jeudi 3 août 2023

بين الإيديولوجيا والإبداع

 

بين الإيديولوجيا والإبداع

بدرالدين عرودكي

يعود بنا مقال محي الدين صبحي الذي كتبه في مقتبل حياته الأدبية عام 1957، أي في أوج المد القومي العروبي على إثر العدوان الثلاثي وعشية تحقيق الوحدة السورية المصرية، إلى مرحلة شديدة الخصوبة والحيوية عرفها الأدب في سورية سواء على صعيد الإنتاج في مجال الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح والنقد الأدبي، أو في مجال التجمعات الأدبية من خلال رابطة الكتاب السوريين التي صارت عام 1953 رابطة الكتاب العرب، التي كانت تمثل التيار اليساري الذي كان يستقي مثله الأدبية من المبدعات الروسية والسوفييتية خصوصًا، ويعلن في منتجات كتابه عن أولوية الاجتماعي التي كانت محاولات تجسيدها  فنيًا تتمثل خصوصًا في شعر وقصص شوقي بغدادي ضمن مجموعته "حينا يبصق دمًا" (1956)، وقصص سعيد حورانية ولاسيما "وفي الناس المسرة" و"شتاء قاس آخر"، والروايات الأولى لحنا مينة ولاسيما "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة"، ثم جمعية الأدباء العرب التي تأسست عام  1957 وضمّت كتاب التيار القومي بالمعنى الواسع للكلمة. وقد رافقت تأسيس هاتيْن الجمعيتيْن على غير ميعاد صدور مجلتيْن في بيروت، الأولى، "الثقافة الوطنية"، التي كانت تعبر عن التيار الذي سوف تمثله رابطة الكتاب السوريين ثم العرب التي تزامن تأسيسها مع صدور المجلة أسبوعية ثم شهرية، والثانية، مجلة "الآداب" التي كانت عبَّرت منذ انطلاقها في كانون الثاني/يناير 1953 عن التيار العروبي الذي حملت جمعية الأدباء العرب بدمشق رايته، مثلما عبّرت عن تبنيها الأدب الملتزم حسب المفهوم السارتري ومقولة الحرية الفردية المسؤولة التي أعلن عنها مؤسسها في أول أعدادها.  

من الواضح أن المقال الذي كتبه شوقي بغدادي حول عدد من الكتاب الذين كانوا يهددون في نظره القيمَ السامية بفعل رواج كتبهم جماهيريًا، وبسبب ابتعاد أدبهم عن الارتفاع إلى "مستوى الأحداث" وعن أن يعكس "حياة الناس الشرفاء" ومقال محي الدين صبحي الذي كان ردًّا عليه، يقدمان، على سطحيتهما وسذاجة التعليل والتحليل فيهما نموذجًا بليغًا عن الكتابات "النقدية" التي ستدور دومًا، ولكن خلال فترة زمنية لم تتجاوز عقد الستينيات، حول الثيمتيْن: الالتزام حسب المفهوم السارتري، أي الكتابة الإبداعية في إطار الحرية الفردية المسؤولة، والإلتزام بمعنى الإلزام كما يفهمه أنصار ما عرف في تلك الحقبة باسم "الواقعية الاشتراكية".

ذلك أن من كانوا يعتبرون في تلك الحقبة من كتاب "الواقعية الاشتراكية"، وفي مقدمتهم حنا مينة وسعيد حورانية وشوقي بغدادي خصوصًا، سيتخلون بصورة أو بأخرى في قصصهم ورواياتهم أو في شعرهم، عمليًا، عن هذا الإلزام الذي يكاد يكون حزبيًا. إذ أن حنا مينة الذي أساء التزامه الحزبي إلى "الطروسي"، بطل روايته "الشراع والعاصفة" ــ وهي في الواقع قفزة فنية شديدة الأهمية في الكتابة الروائية في سورية ــ الذي حمله، بعد أن جعل منه وفق منطق الرواية وأحداثها كلها مصدر القيم، على أن يخضع إراديًا لقيم شخصية أخرى، طارئة، صُنِعَت من عجينة مختلفة، ورُسِمَت ملامحها على نحو جعل منها نقيض شخصية الطروسي أساسًا، على الرغم من أن امتيازها الوحيد انتماؤها صراحة للحزب، هذا على الرغم أيضًا من أن ظاهر الأمور أو دفق الرواية، كان يفيد العكس كليًّا.  لكنه، بدءًا من "الياطر"، سيستسلم إلى ما تمليه عليه بنية الرواية التي يكتبها دون  الالتفات إلى ما يمكن أن تفرضه ضرورات "حزبية أو أيديولوجية أخرى. هذا في حين أن الطريق الذي سلكه سعيد حورانية كان عكس طريق حنا مينة كما يشير محي الدين صبحي نفسه في مقاله. أما شوقي بغدادي فسوف يتخلى عن التغني بالمعامل والمداخن و"التراكتور" كي يكتب شعرًا يليق بموهبته أكثر مما يستجيب لضرورات الانتماء الحزبي.

هذا بخلاف كتّاب التيار الآخر، شعراء وقصاصين وروائيين ومسرحيين، وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية أو نزعاتهم الفكرية، الذين واصلوا الاستجابة لقريحتهم في الإبداع دون أي اهتمام بأية قاعدة خارج إطار الفن الذي يعبرون بوسائله عما يريدون قوله. لم يعبأ نزار قباني على إخلاصه لعالمه الشعري الواسع والثري إلا بضرورات الشعر وحده، وصار مدرسة. شأنه في ذلك شأن زكريا تامر في القصة القصيرة أو عبد السلام العجيلي في القصة القصيرة والرواية، أو محمد الماغوط في الشعر، دون الحديث عن الجيل التالي بدءًا بالروائي والقاص هاني الراهب والشاعر ممدوح عدوان والشاعر حسان عزت، وليس انتهاء بالروائي فواز حداد وخالد خليفة.

ذلك يعني أنه لم يكن لمعارك الأيديولوجيا المشار إليها في الواقع كبير تأثير لا على تطور الأدب السوري في مختلف المجالات، ولا على جعل هذا الأدب ضحية لها، لسبب رئيس تاريخيًا كان يمكن لها لولاه أن تلعب أحد هذين الدوريْن، يتمثل، اعتبارًا من نهاية ستينيات القرن الماضي، في ضبط فضاء الحرية بصورة حاسمة وراء الشعار الذي كان يملأ شوارع المدن السورية: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير". لقد كان جميع المعنيين بهذا الشعار يعلمون تمام العلم موقع وعنوان هذا الضمير.

ومع ذلك...


** نشر هذا المقال في موقع "العربي القديم"، العدد 2 الصادر بتاريخ 3 آب/أغسطس 2023.



 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire