lundi 18 septembre 2023

مع ميلان كونديرا

 

مع ميلان كونديرا

سنوات من الثراء المعرفي


حزيران/يونيو 1987. "المزحة" هي التي كانت البداية. لكنها صدفة محضة. والصدف كما نعلم ألوان شتى. إلا أنني لم أنتبه إلى أنني سأكون أسير صدفة ما، ولم أفكر ثانية واحدة إلى أين ستقودني هذه "المزحة" التي كانت يومئذ بالنسبة لي عنوان رواية كتبها كاتب تشيكي اسمه ميلان كونديرا (ولم أكن أعرف حينها أنها أول رواية يكتبها)، وأول رواية أقرؤها له. في أيام معدودات قرأتها، أستكمل كتبه الأخرى: مجموعة قصص والروايات المتاحة بالفرنسية كلها: غراميات مضحكة، الحياة في مكان آخر، فالس الوداعات، كتاب الضحك والنسيان، خفة الكينونة التي لا تطاق، بالإضافة إلى كتاب جديد، غير مترجم إلى الفرنسية هذه المرة، كان قد صدر قبل عام يحمل عنوان فن الرواية، كي أقضي إجازتي الصيفية كلها في قراءة هذه المبدعات التي لم تكن تقتصر على ما كانت تغمرني به خلال أشهر من متعة معرفة واسعة تتجسد أفكارًا أو شخصيات أو أفعال أو ضروب سلوك فحسب، بل تجاوزت ذلك كله حين اكتشفت مع الأيام كيف أنها رسخت لدي مفهومًا عن الرواية لا بوصفها شكلًا من الأشكال الأدبية، بل فنًّا أدبيًا لم يكن معروفًا، بهذا المعنى، في ثقافتنا العربية الحديثة ولا يزال بعيدًا،  كما ألاحظ، عن إدراك الغالبية من قرائها في كل مكان، أعني المفهوم الذي كان ميلان كونديرا بعد قراءته رابليه الفرنسي وسرفانتس الإسباني وصولًا إلى كافكا، واعتناقه فنَّ الرواية بوصفها أداة تعبير بامتياز،  يعمل على تعميقه وتجسيده في رواياته المتوالية، بدءًا من المزحة، وانتهاء بروايته الأخيرة عيد اللامعنى، وفي الوقت نفسه على تحديد إطار ضرب من تاريخ للرواية الأوربية، كما يراه، تجلى في ثلاثيته حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، التي صارت رباعية بعد نشر الجزء الأخير تحت عنوان لقاء.

في البدء كانت "المزحة" إذن. لكنها سرعان ما أدت، عبر قراءة روايات كونديرا التي سبق ذكرها إلى تأملاته في فن الرواية نفسه، لنقل فن الرواية الحديثة والأوربية خصوصًا، كما اعتنقها بوصفها فنًا أدبيًا، لا شكلًا أو جنسًا، قائمًا بذاته، فضاؤه الإنسان، والوجود، بلا حدود لهذا ولا لذاك.

حملني إعجابي اللامتناهي بما قرأت من رواياته، بعد أن قرأت روايات ستندال ولا سيما روايته المذهلة الأحمر والأسود، وبلزاك، ودوستويفسكي، وتولستوي، وفوكنر، وبروست، وكافكا، على أن أدرك أنني أمام روائي حيٍّ من عيار هؤلاء جميعًا. لكنني وجدتني أنساق لا إلى ترجمة رواياته التي أخذت خلال تلك السنوات تُنشر بالعربية دون علم مؤلفها، بل إلى ترجمة فصول كتاب فن الرواية السبعة، بادئَا فصله الخامس الذي أثار انتباهي بوجه خاص والذي حمل عنوان في مكان ما هناك. استشهد كونديرا في بداية مقاله بمقطع من قصيدة للشاعر التشيكي جان سكاسيل:

لا يخترع الشعراء القصائد

فالقصيدة موجودة في مكان ما، هناك

منذ زمن طويل جدًّا، هي هناك

ولا يفعل الشاعر سوى أن يكشف عنها.

كما لو أنه يقول بصيغة أخرى، بعد الجاحظ بألف عام، وربما للغاية ذاتها، "الأفكار ملقاة على قارعة الطريق"، كي يشير بقوة إلى أن جوهر الإبداع يكمن في تظهير الفكرة عبر الكتابة، لا كما التقطها، بل للكشف عما تنطوي عليه من مفارقات وتناقضات، أو من تماسك وتناغم. وسيتجلى هذا الجوهر، في مقدمة المقال التي بنى عليها كونديرا مفهومه عن هذا الفن:

"يروي صديقي جوزيف سكفورسكي في واحدٍ من كتبه هذه القصة الحقيقية:

دُعِيَ مهندس براجي للاشتراك في ندوة علمية تعقد في لندن. وقد ذهب وشارك في الجلسات ثمَّ عاد إلى براج. وبعد ساعات من عودته، تناول في مكتبه صحيفة رود برافو ـ وهي صحيفة الحزب الرسمية ـ وقرأ فيها: قرر مهندس تشيكي ـ كان قد نُدِبَ للمشاركة في ندوة لندن ـ بعد أن أطلق تصريحاً أمام الصحافة الغربية شتم فيه وطنه الاشتراكي، أن يبقى في الغرب.

ليست الهجرة غير المشروعة التي يرافقها مثل هذا التصريح أمراً تافهاً. إذ أنها تعني عشرين سنة في السجن. لم يكن بوسع مهندسنا أن يصدق عينيه. وحين دخلت سكرتيرته مكتبه، ذهلت لدى رؤيتها له قائلة: يا إلهي، كيف عدت! غير معقول؛ ألم تقرأ ما كتب عنك؟

رأى المهندس الخوف في عينيْ سكرتيرته. ماذا يسعه أن يفعل؟ هرع إلى إدارة تحرير رود برافو. وهناك عثر على المحرّر المسؤول عن نشر الخبر. وقد اعتذر له هذا الأخير فعلاً، إذ المسألة مزعجة حقاً، لكنه، هو المحرّر، لا دخل له في الموضوع. فقد تلقى نصّ الخبر مباشرة من وزارة الشؤون الداخلية.

ذهب المهندس إلى الوزارة إذن. وهناك قيل له: نعم، صحيح. إنه ولا شك خطأ قد وقع. لكنهم، في الوزارة، لا دخل لهم في الأمر. فقد تلقوا التقرير عن المهندس من إدارة الاستعلامات في السفارة بلندن. طلب المهندس نشر تكذيب للخبر، فقيل له: التكذيب غير ممكن. لكنهم أكدوا له أنه لن يتعرض لشيء، وأنّ بوسعه الاطمئنان.

لكن المهندس لم يطمئن. إذ سرعان ما انتبه، على العكس، إلى أنه يخضع لرقابة صارمة، وإلى أن محادثاته الهاتفية قيد التسجيل، وإلى أنه ملاحق في الشوارع. لم يعد يسعه النوم، ثم صار نومه حافلاً بالكوابيس إلى أن جاء يوم لم يعد يحتمل فيه هذا الضغط؛ فغامر، معرضاً نفسه لأشدِّ المخاطر، كي ما يترك البلد بطريقة غير مشروعة. لقد صار بذلك مهاجراً فعلاً."

يعلق كونديرا: "هذه القصة التي سردتها واحدة من القصص التي ستوصف من دون تردد باعتبارها قصة كافكاوية. وتبدو هذه الكلمة المستخلصة من مبدع فني، والتي تنطوي على صور استخدمها روائي فقط، كما لو أنها القاسم المشترك الأعظم لأوضاع (أدبية وحقيقية معاً) لا تسمح أية كلمة أخرى بإدراكها ولا تقدم علوم السياسة أو الاجتماع أو النفس مفتاحاً لفهمها."

هذا الربط بين فضاءين مختلفين: قصة حقيقية وقصة تخييلية بانتمائهما إلى "الكافكاوية" كما يشير كونديرا، يشير عمليًا إلى التغيير الجديد الذي أدخله كافكا على مفهوم الرواية: رعب الكوميدي، جوهر السخرية المستعادة من رابليه ومن سرفانتس. في قصة المهندس الذي خسر وطنه، وفي حكاية جوزيف ك. عندما فوجئ برجلين في غرفة نومه يعلنان له أنه موقوف ويأكلان فطوره، فيشرع في الدفاع عن نفسه مطولًا أمامهما وهو في ثياب نومه. حين قرأ كافكا على أصدقائه هذا الفصل الأول في رواية القضية على أصدقائه ضحكوا جميعها ومعهم المؤلف، مثلما ضحك كل من استمع إلى حكاية المهندس ومغادرة بلده. بعبارة أخرى وكما كتب كونديرا نفسه: "ثمة مراحل في التاريخ تشبه فيها الحياة روايات كافكا"!

سوى أن الذين قرأوا روايات كافكا مترجمة إلى لغات أخرى ولاسيما الفرنسية التي قرأ بواسطتها أوائل الكتاب العرب روايات كافكا وكتبوا عنه، مثل طه حسين، لم يضحكوا كما ضحك أو لم يلمسوا السخرية المرعبة كما لمسها من قرأها بلغتها الأصلية، سواء من أصدقاء كافكا أو من قرائه التشيكيين الناطقين على غراره باللغة الألمانية التي كتبت بها.

لم يكن كونديرا قد اطلع على رواياته التي ترجمت إلى الفرنسية قبل هجرته إلى فرنسا واستقراره فيها عام 1975. لكنه خلال السنوات العشر التي قضاها في فرنسا، اكتشف بفعل لقاءاته العديدة مع الصحافيين، سواء في فرنسا أو في سواها من البلدان الأوربية، أمران سوف يكون لهما أثر كبير في حياته، أولهما يتعلق بسلامة ترجمات رواياته، وثانيهما الطريقة التي كان بها من يقوم بإجراء مقابلة معه يترجم أقواله.

فقد نبهته الأسئلة التي كانوا يطرحونها حول رواياته المُترجمة إلى أنها شديدة البعد عما كتبه أو عن عالمه الروائي. وحين قرأ رواياته المترجمة إلى الفرنسية، ثم تلك المترجمة إلى الإنجليزية، وجد فيها العجب العجاب: ففي فرنسا، كما كتب، أعاد المترجم كتابة رواياته مزخرفًا أسلوبه. وفي إنجلترا، حذف الناشر كل المقاطع التأملية واستبعد الفصول الموسيقية وغيَّر نظام الأجزاء وأعاد تأليف الرواية! وفي بلدان أخرى، ترجمت كتبه التي كتبها باللغة التشيكية عن الفرنسية. وحين كانت كتبه تترجم عن اللغة التشيكية في بلد آخر، يكتشف أن الجمل الطويلة في رواية المزحة مثلًا قسمت إلى جمل بسيطة وقصيرة. كانت الصدمة التي سببتها ترجمات رواية المزحة مثلًا قد تركت في نفسه أثرًا لا يمّحي لاسيما وأنه التراجم كانت تمثل له، منذ أن حيل بين جمهوره التشيكي وأن يقرأه، كل شيء. وهو ما دفعه إلى إعادة النظر في الطبعات الأجنبية لكتبه القديمة والجديدة باللغات الأربع التي يعرف القراءة فيها حقبة كاملة من حياته.

كان هذا القلق من تشويه مُبدعاته حين تترجم إلى اللغات الأخرى وراء حرصه الشديد، كلما طلب إليه الحصول على حقوق ترجمة كتبه إلى لغة أجنبية ما، على أن يتعرف على المترجم. كانت زوجته فيرا هي التي تدير شؤون حقوقه الأدبية مع ناشريه في العالم أجمع قبل أن تعهد بها إلى وكالة إنجليزية مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي. هكذا، عندما تلقت فيرا لأول مرة من ناشر عربي، هو الصديق كميل حب الله، مؤسس ومدير دار إفريقيا الشرق في الدار البيضاء بالمغرب، رسالة يطلب فيها الحصول على حقوق نشر الترجمة العربية لكتاب فن الرية، تلقى طلبًا من كونديرا يتناول كل ما يتعلق بالمترجم. فكان جوابه أن المترجم يعيش في باريس وأن من الممكن لقاءه والتعرف عليه، مضيفًا أنه سيطلب إليه الاتصال به للتعارف. وهو ما سارعت إلى القيام به: دعوت ميلان كونديرا وزوجته فيرا إلى الغذاء.

كنت قد عزمت، منذ لقائي بمبدع كونديرا كما أشرت، على ترجمة هذا الكتاب النادر الذي يضم تأملات روائي في الفن الذي اعتنقه وسيلة للتعبير عما يريد أن يقول، عن رؤيته للعالم، ويكتب في الوقت نفسه مسار/تاريخ هذا الفن القائم بذاته، فن الرواية، عبر الروايات الجديرة بتمثيله وقوامها الجوهري، السخرية، بوصفه فنًا أوربيًا خالصًا. وقد قمت بالفعل بترجمة ستة من فصوله حين وجدتني أصطدم بمصاعب ترجمة الفصل السادس منه والذي كانت كتابته نتيجة إعادة كونديرا النظر في ترجمات رواياته واعتماد طبعتها الجديدة صيغة نهائية بالفرنسية لرواياته. كان كونديرا يرى نفسه خلال هذه المغامرة في السهر على ترجمات رواياته كمن "يركض وراء عدد من الكلمات لا يحصى كالراعي وراء قطيع من الغنم المتوحشة، إنسان حزين في نظره، مضحك في نظر الآخرين". اقترح عليه بيير نورا، مدير تحرير مجلة لوديبا، وقد لاحظ آثار معاناته تلك، أن يكتب قاموسه الشخصي، قاموس رواياته، كلماته الجوهرية، كلماته الإشكالية، كلماته المفضلة، كي ينشرها في مجلته، لو ديبا (Le Débat). فاعتمده كونديرا في كتابه هذا فصلًا حمل عنوانًا حسب عدد هذه الكلمات التي يحتويها، والذي تغير من طبعة إلى أخرى من "تسعة وثمانون كلمة" عندما نشر في المجلة لأول مرة، إلى "واحد وسبعون كلمة" ثمَّ إلى "ثلاث وسبعون كلمة" ثم إلى "سبع وسبعون كلمة" وانتهاء بـ"تسعة وستون كلمة" حسب الطبعة النهائية لمؤلفاته الكاملة التي أشرفَ عليها شخصيًا.

كنت أتلمّسُ عبر هذه الكلمات الجوهرية، الإشكالية، المفضلة لدى كونديرا لا عالمه الروائي فحسب، بل أجرؤ على القول، عالمه الشخصي، شعورًا وإحساسًا وقيمًا، وبإيجاز رؤيته للعالم التي أعادتني ثانية إلى مبدعاته الروائية كلها في رحلة لا تكاد تنتهي؛ لكن هذه الكلمات، وقد حاولت مقاربتها بهدف وضعها تحت تصرف القارئ العربي، طرحتْ عليَّ مشكلة شديدة الحساسية عند محاولة ترجمتها نظرًا لاستحالة العثور على نظير عربي وليد قواعد الاشتقاق لكل كلمة من الكلمات الفرنسية وليدة التركيب، والتي تتألف في غالب الأحيان من عناصر ذات مصادر مختلفة تعكس تاريخها وتركيبها أو توحي رنات مقاطعها الصوتية بمعان مختلفة تضفي على معناها العام ما لا يمكن لأي لغة أخرى أن تعكسه أو أن تقوله. أحد الأمثلة البليغة على ذلك، الكلمة الفرنسية (ensevelir) التي تترجم عادة بالكلمة العربية "كفّن". يكتب كونديرا حول هذه الكلمة:

"لا يكمن جمال كلمة ما في انسجام مقاطعها الصوتي، بل في تداعيات المعاني التي يوقظها رنينها. وكما نرافق النوته التي تُعزف على البيانو بأصوات توافقية وإن كنا لا ننتبه إليها لكنها ترنّ فيها، كذلك فإن كل كلمة محاطة بموكب غير مرئي من كلمات أخرى لا تكاد ترى لكنها ترنُّ معها. فلأضرب مثلاً على ذلك. يبدو لي دوماً أن كلمةensevelir  تنزع بصورة رحمانية عن أكثر الأفعال إثارة للرعب جانبه المادي المرعب. ذلك أن جذر الفعل (sevel) لا يستثير فيّ شيئاً، في حين أن رنين الكلمة يحملني على الحلم: نسغ (sève) ـ حرير (soie) ـ حواء (Eve) ـ إيفلين (Eveline) ـ مخمل (velour)؛ حجب بالحرير وبالمخمل. (ويُشار إليّ: ذلك إدراك غير فرنسي بصورة كلية لكلمة فرنسية. نعم. لقد كنت أتوقع ذلك.)

كلمة أخرى، لا تقل صعوبة عن الكلمة السابقة أو عن سواها في هذا الفصل، هي كلمة: (Sempiternel) التي وضعت مقابلها العربي كلمة: سرمدي. يكتب كونديرا حولها: "ليست هناك أيّ لغة تعرف كلمة كهذه الكلمة، على هذا القدر من الطلاقة بالنسبة للأبدية. الروابط في العلاقات الرنينية: أشفقs’apitoyer  ـ مهرّجpitre  ـ يرثى لهpiteux  ـ كامدterne  ـ أبديéternel ؛ "المهرّج الذي يشفق على أبديّ  كامد على هذا النحو" (le pitre s’apitoyant sur le si terne éternel.)

تساءلت يومئذ: هل يمكن لكلمة "كَفَّنَ" أو لكلمة "سرمدي" ان تترجم فضلًا على معنى الكلمة الفرنسية التي وضعتها مقابلًا لها ما تنطوي عليه من إيقاعات؟ كان الحلُّ الوحيد الممكن في نظري أن أضع الكلمة الفرنسية المترجمة جنبًا إلى جنب الكلمة العربية المختارة، وأن أحيل القارئ كلما دعت الضرورة إلى هامش أشرح فيه ما أراه ضروريًا عند الحاجة. وهو ما حملني أخيرًا، وبعد ما يقارب نيف وعقد من السنوات، على أن أعقد العزم على نشر الكتاب كاملًا.

بعد طبعة دمشقية لدى دار الأهالي بفضل مؤسسها ومديرها الصديق المرحوم حسين العودات التي صدرت مشوهة بعد أن قام الرقيب بحذف مقطع من الفصل السابع يحمل عنوان: خطاب القدس: الرواية وأوربا، حاولت بفضل صداقتي مع مدير منشورات أفريقيا الشرق، بالدار البيضاء، كميل حب الله، نشر ترجمتي ثانية دون تشويه.

وقد رحب كميل بنشر الكتاب وسارع إلى الحصول على حقوق نشره بالعربية من الناشر الفرنسي، دار غاليمار، التي أحالته إلى زوجة كونديرا التي كانت مديرة أعماله وتدير بالتالي شؤون حقوقه الخاصة بالترجمة إلى اللغات الأجنبية. عندما علم كونديرا برغبة ناشر عربي في نشر الترجمة العربية لكتاب فن الرواية، سأله عن المترجم، فأجابه أنه يقيم بباريس وأن بوسعه لقاءه إن أراد.

عندما أعلمني كميل بذلك ناقلًا إليَّ رقم هاتف ميلان كونديرا، قمت على الفور بالاتصال به ورجوته أن يقبل مع زوجته دعوتي لهما إلى تناول الغذاء في مطعم معهد العالم العربي المطل على باريس وكاتدرائية نوتر دام.

كان هذا هو لقائي الأول مع الروائي بعد نيف وأربع عشر عامًا مضت على لقائي مع رواياته والذي صار صحبة شبه يومية معها منذ قراءة "المزحة". منذ لحظة وصولهما لاحظت حذره الشديد في نظراته وفي ملامح وجهه. في حين كنت من ناحيتي أحاول، عبثًا بطبيعة الحال، أن أتناسى كل ما قرأت حول شخصه أو طباعه بقلمه أو بقلم الآخرين الذين التقوا به. لكن الترحيب به وبزوجته أنساني الأمرين معًا ولاسيما وأنه كان عليَّ شرح قائمة الطعام والشراب الذي كان من الواضح أنه لم يسبق له أن تذوقه. حين وصل الطعام، أخرجت فيرا من محفظتها بندولًا فضيّ اللون مربوطًا بخيط وجعلته ينوس فوق صحنها ثم فوق صحن ميلان حتى سكنت حركته. ويبدو أن سكون حركته قد منحها أو منحهما الطمأنينة إلى طبيعة الطعام الذي سيتناولانه للمرة الأولى! أبادر كونديرا بالحديث عن تجربة ترجمتي لكتابه الذي أراد قبل موافقته على منح حقوق ترجمته للناشر أن يعرف المترجم. قصصت عليه ما كنت أراه من صعوبة في اختيار المقابل العربي للكثير من مفرداته، ولاسيما تلك التي كان يعتبرها كلماته المفتاحية أو الجوهرية لإدراك عالمه الروائي، والتي كانت في الفصل الذي خصصه لها المعضلة التي لابد من حلها بصورة أو بأخرى كي أدفع بالكتاب إلى الناشر، والتي استقرت أخيرًا على الحلِّ الذي سبقت الإشارة إليه هنا.

بدا لي أن الحلّ الذي توصلت إليه قد راقه إذ سرعان ما أعلن قبوله وضع الهوامش الضرورية التي تفرضها بعض المفردات في ترجمتي، بل وترك لي حرية حذف المقاطع الموسيقية أو حول الموسيقى التي سرعان ما عبرت عن رفضي شخصيًا لأي حذف من الكتاب أيًا كانت طبيعته، لاسيما وأن الموسيقى، فضلًا على ذلك، عنصر أساس في رواياته كلها، سواء على صعيد البناء الروائي، أو على صعيد الأسلوب، هو الذي بدأ حياته موسيقيًا وملحّنًا قبل أن يعتنق الرواية أداة وحيد للتعبير. لاحظت ارتياحه وموافقته على نشر الترجمة العربية

صدر كتاب فن الرواية عن دار أفريقيا الشرق في عام 2001 مع غلاف كان الناشر قد أرسله إلى كونديرا قبل الطبع ونال إعجابه. وكان صدوره المناسبة التي أتاحت لي لقاء كونديرا وزوجته حين دعاني إلى بيتهما أولًا لتناول الغذاء في مطعم يقع على مسافة خطوات من مكان سكنهما: مطعم لو ريكامييه. كان اللقاء يومها حارًا ومرحًا، أفاضت علي فيرا روحها المرحة محاولة صرفي عن الرصانة المبالغ فيها كما يبدو وهي تناديني: سيدي المدير! أدركت ــ  لحسن الحظ ــ غرضها فتخليت عن رصانة كنت أظن أنها ضرورية في حضرة أحد كبار الروائيين في القرن العشرين.

كان يومها منطلق مشروعي لترجمة الكتاب الثاني حول الرواية: الوصايا المغدورة، الذي صدر بالعربية من دون ترخيص رسمي مترجمًا عن الإنجليزية (مع أنه كتب بالفرنسية) تحت عنوان "خيانة الوصايا" (كذا). حين أعلنت لكونديرا خلال غذائنا هذا عن رغبتي في ترجمة هذا الجزء، عبر عن سعادته وأعلمني أنه ينوي نشر جزء ثالث كان قد بدأ بإعداده منذ نشره الجزء الثاني في عام 1993. كنا يومئذ في نهاية عام 2001. كان عليَّ إذن أن أنتظر صدور هذا الجزء في عام 2005 حتى أستكمل ترجمة الكتاب الثالث. سارعت إلى الانكباب على ترجمته وأعلمت كونديرا أنني سأرسل ترجمتي لكتاب الوصايا المغدورة كي ينشر بينما أقوم بترجمة الجزء الثالث. حين علم أن النشر سيتم بالقاهرة بالاتفاق مع مدير المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، الصديق جابر عصفور، اقترح علي أن أنشر في هذه الحالة الكتب الثلاثة معًا حول الرواية كما ستفعل خلال عام دار غاليمار بإصدارها معًا ضمن علبة خاصة.

في منتصف عام 2006 أعلمت كونديرا أنني أنهيت الترجمة وأنني أقوم بإعداد النصوص الثلاثة التي ترجمتها لمراجعة شاملة، طالبًا منه موعدًا كي أستعين به على كتابة الأسماء التشيكية كما تلفظ كي لا أكتبها بالعربية كما تلفظ بالفرنسية. رحّب بذلك لكنه أعلمني أنه سيرسل لي كتابيه، فن الرواية والوصايا المغدورة في طبعتهما الأخيرة التي أجرى فيها عددًا من التعديلات في نصوص الكتابين كي آخذ بها. واتفقنا على موعد نلتقي فيها نهارًا في بيته كي نراجع الأسماء التشيكية معًا.

***   ***   ***

يوم الموعد، أصعد إلى بيته. أقضي خمس ساعات بصحبته، متقابليْن. لم نتوقف ثانية واحدة عن الحديث بعد أن أنهينا لفظ الأسماء التشيكية في أقل من ربع ساعة. خمس ساعات بدت لي فضاء زمنيًا كنت أتمنى أن يمتد إلى ما لانهاية.

بدأت الحديث بسؤال حول كلمة استشهد بها في خطبة القدس عن الرواية وأوربا، نقلًا عن رابليه هي كلمة (Agélastes) "آجيلاست" كما تلفظ بالفرنسية وترجمتها "أجلاف" أي الإنسان الذي لا يضحك. قلت له يبدو لي أن أصل الكلمة ليس إغريقيًا كما ذكرت، بل يبدو لي عربيًا نظرًا للتشابه بين الكلمتين شأن الكلمات الفرنسية ذات الأصل العربي. لم يتوقف كونديرا عند ملاحظتي هذه، لذلك قلت له مباشرة أنني كنت أتطلع إلى إجراء محادثة طويلة معه، لكنني أعرف أنه توقف عن إجراء أي محادثة نظرًا لخيبة أمله من أن أعيش المقابلات التي كانت تجرى معه.

كي لا أخون فهمي له، لن أسرد هنا من الذاكرة ما دار بيننا خلال هذه الساعات. كنت أعرف أن كل ما كان يحدثني به سبق أن كتبه خصوصًا في ثلاثيته التي صارت فيما بعد رباعيته حول الرواية. وأعرف أن آخرين من الروائيين السابقين عليه، فلوبير، أو المعاصرين، نابوكوف أو إيتالو كالفينو أو فوكنر، كانوا مثله لا يطيقون أن يعرف جمهورهم حياته الخاصة. 

              لقاء، عنوان الكتاب الرابع من الثلاثية، مع إهداء كونديرا

ما يسعني قوله دون خيانة أحد أنني عندما عدت من هذا اللقاء إلى بيتي وسجلت على المخطوط التعديلات الضرورية تمهيدًا لإرسال الثلاثية إلى القاهرة بكيت بمرارة لأنني لن أعيش ثانية هذه الصحبة طوال سنوات، مثلما بكيت بمرارة لحظة رحيله عن عالمنا. 


** نشر في مجلة القافلة، العدد 699، تموز/يوليو ــ آب/أغسطس 2023.

https://qafilah.com


jeudi 3 août 2023

بين الإيديولوجيا والإبداع

 

بين الإيديولوجيا والإبداع

بدرالدين عرودكي

يعود بنا مقال محي الدين صبحي الذي كتبه في مقتبل حياته الأدبية عام 1957، أي في أوج المد القومي العروبي على إثر العدوان الثلاثي وعشية تحقيق الوحدة السورية المصرية، إلى مرحلة شديدة الخصوبة والحيوية عرفها الأدب في سورية سواء على صعيد الإنتاج في مجال الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح والنقد الأدبي، أو في مجال التجمعات الأدبية من خلال رابطة الكتاب السوريين التي صارت عام 1953 رابطة الكتاب العرب، التي كانت تمثل التيار اليساري الذي كان يستقي مثله الأدبية من المبدعات الروسية والسوفييتية خصوصًا، ويعلن في منتجات كتابه عن أولوية الاجتماعي التي كانت محاولات تجسيدها  فنيًا تتمثل خصوصًا في شعر وقصص شوقي بغدادي ضمن مجموعته "حينا يبصق دمًا" (1956)، وقصص سعيد حورانية ولاسيما "وفي الناس المسرة" و"شتاء قاس آخر"، والروايات الأولى لحنا مينة ولاسيما "المصابيح الزرق" و"الشراع والعاصفة"، ثم جمعية الأدباء العرب التي تأسست عام  1957 وضمّت كتاب التيار القومي بالمعنى الواسع للكلمة. وقد رافقت تأسيس هاتيْن الجمعيتيْن على غير ميعاد صدور مجلتيْن في بيروت، الأولى، "الثقافة الوطنية"، التي كانت تعبر عن التيار الذي سوف تمثله رابطة الكتاب السوريين ثم العرب التي تزامن تأسيسها مع صدور المجلة أسبوعية ثم شهرية، والثانية، مجلة "الآداب" التي كانت عبَّرت منذ انطلاقها في كانون الثاني/يناير 1953 عن التيار العروبي الذي حملت جمعية الأدباء العرب بدمشق رايته، مثلما عبّرت عن تبنيها الأدب الملتزم حسب المفهوم السارتري ومقولة الحرية الفردية المسؤولة التي أعلن عنها مؤسسها في أول أعدادها.  

من الواضح أن المقال الذي كتبه شوقي بغدادي حول عدد من الكتاب الذين كانوا يهددون في نظره القيمَ السامية بفعل رواج كتبهم جماهيريًا، وبسبب ابتعاد أدبهم عن الارتفاع إلى "مستوى الأحداث" وعن أن يعكس "حياة الناس الشرفاء" ومقال محي الدين صبحي الذي كان ردًّا عليه، يقدمان، على سطحيتهما وسذاجة التعليل والتحليل فيهما نموذجًا بليغًا عن الكتابات "النقدية" التي ستدور دومًا، ولكن خلال فترة زمنية لم تتجاوز عقد الستينيات، حول الثيمتيْن: الالتزام حسب المفهوم السارتري، أي الكتابة الإبداعية في إطار الحرية الفردية المسؤولة، والإلتزام بمعنى الإلزام كما يفهمه أنصار ما عرف في تلك الحقبة باسم "الواقعية الاشتراكية".

ذلك أن من كانوا يعتبرون في تلك الحقبة من كتاب "الواقعية الاشتراكية"، وفي مقدمتهم حنا مينة وسعيد حورانية وشوقي بغدادي خصوصًا، سيتخلون بصورة أو بأخرى في قصصهم ورواياتهم أو في شعرهم، عمليًا، عن هذا الإلزام الذي يكاد يكون حزبيًا. إذ أن حنا مينة الذي أساء التزامه الحزبي إلى "الطروسي"، بطل روايته "الشراع والعاصفة" ــ وهي في الواقع قفزة فنية شديدة الأهمية في الكتابة الروائية في سورية ــ الذي حمله، بعد أن جعل منه وفق منطق الرواية وأحداثها كلها مصدر القيم، على أن يخضع إراديًا لقيم شخصية أخرى، طارئة، صُنِعَت من عجينة مختلفة، ورُسِمَت ملامحها على نحو جعل منها نقيض شخصية الطروسي أساسًا، على الرغم من أن امتيازها الوحيد انتماؤها صراحة للحزب، هذا على الرغم أيضًا من أن ظاهر الأمور أو دفق الرواية، كان يفيد العكس كليًّا.  لكنه، بدءًا من "الياطر"، سيستسلم إلى ما تمليه عليه بنية الرواية التي يكتبها دون  الالتفات إلى ما يمكن أن تفرضه ضرورات "حزبية أو أيديولوجية أخرى. هذا في حين أن الطريق الذي سلكه سعيد حورانية كان عكس طريق حنا مينة كما يشير محي الدين صبحي نفسه في مقاله. أما شوقي بغدادي فسوف يتخلى عن التغني بالمعامل والمداخن و"التراكتور" كي يكتب شعرًا يليق بموهبته أكثر مما يستجيب لضرورات الانتماء الحزبي.

هذا بخلاف كتّاب التيار الآخر، شعراء وقصاصين وروائيين ومسرحيين، وعلى اختلاف انتماءاتهم السياسية أو نزعاتهم الفكرية، الذين واصلوا الاستجابة لقريحتهم في الإبداع دون أي اهتمام بأية قاعدة خارج إطار الفن الذي يعبرون بوسائله عما يريدون قوله. لم يعبأ نزار قباني على إخلاصه لعالمه الشعري الواسع والثري إلا بضرورات الشعر وحده، وصار مدرسة. شأنه في ذلك شأن زكريا تامر في القصة القصيرة أو عبد السلام العجيلي في القصة القصيرة والرواية، أو محمد الماغوط في الشعر، دون الحديث عن الجيل التالي بدءًا بالروائي والقاص هاني الراهب والشاعر ممدوح عدوان والشاعر حسان عزت، وليس انتهاء بالروائي فواز حداد وخالد خليفة.

ذلك يعني أنه لم يكن لمعارك الأيديولوجيا المشار إليها في الواقع كبير تأثير لا على تطور الأدب السوري في مختلف المجالات، ولا على جعل هذا الأدب ضحية لها، لسبب رئيس تاريخيًا كان يمكن لها لولاه أن تلعب أحد هذين الدوريْن، يتمثل، اعتبارًا من نهاية ستينيات القرن الماضي، في ضبط فضاء الحرية بصورة حاسمة وراء الشعار الذي كان يملأ شوارع المدن السورية: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير". لقد كان جميع المعنيين بهذا الشعار يعلمون تمام العلم موقع وعنوان هذا الضمير.

ومع ذلك...


** نشر هذا المقال في موقع "العربي القديم"، العدد 2 الصادر بتاريخ 3 آب/أغسطس 2023.



 

vendredi 28 avril 2023

أندريه ميكيل: المغامرة الشعرية للأدب العربي

 



أندريه ميكيل: المغامرة الشعرية للأدب العربي


هذا الحوار

بدر الدين عرودكي

في آذار/مارس 1988، وفي إطار عدد من النشاطات الثقافية الكبرى التي جرى تنظيمها بمناسبة افتتاح مقر معهد العالم العربي بباريس، قمت بتنظيم لقاء يجمع الروائيين العرب والفرنسيين لأول مرة للحديث عن الرواية التي يكتبها كلٌّ منهم. وكنت قد التقيت مع بداية الإعداد لهذا اللقاء المرحوم جان جاك بروشيه، الروائي ورئيس تحرير مجلة "الماغازين ليتيرير Magazine  littéraire" يومئذ كي أدعوه للمشاركة في اللجنة التحضيرية لهذا اللقاء من ناحية، ولاقتراح تخصيص عدد من المجلة عن الأدب العربي بهذه المناسبة يصدر في موعد هذا اللقاء، من ناحية أخرى. وقد قبل الاقتراحين شريطة أن أساعده في إعداد هذا الملف عن "الكتاب العرب اليوم". وقد أسهم رئيس التحرير بصورة فعالة في الإعداد لهذا اللقاء الذي شارك فيه عشرون روائيًا فرنسيًا وعشرون روائيًا عربيًا، مثلما أنجز وعده في تخصيص ملف عن الأدب العربي المعاصر صدر في آذار/ مارس 1988 كنت قد اقترحت عليه افتتاحه بحوار مع أحد كبار المختصين بالأدب العربي وبالثقافة العربية، أندريه ميكيل، الأستاذ في جامعة السوربون ثم في الكوليج دو فرانس، ومدير المكتبة الوطنية الفرنسية، وهو ما قمت به بالإضافة إلى إعداد مواد الملف بمشاركة عدد من الكتاب العرب.

لم تكن الرواية العربية قد حظيت حتى تاريخ هذا اللقاء باهتمام الناشرين الفرنسيين، باستثناء ميشيل شودكيفيتش الذي كان مديرًا لمنشورات سوي (Seuil) وبادر من دون أي دعم إلى إصدار ثلاثة مجلدات للتعريف بالكتابات العربية المعاصرة عبر مختارات في الشعر والأدب الروائي والقصصي والأبحاث، ثم إلى نشر رواية ليلى بعلبكي "أنا أحيا" ورواية جمال الغيطاني "الزيني بركات"، ومنشورات سندباد التي أسسها وأدارها حتى وفاته بيير برنار التي نشرت حتى ذلك الحين ترجمة مختارات قصصية ليوسف إدريس، ورواية لنجيب محفوظ "زقاق المدق"  ورواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" ورواية صنع الله إبراهيم "نجمة أغسطس"، بالإضافة إلى مشروع معهد العالم العربي لنشر سلسلة من 12 رواية عربية بالتعاون مع منشورات لاتيس (Lattes) وكان لي شرف الإشراف عليها باسم المعهد والتي لم تكن قد نشرت أكثر من سبعة روايات منها أول روايتين لنجيب محفوظ من ثلاثيته..

سيلاحظ القارئ أن أندريه ميكيل  كان يتحدث في هذا الحوار عن جدارة نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل، أي قبل ثمانية أشهر من حصوله فعليًا عليها! ومن الممكن القول إن ترجمة الثلاثية إلى الفرنسية التي أدت اعتبارًا من عام 1984 ، كالعادة، إلى ترجمتها إلى لغات أوربية عدة من ناحية، واللقاء الذي أجرته الروائية سلوى النعيمي معه (وكانت ضمن أعضاء اللجنة التحضيرية للقاء الروائيين العرب والفرنسيين)، وجرى نشره في عدد الماغازين ليتيرير المشار إليه (وهو أول حوار يجري مع نجيب محفوظ وينشر على ما أعلم خارج العالم العربي) من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا ما في منح الجائزة.

وعلى أنه مضى حوالي خمسة وثلاثين عامًا على نشره، يبقى أن هذا الحوار (مترجمًا إلى العربية للمرة الأولى) لا يزال يحتفظ بنضارته لا في الآراء التي عبر عنها أندريه ميكيل فحسب، بل كذلك في ما يؤرِّخ له على صعيد ترجمة الأدب العربي المعاصر إلى الفرنسية وسواها من اللغات.

شتان ما بين الأمس واليوم!

 

المغامرة الشعرية[1]

للأدب العربي

حوار:

أندريه ميكيل

بدرالدين عرودكي

أندريه ميكيل هو اليوم أحد كبار المختصين بالثقافة العربية في فرنسا.

أستاذ في الكوليج دو فرانس، ومؤلف العديد من الكتب المكرسة للثقافة العربية الإسلامية وفي مقدمتها كتابه: الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي[2]

 وكتابه: الإسلام وحضارته[3]، وهو أيضًا مترجم العديد من كبرى النصوص العربية الكلاسيكية والمعاصرة ومؤلف روايات عدة آخرها: ليلى يا عقلي[4]. يناقش خلال هذا الحوار حول القضايا المتعلقة بالأدب العربي المعاصر.

بدرالدين عرودكي: قبل خمسة وعشرين عامًا[5]، لم يكن مقبولًا في الجامعات الفرنسية أن يكتب طالبٌ ما رسالته للحصول على شهادة الدكتوراه يتناول موضوعها مُبدعًا عربيًا حديثًا. منذ ذلك الحين، تغيرت الأمور جيدًا. هل هو اعتراف "رسميٌّ" بقيمة هذا الأدب الموصوف بالحديث أو بالمعاصر؟

أندريه ميكيل: اعتراف، نعم، بلا أدنى شك؛ لكني أعتقد أن المشكلة في الواقع هي أكثر عمومية. في شبابي، عندما كنت طالبًا، أي قبل أربعين عامًا، لم يكن مقبولًا في الجامعة الفرنسية كتابة رسالة دكتوراه حول أناس لم يكونوا موتى. بعبارة أخرى، كان الموت هو الحاسم في الحيلولة دون الوصول الممكن إلى الأدب. ومن دواعي السرور الكبير أن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين. فقد رأينا، كما أظن، في زمن جورج براسانس[6] (Brassens) على سبيل المثال، رسائل كتبت حول براسانس؛ كانت هناك رسائل حول سارتر في الوقت الذي كان فيه سارتر لا يزال حيًّا. أعتقد إذن أن المسألة التي تطرحها يجب أن تُدرَجَ في الجواب الشامل. هذا من دون المساس طبعًا بالمسألة، التي يمكننا العودة إليها، أي مسألة قيمة الأدب العربي المعاصر.

ب.ع.: لكن هذا الأدب، كيف يبدو للأستاذ الجامعي الذي هو أنت، بل وكذلك للمبدع، أعني المشارك في الإبداع في مجال الرواية، أو في الترجمة التي تقوم على جعل نص أجنبي مألوفًا كليًا في لغة أخرى، إلخ... أعني أنك تعيد إبداع  نصٍّ سواء حين تكون مترجمًا أو باحثًا أكاديميًا.

أ. م.: بلا شك، لكني مع ذلك مرتبك بعض الشيء كي أجيبك، لأنني ما يًسَمّى بالنسبة إلى اللغة العربية أو التخصصات الأخرى، مختصّ بالكلاسيكيات. أعمل حول الحقب الكلاسيكية، وإذا كان الأدب العربي المعاصر يتعلق بأفقي، لا بوصفي مختصًا، بل بما يمكنني أن أقول إنه أفقي بوصفي مهتمًّا بالعالم العربي، أي إنه يتعلق أكثر بثقافتي العامة كمستعرب أكثر منه باختصاصي الأساس. بعد توضيح ذلك، واتخاذ هذه الاحتياطات، يمكنني القول إن أول اتصال لي بالأدب العربي المعاصر لم يكن حسب تسلسل زمني. لم أبدأ برواية زينب مثلًا [7]، بل بدأت بنجيب محفوظ الذي أعرفه الآن: قرأت، على ما أظن، كل الأعمال التي كتبها ربما باستثناء الكتابين أو الكتب الثلاثة الأخيرة. من خلاله ومن خلال سواه، السؤال الأساس (والوحيد تقريبًا) الذي أطرحه على نفسي، هو معرفة ما أضافه هذا الأدب  إلى الآداب العربية التي سبقته، وبأي معيار جلب هذا الأدب تغييرًا ما، في الرموز، في العادات المكتسبة من قبل. ثمة، من دون أي شك، أشياء أصيلة كليًا (وليس في ذلك ما يدهش) وهي أصيلة لاسيما وأنها الأكثر حداثة: أفكر على سبيل المثال بإميل حبيبي بالتأكيد، بالغيطاني، بالطيب صالح أو بصنع الله إبراهيم. لا أعرف، وألحّ على ذلك، الأدب العربي المعاصر كله. ولكن في النهاية، مع الأسماء الأربعة التي ذكرتها، أعتقد أن بوسعنا البدء في سجال حول التجديدات بالنسبة إلى الأدب العربي المعاصر.

ب. ع.: نعم؛ أعتقد أن الشعر قد حقق، قبل أربعين سنة من الآن، قطيعة مع التراث الشعري العربي. وبدخولها الأدب العربي الحديث منذ بداية القرن العشرين على حذر، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، بقوة، حققت أجناس أدبية أخرى مثل الرواية والقصة القصيرة، المصممتين هذه المرة انطلاقًا من شكل الرواية والقصة القصيرة في الغرب كما كانا يُمارسان في القرن التاسع عشر، على صعيد الشكل، قطيعة أخرى. ما رأيك؟

أ.م.: بالنسبة إلى الشعر، أتفق معك. بالنسبة لنا، أساسًا، حدثت ظاهرة التجديد في الغرب مؤخرًا إلى حدٍّ ما؛ أتحدث عن الآداب الفرنسية، لا أعرف الكثير مما يجري في البلدان الأخرى؛ بدأ جوهريًا مع بودلير. ومع بودلير الأول، ومع خلفائه، إنما طرح الشعر على نفسه، شأن أشكال الفن الأخرى، المشكلة: أليس علينا بدلًا من الاستمرار في قول الرسالة العادية بصورة أخرى، أن نعثر على رسالة أخرى؟ أظن أن غايتان بيكون (Gaëtan Picon) هو الذي كان يقول ذلك بهذه المفردات: ألا يجب أن يكون الفن بالنسبة إلى ذاته هو مجاله الخاص به وغايته نفسه؟ في الشعر العربي، أعتقد أن الثورة فعلًا تمّت وأن الشعراء العرب المعاصرين هم اليوم في الحقيقة صنو كبار شعراء اليوم. بين رنيه شار (René Char) على سبيل المثال، في فرنسا، وأدونيس أو أحمد عبد المعطي حجازي في العالم العربي، يمكن أن أقول إنه لاوجود لاختلاف في المكانة. بالنسبة إلى الرواية، الأمر أكثر تعقيدًا بعض الشيء. يبدو لي أن المشكلة المطروحة اليوم على الرواية العربية المعاصرة، مشكلة مزدوجة: أولًا، أعتقد أن المغامرة الشعرية تستمر اليوم في العالم العربي لا عبر الشعر فحسب بل عبر الرواية أيضًا. سأوضِّح: الشعر، بالمعنى الأول للكلمة، هو إبداع. وبما أنه إبداع جمالي، فهو، شأن كل إبداع جمالي، تركيب مصطنع بالمعنى الأفضل للكلمة: إنه يبحث عن الكلمات لكي يجمعها معًا، ومن جمعها معًا يجب أن يخرج شيء ما جديد. إنه إذن بحث، بحث كامل حول القول، وأعتقد أن الكثيرين من الروائيين العرب المعاصرين، من دون الحديث عن القول نفسه، يصممون مُبدعاتهم بهذا القدر أو ذاك بوصفها مبدعات يمكنها أن تكون أيضًا شعرية. أضرب مثلًا: نجيب محفوظ، كي نعود إليه. حتى روايته اللص والكلاب، كان نجيب محفوظ يكتب روايات يمكن أن أقول إنها كلاسيكية اعتمادًا على تصنيف الرواية الغربية.  مع اللص والكلاب بدأت، سواء في شكل الرواية (أفكر على سبيل المثال برواية ثرثرة فوق النيل)، أو في شكل القصة القصيرة، مغامرة أخرى لنجيب محفوظ الذي يستهدف إبداع شيء ما جديد، لا في داخل الرواية أو القصة القصيرة العربية، بل داخل الرواية والقصة القصيرة ذاتهما. هذه نقطة أولى تبدو لي شديدة الأهمية من أجل دراسة الرواية العربية اليوم.   

أما بالنسبة إلى المنظور الثاني الذي يجب علينا أن نتوقف عنده، فإنني أفكر في سؤال نطرحه جميعًا بهذا القدر أو ذاك: لماذا لا يوجد حتى الآن كاتب عربي حصل على جائزة نوبل؟ وأريد أن أقول على سبيل المثال إن نجيب محفوظ يستحقها من دون أي شك. ما الذي يمكن أن يزعج، هذه المرة، الاستقبال في الغرب للرواية العربية المعاصرة؟ أتساءل إن لم تكن المأساة التي كانت زمنًا طويلًا مأساة العالم العربي، والتي لا تزال اليوم مأساة فلسطين، لا تثقل كاهله بقوة شديدة (لكني أقول ذلك مع كل الحذر الضروري) إلى درجة أن هذا الأدب في النهاية يجد على وجه الاحتمال صعوبة في أن يستخلص، من خلال تجربته الخاصة، شيئًا ما يمكن أن أسميه عالميًا، شيئًا ما يكون قادرًا على أن يمسَّ مجموع العالم من خلال تجربة خاصة. أطرح المشكلة، مرة أخرى لا أقوم بحسمها؛ لكن هناك ربما شيء ما يتطلب التفكير فيه.

عنف الصدمة التي عاشها العالم العربي منذ عقود هي من القوة أنها، على مستوى التعبير، تقتحم الأدب، وتصنع الأدب الجيد، يقينًا، لكنها تحول دون هذا الأدب والمضي إلى درجة يصير معها أدبًا عالميًا. من الممكن، على سبيل المثال، مقارنة هذه الظاهرة ببعض الأدب اليوغوسلافي. أفكر بحامل جائزة نوبل آخر، وهو يوغوسلافي على وجه الدقة، إيفو أندريش، الذي تحدث في الواقع عن بلده والمآسي التي عاشتها البلدان السلافية في الجنوب، ولكن بطريقة كانت، اعتبارًا من جائزة نوبل، وهذا صحيح، قابلة على الفور للنفاذ إلى ضمائر أخرى غير الضمائر السلافية.

ب. ع.: تحدثنا عن الحداثة وعن المعاصرة. في العالم العربي تعلمُ جيدًا كيف يُنظر إلى الحديث بالنسبة إلى الأدب العربي: عند الكلام عن الحديث، ننطلق على وجه التقريب من منتصف القرن التاسع عشر، في حين يحتل المعاصرون الأربعين سنة الأخيرة. بين كبار ممثلي هذه السنوات المائة، إن جاز القول، أي منذ النهضة وحتى الآن، من هم الأشخاص الأكثر تأثيرًا في رأيك؟ في مجال المقالة والبحث، أو البحث التاريخي، أو في الفن مثلًا، المسرح، والرواية أو الشعر، من هي الأسماء المهيمنة بفعل شكل التعبير ذاته أو بفعل الكتابة ذاتها التي مارسوها؟ 

أ. م. : سأعود مرة أخرى إلى نجيب محفوظ، ليس بدافع السهولة، لأنني هو الذي أعرفه على نحو أفضل، بل لأنني أعتقد أنه تاريخيًا لعب الدور نفسه تقريبًا، بهذا القدر أو ذاك، الذي لعبه فلوبير في الأدب الفرنسي. أوضح: أن يكون فلوبير كاتبًا جيدًا أو كاتبًا رديئًا،  (من الممكن مناقشة ذلك) لا أهمية له في النهاية. فلوبير هو رجل، في الأدب الغربي، ممتاز لأن الرواية الحديثة ولدت بصورة حقيقية معه. وبالطريقة ذاتها، يمكن أن أقول إن نجيب محفوظ مهم على صعيديْن: من ناحية، لأنه عمل من خلال بلد هو أحد البلدان العربية الجوهرية، أي مصر، على إبداع شيء عربي بصورة عميقة آخذا الأشياء وفق ثقل شعب بأكمله. ولهذا السبب، في الواقع، استقبلت رواياته، بما في ذلك الروايات المترجمة، من ناحيتها، من قبل الجمهور الفرنسي. هناك القليل منها، لكن الاستقبال هنا على الأقل كان مواتيًا جدًا. الأمر الثاني، والأهم على وجه الاحتمال،  هو أن محفوظ ــ لم يكن الأول لكن أعتقد رغم ذلك أن معه إنما انطلقت الحركة حقًا ــ لعب دورًا جوهريًا في تاريخ اللغة العربية. بالنسبة إلى الشعر، أخيرًا، كانت الأمور أكثر سهولة: كان عليه أن يجدد موضوعاته وفضاءه، وغاياته، وأغراضه. لكن النثر العربي، من ناحيته، النثر العربي في الكتابة الروائية اليوم، كان عليه أن يبتكر نفسه بنفسه. لأن، الأدب العربي الكلاسيكي في النثر ، ونحن نعلم ذلك، هو أدب يُعلِّم. فلا ممارسة للأسلوب في النثر.

لا أقول إن كبار الكتاب العرب الكلاسيكيين يكتبون بصورة سيئة، أقول إنهم لم يكونوا يكتبون من أجل أن يكتبوا جيدًا، وهو أمر مختلف تمامًا. كانوا يمسكون القلم لأنه كان لديهم ما يقولونه. على العكس، وأعتقد أنه يجب أن نعود إلى محفوظ ، يوجد، على مستوى الرواية، إرادة إبداع لغة روائية، تحرير لغة محدثة، أو ربما مبسّطة، بلا شك، في طرق كانت حتى ذلك الحين مجهولة عمليًا. حتى رواية زينب؛ كانت رواية زينب لا تزال تنتمي إلى لغة كلاسيكية جدًا، عفا عليها الزمن تقريبًا، إن حكمنا اليوم عليها بصورة استرجاعية. أعتقد أن محفوظ هو حقًا مَنْ فجر أطر النثر العربي المعاصر. من دون نسيان شيء شديد الأهمية: حجم إنتاجه نفسه، وفي مجالات شديدة الاختلاف. الرواية الاجتماعية مع الثلاثية، الرواية التي كانت بعض الشيء، كيف أقول، مشدودة، مُقطّعة، مع اللص والكلاب، ثم القصص القصيرة.

ب. ع. : وماذا تفعل بوجه هام مثل طه حسين الذي كان معروفًا في الغرب ولاسيما في فرنسا؟

أ. م. : نعم. من المستحيل، طبعًا، إنكار أهمية طه حسين، بما في ذلك ظهور لغة عربية جديدة. لكني أعتقد رغم ذلك، مخاطرًا في أن أصدم بما أقول، أن ثمة مسافة أقل بين النثر العربي الكلاسيكي ونثر طه حسين من تلك التي بين نثر طه حسين ونثر نجيب محفوظ.

ب. ع. : وكيف تقيِّم التجربة اللغوية لتوفيق الحكيم بهذه المناسبة؟

أ. م. : فعلتَ حسنًا بالحديث عنه. يمكنني القول إنه بين كل مبدعاته، لو كان يجب الحفاظ على واحد منها، لكانت يوميات نائب في الأرياف[8] التي هي تحفة، والتي ربما تتطلب اليوم ترجمة جديدة إلى الفرنسية. ثمة هنا في الواقع الجهد نفسه المبذول على اللغة من قبل نجيب محفوظ (لكني أتحدث عن اليوميات، ولا أتحدث عن مجمل إنتاج توفيق الحكيم الذي هو أكثر كلاسيكية بكثير من محفوظ) مع الدعوة إلى اللهجة العامية، على الأقل في الحوارات؛ وخصوصًا’، ما يصنع بالنسبة لي قيمة هذه الرواية، هو العرض المذهل لمنظر الطبيعة المصري المصنوع من الأرض ومن الماء، بين الليل والنهار، نوع من منظر غامض، كما كان جاك بيرك يقول، مع كل ضروب الرنين والأصداء التي يمكن أن تثيرها هذه الكلمة.

ب. ع. : هل يسعنا في نظرك، الحديث عن أدب عربي مكتوب بالفرنسية؟ وذلك حين نتحدث عن أدب مغاربي كتب بالفرنسية...

أ. م. : هل يصنع طاهر بن جلون أدبًا فرنسيًا ذي صدى عربي أم أدبًا عربيًا مكتوبًا بالفرنسية؟ أنا، أعتقد أنه أدب عربي كتب بالفرنسية، ومن أجمل الآداب. ما كان من الممكن لأي كاتب فرنسي أن يكتب ما كتبه طاهر بن جلون. أنا فعلته مع ليلي يا عقلي، ولكن لماذا؟ لأنني زرعت نفسي في الأدب الذي أعرفه عبر النص. لم أستثمر نفسي كما فعل طاهر بن جلون في العالم الذي ولد فيه. ليس من الممكن ذلك، فقد ولدت في الغرب، وأنا فرنسي؛ هناك مقاربات، هناك مواقف سوف تفلت مني دومًا. لم أولد مع اللغة العربية.

ب. ع. : وبالتالي أنتَ تختلف كليًا مع بعض من زملائك الذين اعتبروا أن أدبًا كتب بالفرنسية لم يعد أدبًا عربيًا حتى ولو عبر عن حساسية عربية. لا اريد أن أرمي حجرًا في حديقة جاك بيرك (كما يقال بالفرنسية) لكن، حين كتب كتابه عن "القول العربي راهنًا" (Langages Arabes du présent اكتفى بالحديث عن وبتحليل نصوص كتبت بالعربية حصرًا، من دون أية إشارة إلى ما سبق أن كتب بالفرنسية من قبل العرب.

أ. م. : هذا صحيح، لأننا لا نستطيع أن ننكر أن أدبًا فرنسيًا، هو أولًا أدب يكتب بالفرنسية، حتى وإن كان الأجانب هم الذين يكتبونه. المشكلة هي معرفة الأجزاء الخاصة  بكل من فرنسا والعالم العربي التي يتألف منها هذا الأدب. لا نكران أن هناك جزء، الجزء اللغوي، الذي يعود كليًا إلى فرنسا، بل وحتى ذلك، لست على يقين كبير منه: هل مثل هذه العادة في الكتابة، مثل هذا التكرار على سبيل المثال (لا أتحدث عن طاهر بن جلون،. أتحدث بصورة عامة) ينتمي إلى الفرنسية أم إلى العربية؟ الفرنسية لا تحب التكرار. وحين تكرر، فدائمًا بهدف أسلوبي، بهدف قصدي، في حين أن العربية تكرر بصورة طبيعية كليًا. "فأمر أن يضربه فضربه". حين أترجم هذا، أقول:  "فعمل على ضربه"، فقط. أو : "أمر بأن يُضرَب، وأطيع". لا أكرر فعل "ضرب". للعودة بطريقة أكثر دقة إلى الموضوع، هناك اللغة الفرنسية كليًا، والأسلوب الذي، بنسب كبيرة، يعود بالتأكيد إلى الأسلوب الفرنسي، لكنه بنسب كبيرة، يمكن أن يتعلق بطريقة ما بالكتابة العربية منقولة إلى الفرنسية؛ ثم هناك حقل الثيمات الهائل الذي تبقى نِسَبَهُ خاضعة للنقاش.

ب. ع. : كيف تفسر الغياب الكامل حاليًا للأدب الغرامي في الأدب العربي المعاصر، في حين أن العرب، في العصور الكلاسيكية، أنجزوا كتابات مذهلة في هذا المجال؟ لا أتحدث عن ألف ليلة وليلة فقط، بل عن كتب مثل الروض العاطر في نزهة الخاطر للشيخ النفزاوي.. كيف تفسر هذه الظاهرة؟ ضروب الرقابة مثلًا؟

أ. م. :  لا أعتقد. أعتقد أن البشر يتكلمون عما يرغبون في الكلام عنه، عما يشغلهم. هناك شعار شهير منذ سنوات عدة في الغرب: "مارس الحب، لا الحرب". يمكنني القول للأسف! أن العرب مشغولين كثيرًا في هذا الوقت بالصراعات التي تقلقهم. إنهم ليسوا الوحيدين، لأن الصراعات في الخليج أو في فلسطين، أشعر بها أيضًا، ربما، في الواقع، لأنني أهتم بالعرب ولأنني أحبهم جيدًا، ولأن صراعاتهم، بفعل ذلك، هي أيضًا صراعاتي. أعتقد أن ذلك لأن مأساوية المعيش التاريخي، وأولًا مع ما يقتضيه من أجل الحياة اليومية، من أجل "الشعور المأساوي للحياة"، يشغل العرب في الواقع أكثر من التعبير عن الحب (لا أقول الحب، آمل أن الحب نفسه يشغلهم رغم ذلك!) الذي لا يُرى بوصفه أولوية، نظرًا للجو المأساوي الذي يستمر في أن يكون جو التاريخ المعيش من قبل العرب اليوم. 

ب. ع. : هل يسعنا الحديث عن آفاق الآداب العربية؟

أ. م. : من الصعوبة بمكان الحديث عن ذلك أيًا كان الأدب. في الواقع، هذه المشكلة هي مشكلة تاريخ المستقبل. كل شيء يمكن أن يتغير بين ليلة وضحاها حين ستخرس الأسلحة على  الخليج وحين يستعيد الفلسطينيون وطنهم.

ب. ع. : تحدثتُ عفويًا عن آداب عربية معاصرة. هل علينا الحديث عن آداب أم عن أدب عربي معاصر؟

أ. م. : عن الإثنيْن. أولًا، هناك أدب لأن هناك لغة مشتركة بين كل هذه الآداب. ولكن من الممكن أن نستفيض على مدى النظر حول الاختلافات، و"الكيانات" التي تتواجد لحسن الحظ داخل العالم العربي. كنا نتحدث قبل قليل عن يوميات نائب في الأرياف: ما كان بوسع هذا الكتاب أن يُكتبَ خارج مصر. وربما لم يكن ممكنًا لهذه القصة أو تلك من قصص فؤاد التكرلي، التي ولدت في هذه الماهية القاسية إلى حدٍّ ما للروح والمشهد العراقيين، أن ترى النور في تونس العذبة...



[1] نشر هذا الحوار في مجلة الماغازين ليتيرير (Magazine littéraire)، باريس، العدد 251، الصادر في شهر آذار/مارس 1988. كان هذا العدد مكرّسًا لـ "الكتّاب العرب اليوم".

[2] Géographie humaine du monde musulman (Editions Mouton-De Gruyter)

[3] L’Islam et sa civilisation, (Editions A. Colin)

[4] Laylâ ma raison, ( Editions du Seuil)

[5] كنا في عام 1988، السنة التي جرى فيها هذا الحوار

[6] جورج براسانس (Georges Brassens)، ولد في 22 تشرين أول 1921 وتوفي في سان جيلي دو فسك (Saint-Gély-du-Fesc) في 29 تشرين اول /أكتوبر عام 1981، هو شاعر ومؤلف موسيقي ومغن فرنسي. كتب موسيقى أكثر من مائة من قصائده وأدّاها بصوته  مع العزف على الغيتار.

[7]  تعتبر رواية زينب التي صدرت عام 1914، للكاتب المصري محمد حسين هيكل بصورة عامة أول رواية في الأدب العربي..

[8]  ترجم كتاب توفيق الحكيم الشهير يوميات نائب في الأرياف إلى الفرنسية تحت عنوان "نائب في الريف بمصرUn substitut de campagne en Egypte" وصدر عن منشورات بلون (Editions Plon). 




** نشرت الترجمة العربية لهذا الحوار في مجلة نزوى، العدد 114، ص 52. نيسان/أبريل 2023.