mercredi 18 avril 2012

تعقيب على بحث الدكتورة ليلى المالح


تعقيب على بحث الدكتورة ليلى المالح

"لقاء الحضارات في الفن القصصي لدى أمين الريحاني"



 بدرالدين عرودكي



من يقرأ قراءة نقدية أعمال أمين الريحاني الأدبية في الرواية والقصة والمسرح، وهي على كثرتها لا تؤلف إلا نسبة قليلة من أعماله الأخرى في مجال الفكر والسياسة والتاريخ والاجتماع، لابد من أن يتساءل على الأقل أولاً عن وظيفتها الأساس في مجمل مُبْدعه وثانياً عن مكانها من حركة الإبداع الأدبي في الثقافة التي أنتجت بلغتها وثالثاً عن ضروب التلقي لدى جمهور القراء على اختلاف اهتماماتهم.

ذلك أن أمين الريحاني كان شخصية فريدة بين معاصريه من الكتاب والأدباء، سواء منهم من كان يُصنّف في خانة أدباء المهجر على تنوعهم، أو الذين كانوا في بلدانهم الأصلية العربية. فريدة بتنوع ضروب اهتماماتها وضروب الأجناس التعبيرية التي طرقتها: القص، والشعر، والمسرح، والخطاب المباشر، والمقالة، والكتابة التاريخية، والكتابة الاجتماعية، والنقد الاجتماعي، والفكري، والسياسي، والأدبي، والفني.. وفريدة كذلك في غناها وسعة ثقافتها التي لم يكن مصدرها الكتب والمصنفات وحدها، بل رحلات عديدة في أرجاء المعمورة أتاحت لصاحبها لقاء كثرة من البشر على تنوع مشاربهم ووظائفهم الاجتماعية، من مثقفين وأدباء وحكام ومحكومين. فريدة أيضاً وخصوصاً في تمكنها من امتلاك ناصية لغتين بأدواتهما المفهومية  امتلاكاً كاملاً.

ثمّ إن أمين الريحاني بخلاف عدد كبير من الكتاب والمبدعين المعاصرين ممن يقتصرون اليوم على الكتابة باللغة الفرنسية أو بالإنجليزية، يبرز من بين من اتفق على تصنيفهم ضمن جماعات أدباء المهجر في بدايات القرن المنصرم، كاتباً باللغتين، الإنجليزية والعربية، ومثقفاً منخرطاً في مشكلات وطنه الأول ودائرة انتماء هذا الوطن على رحابته. يستخدم طرق التعبير على اختلافها في طرح الأفكار والإشكاليات التي تشغله. أراد عن وعي وإرادة أن يكون له وجود وحضور في كل من الثقافتين: الأمريكية والعربية فألف وحاضر وكتب بلغتيهما. أدت به قراءاته للأدباء أن يتعرف بلغة الأصل على الأعمال الأدبية لكبار الكتاب في أوربا وأمريكا، فنهل منها أشكالاً أدبية لم يكن الأدب العربي يعرفها كالرواية والمسرح. واستقى من احتكاكه بهؤلاء الأدباء ونقادهم نظرات لمعنى العمل الأدبي ووظيفته تتجاوز بمراحل ما كان معاصروه في بلدان ثقافته الأولى يعرفونه.

من الواضح أن خطوط مسيرته الفكرية قد تحددت منذ اللقاء الأول ومنذ إقامته الأولى. تعلمه للإنجليزية ثم عودته لإتقان اللغة العربية في موطنه الأول يشيان برغبة عميقة في القيام بدور الوسيط، في إقامة جسر بين ثقافتين ورؤيتيْن للحياة. وفي ذهنه ما تعيشه المنطقة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: الإمبراطورية العثمانية في طريقها إلى الزوال، والمنطقة العربية في المشرق التي كانت تعدّ لمشروع وحدوي لن يتحقق وسيحل محله مشروع استعماري غربي سيغلق مسارات النهضة التي بدا أنها توشك أن تؤتي أكلها مع انطلاقات مظاهر الحداثة الثقافية بأمل ترجمتها على صعيدي المجتمع والسياسة.

وكرحالة دائم بين ثقافتين وبين منطقتين جغرافيتيْن، كان لابدّ له أولاً من أن يثبت للآخر جدارته شخصياً كما تقول الدكتورة ليلى المالح وأن يثبت من ثمّ أصالة الثقافة التي قدم منها. هكذا ترجم إلى الإنجليزية رباعيات أبي العلاء المعري ثم ترجم لزومياته. مثلما كتب بهذه اللغة ديوانه الشعري المرّ واللبان Myrtle and Myrrh وروايته كتاب خالد، الذي لم يترجم للعربية إلا بعد خمسة وسبعين عاماً من سنة صدوره.

بهذا المعنى، لم يكن أمين الريحاني محض أديب قاصّ أو شاعر أو محض فيلسوف أو محض مؤرخ اجتماعي أو ناقد أدبي أو ناقد فني. كان كلّ ذلك معاً بما أنه قبل ذلك وبعده إنما هو وسيط ثقافي: ينقل إلى الوطن الذي تبناه وارتضى الانتماء إليه روح ثقافته وأصالتها، وينقل عنه ما يتجلى له جديراً بالاتباع أو بالاقتداء أو بالتبني، ولا سيما في مجال حرية الفرد والمعتقد أو في مجال التجديد والإبداع أو في طرق التنظيم الاجتماعي والسياسي، أو في العلاقة بين الحاكم والمحكوم..وبهذا المعنى أيضاً، لم يكن فن القصة خياره إلا من حيث إتاحته إمكان حرية في التعبير لا يتيحها فنٌّ آخر كالمقالة أو الشعر. لم يكن همّه تطوير هذا الجنس الأدبي أو ذاك بقدر ما كان استخدامه أداة توصيل. لم يكن من قبيل الصدفة إذاً أن تكون باكورة أعماله الأدبية وهو في السابعة والعشرين من عمره قصة مستقاة في شكلها وفي أداتها من التراثين العربي والغربي معاً، قصة المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية الصادرة بالعربية عام 1903 التي تنهل من ابن المقفع ومن لافونتين، بقدر ما تستفيد في جرأتها من قصص ديكاميرون.

سخّر أمين الريحاني الأجناس الأدبية لتكون أداة اتصال وإيصال يستخدم الواحد منها ليناسب الرسالة والمقام. وهو بهذا كان دائم الانتقال على صعيد الأسلوب مثلما هو على صعيد العبارة بين الثقافتين واللغتيْن. ومما يسترعي الانتباه أنه في كتاباته النثرية جميعاً حقق قطيعة كاملة مع الأساليب النثرية التي كانت سائدة في المشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. مثلما حقق كذلك ومنذ عام 1907 هذه القطيعة مع الشعر الكلاسيكي في أشعاره المنثورة تأثراً آنئذ بوولت ويتمان Walt Witman وقبل أن يعرف الشعر العربي هذا الضرب من الشعر مع نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. فكان في النثر مثلما كان في الشعر رائد تجديد بحق، وإن بقيت تجربته في حدود الريادة.

وإذا كنا لا ندري على وجه الدقة الكيفية التي استقبلت بها أعماله الأدبية التي كتبها بالإنجليزية، (ليس ثمة ما يدلّ على أن كتبه قد طبعت أكثر من طبعة واحدة أو لاقت رواجاً استثنائياً ما) مفترضين أن الوضع كان آنئذ على النحو الذي كان عليه في أوربا النصف الأول من القرن الماضي التي لم تكن تكترث بالأعمال الأدبية المترجمة إلى لغاتها إلا بوصفها وثيقة صالحة للدراسات الأنثروبولوجية![1] فمن المحتمل أن أعماله الأخرى ذات الطابع الاجتماعي أو السياسي قد أثارت فضول جماعات أو دوائر أو تيارات محددة في أمريكا أو في إنجلترا ممن كان يهمّها ما كان يدور في منطقة المشرق العربي. على أن هذه الأعمال بالذات أكثر من غيرها هي التي استوقفت القراء في هذه المنطقة الأخيرة وأسست المكانة الفكرية والأدبية التي احتلها ولا يزال يحتلها أمين الريحاني في الخارطة الأدبية والفكرية، بوصفه في مقدمة تيار المجددين والمحدثين، ومن أوائل الدعاة إلى وحدة وتقدم المجتمعات العربية. صحيح أنه كان من أوائل من حاول الكتابة القصصية بالمعنى الغربي للكلمة، وصحيح أنه كتب المسرح باللغة الإنجليزية وطمح إلى أن يرى مسرحياته تقدم على خشبة أحد مسارح نيويورك أو لندن، إلا أن هذه الأعمال بقيت في حدود الريادة، أي في حدود المحاولات الأولى في ثقافة كانت تستعد لتجديد ذاتها على كل صعيد. وهو أمر مفهوم لدى الريحاني الذي كانت همومه لا تتوقف عند حدود الأشكال الأدبية وتطويرها أو تطويعها أو تجذيرها في الثقافة العربية بقدر ما كانت تتجاوزها إلى ما كانت تستطيع أن تمكنه كأداة إيصال حديثة وفاعلة من نقل أفكاره وتجسيدها.

هل يمكن الحديث عن "لقاء الحضارات" في أعمال كاتب ما؟ قد يحمل مثل هذا التأكيد على الظن بإمكان استيعاب حضارات عدة في عمل أو في مجموعة أعمال، في فن أو في مجموعة من الفنون. وهو ما لا يمكن تصوّره على النحو المفهوم من الجملة. سوى أن الخشية تكمن في حذف الفاعل وفعله من المشهد، وهو ما لم ينطو عليه البحث على كل حال، فقد عرض بوضوح مختلف عناصر التفاعل بين الثقافتيْن اللتين تشربهما الكاتب في أعماله الأدبية على اختلاف أجناسها، وبيّن مطارح هذا التفاعل والتأثر، أو النقل إلى والتفعيل في الثقافة  العربية.

هل ثمة مجال والحالة هذه للحديث أو للتساؤل عن القيمة الفنية لكتابات الريحاني في القصة والرواية والمسرح وعن مكانتها في الأدب الملتزم الهادف للنقد والتغيير الاجتماعي والسياسي؟ من المفترض أنه عندما تكون الأشكال الأدبية لدى كاتب ما مجرد أدوات يستخدم كلاً منها حسب المقام والموضوع والرسالة التي يبتغي إيصالها أن لا يتطرق الحديث إلى قيمة فنية ما لهذه الأعمال مادام الشكل لم يكن غاية في ذاته، وما دام الغرض يتجاوز مسافات كبيرة مجرد إنجاز رواية أو قصيدة أو مسرحية. وقد يُقال إنه لا يمكن إيصال رسالة ما من دون العناية بتحقيق الشكل الفني الذي اختير أداة تعبير وإيصال. تلك حقيقة لا تكاد تحتمل أي شك أو نقاش. إلا أن ثمة فرق بين أن تكتب الرواية أو القصة كغاية في ذاتها، أي كأداة تعبير وحيدة مثلما فعل روائيون كبار في الثقافة الغربية أو في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، أو أن تكتب لغرض آخر غير ذاتها، أي أن تستخدم أداة للتعبير عن أفكار مسبقة، وهو ما يؤدي إلى وضعها في خانة ما يسمى الأدب الملتزم الهادف للنقد الاجتماعي والسياسي. ذلك أننا أمام كاتب كان ديدنه الأول والأخير هذا النقد، ولم تكن الأشكال الأدبية إلا فضاء حرية تتيح له في عصر لم يكن مشهوداً له بازدهار الحرية أن يخترق المحرّمات وأن يفنّد المواضعات، الاجتماعي منها أو السياسي.

يبقى أن بالوسع اعتبار أمين الريحاني الذي ولد مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر أي في بدايات ما اتفق على تسميته بالنهضة الأدبية والفكرية العربية، واحداً ممن أسهموا فيها على أكثر من صعيد، ولا سيما صعيد الدعوة إلى التجديد أو على صعيد الريادة. لم يكن فن أدبي كالرواية يمارس في الثقافة العربية. كما لم يكن الشعر المنثور معروفاً فيها. كان الجمهور في البلاد العربية يستهلك آنذاك كل ما يترجم منها من اللغات الأوربية كما كتب الشيخ محمد عبده في عام 1881. وها هو يصدر في بداية القرن الماضي، بالتزامن تقريباً مع محمد حسين هيكل في مصر وروايته زينب، ما يمكن اعتباره من أوائل الروايات المكتوبة باللغة العربية. لكنه قبل ذلك وخلاله وبعده كان يكتب بالإنجليزية وبالعربية معاً عن الثورة الفرنسية ويحاضر في المشكلات الاجتماعية أو في النقد الأدبي ويكتب في  الرحلات (ملوك العرب، 1924) وفي التاريخ (تاريخ نجد الحديث) وفي النقد الأدبي والفني (أدب وفن)، هذا فضلاً عن المقالات الاجتماعية والفلسفية، والمقالات السياسية، التي جمعت في مجموعة من الكتب.

وبوصفه شكلاً من أشكال القصّ، لا يزال كتابه ملوك العرب وهو نموذج حديث في أدب الرحلات العربي، يقرأ كأثر معاصر أكثر من أي وقت مضى. لكن أهمية رواياته وقصصه العربي منها والإنجليزي، تكمن في أنها أقرب إلى المحاولات الريادية على الصعيد الأدبي، فهي تنطوي على أهمية تاريخية في مسار أمين الريحاني مصلحاً ووسيطاً ثقافياً أكثر من انطوائها على أهمية فنية محضة. في تناول أمين الريحاني ضمن عصره، تتاح لنا الفرصة لإدراك دور المثقف في عصر يبدو لنا اليوم بعيداً وغريباً، وهو دور التزام اجتماعي وسياسي وثقافي بامتياز.



[1]  شهد الربع الأخير من القرن الماضي تغيّراً نوعياً في استقبال الأعمال الأدبية المترجمة من العربية إلى مختلف اللغات الأوربية، وصارت الأعمال الروائية خصوصاً تحتل اعتباراً من بداية ثمانينيات القرن الماضي حيّزا واسعاً في مجال النشر والنقد، وتم إن جاز القول الاعتراف بالأدب العربي المعاصر أدباً أجنبياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، و\لك على إثر المكانة التي احتلها أيضاً أطب أمريكا اللاتينية.

samedi 24 mars 2012

حول دور معهد العالم العربي في باريس في نقل الثقافة العربية إلى فرنسا







معهد العالم العربي

ورقة مقدمة لندوة مجلة العربي الفكرية السنوية

آذار/مارس 2012




د. بدرالدين عرودكي




حول دور معهد العالم العربي في باريس في نقل الثقافة العربية إلى فرنسا

 وطبيعة هذا الدور في المستقبل.




تقديم


يحتفل معهد العالم العربي هذا العام (2012) بمرور خمسة وعشرين عاماً على افتتاح مقره على ضفاف السين في القلب التاريخي والثقافي والعلمي والجامعي لمدينة باريس، وكذلك بمرور اثنتين وثلاثين عاماً على التوقيع على صك تأسيسه بين فرنسا ومجموع الدول العربية  الأعضاء في جامعة الدول العربية والذي تمّ في 23 حزيران/يونيو 1980.

خلال هذه الفترة الوجيزة من الزمن صار معهد العالم العربي جزءاً ومعلماً من وفي الحياة الثقافية في باريس، جنباً إلى جنب مع مؤسسات ثقافية عريقة جاوز عمرها عشرات السنين لا بل نيف عمر البعض منها على أكثر من قرن، حتى أن المرء يتساءل كيف أمكن لهذا المعهد في ربع قرن أن يصير صنو المؤسسات الفرنسية العريقة على أنه  يختلف عنها في النظام وفي الطبيعة الإدارية وفي التمويل وفي الأهداف المنوط به تحقيقها وكذلك، وهو الأهم، في البعد السياسي الذي يكتنفه.




1


معهد العالم العربي: مؤسسة ذات طبيعة خاصة وفريدة من نوعها في العالم


لابد لنا بداية من التعريف بطبيعة هذه المؤسسة التي توافقت الدول العربية كلها مع فرنسا على إنشائها وإقامتها في عاصمة الثقافة الأوربية، حتى لا نقول الغربية عموماً. ذلك أن هذا التعريف هو الذي سيسمح لنا في ما بعد من فهم دورها وحدود هذا الدور في التعريف بالثقافة والحضارة العربيين.

نلاحظ أن المعهد قد أنشئ على أساس أنه جمعية مثل الجمعيات الأخرى في فرنسا التي حدد طبيعتها ووظائفها وطرق إدارتها ومسؤولياتها قانون يعود إلى السنة الأولى من القرن الماضي (1901). على أن العنصر المميز يتجلى في أمريْن: الأول أن مؤسسي هذه الجمعية ليسوا أشخاصاً ماديين بل معنويين وأن هؤلاء الأشخاص المعنويون هم دول ذات سيادة؛ والثاني أن هذه الجمعية التي نص قرار إنشائها الصادر عن وزير الداخلية الفرنسي أنها ذات نفع عام، لكنها خاضعة في شؤونها جميعاً للقانون الفرنسي، وبالتالي، وهنا الفرادة، فإن هذه المؤسسة التي أسستها دول ذات سيادة قبلت خضوعها لقوانين واحدة منها لا للقانون المشترك في ما بينها أعني القانون الدولي شأن المؤسسات الدولية الأخرى!

لقد ترتب على ذلك فور تأسيس المعهد وصدور نظامه الأساسي نتائج ذات أهمية كبيرة طبعت منهج العمل وحددت مركز القرار فيه على الأصعدة جميعها، وأهم هذه النتائج: الغموض في تحديد المسؤولية المالية للدول الأعضاء؛ انحصار القرار بين يدي ممثل عضو مؤسس واحد؛ البعد السياسي لهذه المؤسسة بما أن من قام بتأسيسها دول ذات سيادة.

ولئن قامت بعد صدور النظام الأساسي للمعهد في عام 1980 محاولات للتخفيف من أثر هذه النتائج، شأن تحديد حصص الالتزامات المالية للدول الأعضاء بالطريقة ذاتها التي توافقت عليها الدول العربية في تحديد نسب التزاماتها المالية في جامعة الدول العربية، ومحاولة التركيز على طبيعة حكومة المعهد القائمة على الشراكة بين الجانب الفرنسي والجانب العربي، إلا أنه لم يكن من الممكن تغييب أو تجاهل أو تجاوز البعد السياسي لا في حكومة المعهد فحسب بل كذلك في طبيعة النشاطات التي سيترتب عليه القيام بها ما إن يستقر في مبناه الذي سيتم اعتباراً من 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1987.



2


حكومة المعهد



نص النظام الأساسي على أن يقود شؤون المعهد مجلسان: المجلس الأعلى، وفيه تتمثل الدول الأعضاء جميعها على أساس المناصفة بين الطرفين، الطرف الفرنسي، والطرف العربي[1]؛ ومجلس الإدارة الذي يتمثل فيه الطرفان كذلك مناصفة، لكن الطرف العربي يختار سبعة من ممثليه (أي سبع دول) على التناوب فيما بين الدول العربية.

منذ البداية، يمكن تسجيل ما يلي: أن رئيس المجلس الأعلى ورئيس مجلس الإدارة، وهو فرنسي الجنسية، وقد كان حتى عام 2010 منصب يقوم بأعبائه شخص واحد قبل أن يُفصل ما بين المنصبين ويعين لكل منهما شخص محدد، يتم ترشيحه من قبل الطرف الفرنسي وينتخب من قبل أعضاء المجلس الأعلى ومن قبل أعضاء مجلس الإدارة.

ولئن كان النظام الأساسي قد نص على وجود مدير للمعهد يشرف على إدارة كافة شؤونه، إلا أن من الملاحظ أن هذا الأخير يعين من قبل رئيس المعهد ويستمد صلاحياته منه عن طريق التفويض، بخلاف الرئيس الذي يتميز عنه بأنه يستمد صلاحياته من المجلسين اللذين يضمان ممثلي الأعضاء المؤسسين من ناحية وبأنه كذلك عضو في هذين المجلسين، في حين أن المدير لا يتمتع بالصفتين.

بعبارة أخرى، لم يكن في النظام الأساسي ما يشير على صعيد الحكومة التنفيذية للمعهد إلى الشراكة في احتلال مركز القرار: فالرئيس، وهو رئيس المجلسين المذكورين، هو المسؤول عن وضع الاستراتيجية التي يحددها المجلس الأعلى، وخطة العمل والميزانية اللتين يقرهما مجلس الإدارة موضع التنفيذ دون وجود شريك كامل في المسؤولية إلى جانبه.

وعلى أن النظام الأساسي قد عدّل لينص صراحة على وجود مدير عام، لا مجرد مدير فحسب، إلا أنه لم يغير شيئاً من طبيعة وحدود وظائفه. صار الرئيس، الفرنسي، يعين المدير العام، العربي، "بناء على اقتراح من الطرف العربي، أي من مجموع الدول العربية"، وبعد موافقة مجلس الإدارة، لكنه يظل موظفاً لا منتخباً، ولا يتمتع فوق ذلك بعضوية الهيئتين الحاكمتيْن للمعهد. سيكون لهذا التفاوت بين سلطات الشريكين ضمن المؤسسة الواحدة آثاره على سير العمل وعلى النظرة التي ينظر بها الجانبان العربي والفرنسي إلى المدير العام العربي.




3


أهداف المعهد في النظام الأساسي.



نصّ النظام الأساسي على أنَّ "معهد العالم العربي مؤسسة تخضع لأحكام القوانين الفرنسية وتهدف إلى:


        ـ القيام، في فرنسا، بإنماء وتعميق دراسات العالم العربي للتعرف إليه وتفهّمه لغة وحضارة وقيماً ثقافية وروحية، كذلك الإلمام بالجهود التي يبذلها في سبيل التنمية؛

        ـ تشجيع التبادل الثقافي ودفع الاتصال والتعاون بين فرنسا والعالم العربي، وخاصة في مجال العلوم والتقنيات؛

        ـ إتاحة الفرصة لتفكير مشترك بين الفرنسيين والعرب في شؤون العالم الآنية منها والمستقبلية؛

        ـ والإسهام كذلك في ازدهار وتنمية العلاقات بين فرنسا والعالم العربي، وبالتالي بينه وبين أوربا. "




4


في التطبيق



لنسجل أن هذه الأهداف المنصوص عليها في النظام الأساسي قد خضعت لضروب مختلفة من الفهم ومن التفسير مع تعاقب الرؤساء الذين تولوا المسؤولية الأولى في المعهد مما أدى في الواقع العملي إلى اختلاف في هيكلية المعهد وفي مناهج أدائه. ومن الممكن، وهدفنا إبراز دور المعهد في نقل الثقافة العربية ، تحديد أربعة مراحل في مسار المعهد، منذ سنة تأسيسه وحتى اليوم.

لابدّ من أن نسترعي الانتباه إلى أن المرحلة الأولى التي بدأت غداة صدور القرار المنشئ للمعهد والتوقيع على عقد تأسيسه وإبرام نظامه الأساسي، كانت مرحلة تأسيس أنيط بها بدء ضروب من النشاط تضع أسس سياسة عمل المعهد وتفعيل أهدافه وفي الوقت نفسه وضع دفتر الشروط لمبنى المعهد العتيد. كانت والحق يقال مرحلة حاسمة لأنها المرحلة  التي سوف تشرط طبيعة عمله وحدوده للعقود القادمة.



مرحلة التأسيس 1980 ـ 1987


كان النظام الأساسي قد حدد منهج العمل إدارياً من خلال اللجنة القانونية والمالية، وثقافياً من خلال ثلاث لجان: لجنة الثقافة والعلوم والتقنيات ـ لجنة تعليم اللغات ـ لجنة الوسائل السمعية البصرية.[2]

كان المفهوم الرئيس آنئذ للمعهد يتمثل في النظرة إليه بوصفه فترينة لعرض منجزات الحضارة العربية والإسلامية، وبناء عليه فقد تقرر إنشاء ثلاثة أقسام: المتحف، المكتبة أو دار الكتب، والنشاطات الثقافية. وسمي لكل قسم مسؤول أنيط به قيادة المشروع الخاص بقسمه وتحقيقه بناء على مداولات اللجان المذكورة، ومن ثم المشاركة حثيثاً في وضع دفتر شروط المبنى. كان من السهل بناء على ذلك، تحديد طبيعة القسمين الأساسيين: متحف للحضارة العربية الإسلامية، ومكتبة تضم كل ما ينشر عن هذه الحضارة باللغة الفرنسية واللغة العربية بوجه خاص. وإذا كان لكل من هذين القسمين جمهوره شبه المعروف سلفاً، إلا أنه يبقى أن على النشاط الثقافي أن يحدد بالدرجة الأولى من هو الجمهور الذي يبحث عنه، وما الذي سيقدمه له، وكيف سيتمكن من جذبه إلى هذه النشاطات على تنوعها.

لابدّ من الإشارة هنا إلى أن المثل الذي كان قائماً أمام مسؤولي المعهد في تلك المرحلة يتمثل في مركز جورج بومبيدو الذي قام هيكله هو الآخر من قبل على متحف ومكتبة ونشاطات ثقافية مختلفة. ومن هنا هيكلية المعهد التي قررت. الفرق قائم في الاختصاص لا في الهيكلية.

ومن أجل معرفة الجمهور وبناء مشروعات النشاطات الثقافية وتحديد الأولويات، فقد بدأ العمل علمياً ومنهجياً في آن واحد. إذ طلبت إدارة المعهد في عام 1984إلى مؤسسة صوفريس أن تقوم بإجراء تحقيق حول رؤية الفرنسيين للعرب في فرنسا، ومدى معرفتهم بالثقافة العربية، ومختلف المواقف التي يتخذونها من ماضي علاقات بلدهم مع العالم العربي ومن حاضرها في الوقت نفسه.

كانت نتيجة الاستفتاء مذهلة فعلاً: جهل يكاد يكون مطبقاً لدى الفرنسي العادي بالعرب، وبالعالم العربي، فضلاً عن الثقافة العربية وحضارتها. آثار الماضي الاستعماري لا تزال ماثلة في تفكير وفي نظرة الفرنسيين، والفرق الكبير بين النخبة الفرنسية التي تنحصر في الجامعيين وعدد قليل من السياسيين ومن الصحافيين من جهة والجمهور الواسع من جهة أخرى. وفضلاً عن الجهل هناك العداء. والإنسان عدوّ ما يجهله.

منذ البداية وضحت صعوبة المهمة: عمل دؤوب في المجالات كلها على المدى القريب والمتوسط والبعيد. عمل تربوي أولاً وأساساً: كان أول معرض تم إنجازه ليقدم في مختلف الأمكنة (مدارس وكليات ودور كتب .. إلخ) يحمل عنوان: أنت تتكلم العربية من دون أن تعرف! وقدم مجموعة من الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي الموجودة في قواميس اللغة الفرنسية على اختلافها. وكان أول محاولة للتعريف بالعالم العربي وضع خريطة العالم العربي وأسماء الدول العربية وعواصمها على خريطة وضعت في مدخل مبنى المعهد الذي افتتح أبوابه في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 بحضور ممثلي الدول الأعضاء المؤسسة للمعهد وعدد غفير من كبار مثقفي العالم العربي ومبدعيه إلى جانب المثقفين الفرنسيين.

كان البرنامج الثقافي الذي تم إعداده لافتتاح المعهد يقدّم صورة النشاط الذي كان المعهد ينوي آنئذ القيام به والذي قام على معرضيْن، خصص أحدهما للمخطوطات النادرة للقرآن في المكتبة الوطنية الفرنسية، وثانيهما لجولة في مدينة عربية: صنعاء. الماضي والحاضر في آن واحد. لكن الموسيقى كانت أيضاً حاضرة وكذلك الفن التشكيلي والعروض السينمائية والندوات الكبرى ولا سيما ندوة جمعت لأول مرة أربعين روائياً عربياً وفرنسيا خلال ثلاثة أيام تساجلوا خلالها حول الرواية بوصفهم حرفيين وكتاباً، وندوة أخرى تم تنظيمها بالتعاون مع جامعة هارفارد ومؤسسة آغا خان للفن الإسلامي حول إعادة تطوير المدن الكبرى في العالم، وكان نصيب العالم العربي دراسة ثلاث مدن من إحدى عشر مدينة كانت موضوع هذه الندوة.



البحث عن الجمهور الواسع وتشجيع الحوار 1988ـ 1995


كان مبنى المعهد الذي افتتح في نهاية تشرين الثاني 1987 والذي كان بالفعل تحفة معمارية حديثة محط أنظار الجمهور الكبير والواسع: فموقعه في قلب باريس التاريخي والثقافي والفني والجامعي، وحداثة وأصالة تصميمه الذي استوحى العمارة العربية مع إدراجها ضمن إطار التقنية الحديثة ودمجها ضمن المجموع العمراني على ضفاف السين أدى إلى أن يجذب الأنظار قبل أن يجذبها ما كان يجري فيه. لكنه كان أيضاً وسيلة لدعوة هذا الجمهور إلى اكتشاف ما كان يقدم ضمن المبنى من برامج ثقافية فضلاً عن متحف الحضارة العربية والإسلامية الذي ضم تحفاً نادرة تنتمي إلى جميع عصور الحضارة العربية والإسلامية وافقت المتاحف الفرنسية على إيداعها مؤقتاً، وكذلك المكتبة الكبرى التي بدأ جمهور واسع من الباحثين والجامعيين والطلبة يرتادها.

وعلى أن المعهد عانى خلال السنة الأولى من ممارسة نشاطاته في مقره الجديد الدائم من مشكلة تمويله التي كانت كما سبقت الإشارة غامضة في نظامه الأساسي، فقد تابع نشاطاته المقررة قبل أن تستفحل المشكلة على نحو كان لابد من معالجتها بصورة حاسمة. لقد سادت خلال هذه الفترة فكرة أن الجانب الفرنسي بدفعه حصته في التمويل كاملة إنما يغطي النفقات الأساسية للمعهد من رواتب موظفين ومصاريف صيانة وتسيير للمبنى، ومن ثم فلابدّ لكي يتمكن المعهد من أداء رسالته من التمويل العربي الذي سيغطي النشاطات الثقافية. لهذا فقد اقتصر تمويل النشاط الثقافي خلال السنة الأولى وجزءاً كبيراً من السنة الثانية على ما كانت بعض الدول العربية تقوم بتسديده مما لم يكن بالفعل يكفي لتغطية تمويل نشاط ثقافي طموح وجدير بمنافسة نشاطات المؤسسات الثقافية الأخرى الباريسية.

ذلك أدى إلى أن يطرح الرئيس الجديد الذي وصل إلى المعهد في نهاية عام 1988 الفكرة نفسها معكوسة تماماً: فبدلاً من انتظار التمويل للقيام بالنشاط الثقافي، لنحقق هذا الأخير لأنه هو الذي سيأتي بالتمويل.

كان ذلك يتطلب على الفور إعادة هيكلة المعهد بصورة وظيفية: فالدوائر والأقسام سوف يعاد تكوينها على أساس الوظيفة التي تقوم بها، والوظائف، على صعيد النشاط الثقافي، تدور من حول الكلمة (ندوات، موائد مستديرة، محاضرات جامعية، إلخ) ـ الصوت (موسيقى ومسرح ) ـ  الصورة (معارض تصوير فوتوغرافي، فنون تشكيلية، إلخ) ـ التحفة (معارض تاريخية وتراثية تتناول أوجه الحضارات القديمة العربية منها والإسلامية).

  أعيدت إذن هيكلة المعهد من أجل تحقيق حركية جديدة تتمكن من جذب أكبر عدد من الزوار لزيارته من خلال عدد من النشاطات الثقافية السنوية الدورية:


أ‌)       المعرض السنوي الكبير والنشاطات الثقافية المتنوعة من حوله، يتناول تاريخ الحضارات العربية والإسلامية القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر ؛ وقد أنيط بقسم جديد مهام إنجاز هذه المهمة هو إدارة النشاطات الكبرى.؛

ب‌)  تأسيس مركز لتعليم اللغة والحضارة العربيتيْن؛ وألفت إدارة لتقوم بشؤونه؛

ت‌)  برمجة موسمية لتقديم الموسيقى العربية بكل تنوعاتها، وقد أنيط بوحدة النشاط الموسيقي القيام بإنجاز هذا النشاط؛

ث‌)  النشاطات الموسمية : معرض الكتاب العربي الأوربي ؛ مهرجان السينما العربية ؛ مهرجان الشعر العربي.

ج‌)    النشاطات الأسبوعية: كرسي معهد العالم العربي؛ خميس معهد العالم العربي يتناول مختلف القضايا السياسية والفكرية والثقافية الراهنة ؛ الندوات الكبرى.

ح‌)   وضع أسس الموارد الخاصة: تأسيس مكتبة المعهد التجارية.


تحول المعهد بين ليلة وضحاها إلى خلية فاعلة لا تهدأ على مدار الأسابيع والأشهر والفصول. فعلى صعيد الموائد المستديرة كانت قاعات المعهد تزدحم بالمستمعين إلى كبار المثقفين من عرب وفرنسيين يتناقشون حول قضايا الساعة الراهنة في العالم العربي. ثم كان النجاح الجماهيري الخارق لأول معرض كبير تم تنظيمه في عام 1989 وامتد تقديمه حتى بداية 1990(أربعمائة ألف زائر) دافعاً لاعتبار هذه التجربة قابلة للإعادة وللاستعادة! لكن الأحداث التي عاشها العالم العربي ومعه أوربا والعالم إثر غزو الكويت واحتلالها كادت فعلاً أن تطيح بمعهد العالم العربي وبمشاريعه جميعاً. فقد توقف مشروع معرض كبير مماثل كان مخططا تقديمه عن تراث المغرب الأقصى تحت عنوان ملوك وفلاسفة وحرفيون، مثلما توقفت نشاطات المعهد الأخرى في المجالات كلها لاسيما وأن الأمن كان هاجسه يومياً كصدى لما كان يعيشه العالم العربي طوال النصف الأول من عام 1991 بوجه خاص. على أن المعهد استعاد شيئاً فشيئاً عافيته وانطلق ينجز نشاطات كبيرة وفاعلة وفي كل المجالات مخترقاً الحدود الجغرافية ما دام ما يقدمه يمت إلى ما أبدعته الحضارة العربية والإسلامية في فضائها الواسع. كانت الاستعادة في عام 1992 مع معرض أرض سمرقند السرية، الذي تم تقديمه في ثلاث مدن فرنسية بعد باريس، ثم المعرض الكبير عن سورية ذاكرة وحضارة الذي حظي هو الآخر بنيف وأربعمائة ألف زائر. لكن الأهم أن نشاطات المعهد الأخرى اجتذبت الجمهور الواسع المتنوع فعلاً حتى بلغ عدد رواد المعهد سنوياً مليون زائر، أي أنه على صغر مساحته ومحدودية ميزانيته بالمقارنة مع المؤسسات الثقافية المشابهة استطاع أن يقف معها جنباً إلى جنب فخوراً بما كان يحققه فريق يضم معظم الجنسيات العربية فضلاً عن الفرنسيين بالطبع يعملون يداً واحدة لإنجاز برامج غنية، متنوعة، وعالية التقنية.

ولقد أثبتت بداية التسعينيات سلامة هذه الرؤية للنشاط الثقافي الذي كان خلاله يكاد يمول نفسه بنفسه بفعل الواردات التي يحققها بفضل عدد الزوار وعدد الكتب المبيعة والقاعات المؤجرة ، إلخ. لكن إدارة المعهد كانت تسهر على تحقيق هذا التوازن ما بين الصرف والإنفاق من جهة والواردات الخاصة والعامة من جهة أخرى، فلم يتعرض المعهد إلى أزمات مالية خطير كالتي سيواجهها في مرحلته الثالثة التي سنتكلم عنها.



الاستمرارية وتطور الأزمة وخطر العجز المالي 1995ـ 2006:


استمرت هيكلية المعهد ونشاطاته على النحو المفصل من قبل على حالها وإن اقترن ذلك بضرب من الفوضى إن لم يكن بغياب التخطيط الزماني والنوعي ولا سيما في مجال المعارض. أنجزت خلال هذه الفترة معارض أساسية ذات دلالات كبرى أثارت فضول وإعجاب الجمهور الفرنسي ولا سيما منها على سبيل المثال لا الحصر بالطبع معرض الطب في عصر الخلفاء ومعرض العلوم العربية في عصرها الذهبي أو فينيسيا والشرق..واستمر الجمهور يقبل على نشاطات المعهد في تنوعاتها وغناها: كان رقم مليون زائر كل عام يصيب العاملين في المعهد بالنشوة وبالفخر. لكن ذلك كان في الوقت نفسه يخفي أزمة خطيرة كانت تتراكم على مدار الفصول والسنوات. فقد غاب التقييم للنشاطات الثقافية الكبرى ولا سيما المعارض ذات الكلفة العالية. وكانت خسارة المعرض التي تقارب في ذلك الحين ما يعادل ثلاثمائة ألف من الدولارات تعتبر قابلة للتدوير في ميزانية المعهد! عشر سنوات من نشاطات كثيفة ومحمومة، ومليون زائر سنوياً، ومع ذلك كانت الأزمة ترسخ جذورها شيئاً فشيئاً إلى أن تم الكشف عنها بوضوح لا لبس فيه بعد أن عجز المعهد عن دفع مستحقاته: عجز في السيولة يقارب ستة عشر مليوناً من اليورو أي ما يعادل في عام 2006 اثنين وعشرين مليوناً من الدولارات!


التقويم والتصحيح : 2006 ـ 2012


كان لابدّ فعلاً من عملية جراحية تطال المستويات كلها: ترشيد الصرف، تخفيض عدد الموظفين، إعادة النظر ببرمجة النشاطات الثقافية، صرف النظر عن بعض هذه النشاطات ذات المردود الضعيف على صعيد الجمهور والواردات، وبإيجاز: إعادة تنظيم الإدارة المالية والعامة بصورة جذرية.

عاش المعهد خلال سنتين (2005 ـ 2007) على إيقاع التقويم والترشيد والتصحيح وإعادة النظر بالمشروعات الثقافية التي ألغي منها ما ألغي وأبقي على الأساسي الذي لا غنى عنه لتواجد المعهد على الساحة الثقافية الباريسية. بدت نشاطات المعهد هزيلة بعد السنوات التي كان الجمهور يعيش كثافتها. لكن ذلك كان هو الثمن الذي لابدّ منه للحفاظ على المعهد في تكوينه ومن أجل أداء الرسالة المناطة به. على أن هذا الترشيد سمح لفرنسا كدولة مؤسسة أن تعيد النظر في إسهامها المالي بصورة مشروطة: أي مقابل عقد توقعه إدارة المعهد وتلتزم بتنفيذه لمتابعة سياسة الإدارة الصارمة في الإنفاق والبرمجة والتوظيف. وهو ما ساعد المعهد على أن يخرج شيئاً فشيئاً إلى السطح لاسيما وأنه أطلق مشروع جذب الشركات والمؤسسات الكبرى لدعم نشاطات المعهد ولا سيما منها تلك التي فرضها مرور أكثر من عشرين عاماً على افتتاح المعهد، أعني المتحف والمكتبة.

هكذا وبدعم سعودي وفرنسي وخصوصاً كويتي ، أطلق المعهد مشروع إعادة تأهيل متحفه وتصميمه على أسس جديدة تميزه عن المتاحف الأخرى على الساحة الباريسية. كانت دولة الكويت سباقة فعلاً في هذا المجال، إذ ما لبثت أن تبرعت للمعهد بمبلغ ضخم (ثلاثة ملايين يورو) أضيف إلى هبتها الأولى التي خصصت لتأهيل المتحف (مليون يورو)، مما سمح بإتمام مشروع المتحف الجديد الذي افتتح للجمهور في العشرين من شهر شباط/فبراير 2012، من ناحية، وتخصيص مليوني يورو للبدء بمشروع إعادة تأهيل المكتبة وعصرنتها لتتلاءم مع المكتبات الجديدة في استخدامها البرامج الرقمية والمعلوماتية في بث الوثائق والمعارف، أي مكتبة معاصرة تعتمد على أحدث وسائل الاتصال السمعي والبصري والرقمي. واقترن هذان المشروعان الكبيران والأساسيان بمشروع آخر يقوم على الخروج بما ينجزه المعهد من نشاطات ثقافية إلى خارج جدرانه لتقديم نشاطاته على اختلافها في المحافظات الفرنسية وفي البلدان العربية. كان ذلك يعني بالطبع التوجه إلى جمهور أوسع وأشد تنوعاً. فقد تم خلال هذه الفترة تقديم معرض العلوم العربية في عصرها الذهبي في مدينة تولوز وفي مدينة مرسيليا، كما تم تقديم معرض الفراعنة في مدينة فالانسيين بشمال فرنسا بعد أن زاره في المعهد سبعمائة ألف زائر! وهو ما دفع بمجلس منطقة شمال فرنسا في مرحلة أولى إلى أن يطلب من المعهد تصميم وتقديم معرض بونابرت ومصر في مدينة آراس. أهمية ذلك أن المعهد ضاعف من عدد الزوار لهذا المعرض أساساً، لكن الأهم هو ما كان المعهد يحاول نقله من رسائل للجمهور الواسع عبر مثل هذا المعرض. ذلك أن معرض بونابرت ومصر جاء على إثر الاحتفال من قبل فرنسا بحملة نابليون التي قدمت للمصريين وللفرنسيين على أنهما إرسالية علمية محضة سمحت باكتشاف تراث مصر الفرعوني العظيم وحضارتها الفريدة، مسدلة الستار على الجانب الآخر لهذه الإرسالية والذي تجلى في ما نعرفه بالحملة الفرنسية التي كانت حملة استعمارية بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد شارك فريق فرنسي مصري في تحديد مفهوم المعرض مقدماً من خلاله الرؤية الواقعية لهذه الحملة/الإرسالية. ثم جاء الفيلم الذي أنجزناه إلى جانب كتاب المعرض الذي حرره أيضاً فرنسيون ومصريون ليقدم الحملة النابليونية بعيون مصرية.. تلك هي المرة الأولى التي تتاح فيها فرصة تقديم حقبة من تاريخ فرنسا في علاقتها مع العالم العربي من وجهة نظر يشارك فيها الطرفان المعنيان بالأمر وبصورة موضوعية!

إذا ما مُدَّ هذا المثل ليشمل مختلف النشاطات الثقافية الأخرى، نفهم طبيعة الدور الثقافي الذي يقوم به المعهد كل يوم.

لقد ساعدت هذه الأزمة المالية أيضاً على ترشيد طبيعة النشاطات الثقافية الأخرى ولا سيما التربوية منها والموجهة خصوصاً لصغار السن واليافعين. مثل هذه النشاطات فتحت الباب واسعاً لجمهور جديد صار مع الأيام يألف زيارة المعهد والمشاركة في ورشاته الفنية والحرفية التي تنظم على هامش المعارض الكبرى لتعميق معرفة هذه الفئة من الجمهور بمضمونها وبالمعارف التي تنطوي عليها فضلاً عن الرسائل الثقافية والفكرية التي تبث عبرها. يبقى أن كلّ ما يقوم به المعهد لا يزال مجهولاً من قطاعات واسعة من الجمهور العربي في مختلف بقاع العالم العربي. مجهولاً خصوصاً من مراكز القرار التي يمكن لها أن تجعل منه شراكة حقيقية بين مؤسسيْه الفرنسي والعربي.



5


دور المعهد في المستقبل



لكي يستمر المعهد في أداء دوره وزيادة عدد رواده لابدّ له من ضمان استمرار دعمه المالي على نحو يسمح له أسوة بسائر المؤسسات الثقافية المماثلة أن يضع ميزانية دقيقة، عقلانية، وواقعية في بداية كل عام إذا ماتمّ ذلك فعلاً من خلال وعي الطرف العربي لأهمية هذا المعهد (ودولة الكويت خير مثال على ذلك) فمن الممكن التفكير فعلاً بدور جديد ريادي للمعهد يمتد تأثيره إلى سائر الدول الأوربية بل وإلى ما وراءها.


 لكن هذا الدور، لكي يكون فاعلاً، يجب أن يعتمد على إعادة نظر شاملة في المشروعات التي يقوم بها، وبوجه خاص:


أ‌)         ابتكار ثيمات جديدة تعكس الإبداعية العربية في مختلف أطوار الحضارات العربية والإسلامية؛

ب‌)   تناول القضايا المعاصرة في الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي في مختلف البلدان العربية؛

ت‌)   الاعتماد على كتابة النشاطات الثقافية في كل أشكالها كتابة مشتركة: من قبل العرب ومن قبل الفرنسيين والأوربيين لضمان إضاءات متعددة الزوايا للمواضيع المقدّمة..

ث‌)   تطوير المعهد ليكون مرجعاً ثقافياً وفكرياً بل ووثائقياً في كل ما يخص العالم العربي؛

ج‌)     استثمار البعد السياسي الذي يكتنف طبيعة المعهد كمؤسسة على ألا يقتصر هذا الاستثمار على طرف واحد.


يبقى المعهد اليوم معلماً من معالم باريس الثقافية. ويبقى في فرادته وتميزه ثروة هائلة يملك العرب استثمارها إن شاؤوا ثقافياً وفكرياً في قلب أوربا. لكن ذلك لا يمكن أن يتمّ إلا إذا أدرك صانعو القرار أهمية هذا المنبر الهائل على ضفاف السين..





[1]  في عام 2008، تم تعديل النظام الأساسي وأضيف إلى أعضاء المجلس الأعلى فضلاً عم ممثلي فرنسا من ناحية والدول العربية من ناحية أخرى/ ممثلان آخران، أحدهما للاتحاد الأوربي، والثاني لجامعة الدول العربية.
[2]   في عام 2010، عدلت المادة الخاصة باللجان فألغيت الاختصاصات المختلفة لتقتصر على تعبير "اللجان المختصة". أما اللجنة الإدارية والقانونية فأبقيت على حالها. 

 
ألقيت هذه المُداخلة في الندوة التي نظمتها مجلة العربي بمدينة الكويت خلال شهر آذار/مارس 2012 تحت عنوان: "الثقافة العربية في المهجر"، ثم نشرت في كتاب العربي ، العدد 90، تشرين أول/أكتوبر 2012: