تعقيب على بحث الدكتورة ليلى المالح
"لقاء الحضارات في الفن القصصي لدى أمين الريحاني"
بدرالدين عرودكي
من يقرأ قراءة نقدية أعمال أمين الريحاني الأدبية في
الرواية والقصة والمسرح، وهي على كثرتها لا تؤلف إلا نسبة قليلة من أعماله الأخرى
في مجال الفكر والسياسة والتاريخ والاجتماع، لابد من أن يتساءل على الأقل أولاً عن
وظيفتها الأساس في مجمل مُبْدعه وثانياً عن مكانها من حركة الإبداع الأدبي في
الثقافة التي أنتجت بلغتها وثالثاً عن ضروب التلقي لدى جمهور القراء على اختلاف
اهتماماتهم.
ذلك أن أمين الريحاني كان شخصية فريدة بين معاصريه من
الكتاب والأدباء، سواء منهم من كان يُصنّف في خانة أدباء المهجر على تنوعهم، أو
الذين كانوا في بلدانهم الأصلية العربية. فريدة بتنوع ضروب اهتماماتها وضروب
الأجناس التعبيرية التي طرقتها: القص، والشعر، والمسرح، والخطاب المباشر،
والمقالة، والكتابة التاريخية، والكتابة الاجتماعية، والنقد الاجتماعي، والفكري، والسياسي،
والأدبي، والفني.. وفريدة كذلك في غناها وسعة ثقافتها التي لم يكن مصدرها الكتب
والمصنفات وحدها، بل رحلات عديدة في أرجاء المعمورة أتاحت لصاحبها لقاء كثرة من
البشر على تنوع مشاربهم ووظائفهم الاجتماعية، من مثقفين وأدباء وحكام ومحكومين.
فريدة أيضاً وخصوصاً في تمكنها من امتلاك ناصية لغتين بأدواتهما المفهومية امتلاكاً كاملاً.
ثمّ إن أمين الريحاني بخلاف عدد كبير من الكتاب
والمبدعين المعاصرين ممن يقتصرون اليوم على الكتابة باللغة الفرنسية أو
بالإنجليزية، يبرز من بين من اتفق على تصنيفهم ضمن جماعات أدباء المهجر في بدايات
القرن المنصرم، كاتباً باللغتين، الإنجليزية والعربية، ومثقفاً منخرطاً في مشكلات
وطنه الأول ودائرة انتماء هذا الوطن على رحابته. يستخدم طرق التعبير على اختلافها في
طرح الأفكار والإشكاليات التي تشغله. أراد عن وعي وإرادة أن يكون له وجود وحضور في
كل من الثقافتين: الأمريكية والعربية فألف وحاضر وكتب بلغتيهما. أدت به قراءاته
للأدباء أن يتعرف بلغة الأصل على الأعمال الأدبية لكبار الكتاب في أوربا وأمريكا،
فنهل منها أشكالاً أدبية لم يكن الأدب العربي يعرفها كالرواية والمسرح. واستقى من
احتكاكه بهؤلاء الأدباء ونقادهم نظرات لمعنى العمل الأدبي ووظيفته تتجاوز بمراحل
ما كان معاصروه في بلدان ثقافته الأولى يعرفونه.
من الواضح أن خطوط مسيرته الفكرية قد تحددت منذ اللقاء
الأول ومنذ إقامته الأولى. تعلمه للإنجليزية ثم عودته لإتقان اللغة العربية في
موطنه الأول يشيان برغبة عميقة في القيام بدور الوسيط، في إقامة جسر بين ثقافتين
ورؤيتيْن للحياة. وفي ذهنه ما تعيشه المنطقة العربية في نهاية القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين: الإمبراطورية العثمانية في طريقها إلى الزوال، والمنطقة
العربية في المشرق التي كانت تعدّ لمشروع وحدوي لن يتحقق وسيحل محله مشروع
استعماري غربي سيغلق مسارات النهضة التي بدا أنها توشك أن تؤتي أكلها مع انطلاقات
مظاهر الحداثة الثقافية بأمل ترجمتها على صعيدي المجتمع والسياسة.
وكرحالة دائم بين ثقافتين وبين منطقتين جغرافيتيْن، كان
لابدّ له أولاً من أن يثبت للآخر جدارته شخصياً كما تقول الدكتورة ليلى المالح وأن
يثبت من ثمّ أصالة الثقافة التي قدم منها. هكذا ترجم إلى الإنجليزية رباعيات أبي
العلاء المعري ثم ترجم لزومياته. مثلما كتب بهذه اللغة ديوانه الشعري المرّ
واللبان Myrtle and Myrrh وروايته كتاب خالد، الذي لم يترجم للعربية
إلا بعد خمسة وسبعين عاماً من سنة صدوره.
بهذا المعنى، لم يكن أمين الريحاني محض أديب قاصّ أو
شاعر أو محض فيلسوف أو محض مؤرخ اجتماعي أو ناقد أدبي أو ناقد فني. كان كلّ ذلك
معاً بما أنه قبل ذلك وبعده إنما هو وسيط ثقافي: ينقل إلى الوطن الذي تبناه وارتضى
الانتماء إليه روح ثقافته وأصالتها، وينقل عنه ما يتجلى له جديراً بالاتباع أو
بالاقتداء أو بالتبني، ولا سيما في مجال حرية الفرد والمعتقد أو في مجال التجديد
والإبداع أو في طرق التنظيم الاجتماعي والسياسي، أو في العلاقة بين الحاكم
والمحكوم..وبهذا المعنى أيضاً، لم يكن فن القصة خياره إلا من حيث إتاحته إمكان
حرية في التعبير لا يتيحها فنٌّ آخر كالمقالة أو الشعر. لم يكن همّه تطوير هذا
الجنس الأدبي أو ذاك بقدر ما كان استخدامه أداة توصيل. لم يكن من قبيل الصدفة إذاً
أن تكون باكورة أعماله الأدبية وهو في السابعة والعشرين من عمره قصة مستقاة في
شكلها وفي أداتها من التراثين العربي والغربي معاً، قصة المحالفة الثلاثية في
المملكة الحيوانية الصادرة بالعربية عام 1903 التي تنهل من ابن المقفع ومن
لافونتين، بقدر ما تستفيد في جرأتها من قصص ديكاميرون.
سخّر أمين الريحاني الأجناس الأدبية لتكون أداة اتصال
وإيصال يستخدم الواحد منها ليناسب الرسالة والمقام. وهو بهذا كان دائم الانتقال
على صعيد الأسلوب مثلما هو على صعيد العبارة بين الثقافتين واللغتيْن. ومما يسترعي
الانتباه أنه في كتاباته النثرية جميعاً حقق قطيعة كاملة مع الأساليب النثرية التي
كانت سائدة في المشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن
العشرين. مثلما حقق كذلك ومنذ عام 1907 هذه القطيعة مع الشعر الكلاسيكي في أشعاره
المنثورة تأثراً آنئذ بوولت ويتمان Walt Witman وقبل
أن يعرف الشعر العربي هذا الضرب من الشعر مع نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. فكان
في النثر مثلما كان في الشعر رائد تجديد بحق، وإن بقيت تجربته في حدود الريادة.
وإذا كنا لا ندري على وجه الدقة الكيفية التي استقبلت
بها أعماله الأدبية التي كتبها بالإنجليزية، (ليس ثمة ما يدلّ على أن كتبه قد طبعت
أكثر من طبعة واحدة أو لاقت رواجاً استثنائياً ما) مفترضين أن الوضع كان آنئذ على
النحو الذي كان عليه في أوربا النصف الأول من القرن الماضي التي لم تكن تكترث
بالأعمال الأدبية المترجمة إلى لغاتها إلا بوصفها وثيقة صالحة للدراسات
الأنثروبولوجية![1] فمن
المحتمل أن أعماله الأخرى ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي قد أثارت فضول جماعات
أو دوائر أو تيارات محددة في أمريكا أو في إنجلترا ممن كان يهمّها ما كان يدور في
منطقة المشرق العربي. على أن هذه الأعمال بالذات أكثر من غيرها هي التي استوقفت
القراء في هذه المنطقة الأخيرة وأسست المكانة الفكرية والأدبية التي احتلها ولا
يزال يحتلها أمين الريحاني في الخارطة الأدبية والفكرية، بوصفه في مقدمة تيار
المجددين والمحدثين، ومن أوائل الدعاة إلى وحدة وتقدم المجتمعات العربية. صحيح أنه
كان من أوائل من حاول الكتابة القصصية بالمعنى الغربي للكلمة، وصحيح أنه كتب
المسرح باللغة الإنجليزية وطمح إلى أن يرى مسرحياته تقدم على خشبة أحد مسارح
نيويورك أو لندن، إلا أن هذه الأعمال بقيت في حدود الريادة، أي في حدود المحاولات
الأولى في ثقافة كانت تستعد لتجديد ذاتها على كل صعيد. وهو أمر مفهوم لدى الريحاني
الذي كانت همومه لا تتوقف عند حدود الأشكال الأدبية وتطويرها أو تطويعها أو
تجذيرها في الثقافة العربية بقدر ما كانت تتجاوزها إلى ما كانت تستطيع أن تمكنه
كأداة إيصال حديثة وفاعلة من نقل أفكاره وتجسيدها.
هل يمكن الحديث عن "لقاء الحضارات" في أعمال
كاتب ما؟ قد يحمل مثل هذا التأكيد على الظن بإمكان استيعاب حضارات عدة في عمل أو
في مجموعة أعمال، في فن أو في مجموعة من الفنون. وهو ما لا يمكن تصوّره على النحو
المفهوم من الجملة. سوى أن الخشية تكمن في حذف الفاعل وفعله من المشهد، وهو ما لم
ينطو عليه البحث على كل حال، فقد عرض بوضوح مختلف عناصر التفاعل بين الثقافتيْن
اللتين تشربهما الكاتب في أعماله الأدبية على اختلاف أجناسها، وبيّن مطارح هذا
التفاعل والتأثر، أو النقل إلى والتفعيل في الثقافة العربية.
هل ثمة مجال والحالة هذه للحديث أو للتساؤل عن القيمة
الفنية لكتابات الريحاني في القصة والرواية والمسرح وعن مكانتها في الأدب الملتزم
الهادف للنقد والتغيير الاجتماعي والسياسي؟ من المفترض أنه عندما تكون الأشكال
الأدبية لدى كاتب ما مجرد أدوات يستخدم كلاً منها حسب المقام والموضوع والرسالة
التي يبتغي إيصالها أن لا يتطرق الحديث إلى قيمة فنية ما لهذه الأعمال مادام الشكل
لم يكن غاية في ذاته، وما دام الغرض يتجاوز مسافات كبيرة مجرد إنجاز رواية أو
قصيدة أو مسرحية. وقد يُقال إنه لا يمكن إيصال رسالة ما من دون العناية بتحقيق
الشكل الفني الذي اختير أداة تعبير وإيصال. تلك حقيقة لا تكاد تحتمل أي شك أو
نقاش. إلا أن ثمة فرق بين أن تكتب الرواية أو القصة كغاية في ذاتها، أي كأداة
تعبير وحيدة مثلما فعل روائيون كبار في الثقافة الغربية أو في الثقافة العربية
الحديثة والمعاصرة، أو أن تكتب لغرض آخر غير ذاتها، أي أن تستخدم أداة للتعبير عن
أفكار مسبقة، وهو ما يؤدي إلى وضعها في خانة ما يسمى الأدب الملتزم الهادف للنقد
الاجتماعي والسياسي. ذلك أننا أمام كاتب كان ديدنه الأول والأخير هذا النقد، ولم
تكن الأشكال الأدبية إلا فضاء حرية تتيح له في عصر لم يكن مشهوداً له بازدهار
الحرية أن يخترق المحرّمات وأن يفنّد المواضعات، الاجتماعي منها أو السياسي.
يبقى أن بالوسع اعتبار أمين الريحاني الذي ولد مع بداية
الربع الأخير من القرن التاسع عشر أي في بدايات ما اتفق على تسميته بالنهضة
الأدبية والفكرية العربية، واحداً ممن أسهموا فيها على أكثر من صعيد، ولا سيما
صعيد الدعوة إلى التجديد أو على صعيد الريادة. لم يكن فن أدبي كالرواية يمارس في
الثقافة العربية. كما لم يكن الشعر المنثور معروفاً فيها. كان الجمهور في البلاد
العربية يستهلك آنذاك كل ما يترجم منها من اللغات الأوربية كما كتب الشيخ محمد عبده
في عام 1881. وها هو يصدر في بداية القرن الماضي، بالتزامن تقريباً مع محمد حسين
هيكل في مصر وروايته زينب، ما يمكن اعتباره من أوائل الروايات المكتوبة
باللغة العربية. لكنه قبل ذلك وخلاله وبعده كان يكتب بالإنجليزية وبالعربية معاً عن
الثورة الفرنسية ويحاضر في المشكلات الاجتماعية أو في النقد الأدبي ويكتب في الرحلات (ملوك العرب، 1924) وفي التاريخ
(تاريخ نجد الحديث) وفي النقد الأدبي والفني (أدب وفن)، هذا فضلاً عن المقالات
الاجتماعية والفلسفية، والمقالات السياسية، التي جمعت في مجموعة من الكتب.
وبوصفه شكلاً من أشكال القصّ، لا يزال كتابه ملوك
العرب وهو نموذج حديث في أدب الرحلات العربي، يقرأ كأثر معاصر أكثر من أي وقت
مضى. لكن أهمية رواياته وقصصه العربي منها والإنجليزي، تكمن في أنها أقرب إلى
المحاولات الريادية على الصعيد الأدبي، فهي تنطوي على أهمية تاريخية في مسار أمين
الريحاني مصلحاً ووسيطاً ثقافياً أكثر من انطوائها على أهمية فنية محضة. في تناول
أمين الريحاني ضمن عصره، تتاح لنا الفرصة لإدراك دور المثقف في عصر يبدو لنا اليوم
بعيداً وغريباً، وهو دور التزام اجتماعي وسياسي وثقافي بامتياز.
[1] شهد الربع الأخير من القرن الماضي تغيّراً
نوعياً في استقبال الأعمال الأدبية المترجمة من العربية إلى مختلف اللغات
الأوربية، وصارت الأعمال الروائية خصوصاً تحتل اعتباراً من بداية ثمانينيات القرن
الماضي حيّزا واسعاً في مجال النشر والنقد، وتم إن جاز القول الاعتراف بالأدب
العربي المعاصر أدباً أجنبياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، و\لك على إثر المكانة
التي احتلها أيضاً أطب أمريكا اللاتينية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire