحقيق هذا الحلم خلال عامي 1933/1934 من خلال تثويرالجامعة تنفيذاً لعقده الفلسفي. ومن ثم فما فعله مما أثار ولا يزال يثير السخط اليوم كان يهدف في نظر غادامير إلى تحطيم تأثير الكنيسة السياسي وجمود المثقفين الأكاديميين. ولذلك فإن جوابه حول مسؤولية هيدغر عن نتائج وصول هتلر إلى السلطة كان واضحاً: لم يكن كل ما حدث إلا تعبيراً عن الثورة المشوّهة وليس عن التجديد المنبثق من القوة الروحية والأخلاقية للشعب الذي حلم به والذي كان يتطلع إليه من أجل دين جديد للإنسانية. ومن هنا فإن السؤال عن التوقف عن الحوار مع فلسفة هيدغر يستدعي للإجابة عنه سؤالاً آخر: "هل كل ما اعتبره العالم تقدماً جذرياً في الفكر حققه هيدغر في مجالات تأمله في اليونان، وهيغل، وأخيراً نيتشه صار فجأة مزيفاً؟ أم أننا انتهينا من ذلك منذ زمن بعيد؟" يحمل ذلك على التدبر قليلاً. إذ ليس من السهل الالتفاف على الفكر كما يقول غادامير، "فحتى الذين أربكتهم مغامرة هيدغر السياسية ووقفوا طوال سنوات على مسافات منه لم يجرؤوا على إنكار الحافز الفلسفي الذي نفثه هيدغر فيهم منذ البداية". ومن ثم، وكما سبق وكتب غادامير في ختام مقالة نشرتها مجلة "النوفيل أوبزرفاتور" الفرنسية جملة لم تشأ المجلة نشرها:"من يظن أنه ليس من الضروري اليوم الاهتمام بمارتان هيدغر لا يقدِّر إلى أي حدٍّ سيكون من الصعب علينا النقاش معه وألا نسقط في سخف اتخاذنا إزاءه مظاهر الاستعلاء".
كان سلوك هيدغر إذن نتيجة إخلاصه لأفراد ومقاصد. فقد كان متضامناً مع من شاركوه خطأه وانسحابه، ولم يعد للتجديد الذي حلم بانبثاقه بعد عام 1934 أيّ واقع، كما أنه لم يجد بعد أوشفيتز جواباً ذا معنى لكنه برهن دون أن يصوغ عدم موافقته بسهولة على اتجاهات التقنية على درب التوسع العالمي، توسع كان موضع نقده، وهو ما جعله سابقاً على عصره.
أبقى غادامير في ما قاله كما نرى نواة المشكلة خلافية ودون منظور اتفاق ما. ولن يتقدم الأمر كثيراً خلال هذه الأمسية مع جاك دريدا الذي تلا غادامير. فقد رأى بادئ ذي بدء أن من الواجب عند البحث عن التجريم الأخذ بعين الاعتبار الهيئة التي تحكم. وعلى هذا النحو فضل في الردّ على التساؤل حول صمت هيدغر أن يمضي بافتراض عكسي في صيغة سؤال أيضاً: "ماذا كان سيحدث لو أن هيدغر كان قد قال شيئاً ما؟ افترضوا أنه قال: أوشفيتز هي الرعب المطلق (...) الشيء الذي أدينه جذرياً. (...) كان سيُغفر له بسهولة أكبر (...) وكان سينهي الأمور بجملة في اتجاه إجماع سهل، وما كنا في طريقنا للتساؤل عما يمكن أن يجمعه بالنازية (...). أعتبر أن الصمت الرهيب الذي لا يمكن غفرانه لهيدغر يترك لنا ميراثاً: الإيعاز بتفكير ما لم يفكره".
هكذا يذهب دريدا بعيداً في مجال البحث عن التجريم: فلأن هيدغر صمت ولم يشأ الحصول على غفران سريع لقاء بعض الاستنكار الروتيني وتسمية المجرم إنما كانت أوشفيتز ولا تزال على الدوام موضع نقاش..صمت هيدغر إذن، على رهبته واستحالة غفرانه، ميراث يسمح بالتفكير..
تلك قناعة ستزداد حدّة بما سيقوله الصوت الثالث، فيليب لاكو لابارت. ذلك أن ما كان في صمت هيدغر أو في كلامه الإشكالي وبقي غير مفكر به من قبله  إنما يتوارى في تاريخ الغرب العام الذي تجلى اتجاهه في استبعاد ما كان يعتبر يهودياً في أوشفيتز بوصفه جوهره. يستنكر النقد الهيدغري للتقنية كيف أن "الإنسان صار بالنسبة إلى الإنسان بطريقة مرعبة المادة الخام لإنتاج صناعي للجثث. لكن ما بقي غير مفكر فيه هو خصوصية الضحايا". لم تكن أوشفيتز استجابة لضرورة سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية، وإنما كانت "منطقاً عقلياً" يحقق بصورة جذرية الفصل ين الغرب واليهودية بوسائل تقنية وبلا أي أساس ديني أو مقدس، سوى هدف إثبات تفوقه.  والمفارقة تتجلى بالفعل في أن "النازية نزعة إنسانية باعتبارها تقوم على حتمية الإنسانية الأقوى في نظرها"كما يقول لاكولابارت.
صحيح أن النقاش قد أفصح عن اتجاهات متقاربة رغم ما يمكن أن يبدو من اختلافها في تناول موضوع التزام هيدغر النازي والأهم: صمته إزاء الجرائم التي ارتكبها هذا النظام، إلا إنه لم يؤدّ على كل حال  إلى ضرب من رقابة جديدة على فكر هيدغر أو إلى تحريم الاستمرار في الحوار مع فكره كما حاولت بعض الصحف والمجلات الترويج له إثر نشر كتاب فارياس المشار إليه.
يكتب إبرهارد غروبر معلقاً على هذه الندوة "انقلب صمت هيدغر ضده. فقد وجد نفسه مُشيّئاً في رؤية تنبؤية للعالم. ولو أنه تجاوز هذه الرؤية لتكلم عن أوشفيتز. والعكس صحيح." لكن غادامير كان سبّاقاً: لم يتشيّأ هيدغر في رؤيتة التنبؤية مادامت قد تحققت بعد أربعين عاماً: تقنية صناعة الجثث على أوسع نطاق.

 

** نشر في مجلة الدوحة، العدد 83، أيلول/سبتمبر 2014،  ص. 120 ـ 121.

http://www.aldohamagazine.com/emagazine/viewmagazine.aspx

http://www.aldohamagazine.com/emagazine/data/20140901/120/emagazine20140901_120_1.pdf


 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire