أمين الريحاني،
الشعر ونقد الشعر
د. بدرالدين عرودكي
1) ثلاث ملاحظات منهجية
أ.
يتجلى أمين الريحاني، في جملة أعماله، شخصية
استثنائية في تاريخ الفكر العربي الحديث[1].
فقد أمكنه كما يعلم الجميع أن يتمكّن من امتلاك ناصية لغتيْن والكتابة بهما
مستخدماً مختلف الأشكال الأدبية من شعر وقصة ورواية وبحث ومقالة ومحاضرة، مثلما
أمكنه النهل من ثقافتهما في اتساعهما وتنوعهما. وفي ندوة تتناول الريحاني من زاوية
مختلف الموضوعات التي عالجها في حياته من ناحية، ومن زاوية الأشكال الأدبية التي
استخدمها في كتاباته من ناحية أخرى، لا يمكن في ما أرى عزل الموضوعات المطروقة أو
الأشكال الأدبية المستخدمة من دون الأخذ بعين الاعتبار العلاقة العضوية بين مجمل
الموضوعات ومجمل الأشكال المستخدمة لها. كما لا يمكن إذا ما أردنا أن تستقيم
الدراسة ألا نأخذ بعين الاعتبار ما كتبه في اللغتيْن. فالكاتب واحد في النهاية وإن
اختلف الجمهور الذي يتوجه إليه بهذه اللغة أو تلك.
ب. لم ينشر أمين الريحاني مجموع أعماله في حياته.
وأمامنا اليوم كمٌّ معروف بالإنجليزية كثير منه لم يترجم إلى العربية، وكمٌّ آخر
بالعربية نشر بعض منه في حياته والبعض الآخر بعد وفاته، وكمٌّ ثالث من المخطوطات
لم يتح له النشر بعد. بعض هذه الأعمال حميمي وخاص كالرسائل على وجه الدقة، وبعضها
الآخر أحاديث أو محاضرات لا ندري اليوم إلى أيّ حدّ كان سيقبل نشرها على ما هي
عليه من دون تعديل أو إضافات لو أتيحت له حرية اتخاذ القرار بصدد هذا النشر. تلك
مشكلة تضاف إلى مشكلة ما لم ينشر بعد مما يمكنه من إضافة بعض المعلومات أو تصحيح
بعض الإشارات أو التدليل على بعض التطور في الآراء المُعبَّر عنها هنا وهناك، لا
يمكن إهمالهما أو تجاوزهما على عجل، ومن ثم فإن من المفروض أن تكتب الدراسة كلّ
حال بكثير من الحذر مع التحفظ على أيّة استنتاجات قطعية.
ت. لا
يمكن تناول كاتب، أيّ كاتب، وبالأحرى أمين الريحاني، من دون وضع أعماله ضمن دائرة
أوسع من النصوص في حدّ ذاتها، هي الدائرة التي سمحت بإنتاجها وتكوينها على وجه
الخصوص، وذلك لفهمها أولاً ضمن إطارها التاريخي وبيئتها الاجتماعية والثقافية،
ومحاولة قراءتها ثانياً في ضوء الإجابات التي كانت الحقب السابقة عليها تقدّمها
للأسئلة التي تطرحها، وقراءتها ثالثاً بالعلاقة مع الأسئلة التي تطرحها حقبتنا
المعاصرة والإجابات عنها، وبالتالي تحديد نوع وطبيعة العلاقة التي تنشئها هذه
الأعمال: قطيعة محضة؛ اتصال/انقطاع؛ اتصال وتطوير.. إلخ. وفي حالة الريحاني نحن
أما أكثر من دائرة أوسع: دائرة البيئة اللبنانية السورية؛ دائرة البيئة العربية،
دائرة البيئة المغربية؛ دائرة البيئة الأمريكية، ودائرة المهاجرين السوريين
اللبنانيين في أمريكا.
في ضوء ما سبق، تأتي هذه المحاولة السريعة لفهم تجربة
أمين الريحاني في الشعر وفي النقد، ومكانها في مجمل أعماله، ودلالاتها ضمن هذه
الأخيرة.
2) في التجربة الشعرية
مما لاشك فيه أن
الشعر واحدٌ من طرق التعبير الأدبية التي كان أمين الريحاني يؤثرها إلى جانب
محاولاته في القصة وفي الرواية في مقتبل شبابه. لكن إيثاره هذا واهتمامه الملحوظ
بالشعر لم يتجلّ في التعبير عن هواجسه وعن تأملاته وعن أفكاره فحسب، بل كذلك في
ترجمته لكبار الشعراء وفي نقده الشعر والشعراء!
كان مرجعه في الشعر الغربي شكسبير وخصوصاً وولت ويتمان
الذي دفعه لأن يبتدع في العربية ومنذ العشر الأول من سنوات القرن الماضي ما لم يكن
معروفاً ولا معترفاً به: الشعر المنثور أو الشعر الحر[2].
ضمّت مجموعته التي نشرت تحت عنوان هتاف الأودية عدداً من القصائد التي
ترجمها بنفسه من الإنجليزية إلى العربية بالإضافة إلى تلك التي كتبها بالعربية
مباشرة. لكنه نشر كذلك عدة مجموعات شعرية بالإنجليزية منها المرّ واللبان Myrtle
and Myrrh و أنشودة المتصوفين A
Chant of Mystics، ترجم منها بعض
القصائد ونشرت في مجموعته العربية. لكنه
كذلك كرس جهده لترجمة أبي العلاء المعري، فترجم رباعيات المعري ثمّ ترجم من
بعدها اللزوميات. ونظراً إلى شخصية أمين الريحاني ومساره الثقافي والفكري
من ناحية، وإلى نزوعه الواضح إلى استخدام مختلف أشكال التعبير أدوات للتعبير عن
فكره ومواقفه من مشكلات عصره وهمومه، يتوجب النظر إلى هذا النتاج الشعري هنا في
مجمله من دون تقسيم تعسفي إلى شعر موضوع أو شعر مترجم، وكذلك من دون إهمال نظراته
النقدية بطبيعة الحال.
هكذا نرى أن في شعره المرسل، مثلما هو الأمر في اختياره
ترجمة أبي العلاء دون سواه من سائر الشعراء العرب على إعجابه بالبعض منهم ولاسيما
المتنبي، دلالة بيّنة: قطيعة مع التقليد في الشعر الكلاسيكي حتى ما استمرّ منه في
الشعر الحديث من ناحية، وتكريس العقل (والعقل يقتضي الشك، ومن هنا ولعه بالمعرّي) دليلاً
ومنهجاً من ناحية أخرى. يقول في قصيدة له تحمل عنوان: إلى أبي العلاء نشرها
بالإنجليزية وترجمها إلى العربية ونشرت في مجموعته هتاف الأودية:
في منازلك الرحبة الوادعة
ترسل شمس العقل أنوارها
وفي
أروقتك الظليلة الهادئة
تحرق
الحكمة عبير أزهارها
............................
إني
لأذكر غداة أسريت إلى الأرض
وقد
ملأ الحق الكأس فشربتها
ثم
قدمتها، بعد ألف من السنين، إليّ
فحملتها
باسمك إلى ما وراء بحر الظلمات..[3]
لكن أمين الريحاني، وهو الكاتب الملتزم منذ بداياته،
يريد أن يتجاوز شكوك أبي العلاء، وهي كذلك شكوكه هو، كي لا يرى فيه إلا إماماً للناس
في "فجاج اليقين" ، وهو الباحث عنه أصلاً، صانعاً "القواضب للحرية
والدروع للحق" مثلما يطمح هو الآخر للقيام به:
بعداً
للحيرة والظنون
أراكَ "في الثلاثة من السجون"[4]
تشعل
الأنوار للمدلجين
وتسلك
أمامهم فجاج اليقين
أراك
في "الثلاثة" صانعاً منقطع النظير
تصنع
القواضب للحرية، والدروع للحق
وتصوغ
الحلى للحكمة والرأفة والحنان
وتقذف
إلى النار بأضاليل الزمان[5]
كما لو أن ترجمته
لأبي العلاء ليست إلا مناسبة للتصريح ببرنامج عمل وبمنهج سيعتمده لوضعه موضع
التنفيذ. لكنها بالطبع لا تقتصر على ذلك. إذ أن همّه الأول كمهاجر من المشرق أن
يثبت لمن حوله حيث حط رحاله أن الشرق ليس ولم يكن بلد الخيال والأحلام، بل كان ولا
يزال بلد العقل والحكمة.
والحق أن شعره الموضوع كله بقي وفياً لهذه
الإرادة في رؤية الحياة على نحو إيجابي منفتح. حمل بشدة على "بكاء
الشعراء" ونحيبهم ولاسيما بمناسبة قصيدة الأخطل الصغير "الهوى
والشباب" التي غناها محمد عبد الوهاب. كان ذلك بالفعل تعبيراً عن موقف شعري
ينطوي على القطيعة مع تراث امرؤ القيس منذ معلقته "قفا نبك من ذكرى حبيب
ومنزل.." المستمر أكثر من عشرين قرنا. يكتب في بعض وصاياه للشعراء: "1ــ
حرروا صناعتكم من ـ قفا نبك ـ و ـ سائق الأظعان ـ إن عندكم اليوم الطيارات لتسوقوا
النجوم". وكان لابدّ لمثل هذا الموقف
الطليعي أن يثير في حينه حملات الاستنكار والرفض السقيم.. وكان لابدّ من انتظار
أكثر من أربعين سنة ليبدأ أبناء أمين الريحاني من الشعراء بالسير على الطريق الذي
رسم، على خفر في البداية ثم بجرأة لم تحل بينهم وبين أن تحال قصائدهم إلى لجنة النثر
للاختصاص!
بقي كذلك وفياً لهذا الموقف من الأشكال
الأدبية التي لم تكن في حقيقة الأمر إلا أداة وجسراً: أداة تستقيم مع الفكرة أو مع
الموقف أو مع الضرورة التعبيرية، وجسراً يحمل رسائله على اختلافها إلى الجمهور.
وكما يمكننا أن نرى في أعماله القصصية أو السردية حاملاً يستقيم مع الموضوع الذي
يرمي إلى التعبير عنه، نلاحظ أن قصائده الشعرية تمارس الوظيفة ذاتها. ما كان بوسع
أمين الريحاني كما نعرفه اليوم من مجمل أعماله أن يكون شاعراً وحسب، أو قصصياً
وحسب أو محاضراً أو ذا باع في أدب الرحلات دون سواه فحسب. كان يفيض عن ذلك كله.
وفي هذا الفيض إنما تكمن شخصية الريحاني بامتياز: نبيّ عصري يستنبت وحيه من واقع
مجتمعه وثقافته مثلما يستدعي ثقافة المجتمع الذي هاجر إليه طفلاً ليقترح على بني قومه رؤية عصرية تقطع مع الماضي
من دون إنكاره، وتتصل بالعصر وتأخذ منه من دون استنكاره. وفي ضوء ذلك إنما نفهم
معنى وجود الشعر والقص والسرد والنثر والنقد أدوات تعبير في مجمل أعماله. وفي ضوء
ذلك أيضاً إنما تتضح أسباب اختياره أبا العلاء المعري كي يقدم أشعاره إلى قراء
الإنجليزية.
سنجد في ما وضع من شعر موضوعات تؤلف عناصر
رسالته التي ستحفل بها تفصيلاً أعماله الأخرى غير الشعرية. وهي موضوعات ترسم
العالم الشعري لأمين الريحاني على نحو يؤكد الرأي الذي يرى في شعره أداة بقدر ما
يفتح في الوقت نفسه المجال واسعاً للنقاش حول اعتبار الريحاني شاعراً بالمعنى
المطلق للكلمة[6].
لم يكن بوسع الريحاني أن يعبر عن قناعته
العميقة بوحدة الوجود مثلاً، تلك التي تبنّى مفهومها خصوصاً انطلاقاً من محي الدين
ابن عربي ومن الحلاج ومن ابن الفارض وسواهم من كبار المتصوفين العرب من دون استخدام
الشعر، وهو ما يفسر تخصيصه لهذا الموضوع بالذات مجموعة شعرية كاملة بالإنجليزية،
وأعني بها أغاني المتصوفين A Chant of Mystics. ومن
السهولة بمكان أن نلاحظ ونسجل في الوقت نفسه أن تعبيره عن هذه الموضوعات يكاد
يقتصر على الشعر دون سواه، وذلك حتى في أعماله القصصية أو الروائية.
لكن موضوعاته الشعرية كما سبق القول لا تقتصر على موقفه
من الأديان ومن وحدة الوجود أو سوى ذلك من ثيمات ميتافيزيقية أو متعالية، بل تشتمل
على موضوعات أرضية أو إن شئتم مادية محضة: اجتماعية وسياسية وفكرية لا تقل أهمية
في موقعها من مسيرته بمجملها. والقصائد التي تتناولها تستبق أو تعلن مواقف
اجتماعية أو سياسية سنراها من بعد مبسوطة ومعللة في مقالاته ومحاضراته.
من مثل هذه الموضوعات ما يمت بصلة إلى نظرته إلى الطبقات
الاجتماعية:
في الصعلوك نفس تكبر إذا انطلقت من
القيود والأغلال
وفي الملك نفس تصغر إذا جردت من
ترهات الأبهة والإجلال
إلام نميل وجهنا عن الفقراء الأذلاء
ونعفره أمام الأغنياء والأمراء؟ [7]
أو للثورة:
ويل يومئذ للظالمين، للمستكبرين
والمفسدين
هو يوم من السنين، بل ساعة من يوم
الدين
ويل يومئذ للظالمين
..............................................
هي الثورة وأبناؤها الحفاة
وصبيانها المسترجلون العتاة
ورجالها الأشداء الأباة
ونساؤها المتنمرات
وخطباؤها وخطيباتها الفصيحات
وزعماؤها وزعيماتها المتمردات
ويل يومئذ للظالمين
أنذرهم بأغلال وسعير، بقنابل تفجَّر
ويوم عسير
يوم لا ينهون ولا يأمرون، ولا يطلقون
فيهربون
ويل يومئذ للظالمين[8]
أو إلى التقاليد والحداثة:
أنا الشرق عندي فلسفات وعندي ديانات
فمن يبيعني بها طيارات؟
أو لمعنى الحرية
ومفهومها:
عرفتها في بلاد الغربة صغيراً، وعشقتها
شاباً، وعبدتها كهلاً
.....
كانت أول من أشعل في طريقي مصباح
الفكر
وأول من هداني إلى مروج الخيال
وأول من استغواني، فتغلغلنا في أدغال
الشك
وخرجنا منها إلى بساتين اليقين
...
هي رفيقتي في السفر
هي المبتدأ في حياتي والخبر
هي الحرية جاءت تزور البلاد العربية
وتزرع فيها بذورها الطيبة الصفية
هي الحرية التي أستمدّ منها الحياة
وهي الحياة أقفها على خدمة هذه الأمة التي لا يجمعها
اليوم غير أمل وخيال
هي الحرية.......
ابتسمت في الحجاز ابتسامة المريض
وبكت في تهامة بكاء اليائس
وضحكت ثم تأوهت في اليمن
وجلست تستريح في العراق
هي الحرية تخاطبك في البلاد العربية[9]
......
لكنه فيها جميعاً يعلن بما لا يقبل
الشك ومن خلال القصائد ذاتها رؤيته لهذا "الشعر الجديد" الذي وإن كان
يستقي مبرراته النظرية من الشعراء الغربيين يجد في التراث العربي جذوره وأسسه. ألا
تذكّرُ قصيدته عن "الثورة" ، مثلاً، التي تم الاستشهاد منها ببعض من مقاطعها
أعلاه، بإيقاعات ومفردات وتكرارات بعض سور القرآن المكية مثلاً؟ ذلك إن الريحاني على دعوته إلى القصيدة
المنثورة لم يتخلّ نهائياً عن البحار أو عن التفعيلات، لكنه كان تارة يعيد ترتيبها
أو يجري تارة أخرى وراء البحور الخفيفة التي تساير الإيقاع الضروري للتعبير عن
أفكاره[10].
تجديده في الشعر بما هو قطيعة على صعيد
الشكل مثلما هو على صعيد المضمون يوازي ويتفق مع ما دعا إليه في مجالات الإبداع
الأدبي كافة على صعيد ما اتفق على تسميته بالأدب الملتزم. ذلك مفهوم يستبق هو
الآخر المفهوم الذي كان أول من دعا إليه في أوربا في أربعينيات وخمسينيات القرن
الماضي في فرنسا خصوصاً جان بول سارتر. لكن الريحاني كان يعيش حقبة أخرى، وظرفاً
سياسياً واجتماعياً شديد الخصوصية في العالم العربي الذي كان ينتقل من حقبة
الخلافة العثمانية مع حلم الدولة العربية الواحدة إلى حقبة الاستعمار التي حطمت
هذا الحلم. ولأنه ترجم أشعار أبي العلاء المعري، وخصوصاً منها لزومياته، أو ما سمّاه
المعري نفسه: لزوم ما لا يلزم.. فمن الأرجح أن الريحاني قد ساق المفهوم، مفهوم
الالتزام، إلى فضاءات أخرى حسب ما نقوله بلغتنا اليوم: فضاءات الأدب والسياسة
والاجتماع وقبل ذلك وخلاله وبعده: الفرد، بما هو إنسان، فكان سبّاقاً إلى تيار في
الأدب وفي الفكر ساد سجالات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على أنه من وحي
الفكر السارتري من دون أية إشارة إلى الريحاني. وهنا تكمن في الحقيقة أهمية أمين
الريحاني الذي لم ينتبه إليه الجيل التالي عليه بقدر انتباه معاصريه له ولم يوله
الاهتمام الكافي الذي كان أكثر من ضروري. وربما كان من سوء حظ المسار الذي اتخذه
النتاج الثقافي العربي في القرن الماضي أنه لم يجعل من الريحاني وسواه من كبار
معاصريه المرجعية الأولى قبل التيارات الغربية التي يبدو لنا اليوم أنه كانت له في
نقدها أيضاً بعض الأسبقية. ذلك أن الريحاني بحسّه النقدي وبثقافته الموسوعية
وبوعيه الحاد لإشكاليات مجتمعه العربي والمجتمع الغربي في آن واحد استطاع أن يبني
تركيباً فكرياً مستقبلياً على قدر كبير من التماسك المنطقي والواقعية التاريخية
والاجتماعية.
3) في نقد الشعر
ولأننا في مجال الشعر ونقده عند الريحاني، فمن الطبيعي
أن نبقى داخل هذا الإطار وأن نرى كيف تحقق هذا التركيب على هذا الصعيد على الأقل.
عرض الريحاني في محاضراته وفي مقالاته وفي
رسائله وفي أشعاره ولا سيما في كتابه أنتم الشعراء ما يمكن لنا أن نطلق
عليه قاعدتي الرؤية الريحانية النقدية في الإبداع الأدبي، والشعري منه خصوصاً،
ووظيفته: القطيعة مع الماضي المتمثل في الشعر بالوقوف على الأطلال، وارتباط الشاعر
في تعبيره بمشكلات مجتمعه، منتقلاً من الدائرة الخاصة إلى الدائرة الأعم.
تجلت القطيعة كما سبقت الإشارة في ممارسة
الشعر الحر والدعوة إليه والدفاع عنه لأنه أقرب إلى المزاج المعاصر من الشعر
العروضي الكلاسيكي. لكنها تجلت كذلك في التشديد على الانتهاء من البكاء وذرف
الدموع، أي البكاء على الأطلال، الذي لم يطبع الشعر العربي الكلاسيكي فحسب بل
امتدّ حتى الشعر الحديث. لهذا لاغرابة أن يحتلّ الحديث عن الدمع وذرفه مثلاً نصف
مقالات الكتاب تقريباً. يكتب في عام 1933 في خطبة تحت عنوان داء البكاء:
"... إننا والحق يقال، أكثر بكاء، وأشدّ
انتحاباً، من جميع الشعوب. كأننا جبلنا من الدموع والأسى، كأننا كوّنا من أنفاس
النوادب، وجهشات الثكالى...إنه لمرضٌ يفوق انتشاراً كلّ أمراضنا، وهو أشدّ خطراً
على سلامة الأمة وعافيتها. بل هو الوباء الأخبث لأنه يفعل بالعقول والقلوب ما لا
تفعله أحكام الظلم وشرائع الاستبداد (...) فإذا بكى شاعرنا في قوافيه بكينا معه،
وإذا أنَّ أديبنا في نثره كنا كلنا صدى لأنينه..."[11]
وبالمقارنة مع الشعر الغربي، "لا أظنك
تجد من الدموع في شعر الأمم الغربية كلها مقدار نصف ما عندنا في الشعر العربي.
(...) خذ أيّ ديوان تشاء، وافتحه على بركة الله، تحظ بقصيدة شاكية أو بقافية
باكية. وخذ أيّ كتاب من كتب الأدب القديم، ترَ صفحاته مزدانة بالأشعار، وفيها
دائماً من النوع الذي يسيل دمعاً سخيناً سخياً. قصائد هي السواقي ـ قوافي هي
الشلالات ـ دوواين هي الينابيع المعدنية."[12]
ذلك أن بكاء الشاعر ضعف، وهو ضعف ينتقل إلى
الجميع، ومن هنا هذا التساؤل:
"..إن قلوب الشعراء من زجاج. وأكثرهم
يتموّنون منها ما يكفي الحياة الشعرية في كلّ أدوارها. فإذا انكسر قلب من هذه
القلوب، فصرخ صاحبه وصاح، وأنَّ وناح، وأرسل نواحه وأنينه في قوافيه، أيجب علينا
أن نصيح وننوح مثله؟ كفكفوا دموعكم (...) ولا تستسلموا إلى كلّ ناحب نوّاح مهما
طاب نواحه ونحيبه."[13]
وعلى أنه خاض بسبب هذه الخطبة سجالات لا
حصر لها عاد بسببها في مقالة أخرى ليميز بين الألم والنواح، بين الألم الشخصي
والألم القومي، بين الألم الأصيل والبكاء التقليدي:
"..هل في شعرائنا نحن العرب من كان أسوأ
حظاً، وأشد بؤساً، وأرق شعوراً من رهين المحبسيْن أبي العلاء؟ ومع ذلك، فإنك لتنسى
ألمه الشخصي عندما تسمع في شعره أنّة الألم القومي، بل الإنساني."[14]
ذلك أن الشعراء
فريقان: "فريق ـ يمثل في المحيط الباكي بكاه ـ "، وفريق ثان ممن
"يحملون من الألم رمز الألم". ذلك أنهم "لا يبكون، ولا يستبكون. هم ينبهوننا، يستيقظوننا، يشحذون
فينا سيف النقمة، يستفزوننا، لجميل الأفكار، وشريف المقاصد والأعمال. هم الذين
تتمثل في أنفسهم آلام الناس فتفيض، فتغمر آلامهم الشخصية كلها"[15]. هذه الآلام هي أرقى من البكاء وأشدّ تأثيراً في
التعبير عن ذرف الدموع، لاسيما وأنها لنبلها توحّد الشاعر وأمته فيها:
"من مزايا الشاعر الحقيقي أن
البؤس في الأمة يحزنه حتى الألم، فيصبح كأنه هو الأمة البائسة الموجوعة، فيسمع
صيحته من قد خشنت أو تخدرت من الآلام أعصابهم، فيستيقظون طالبين الدواء
والشفاء."[16]
كل ذلك لأن "الألم غير الدموع".
وليس صحيحاً أن "الدموع هي التي طهرت فرنسا من أدران الظلم والفساد (..)، بل
هي الثورة التي ولدتها الآلام."[17]
في هذا الاتحاد الذي يطمح الريحاني إلى أن
يراه في الشاعر تتمثل القاعدة الثانية في رؤيته النقدية للشعر وللشعراء. وفي هذه
القاعدة الثانية مثلما هو الأمر في القاعدة الأولى إنما تتمثل فعلاً ريادته.
[1] الحديث هنا عن الربع الأخير من القرن التاسع عشر
والنصف الأول من القرن العشرين. وعلى أننا سنلقى اعتباراً من ستينيات القرن الماضي
كتاباً عرباً يكتبون باللغتين العربية والفرنسية أو العربية والإنجليزية، فإن
الريحاني يبقى مع ذلك شخصية استثنائية في امتلاكه ناصية الثقافتيْن.
[2] يكفي أن نؤكد على أهمية ذلك من خلال هذه النادرة
الشهيرة: في عام 1959، أي بعد أكثر من نصف قرن على نشر أول قصيدة لأمين الريحاني
في الشعر اللمنثور، أحال عباس محمود العقاد ، وكان رئيس لجنة الشعر في المجلس
الأعلى للآداب، قصيدة لأحمد عبد المعطي حجازي إلى "لجنة النثر
للاختصاص"!
[3] أمين الريحاني، هتاف الأودية، دار ريحاني
للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1955، ص. 105 و 106.
لفقدي ناظري
ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد
الخبيث (اللزوميات)
[6] ما نعنيه هنا هو ضرورة التمييز بين الشعر بوصفه
غاية وبين الشعر بوصفه أداة وحسب. ولهذا ميّز العرب بين النظم والشعر.
[10] لا نرمي هنا إلى التفصيل في الإنجازات المبكرة
في مجال الشعر الحرّ أو المنثور التي استبق بها أمين الريحان عصره، فقد سبق وأن
أجملها على نحو دقيق وبليغ أمين ألبرت الريحاني في كتابه الجامع فيلسوف الفريكة،
صاحب المدينة العظمى، دار الجيل، بيروت، 1987 انظر بوجه خاص الصفحات:324 ـ
327.
[13] المرجع السابق، ص 8 و 9.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire