dimanche 1 novembre 2020

الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس، التاريخ والواقع والمستقبل

 

 

 

 

الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس

التاريخ والواقع والمستقبل

د. بدرالدين عرودكي


 

المحتويات

الملخص التنفيذي. 3

توطئة. 6

مقدمة: في تعريف الهوية الوطنية. 7

مدخل: لماذا الهوية الوطنية السورية اليوم؟. 10

الهويات الوطنية في المنطقة العربية تاريخيًا 12

أ. العالم العربي في دوائره الأربعة. 12

ب. سورية في العصور القديمة. 14

ج. سورية أو بلاد الشام قبل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو. 15

د. سورية سايكس بيكو والانتداب الفرنسي 19

هـ. إشكالية الانتماء الوطني ومشكلاته في سورية تحت الانتداب.. 22

الهوية الوطنية السورية مشروعًا؟. 25

سورية الجديدة (1946 - 1958) 26

سورية في ظل الوحدة مع مصر. 28

مرحلة الانفصال (28 أيلول/ سبتمبر 1961 - 8 آذار/مارس 1963) 31

المرحلة البعثية. 32

عهد البعث (1) 1963 -1970. 32

عهد البعث (2) الأسرة الأسدية (1970-2011) 35

عهد الأسرة الأسدية في ظل الثورة وتحت وطأتها (2011 - 2020) 41

حول البحث الميداني: 44

حول نتائج الدراسة الميدانية. 46

مستقبل الهوية الوطنية السورية. 49

خاتمة: من أجل حلِّ إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها 52

 

 

 

 

 

الملخص التنفيذي 

تستهدف هذه الدراسة، بصورة رئيسة، تشخيص وضع الهوية الوطنية السورية خلال قرن كامل، أي منذ إعلان المملكة السورية العربية في الثامن من آذار/ مارس 1920 التي سرعان ما انهارت مع وضع اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ، ودخول القوات الفرنسية دمشق في 24 تموز/ يوليو 1920، معلنة بدايات سورية "الجديدة"، أي منذنهاية العقد الثاني من القرن الماضي حتى نهاية العقد الثاني من القرن الحالي.

سيقدم البحث استعراضًا شديد الإيجاز لجذور مفهوم الهوية الوطنية التي تعود في أوروبا إلى الثورة الفرنسية وظهور الحركات القومية في القرنين الثامن والتاسع عشر، وهيمنة مدرستين في تعريف الأمة، عماد النزعة القومية، من خلال النظرة الألمانية التي اعتمدت اللغة مبدأ جوهريًا، والنظرة الفرنسية التي اعتمدت الإرادة الحرة أساسًا لوجود الأمة. وهو ما أدى إلى تقديم تعريف لمصطلح "الهوية الوطنية" بوصفه مفهومًا، بدأ استخدامه ورواجه في أوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي على أيدي الأحزاب اليمينية المتطرفة فيها.

ومن تعريف مقترح لمفهوم الهوية الوطنية وبيان العناصر المقوّمة له، بوصفه مفهومًا بالقوة ثم بوصفه مفهومًا بالفعل، ابتداء من اللحظة التي تتبناه فيها سلطة دولة مركزيةلتظهيره وترسيخه، ومن ثم مفهومًا سياسيًا بامتياز، ينتقل البحث إلى استعراض الهويات الوطنية التاريخية التي عرفتها دوائر العالم العربي الأربع: (الجزيرة العربية، بلاد الشام، وادي النيل، والمغرب في شمال أفريقيا)، وصولًا إلى سورية، أو بلاد الشام منذ العصور القديمة، والفتح العربي لها في القرن السابع الميلادي، حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية في العقد الثاني من القرن الماضي.

سوف تناقش إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها منذ إعلان المملكة السورية العربية ثم انهيارها بحلول سورية سايكس بيكو تحت الانتداب الفرنسي محلها، ضمن حدود جديدة سوف تتناقص تدريجيًا وصولًا إلى سورية الحالية التي نالت استقلالها عام 1946.

يتلو ذلك بحث تقلبات الهوية الوطنية السورية ما بين الوجود بالقوة ومحاولات تظهيرها إلى الوجود بالفعل طوال المرحلة التي امتدت من عام 1946 حتى 1963. وسوف يدرس التباس معاني هذه الهوية ومقوماتها خلال مرحلة الوحدة السورية المصرية، ثم خلال مرحلة الانفصال، وانتهاء بعهدي البعث الكلاسيكي والأسدي.

سوف توضح هذه الدراسة أنه لا يمكن في الحقيقة إنكار وجود هوية شامية، إن شئنا الدقة، تطوَّر التعبير عنها خلال العمل التدريجي على التحرر من هيمنة السلطة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر. لكن هذه الهوية التي جرى تأكيدها خلال المؤتمر السوري ومع إعلان المملكة السورية العربية شاملة بلدان سوريا الطبيعية، سرعان ما أخذت في التلاشي بوصفها هوية شاملة مع بدء ترسيخ الهويات "القطرية" التي تلت تجزئة بلاد الشام بموجب الاتفاقية المذكورة. ومن كبرى المفارقات أن كلًا من الأردن ولبنان،على ما بين البلدين من اختلافات على صعيد التاريخ والتركيب السكاني والوضع الجغرافي، استطاعا بفضل الإرادة الشعبية والتوافق السياسي الذي عبرت عنه السلطة السياسية ترسيخ هوية وطنية خاصة بكلٍّ منهما وتعزيز انتماء شعبي البلدين؛ لا بل إن شعب فلسطين (الذي سلبت أرضه وجرى إنكار بل محاولة محو هويته والقضاء على ذاكرته) أمكنه في مواجهة هذا العدو أن يصوغ هويته الخاصة به مستنفرًا التاريخ والثقافة والتراث الشعبي، من أجل تثبيت مقوماتها في وعي أفراده جميعًا، داخل فلسطين وفي الشتات. إلا سورية "الجديدة" التي بعد أن تمسك شعبها بهوية كان قد سعى لتجسيدها في دولة واحدة طموحة، سرعان ما استلبت منه بالتجزئة والاستعمار، وجد نفسه، ما إن حصل على استقلاله، ينوس بين هويات مختلفة بقيت محض شعارات خلبية، ثم بات بعد خضوعه خلال خمسة عشر عامًا لتقلبات نظم الحكم بين دكتاتوريات عسكرية وحكومات مدنية، وقد جُرِّدَ من هويتيْه الوطنية والقومية معًا، أسير هوية رجل واحد استملك البلد كله حين أطلق عليها "سورية الأسد"، ومع البلد سكانها الذين أضيفوا إلى ملكية البلد منذ أن حُرِموا من حقوقهم الأولية وأخضعت ممارساتهم اليومية، أيًّا كانت طبيعتها، لرقابة أجهزته الأمنية، وفي أغلب الأحيان لموافقاتها المسبقة.

لم تكن ثورة السوريين قبل تسع سنوات تستهدف الخبز، بقدر ما كانت تتطلع إلى استعادة ملكية البلد حين رفعوا بادئ ذي بدء شعار الحرية والكرامة. كما لم يكن غريبًا أن يقوم صراع الهويات في سورية خلال هذه السنوات، بعد أن أولغ نظام الابن الوارث في استخدام النعرات الاثنية والطائفية من أجل ما أطلق عليه رئيس النظام قبل سنتين"المجتمع المتجانس"، بل أن يسمح للمرة الأولى في تاريخ حكم العائلة الأسدية خلال خمسين عامًا بعقد مؤتمر حول "الهوية الوطنية السورية"[1]، كان هدف هذا المؤتمر المعلن، كما جاء في كلمة حملت عنوان "لماذا مؤتمر الهوية الوطنية"، أنه "إذا كان الحديث عن الهوية بوصفها أداة من أدوات الحرب مفهومًا، فقد يكون الأولى هو الحديث أو التبصر أو التدبر والمداولة في الهوية.. الهويات الممكنة بوصفها مخرجًا من مخرجات الحرب. وحتى لا يشكل الآخرون هويتنا الوطنية، أو يهيئوا الظروف لترجيح هوية أو أنماط بعينها، فإن تدبير السياسة يتطلب العمل على تقصي الأفكار والبدائل الممكنة لهوية وطنية انطلاقًا من خبرة وتجارب الأزمة السورية"[2].

ندوات أخرى أقيمت حول الموضوع نفسه بمبادرة من هيئات سياسية كتلك التي نظمها حزب سورية المستقبل في منبج بتاريخ 24 تموز/يوليو 2019، مثلما كثرت الكتابات حول موضوع الهوية الوطنية السورية بوجه خاص. ولعل إجراء مسح واسع لكل ما كتب عن هذا الموضوع ونقده في ضوء مشروع جديد لبناء هوية وطنية تستجيب لسورية المستقبل المأمولة ولمكوناتها جميعها بعد تحريرها من مختلف ضروب الاحتلال، الداخلي والخارجي معًا، يمكن أن يؤلف مقدمة لهذا المشروع الذي لا بد أن يطرح للنقاش على الصعد كلها، وأن يعاد صوغه في ضوء مآلات هذه النقاشات تمهيدًا لبثه وترسيخه في الوعي الجمعي ولا سيّما عبر ممارسات السلطة السياسية الشرعية ومختلف مؤسساتها التمثيلية.

***   ***   ***

بالنظر إلى ما سبق كله، كان من الضروري إجراء تحقيق ميداني حول موقف السوريين من الهوية الوطنية والتغيرات التي طرأت عليها بين عامي 2011 و2020. لم يكن ممكنًا في ظل الظروف الحالية إجراء تحقيق ميداني علمي انطلاقًا من عينة من السوريين تمثل مكونات السوريين المختلفة مناطقيًا واثنيا ودينيًّا وطائفيًّا مثلما تمثله على صعيد الفوارق الاجتماعية من حيث مستوى التعليم والمهن وشرائح العمر. سوى أن القيام بمثل هذا التحقيق ضمن الظروف الراهنة التي يرزح السوريون تحت وطأتها كان أقرب إلى الاستحالة. ولذلك استقر الرأي بالتعاون مع الزميل والصديق الدكتور طلال المصطفى على اتباع طريقتين منهجيتيْن، أولاهما تكوين مجموعات بؤرية تجري فيها مناقشات مركزة تتناول موضوعات الأسئلة المطروحة حول الهوية الوطنية السورية، وثانيتهما إجراء مقابلات معمقة مع شرائح المجتمع السوري ومكوناته المختلفة. من الواضح والحالة هذه أن هذه الدراسة وهي تحلل نتائج هذا الاستقصاء يجب أن تكون حذرة في اعتبار نتائجه أكثر من محض مؤشرات تقريبية ومؤقتة بانتظار مقارنة ميدانية أكثر اتساعًا ودقة حين تسمح الظروف بذلك.

ستختتم الدراسة بخلاصة عن مستقبل الهوية الوطنية السورية في سورية الجديدة المنتظرة، وبما يمكن اعتماده من مقومات أساس لا بد من تظهيرها كي تصير جوهرية في هوية وطنية سورية ترعاها و "تبتكرها" مجدَّدًا دولة مركزية وطنية وديمقراطية، بوصفها شرط وجود مثل هذه الهوية بعد تقاعس النظم المختلفة التي تعاقبت على سورية  عن أو إهمالها العمل على نقلها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.

 

 

 

 


 

توطئة

يتطلع هذا البحث إلى إعادة طرح شامل لموضوع الهوية الوطنية السورية انطلاقًا من المعطيات التاريخية والثقافية الخاصة بها من جهة، ومقارنة بهويات وطنية أخرى مجاورة، في محاولة للإجابة عن أسئلة رئيسة تتناول طبيعتها ومقوماتها وإمكان وجودها واقعًا أو احتمالًا أو استحالة. وقد صيغت من أجل تأطير هذا البحث وتحديد مساره، اعتمادًا على الكتابات التي سبق أن تطرقت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى موضوعها مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فرضيتان سيجري البحث فيهما ودراسة صلاحيتهما. أولاهما ترى في الهوية الوطنية السورية مفهومًا تبلور في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي بوصفه شعارًا وهدفًا سياسيًا مع المؤتمر السوري الذي عقد عام 1920 وقيام المملكة السورية العربية التي سرعان ما تهاوت بفعل وضع فرنسا وبريطانيا اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ وبدء عهد الانتداب الفرنسي على بلاد الشام الشمالية، سورية ولبنان، وسيطرة المملكة المتحدة على جنوبها: فلسطين والأردن؛ وتعتبر ثانيتهما  أن الهوية الوطنية السورية وإن كانت طرحت بوصفها مشروعًا لدولة سورية "الصغيرة" التي قررها طرفا سايكس بيكو وأنجزتها فرنسا على الأرض برسم حدودها الجغرافية ــ وكذلك نتيجة التطورات التاريخية التي عرفتها سورية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية ــ إلا أنها بقيت مفهومًا إشكاليًّا أقرب إلى الافتراض منه إلى الواقع وأنه لاعتبارات تاريخية وجغرافية وثقافية معًا، ما يزال محض مشروع يستدعي التضافر والتضامن بين مكونات سكان سورية كافة من أجل تحقيقه عقدًا اجتماعيًّا توافقيًّا ومن ثمَّ واقعًا معيشًا.

أي، بعبارة أخرى، وبصدد الفرضية الأولى: هل يمكن اعتبار مفهوم "الهوية الوطنية السورية" مفهومًا قائمًا على أساس وقائع سياسية وجغرافية وتاريخية تدعمه، أم أنه محض مفهوم نظري يستخدم شعارًا سياسيًا لمشروع تحقيق الدولة الوطنية على أساس عقد اجتماعي طوعي وتوافقي بين المكونات السكانية المختلفة الموجودة في ما يعتبر اليوم سورية الحديثة بحدودها المعترف بها عند استقلالها عام 1946؟ أم هو مفهوم وجدت عناصره وما تزال توجد في الواقع المعيش، أي إنه موجود بالقوة، إلا أنه لم يتحول إلى مفهوم بالفعل نظرًا لغياب الشرط الضروري لمثل هذا التحول، وهو وجود سلطة في دولة مركزية قائمة على عقد اجتماعي توافقي؟ ثم بصدد الفرضية الثانية: ألا تدل الوقائع التاريخية منذ اتفاقية سايكس بيكو وحتى انفجار الثورة السورية عام 2011 على أن مفهوم الهوية الوطنية السورية، طوال عقود السنين التي دامها الانتداب الفرنسي ثم السنوات التي تلت الاستقلال حتى انقلاب آذار/مارس 1963 العسكري، بقي مفهومًا ملتبسًا وشعارًا خجولًا أو خلبيًّا مع وجود شعارات أخرى تدعو تارة إلى انتماء أممي، وتارة إلى انتماء إسلامي، وأخرى إلى انتماء قومي؟ وهل كانت الهوية الوطنية السورية طوال السنوات الخمسين التي دامها حكم البعث ثم العائلة الأسدية إلا شعارًا غائبًا كليًّا عن الأدبيات السياسية البعثية لمصلحة مفهوم هوية قومية عربية تفتقر إلى أساس تسوّغه حقائق التاريخ أو الجغرافيا، شأنه شأن بعض شعارات حزب البعث ذاته: أمة عربية واحدة، أو: وحدة، حرية، اشتراكية؟

يسعى هذا البحث،إذن، عبر محاولة الإجابة عن هذيْن السؤاليْن/الفرضيتيْن، إلى تسليط الضوء على مفهوم الهوية الوطنية السورية، وتطور مقوماته تاريخيًا، وبيان كيفية وجوده واقعيًا في تاريخ سورية ومدى تطابقه سواء مع حدودها الطبيعية أم مع حدودها السياسية اليوم، في العهود القديمة بوجه عام وكذلك بدءًا من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم.

مقدمة: في تعريف الهوية الوطنية

ارتبط مفهوم الهوية بظهور النزعات القومية في أوروبا في القرن الثامن عشر وتوطيدها تنظيرًا وإنجازًا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. وقد استقر في المفاهيم الخاصة بالأمة ما عرف بالتعارض الكلاسيكي بين مفهومين ارتبطا بواضعيْهما وبانتمائهما القومي، أولهما الألماني هردر الذي تحدث عن مفهوم ثقافي بما أن كل أمة هي نتيجة ثقافتها الخاصة التي تنتقل في الزمان، كضرب من ميراث يفرض نفسه عبر اللغة الأم؛ وثانيهما الفرنسي إرنست رينان في نهاية القرن التاسع عشر الذي تحدث عن مفهوم لا يعتمد العرق ولا اللغة بل الإرادة الحرة في انتماء جماعة سياسية محددة، بما أن المبدأ الأساس يقوم على أن "الإنسان كائن عاقل وأخلاقي قبل أن يُصاغ في هذه اللغة أو تلك". وبعبارة أخرى، عرفت أوروبا هذا التعارض بين مفهومين للأمة، أحدهما "على الطريقة الفرنسية" يقوم على انتماء الأفراد الحر والعقلاني إلى جماعة سياسية، والآخر "على الطريقة الألمانية" يفضل الانتماء الحتمي إلى مجموع عضوي، كما تقول آن ماري تييس (Anne-Marie Thiesse). سوى أن المفهومين كليهما شاركا معًا في بناء الأمم الأوروبية وأحيانًا بصورة كلية، أي باستخدام عناصرهما في آن واحد، بحسب المتغيرات السياسية والاجتماعية.

ما الأمة في هذه الحالة؟ يجيب رينان مرة أخرى: "الأمة هي روح ومبدأ روحاني. شيئان يؤلفان - والحق يقال- شيئًا واحدًا، يؤلفان هذه الروح، هذا المبدأ. أحدهما في الماضي، والآخر في الحاضر (...) في الماضي تراث المجد وضروب الآلام المشتركة، وفي المستقبل برنامج واحد واجب الإنجاز. (...) تفترض الأمة ماضيًا، وتتلخص في الحاضر بواقع جلي: الرضا، الرغبة المعبر عنها بوضوح في الاستمرار بالحياة معًا. (...) ليس الإنسان عبدَ جنسه، ولا عبدَ مجرى الأنهار، ولا عبدَ اتجاه الجبال. إذ إنَّ جمعًا توافقيا من البشر (...) ــ هو من ــ يخلق وعيًا أخلاقيًا يسمى الأمة."[3].

سوى أنَّ مصطلح "الهوية الوطنية" ذاته بوصفه مفهومًا مستخدمًا في الأدبيات السياسية عمومًا أو في الخطاب السياسي اليومي خصوصًا، لم يكن معروفًا ولا مستخدمًا بهذا المعنى الجماعي، أي دلالة على الانتماء إلى أمةٍ ما، حتى في أوروبا، قبل سبعينيات القرن الماضي. فقد كان الحديث يجري "بحسب الحقب، عن (روح)، أو عن (عبقرية)، أو عن (عقل) الأمة"[4] لقول ما بات يعنيه اليوم في عدد كبير من التعريفات مفهوم الهوية. ولن يبدأ في أوروبا – خصوصًا - انتشار هذا المفهوم الأخير مرتبطًا صراحة بمفهوم الأمة إلا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي عادت فيه "المسألة القومية" إلى الظهور من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ثم بعد نزع الشرعية الفكرية عن الأممية الماركسية وتحقق تغيرات اجتماعية في أوروبا على "قاع فكري فارغ"[5]. غير أن "الهوية الوطنية"، صارت منذئذ، بحسب قول عالميْ اجتماعٍ بريطانييْن، "أحد أكثر المفاهيم نقاشًا وأقلها فهمًا في نهاية القرن العشرين"[6]. ولهذا، لا بد أن يحملنا ذلك، في أي مقاربة لهذا المفهوم من الحذر، على صعيديْ النظر والتطبيق، من الانزلاق نحو المتاهات الأيديولوجية أو بريق التفكير الرغبوي. فعلى غرار مفهوم الأمة، وربما لأنه يعتمد أساسًا عددًا من مقومات صيغ مفهوم الأمة التي رافقت ظهور وتبلّرَ النزعات القومية في القرنين الثامن والتاسع عشر، لا بد أن نسجل منذ البداية غياب تعريف جامع مانع مُجمَعٍ عليه لمفهوم الهوية الوطنية. ولهذا، لا مجال هنا سوى الانطلاق مبدئيًا من اعتماد العناصر التي تضمنتها التعريفات المختلفة التي قدمت لـ"الأمة" واستعيدت كما هي من بعدُ في تعريفات الهوية الوطنية النظرية، على أن تستكمل عند استخدام التعريف المعتمد على هذا النحو تطبيقيًا بما تستدعيه خصوصية موضوع الدراسة معرفيًا أو اجتماعيًا أو جغرافيًا أو تاريخيًا.

لا يمكن للهوية الوطنية أن تتكون بناء على ذلك إلا عبر عملية تاريخية متعددة الأزمنة كما يقول إدغار موران متحدّثًا عن تكوين الفرنسة تاريخيًا ومن ثمَّ الهوية الفرنسية مثلًا[7]. هنا أيضًا قامت الثورة الفرنسية بدور تأسيسي لهذه الهوية القائمة على الإرادة والإخاء، بخلاف المفاهيم المنغلقة والحصرية كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا في بدايات القرن الماضي، وهما أيديولوجيتان تجدان في وجوه عديدة ورثة لهما في مفاهيم اليمين المتطرف في دول أوروبا اليوم عن الأمة والهوية الوطنية القائمة على الإقصاء ورفض الآخر والانغلاق على الذات.

وعبر نظرة سريعة لمجريات التاريخ في القرن العشرين، نجد أن مفهوم الهوية الوطنية قد احتل - في دلالاته بالتأكيد لا في تسميته - مقدمة المشهد السياسي في عدد من الدول الأوروبية الديمقراطية، خلال مراحل الأزمات الكبرى التي عرفتها في الحرب العالمية الأولى، بل كذلك معها الاتحاد السوفياتي إبان الحرب العالمية الثانية؛ مثلما حدث خلال السنوات الخمسين الأخيرة مع صعود اليمين المتطرف في عدد من دول الديمقراطيات الغربية. ففي فرنسا ثمانينيات القرن الماضي مثلًا، كان زعيم اليمين المتطرف، جان ماري لوبين، هو من روّج تعبير "الهوية الوطنية" الذي لم يكن يستهدف به في حقيقة الأمر، ومن خلال تمجيد "العرق الفرنسي"، سوى التنديد بالمهاجرين الذين سيشوِّهون هذا العرق ماداموا لا يملكون الصفتيْن اللتين راجتا في ثلاثينيات القرن الماضي، أي سنوات صعود النازية والفاشية في أوروبا، من أجل تمييز المهاجرين الأوروبيين، من بولونيين وإيطاليين، البيض والكاثوليكيين، عن غيرهم من القادمين من خارج أوروبا والأرمن وسكان المستعمرات الفرنسية الذين لا يمكن لهم الاندماج ضمن "الهوية الفرنسية"؛ وكان من أثر هذا الترويج أن اعتمد مرشحو اليمين التقليدي لرئاسة الجمهورية استخدام هذا التعبير منذ ذلك الحين مستهدفين إغراء ناخبي اليمين المتطرف خلال معاركهم الانتخابية.

في ضوء ما سبق، يمكنانطلاقًا من هذه العناصر المقومة الأساس لمفهوم الأمة، تحديد تلك التي يمكن اعتبارها أو قبولها مقوِّمَة لمفهوم الهوية الوطنية والتي تتواجد في كل حال في الأغلبية العظمى من مقترحات تعريف الأمة، ومن ثمَّ خلال العقود الأربعة الأخيرة، الهوية الوطنية، بما يلي: اللغة، الأرض، المصالح المشتركة؛ أما تلك التي تتكرَر معها في عدد من هذه التعريفات ويتفاوت استقبالها بين رفضها أو التحفظ عليها أو اعتبارها مقوّمة جوهريًا، فهي التي تتمثل بوجه خاص في: الدين، والعادات، والثقافة والماضي المشترك والتطلع إلى مستقبل مشترك هو الآخر. وتجب الإشارة هنا إلى أن هناك من يضيف شرطًا قانونيًّا يتمثل في سلطة مركزية تتجسَّد في الدولة التي، كما يكتب بيير بيرنبوم (Pierre Birnbaum)، "تبتكر الأمة وتخلق ثقافتها من البداية حتى النهاية"[8]؛ الدولة، بهذا المعنى، شرط وجود الأمة واستمرارها وهي من ثمَّ شرط وجود الهوية الوطنية، لا أحد العناصر المقومة لها، بما أنها هي من "تبتكر الأمة"، أي هي التي تعمل على تظهير هوية موجودة بالقوة وجعلها موجودة بالفعل.

يذهب باحثون،في بعض الحالات الاستثنائية كالحالة الفلسطينية، إلى الانطلاق من القول إنَّ الهوية الوطنية هي "مجموع السمات المميزة لشعب من الشعوب متمثلة في اللغة والعادات والتقاليد والثقافة والمواقف المشتركة بصدد القضايا المصيرية"[9]؛ لكنَّ أيَّ تعريف يتطلع إلى التأسيس النظري لا بد من أن يكون أكثر عمومية وأقل خصوصية، كي يجري بعد ذلك فحص صلاحيته على الصعيد التطبيقي لدراسة أي هوية وطنية مطروحة للبحث عامة، والعمل آنئذ على تخصيصه وإغنائه بفعل العناصر التي يفرضها الواقع المدروس.

ولذلك فتعريف الهوية الوطنية الذي يمكن اقتراحه معرفيًّا واجتماعيًّا، بناء على ما سبق، هو أنها مفهوم ينطوي على عناصر مقوّمة تميز شعبًا عن سواه، تتمثل خصوصًا في اللغة والأرض والعادات والثقافة والمصالح المشتركة. أي إن أي مجموعة بشرية تمتلك هذه العناصر، هي أمة بالقوة، بانتظار شروط تحققها الفعلي والمادي، وهي التي تتمثل في وجود إرادة في العيش المشترك وفي التوافق على عقد اجتماعي يؤسس لشرط الوجود بالفعل، أي للسلطة المتمثلة في الدولة التي ستكون صورة هذه الهوية الوطنية وعنوانها وحصيلتها، ومن دونها تبقى الأمة أو يبقى تعبيرها المتمثل في الهوية الوطنية موجودًا بالقوة، لا مُجَسَّدًا بالفعل.

مدخل: لماذا الهوية الوطنية السورية اليوم؟

قبل الدخول في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا استعراض مجموعة الأسئلة التي تفرض نفسها ما إن تثار مسألة الهوية الوطنية السورية تبعًا لسؤال أساس ذي شقيْن: الأول، هل هناك مجال للحديث عن أمة ذات "هوية" سورية تميزها عناصر مقوّمة جوهرية في المنطقة التي يطلق عليها تارة البلاد السورية وتارة بلاد الشام؟ والثاني، إلى أيّ حدٍّ يمكن الحديث عن هوية وطنية سورية كاملة الأوصاف في بلدٍ رُسِمت حدوده وقررت تسميته قبل قرن من اليوم ولم يوضع فيه ما يشبه أسس دولة حديثة إلا بعد تقرير حدوده بنيِّفٍ وربع قرن، من دون نسيان التقلبات السياسية العنيفة التي توالت عليه أو تجاهلها، بين إعلان استقلاله وولادة دولته وهيمنة نظام استبدادي صارم وشمولي وغير مسبوق في المنطقة العربية طوال نصف قرن؟

فئتان كما نرى من الأسئلة:

الأولى، إذا كان مفهوم الهوية الوطنية مرتبط تاريخيًّا ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الأمة، مادام لاوجود للأول من دون وجود الثاني، فلابد لأول سؤال يمكن أن يطرح تبعًا لذلك من أن يمسَّ وجود هذه الأمة "السورية" ومن ثمَّ الهوية الوطنية السورية المعبِّرة عنها، واقعًا ومفهومًا. فهل وجدت فعلًا يومًا ما (أي ماديًّا ومعنويًّا)، على مدى التاريخ القديم أو الحديث، بل خلال المئة سنة الأخيرة "أمة سورية" بالمعنى الذي يجري الحديث فيه عن أمة فرنسية أو أمة ألمانية؟ وبافتراض هذا الوجود في مرحلة تاريخية قصيرة أو طويلة خلال السنوات المئة الأخيرة، ما الذي كانت عليه مقوماته أو أسسه او تعبيراته السياسية والاجتماعية سواء في الفكر السياسي أم في الممارسة اليومية؟ وبإيجاز: هل كان مفهوم الهوية الوطنية السورية منذ ولادة الكيان السياسي السوري الراهن مفهومًا نظريًا أقرب إلى الفكر الرغبوي منه لدى بعضهم إلى الواقع العملي، أم أنه كان مجموعة عناصر تميز سكان البلاد السورية أو بلاد الشام عن سواهم يمكن النظر إليها بوصفها مفهوم هوية سورية أو شامية بالقوة؟ وهل استطاعت الأنظمة المتعاقبة منذ استقلال هذا الكيان أن تنشئ أسس عقد اجتماعي يمكن أن يكرس وجود أمة سورية، ومن ثم تثبيت عناصر مقوّمة أو تظهيرها لتؤلف هوية وطنية حقيقية تربط بين السوريين جميعًا، على اختلاف أصولهم الاثنية أو الدينية أو الطائفية أو المناطقية أو الطبقية، وينتمون إليها؟

الثانية، ما الذي يجعل من الهوية السورية حصرًا، قضية مطروحة في بعدهاالوجودي اليوم؟ وما الذي حمل السوريين على الاهتمام بموضوع "الهوية الوطنية" منذ أن خرجت جماهيرهم في آذار/ مارس 2011 تطالب بالحرية وبالكرامة، مُعلنةً منذ البداية بأن الشعب السوري واحد، كما لو كانت تستبق محاولات التجزئة والتشرذم التي ستواجهها كلَّها من بعد، بصورة أو بأخرى؟ وكيف حدث أن هذا الموضوع، الهوية الوطنية السورية، كان غائبًا عن أبحاث معظم من كتب في الفكر والتاريخ السياسيين طوال عقود النصف الأول من القرن العشرين بل شبه محظور أي بحث فيه منذ هيمنة البعث، ومن بعده العائلة الأسدية، على مقدرات سورية طوال خمسين عامًا؟ وما الذي حمل بعض الدوائر المقربة من النظام الأسدي على طرح هذا الموضوع من جانبها في ندوة عقدت بدمشق في الشهر الأول من عام 2018 بعنوان «الهوية الوطنية: قراءات ومراجعات في ضوء الأزمة السورية»؟ بل أن يقوم رأس النظام الأسدي بالتصريح في نهاية العام نفسه «أن سورية والمنطقة العربية عمومًا تمر بأزمة هوية»، وذلك بعد أن كان قد أوضح نظرة نظامه إلى مسألة الهوية قبل عام من ذلك، أي عام 2017، حين قال: "ربحنا مجتمعًا أكثر تجانسًا، وهذا التجانس هو أساس الوحدة الوطنية"؟

تفرض هذه الأسئلة في الفئتين كلتيهما ضرورة بحث السبب الذي يحمل بعض الباحثين على اعتبار مفهوم "الهوية الوطنية السورية" مفهومًا إشكاليًّا: إشكاليًّا في قوامه وفي أسسه، بل في وجوده الملموس سياسيًّا واجتماعيًّا. ولعل هذا ما يفسر الحذر في كل ما كتب من مقاربات جادة حوله باستثناء الكتابات الأيديولوجية التي بقيت مقارباتها أقرب إلى برامج افتراضية للعمل من أجل تجسيد المفهوم أكثر منها تعبيرًا أو برهانًا أو تأكيدًا على وجوده الواقعي.

على أن هذه الأسئلة، بفئتيها، هي ما سيحاول هذا البحث العمل على محاولة الإجابة عنها في الفقرات الآتية، من خلال التحليل المباشر أو المقارن وعبر استجواب النصوص أو الوقائع التاريخية.

الهويات الوطنية في المنطقة العربية تاريخيًا

أ. العالم العربي في دوائره الأربعة

تسمح نظرة سريعة على الكيانات السياسية القائمة في العالم العربي منذ الحرب العالمية الأولى ومقارنة ما كانت عليه قبل ذلك التاريخ باستخلاص وقائع تاريخية يمكن أن تفسر ضروب التفاوت على صعد التكوين التاريخي والسياسي والمجتمعي في العالم العربي. فمن الواضح أن العالم العربي ينقسم جغرافيًّا إلى مناطق أربعة تتشابه في تكوينها التاريخي: 1) بلاد الشام والعراق، 2) شبه الجزيرة العربية في المشرق من ناحية، 3) وادي النيل مع مصر والسودان،4) وبلدان المغرب في شمال أفريقيا من ناحية أخرى.

تبرز في هذه الكيانات أكبر وربما أول دولة عرفتها العصور القديمة، دولة مصر الفرعونية المركزية التي استطاعت، بما حققته من ضروب التقدم في المجالات جميعها على مرِّ عصورها المختلفة، كما كشفت عن معظمها بالتدريج علوم المصريات التي أدت إلى ولادتها حملة بونابرت في بداية القرن التاسع عشر. لم تمَّح، على الرغم من مرور آلاف السنين على صعيد المجتمع والعادات، ثوابت راسخة وإن اتخذت ألوانًا مختلفة أو متباينة عبر العصور المختلفة خلفها هذا الماضي العريق لأول تنظيم سياسي واجتماعي وثقافي متماسك عرفته الحضارة البشرية، بحيث يمكن الحديث اليوم وبإيجاز شديد، عن"هوية ثقافية مصرية"، أمكنها احتواء الثقافات الأخرى كلها التي عرفتها مصر خلال تاريخها، يونانية أو رومانية، من قبل، أو أن تضع لمساتها الخاصة على سواهما من الثقافات التالية عليهما، وأهمها الثقافة التي دخلتها وتبنتها منذ القرن السابع الميلادي، أي الثقافة العربية الإسلامية. ولقد أدّى هذا التراكم الثقافي والسياسي والاجتماعي، ضمن استمرارية الدولة المركزية على مر العصور، إلى وجود هوية مصرية وطنية ذات معالم واضحة، وقوام كثيف، ورسوخ عميق، سواء في الوعي الجمعي أم الوعي الفردي، أم في القدرة على التعايش والتفاعل مع الهويات القريبة في العالم العربي، أو مع الهويات المجاورة في أفريقيا، أو تلك التي تتشارك معها من حول البحر المتوسط[10].

لا وجود في العالم العربي لما يماثل ما قدَّمه تاريخ مصر عبر العصور من ثمرات على الصعد كلها، وبوجه خاص على صعيد تكوين الأمة في مصر وهويتها الوطنية ذات القوام السياسي والثقافي والاجتماعي، ضمن استمرارية تاريخية يندر العثور على مثيلها في مسار الأمم والدول الأخرى الطويل، ومن ثمَّ، لا وجود، بالأحرى، لما يماثل عراقتها في العالم العربي. لا يعني ذلك أن الهويات الفرعية فيه لا وجود لها. فمن الملاحظ أن المناطق التي واجهت الاستعمار الفرنسي خلال عشرات السنين، كالمغرب الأقصى والجزائر وتونس، أو البلد الذي استهدفته محاولة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الذي عمَدَ منذ البداية لا إلى إنكار وجود شعب في فلسطين فحسب بل إلى طمس هوية هذا الشعب ودفنها تراثًا ولغة واستمرارية تاريخية، استطاعت أن تبني هويتها الوطنية تدريجيًا اعتمادًا على تاريخ عميق كالمغرب الأقصى وتونس، أو على نضال لم يتوقف خلال قرن وثلاثة عقود كالجزائر، أو على نضال كان أول سلاح استخدمه من أجل تحقيق هدفه العمل على تثبيت هوية حاول المستعمر الاستيطاني إنكارها كفلسطين. هذا في حين عملت ممالك وإمارات الخليج على تثبيت هويات وطنية مثلما عملت في الوقت نفسه على محاولة تثبيت هوية جامعة، خليجية، ينتمي إليها مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي، من دون أي اعتماد، كما هو واضح أيضًا، بالنسبة إلى هذه الأخيرة، على تراث تاريخي أو ثقافي حفلت به الجزيرة العربية منذ أقدم العصور ولم يكشف الستار عنه بعد عبر الاكتشافات الأثرية المنجزة حتى الآن إلا جزئيًا وعلى نطاق ضيق.

على أنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا الواقع التاريخي ينطوي أيضًا، وفي مختلف البلدان العربية المشار إليها، على ضروب مختلفة من الصراع أو التعايش بين المكونات الداخلية - والاثنية منها خصوصًا - والهوية الوطنية أو "القطْرية" كما يطلق عليها في بعض البلدان العربية، أو بين هذه الأخيرة والهويات الجامعة الأوسع: الهوية الإسلامية أو الهوية العربية.

ب. سورية في العصور القديمة

أما في ما يتعلق بالهوية الوطنية السورية حصرًا، فإننا ما إن نستعيد أعماق التاريخ "السوري"، حتى نكتشف أن المرحلة التاريخية الوحيدة التي كانت فيها سورية (وبصورة أدق، بلاد الشام) انطلاقًا من العاصمة دمشق، مركز دولة مركزية خلال مرحلة زمنية قاربت القرن، كانت هي بداية الدولة العربية/الإسلامية التي أقام دعائمها بدمشق مؤسس الدولة/الإمبراطورية الأموي معاوية بن أبي سفيان. وباستثناء هذه المرحلة الوحيدة، لم تكن بلاد الشام، أو سوريا الكبرى، قبلها، إلا ولاية أو مجموعة ولايات تابعة لإمبراطوريات أخرى: كالسلوقية التي كانت عاصمتها في حقبتها الأخيرة أنطاكية، أو الرومانية أو البيزنطية، بعد أن عرفت، بدءًا من الألف الثالث قبل الميلاد،مجموعة من دول/مدن، تعاصرت أو توالت على الخريطة السورية المعروفة اليوم التي عرفنا بعضًا منها من خلال الآثار التي بدأ اكتشافها منذ نهاية القرن التاسع عشر: ماري، إيبلا، أوغاريت، أفاميا، إلخ[11]. ومن ثم لم يكن ثمة مجال خلال هذا التاريخ الطويل السابق على الفتح العربي لتكوين هوية جامعة، سواء بالقوة من خلال وجود بعض العناصر المقومة كاللغة أم نتيجة وحدة سياسية أواجتماعية أوثقافية، تطورت من خلال استمرارية تاريخية كتلك التي عرفتها مصر على الرغم من الحقب التي حكمتها خلالها، على قصرها، أسرٌ أجنبية (الهكسوس)، أو في إثر الاحتلال الفارسي (قمبيز).

يمكن تأريخ بدايات تكوّن تدريجي للعناصر المقومة لهوية جديدة في مجموع البلاد السورية بالفتح العربي الذي جرى بين عاميْ 632 و640 ميلادي والذي جعل منها بعد إنجازه أربع ولايات أو أجناد (جند دمشق وحمص وفلسطين والأردن) خاضعة كلها للعاصمة التي كانت آنئذ مدينة يثرب (المدينة المنورة)، قبل أن تنتقل الخلافة إلى بني أمية في إثر مقتل علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين وتنتقل العاصمة يومئذ إلى دمشق على يدي معاوية بن أبي سفيان. أول هذه العناصر كان اللغة العربية التي كانت إحدى اللغات التي يتكلمها السوريون ذوو الأصل العربي التي أمكن لها خلال عقود عدّة أن تصير هي اللغة السائدة، بما في ذلك لغة المؤسسات الرسمية. أما العنصر الثاني، فهو التعددية، سواء على صعيد الأصول العرقية (عربًا وأكرادًا وسريانًا) أم على صعيد الديانات (الإسلام والمسيحية واليهودية). أما العنصر الثالث، فسيكون بلا شك الثقافة المشتركة بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة، أي العادات والأعراف ومختلف ضروب العلاقات الاجتماعية التي اختلطت فيها الموروثات التاريخية من العصر البيزنطي مع تلك التي كانت خاصة بالعرب من سكان البلاد السورية قبل الفتح الإسلامي أو تلك التي حملها العرب القادمون من الجزيرة العربية بعده. وكان وجود مركز السلطة السياسية بدمشق عاملًا شديد الأهمية لا في المساهمة في تكوّن هذه الهوية فحسب، بل في رعايتها وحماية خصوصيتها منذ بدايات تكونها بدليل استمرارها حتى بعد انتقال الخلافة إلى العباسيين ومركز السلطة السياسية من دمشق إلى بغداد.

ج. سورية أو بلاد الشام قبل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو

على غرار العصور القديمة، ومنذ سقوط الدولة الأموية وانتقال مركز الدولة والإمبراطورية من دمشق إلى بغداد، عاد الوضع في سورية الطبيعية إلى ما كان عليه، أي مجموعة ولايات تابعة للإمبراطورية العباسية ثم لمختلف الدول أو الإمبراطوريات التي انفصلت عنها أو نشأت على أجزاء من أراضيها وتوالت بعدها وكانت سوريا الطبيعية جزءًا منها، وصولًا إلى الخلافة العثمانية التي كانت فيها البلاد السورية مقسَّمة إلى ولايات حتى قيام الثورة العربية الكبرى مع نهاية الحرب العالمية الأولى. ذلك يعني أن أحدًا من القوى السياسية والاجتماعية حتى ذلك الحين لم يكن يتحدث إلا بمفردات الانتماء العربي ولاسيما بالتزامن مع ظهور الجمعيات ذات الطابع السياسي والقومي على امتداد جغرافية الرجل المريض في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولم يكن من قبيل الصدفة أن "النهضة الثقافية" التي عرفها العالم العربي في ذلك الحين سوف تنطلق من بلاد الشام وتصل إلى مصر حيث كانت النهضة الكبرى التي أطلقتها دولة محمد علي بعد حملة نابليون بونابرت تواجه مختلف العقبات التي وُضِعَت في وجهها، وخصوصًا بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1880.

على أن عبارتيْ - وليس مفهوميْ - "الأمة السورية" و "القضية السورية"، ولكن ضمن الإطار العربي، استخدمتا أول مرة بوضوح وبصورة رسمية مكتسبتيْن بعدًا جماهيريًا واسعًا، حين أعلن الأمير فيصل بن الحسين بدمشق، يوم الخامس من تشرين أول/أكتوبر 1918، في إثر انهيار الدولة العثمانية ودخول القوات العربية إليها، متوجهًا إلى " أهالي سورية"، تشكيل "حكومة دستورية عربية مستقلة استقلالًا مطلقًا لا شائبة فيه (...) شاملة جميع البلاد السورية"[12]. فبعد أربعمئةعامٍ في ظلِّ وتحت إدارة الإمبراطورية العثمانية، تستعيد بلاد الشام أو سوريا الطبيعية، واحدة من هوياتها الأولى، العربية، وليس الإسلامية أو سواها؛ للمرة الأولى في تاريخ العرب كله، كما كتب إدمون رباط[13]. وعلى أهمية إعلان فيصل هذا في وضع تاريخي كان يسابق فيه الزمن - بعد أن تناهى إلى علمه مضمون اتفاق سايكس/بيكو ووعد بلفور - كي يفرض على الإنكليز الذين بدؤوا في إثر انتهاء الحرب والإعداد لمؤتمر الصلح بالكشف تدريجيًا عن تخليهم عن وعودهم بالأمس للشريف حسين والتعاون مع الفرنسيين لإدارة بلاد الشام، تمثيلَهُ للسوريين، ومن أجل حمل الحلفاء في مؤتمر الصلح على الاعتراف بالحكومة الدستورية العربية "وباستقلالها استقلالًا مطلقًا لا شائبة فيه "باسم مولانا السلطان حسين"، شاملة جميع البلاد السورية[14]"،و"بموجب تشكيل حكومة المديرين كأول شكل من أشكال الحكومة العربية، أُسِّسَ بعد مرحلة بسيطة المجمع العلمي للغة العربية وحلت اللغة العربية محل اللغة التركية (...) بدءًا من 25 تشرين أول/أكتوبر 1918، أي مع بدايات الحكم العربي"[15]. وبعد انعقاد المؤتمر السوري في دورته الثالثة، أعلن استقلال سورية -ضمن حدودها الطبيعية - في 8 آذار/مارس 1920. وعلى أنه استقلال سرعان ما سينتهك بالاحتلال الفرنسي تطبيقًا لاتفاقية سايكس/بيكو للجزء الشمالي من سورية الطبيعية والإنكليزي للجزء الجنوبي منها، فإن السوريين استمروا في إحياء ذكرى استقلال الدولة العربية السورية ثمانية عشر عامًا، وكان الاحتفال الأخير هو الذي أحياه شكري القوتلي يوم 8 آذار/ مارس 1948[16]. ومع أن هذا "الاستقلال السوري" عبر "المؤتمر السوري" و"المملكة السورية العربية" التي عمل من أجلها ثم لأجلها في ظلها، أو "المملكة العربية السورية"، لم يكن يؤسس بالمعنى المعرفي لمفهوم "أمة سورية" لها خصوصيتها[17] بقدر ما كان ينطلق تحت ضغط الظروف السياسية الدولية يومئذ من هذه البداية بوصفها خطوة على طريق تحقيق الوحدة القومية الكبرى، وهو ما عبر عنه الأمير فيصل آنئذ في دعوته إلى وحدة قومية تتجاوز الدين والطائفة في واحدٍ من خطاباته بالقول: "العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد"[18]، فإن أول دستور بادر المؤتمر السوري للعمل من أجله منذ دورته الأولى حين ألف "لجنة القانون الأساسي – الدستور"برئاسة هاشم الأتاسي هو من أرسى أسس مفهوم دولة قومية لامركزية مستقلة في سورية الطبيعية اعتمدتها النخبة السياسية السورية يومئذ أساسًا لما كانت تطمح إليه، آخذة بعين الاعتبار الظروف الدولية وإرادة القوى الكبرى المهيمنة (إنكلترا وفرنسا) التي بدأت تظهر آنئذ إلى العيان. ذلك أن الذين عكفوا على وضع هذا الدستور كانوا يمثلون جزءًا، لا من نخبة سياسية فحسب، بل كذلك من نخبة قانونية وثقافية رفيعة المستوى. ويكفي أن نقرأ مواد الدستور الجوهرية التي وضعت أسس الدولة السورية الجديدة كي نتبيَّن النوسان بين "انتماء سوري" بحت وتأطير هذا الانتماء السوري بالعروبة. ففي المادة الأولى من الفصل الأول في الدستور نقرأ: "ــ حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية"؛ وفي المادة الثانية والثالثة نقرأ: "2ـ المملكة السورية تتألف من مقاطعات ذات وحدة سياسية لا تقبل التجزئة. 3- اللغة الرسمية في جميع المملكة السورية هي اللغة العربية". كما نقرأ في المادة التاسعة، الفصل الثالث: "يطلق لقب سوري على كل فرد من أهل المملكة السورية العربية"؛ لكن المادة 134 من الفصل الحادي عشر تنص على: "يدير المقاطعة حاكم عام يعينه الملك ويشترط في الحاكم أن يكون سوريًّا عربيًّا بالصفات المشروطة في عضو مجلس الشيوخ".

لاشك في أن إعلان المملكة السورية العربية دولة مستقلة وقيام المؤتمر السوري الذي أدى إليه بالعمل على وضع دستور يعكس طموحات النخبة السياسية والثقافية في سوريا الطبيعية يومئذ، قد اكتسب أهمية تاريخية فريدة في تاريخ المنطقة العربية عمومًا وسورية الحديثة خصوصًا، وذلك بما انطوى عليه من فهم عميق لأسس الدولة المدنية الحديثة ولمعاني الديمقراطية التمثيلية ولضرورة فصل السلطات، وذلك قبل أن توضع الاتفاقيات الفرنسية البريطانية خلال السنتيْن الأخيرتيْن من الحرب العالمية الأولى موضع التنفيذ. وعلى أننا لن نعثر في ذلك كله على إرادة صريحة وواضحة لدى النخبة السورية يومئذ، مع انتماءاتها جغرافيًا إلى مختلف مناطق سورية الطبيعية، في التعبير عن "أمة سورية" من خلال بناء دولة سورية محضة، خارج الانتماء العربي الذي كانت هذه النخبة - كما يبدو - تتطلع إليه بما أنها شاركت بصورة أو بأخرى في الثورة العربية الكبرى التي أطلقها الشريف حسين من مكة، إلا أنَّ إقدام هذه النخبة على هذا العمل التاريخي أدّى، من حيث أرادت أم لم ترد، لا إلى تكريس وحدة سورية الطبيعية ضمن حدودها الإدارية التي كانت عليها طوال أربعة قرون من الحكم العثماني فحسب، بل كذلك إلى ولادة أول دولة تحمل اسم سورية في التاريخ. أي بعبارة أخرى، أول محاولة للعمل على تكريس وجود أمة/هوية سورية بالفعل بعد أن كان وجودها بالقوة (لغة وعادات وثقافة مشتركة) ومحددًا جغرافيًّا في عدد من التقسيمات الإدارية التي عرفتها بلاد الشام مع توالي الإمبراطوريات المختلفة خلال ما يزيد على اثني عشر قرنًا.

ما سيبقى من هاتيْن السنتيْن اللتيْن شهدتا هذه الحركة التاريخية، شديد الأهمية بمختلف المعاني: لا في مجال مفهوم الدولة (ودستورها ومؤسساتها) الذي سوف يُعتَمَدُ بعد قرن من حدوثه مثلًا ومرجعًا لما تتطلع إليه أجيال السوريين خلال العقدين الأوليين من القرن الحادي والعشرين فحسب، بل في النتيجة التي أدّى إليها ولم تكن، إن اعتمدنا مرجعًا وثائق المشاركين في المؤتمر السوري المشار إليه وتصريحاتهم، ضمن الأهداف التي كانوا يعملون على تحقيقها والتي تتمثل في نقل "السورنة" من القوة إلى إمكان الفعل، وهذا على الرغم من أن وضع اتفاقية سايكس بيكو موضع التنفيذ وإن كان قد قضى على المملكة العربية السورية قبل أن تقف على قدميها، إلا أنه لم يقضِ على هذه النتيجة التي باتت تحت الانتداب الفرنسي واقعًا كان على السوريين أن يتشبثوا به في نضالهم من أجل استقلال بلدهم الذي قُطِّعَت أوصاله وتقاسمتها الإمبراطوريتان الاستعماريتان الكبيرتان في ذلك الوقت: فرنسا في الشمال وبريطانيا في الجنوب، مع وعد من هذه الأخيرة بإهداء فلسطين إلى الصهيونية العالمية لإقامة دولتها على حساب سكانها كي تكون عين الغرب الاستعماري الرقيبة في وسط العالم العربي.

خريطة المملكة السورية العربيةالتي أعلنها الأمير فيصل بن الحسين في 8 آذار/ مارس 1920

 




علم المملكة السورية العربية آذار/ مارس 1920 – تموز/ يوليو 1920

شعار المملكة السورية العربية

 د. سورية سايكس بيكو والانتداب الفرنسي

من الممكن القول إن سورية "غير الطبيعية" أو "سورية الصغيرة" أو "سورية الجديدة"، ولدت مع دخول القوات الفرنسية دمشق وإسقاط حكومة المملكة السورية العربية في إثر دخولها وإعلان حكم الانتداب رسميًا في تموز/ يوليو عام 1920عليها. ستتجلى مع هذه الولادة تدريجيًّا مرحلة إشكالية مفهوم الانتماء و"الأمة" في سورية. فمع انتشار النزعات القومية في مناطق الإمبراطورية العثمانية المختلفة، ظهرت جمعيات، تحمل صفة "العربية" وتقول الانتماء إلى العروبة ثقافة ولغة، أسستها ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر نخبٌ تنتمي إلى مناطق المشرق العربي المختلفة خصوصًا. على أن الحديث عن سورية الطبيعية بدأ على الصعيد السياسي حين أسست أول جمعية سياسية سرية في بيروت عام 1875 وكان الهدف الأول في برنامجها الحصول على الاستقلال لسورية ولبنان[19]. إلا أنه لم تعرف جمعية أخرى مماثلة خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر لاسيما أن مطالب عدد من النخب العربية كانت تقتصر على الدفاع عن مصالح العرب الاقتصادية والثقافية لدى الحكومة العثمانية. لكن السوريين (المنتمين إلى مختلف مناطق سورية الطبيعية) بدؤوا ينشطون في تأسيس الجمعيات شيئًا فشيئًا منذ إعلان الدستور بالآستانة عام 1908، مثل جمعية الإخاء العربي العثماني، أو المنتدى الأدبي، أوحزب اللامركزية الإدارية العثماني الذي اقتصر أعضاؤه على العرب من دون غيرهم[20]. سوى أن هذه الجمعيات كافة أسست كي ترفع مطالب عربية قومية في وجه جمعية الاتحاد والترقي التركية. وجاء إعلان الثورة العربية الكبرى على لسان الشريف حسين من مكة كما لو كان تجسيدًا لتطلعات النخب السياسية والثقافية في المشرق العربي التي كان عدد منها وراء تأسيس الجمعيات المذكورة، وذلك قبل أن تتكشف مخططات الإنكليز والفرنسيين في تقاسم المنطقة العربية، وبوجه خاص، سورية الطبيعية التي كانت مآل الثورة العربية المشار إليها وفي الوقت نفسه منتهاها. مآل الثورة العربية، لأن الأمير فيصل ما إن دخل دمشق بوصفه قائد الجيوش العربية في قوات الحلفاء حتى أعلن تشكيل أول حكومة لدولة عربية تشمل الأراضي السوريةكافة، من دون أن يعني ذلك شمول العراق الذي روعي طلبه الاستقلال، أو الجزيرة العربية التي انطلقت منها الثورة العربية الكبرى. ومنتهاها، لأن فيصل، وقد أخذ علمًا باتفاقية سايكس/بيكو بين الفرنسيين والإنكليز، حاول أن يسابق الزمن ويقطع على القوتين الحليفتين الطريق، محاولًا الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرئيس ويلسون شخصيًا، بدءًا من إعلانه استقلال سورية "في حدودها الطبيعية" يوم الثامن من آذار/مارس 1920، وصولًا إلى إقامة المملكة العربية السورية التي ستذهب أدراج الرياح، بعد أربعة أشهر من إعلانها وبعد سنتين من العمل حثيثًا من أجلها عبر المؤتمر السوري، مع دخول القوات الفرنسية دمشق في 24 تموز/يوليو 1920. يسجل هذا التاريخ الأخير ولادة سورية "الجديدة" غير الطبيعية التي ستلد معها إشكالية الانتماء "الوطني"والتباسه معًا، منذ البداية، إلى كيان مستحدث، متعدِّد الانتماءات التاريخية والثقافية والاثنية. ذلك أن النخب السورية التي شاركت في الثورة العربية وخاب أملها في تحقيق الدولة العربية المنشودة التي ولدت مع ذلك نموذجًا لدولة ديمقراطية حديثة لم تعرف المنطقة من قبل مثيلًا لها، بقيت تتطلع إلى استعادة هذه الدولة. ولم يكن الاحتفال طوال نيف وعشرين سنة بذكرى إعلان ولادتها وإعلان استقلالها إلا تأكيدًا من الجيل الجديد من النخبة السياسية والثقافية على انتماء هذه الدولة إلى الأمة العربية التي تحمل اسمها وتمثلها، ورفضه الاقتصار على الهوية "السورية" في حلتها الجديدة التي أراد الانتداب الفرنسي فرضها مكان الهوية "العربية".

كان نجيب الأرمنازي على حق حين افتتح عام 1953 محاضراته عن سورية في معهد الدراسات العربية العالية بجامعة الدول العربية، وعنوَنَ أولاها: الدولة العربية في الشام[21]. ذلك أن سورية "الجديدة" ستولد عبر عمليات قيصرية عدة على أيدي الحكام الفرنسيين الذين فوضتهم حكومة باريس بإدارة شؤون الانتداب في المنطقة الشمالية من سوريا الطبيعية التي اختصت بها فرنسا نفسها، لقاء اعترافها لإنكلترا بالمنطقة الجنوبية (فلسطين والأردن) وبمناطق البترول في شمال العراق. ولأول مرة تجري على ألسنة الفرنسيين وبعض السوريين ممن كانوا يتعاونون معهم في إدارة الانتداب تسميات مثل "الشعوب السورية"، أو "سورية ولبنان" بمعزل عن صفة "العربية" التي كانت تقترن من قبل بسورية اسمًا أو صفة. على أن النخبة السياسية والثقافية ستضطر تحت وطأة التجزئة التي بدأت بها سلطة الانتداب وتقسيمها البلد المجتزأ أصلًا من جغرافيته الطبيعية إلى دول عدّة على أسس طائفية (الدروز والعلويين)، أو مناطقية (حلب ودمشق)، صارت تنادي بـ"الوحدة السورية" مطلبًا رئيسًا لها. وسوف يتحقق هذا المطلب ما إن يجسد السوريون رفضهم القاطع للوجود الفرنسي حين أطلقوا ثورتهم الشاملة عام 1925 التي مثلت المولد الحقيقي "الوطني" لسورية الجديدة. ذلك أن تضامن مختلف المناطق السورية فيما بينها من حول هدف واحد، على اختلاف أصول سكانها الاثنية، أو طوائفهم الدينية، أو انتماءاتهم المناطقية، هو ما أتاح، على قصر مدّة الثورة، 1925 - 1927، فرصة اجتماع شعب على رفض الاحتلال والانتداب الفرنسيين، وأن يعمل بوصفه شعبًا سوريًّا على النضال بالوسائل كلها من أجل الاستقلال والوصول إلى حكم نفسه بنفسه. كانت الثورة السورية يومئذ، بما عنته وأنجزته على صعيد تجاوز الاختلافات المناطقية أو الطائفية أو الانتماءات الاثنية، تحقق وحدة شعب لم ينس بالطبع آنئذ أن بلاده قد قسِّمت واحتلت، وأن عليه أن يستعيد هذه الوحدة التي كاد أن يحققها عند استعادته زمام أموره بعد أربعمئة عام حرم خلالها من المشاركة في صنع التاريخ، ومن صنع تاريخه بوجه خاص. لكن ذلك كله لم يكن يعني انحسار النزعة العربية لدى السوريين أو امّحائها لصالح نزعة سورية وليدة على الرغم من محاولات سلطات الانتداب كلها العمل على توليدها بصورة أو بأخرى للقضاء على الأولى. وفي هذا، لم يكن نجيب الأرمنازي وحده من كان يؤكد حرص السوريين على النزعة العربية لديهم. وما كان لما رأوه بأم أعينهم من خيانة الحلفاء لهم، بل من تقاسم بلادهم بقوة السلاح إلا أن يزيدهم ارتباطًا بالأمّة التي كانوا ينتمون إليها عفويًّا بفعل عوامل اللغة والتاريخ. يكفي أن نقرأ ما طالب به المؤتمر الذي عقد في جنيف في أواخر شهر آب/أغسطس 1921 وشارك فيه ممثلو "الاتحاد السوري والمؤتمر الفلسطيني ومجلس الإدارة اللبناني والاستقلال العربي واللجنة الفلسطينية بمصر وجمعيات عدة في الولايات المتحدة والأرجنتين وشيلي"الذي أنهى نداءه الذي وجهه إلى المجمع الثاني لجمعية الأمم الذي انتظم عقده في أيلول/سبتمبر 1921 "مطالبًا: 1) الاعتراف بالاستقلال والسلطان القومي لسورية وللبنان ولفلسطين؛ 2) الاعتراف بحق هذه البلاد بأن تتحد معًا بحكومة مدنية مسؤولة أمام مجلس نيابي ينتخبه الشعب وأن تتحد مع باقي البلاد العربية المستقلة في شكل ولايات متحدة (فدراسيون)؛ 3) إعلان إلغاء الانتداب حالًا؛ 4) جلاء الجنود الفرنسية والإنكليزية عن سورية ولبنان وفلسطين؛ 5) إلغاء تصريح بلفور المتعلق بوطن قومي لليهود في فلسطين؟"[22].

هـ. إشكالية الانتماء الوطني ومشكلاته في سورية تحت الانتداب

كانت النخبة السياسية في سورية تتأقلم في مواجهتها اليومية لما فرضته ضرورات التعامل مع سلطات الانتداب الفرنسي على سورية طوال ربع قرن، داخليًا وخارجيًّا، مع ما يمكن تسميته انتماء الأمر الواقع الذي فرضه الفرنسيون والإنكليز بتقاسمهم سورية الطبيعية: أي الانتماء إلى سورية ضمن حدودها الجديدة التي ستعيد فرنسا رسمها مجدَّدًا بعد محاولات تجزئة المُجزّأ إلى دول ثلاث (دمشق وحلب ولبنان)، وإقليمين يتمتعان بالحكم الذاتي (جبل العلويين وجبل الدروز) ولواءين تابعين لدولة حلب (اسكندرونة ودير الزور)، ثم التوحيد والتنازل عن لواء الإسكندرون إلى تركيا وقيام دولة لبنان مستقلة كليًّا عن سورية "الجديدة". وهي التجزئة التي لن تمر من دون ظهور نزعات مناطقية لم تكن مع ذلك تصب في مصلحة سلطة الانتداب التي بادرت إلى التنسيق بين هذه "الدول" ضمن الاتحاد السوري الذي صدر قرار إنشائه في حزيران/يونيو 1922.

منذ ذلك الحين استخدمت صفة "السوري" تعبيرًا يلازم أسماء مثل "الشعب" و "الوطن" و"الحكومة" و"الدستور" بل "الأمة" على لسان بعضهم، في الوقت الذي تراجع فيه استخدام صفة "العربي"،أكانت ملازمة لصفة السوري أو منفصلة عنها كلما كان الحديث يتناول سكان سورية "الجديدة" هذه، وذلك سواء في الخطابات الرسمية أم في وسائل الإعلام المختلفة، من أجل خدمة الهدف الذي تبنته النخبة السياسية التي برزت بوصفها قوة وطنية ومقاومة من أجل الخلاص من الانتداب وتحقيق الاستقلال. وقد عملت هذه النخبة التي سبق أن شارك عدد من أعضائها في الحركة العربية المناهضة للدولة العثمانية على تشكيل "الكتلة الوطنية" (عام 1928) التي كانت أول تكتل سوري وطني رسمي على الصعيد السياسي مناهض للانتداب ويسعى لاستقلال سورية التي بقيت في أذهان أعضائه جزءًا من جغرافية أوسع، هي سورية الطبيعية وما حولها من بلدان عربية. وبعد خمس سنوات من تأسيس الكتلة الوطنية السورية، تنادى عدد من كبار السياسيين والمثقفين في أرجاء سورية الطبيعية، كانوا قد التقوا عام 1927 على تأسيس ما عرف بـ"عصبة تكريم الشهداء" الذين استشهدوا دفاعًا عن القضية القومية العربية، لعقد مؤتمر سرّي في جبل لبنان "قرنايل"، جرى خلاله تأسيس "عصبة العمل القومي"؛ وكان من جملةالموضوعات التي بحثها المجتمعون "القضية السورية وتطوراتها الأخيرة وما يمكن أن ينشأ من الأمور بعد وصول المفوض السامي"[23].

لم يكن من قبيل المصادفة في إطار الوضع السياسي والتاريخي الذي كانت تعيشه سورية منذ بدء الاحتلال الفرنسي لها، أن يكون عدد من أعضاء عصبة العمل القومي قد ساهم في تأسيس الكتلة الوطنية أو شارك فيها. لكن، إن كان ذلك يشير إلى اتفاق وحدة الأهداف بين تشكيل سياسي وتشكيل نضالي، فإنه لم يكن يعني التوافق على الخطوات العملية المؤدية لتحقيقها على صعيد العمل السياسي اليومي. ويكفي أن نضرب مثلًا على هذا التنافر ما واجهه صبري العسلي الذي كان عضوًا عاملًا في التشكيلين كليهما، بل وثاني أمين سرٍّ للعصبة بين 1935 و 1936. فقد وافق على المعاهدة السورية ـ الفرنسية عام 1936 وترشح على قائمة مرشحي الكتلة الوطنية عن دمشق للانتخابات النيابية السورية وفاز بالنيابة، وكان ذلك يؤلف في نظر أعضاء العصبة الآخرين، كما يبدو، وجود نزعة قطرية سورية لديه، ما حملهم على إسقاط عضويته من العصبة في العام نفسه[24]. لكنه سيعود إلى العصبة ويتحالف معها في عام 1939. ذلك مثل شديد الدلالة على أن "الهوية" المهيمنة على سلوك معظم السياسيين والمثقفين السوريين وفكرهم، سواء في الكتلة الوطنية أم في عصبة العمل القومي، لم تكن مع ذلك سورية بقدر ما كانت عربية. وهي عربية لاسيما وأن هذه العصبة، بوصفها هيئة عابرة للحدود، حرصت على مشاركة مفكرين وسياسيين عربًا من البلدان العربية مشرقًا ومغربًا، بينهم مفكرون ومناضلون سياسيون من المغرب العربي، كان أحدهم علّال الفاسي، في تأسيس عصبة وضعت على رأس أهدافها "سيادة العرب واستقلالهم المطلقيْن؛ والوحدة العربية الشاملة"[25].

سوى أن الكتلة الوطنية أو عصبة العمل القومي لم تكونا وحدهما في الفضاء السياسي السوري خلال الانتداب. فقد أسس الحزب الشيوعي السوري في تشرين أول/أكتوبر عام 1924 في ضاحية بيروت الجنوبية، وأعلن "هيئته التنظيمية وهيكليته في سورية عام 1929 وصار خالد بكداش أمينًا عامًا له عام 1933 (وبقي زعيمه حتى وفاته عام 1994)"[26]، إلا أنَّ قاعدته الشعبية لم تكن واسعة بالقدر الذي يتيح له أن يشارك بصورة فاعلة أو أن يؤثر في المسار السياسي والنضالي ضد الانتداب. هذا فضلًا عن أن التزامه الأممي كان يحول دونه على كل حال ودون اتخاذ مواقف تتسق مع مواقف حزب يواجه الاحتلال الأجنبي في بلده. إذ ما كان لمواقفه السياسية إلا أن تتلاءم مع مواقف الحزب الأم في موسكو، أو مع الحزب الشيوعي في فرنسا، الدولة المنتدبة على سورية. فقد لوحظ تبدل مواقفه مع وصول الجبهة الشعبية للحكم في فرنسا عام 1936، مثلما لوحظ بوجه خاص حين اتخذ "موقفًا غامضًا من قضية فلسطين عام 1948 لأن الاتحاد السوفياتي صوَّت في الأمم المتحدة إلى جانب قيام دولة إسرائيل"[27]. ذلك كله يسمح بالقول إن الحزب الشيوعي لم يكن له أي دور في بلورة هوية انتماء سوريّ واضح خلال مرحلة الانتداب الفرنسي يمكن أن يؤلف مساهمة ما في بروز الهوية السورية.

على أن فكرة "الأمة السورية" ومن ثم "الهوية السورية" لاحقًا، وجدت للمرة الأولى من يتبنّاها ويعلنها،صراحة، أساسًا فكريًّا وشعارًا سياسيًّا ونضاليًّا في شخص أنطون سعادة الذي أسس عام 1932 "الحزب السوري القومي الاجتماعي" في لبنان. كان مفهوم سورية الذي طرحه الحزب يقوم على أنها "هي بلاد الشام التي تضمنت الأراضي الواقعة بين سفوح جبال طوروس شمالًا وسيناء جنوبًا وبادية الشام شرقًا شاملة لبنان وفلسطين وشرق الأردن، وأن هذه البلدان الثلاثة سلخت عن سورية الأم"[28]. منذ خطاباته الأولى وكتاباته، كان أنطون سعادة يتوجه إلى "الأمة السورية" التي بعثت "وابتدأ كيانها السياسي بنشوء الحزب السوري القومي الذي هو بالفعل دولة الشعب السوري" كما جاء في "نداء إلى الأمة السورية" الذي أذاعه عام 1939. أعلن مبادئ الحزب التي تضمنت أنَّ السوريين "أمة تامة"، وأن "القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري"، وأن "الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي"، وأن "الأمة السورية مجتمع واحد".

وضع الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ تأسيسه هذه المبادئ على جدول ممارساته اليومية كحزب سياسي، فقد دخل في صراع حاد مع سلطات الانتداب الفرنسي التي - وقد اعتبرته حزبًا غير شرعي، بادرت إلى اعتقال زعيمه وقادته مرات عدة بين عامي 1936 و1938؛ وقد أدت معارضته الشديدة لتجزئة سورية الطبيعية، ووعد بلفور، ثم تجزئة سورية تحت الانتداب الفرنسي وفصل لبنان عنها إلى وقف نشاط الحزب واضطرار زعيمه إلى الهجرة القسرية. ومع ذلك فقد لاقت أفكاره الإصلاحية، ولاسيما مناداته بفصل الدين عن الدولة، قبولًا واسعًا لدى الأقليات الدينية والاثنية في مختلف المحافظات السورية وفي جبل لبنان.

مع مثل هذا التخصيص الفكري والسياسي والتحديد الجغرافي لسورية وللأمة السورية الذي لم يرد في مبادئ أيِّ حزب سوري آخر في مختلف بلدان سورية الطبيعية، اعتبر الحزب السوري القومي أن سورية "جزءٌ لا يتجزأ من العالم العربي تقوم مقامًا مركزيًّا وقياديًّا فيه"؛ ودعا إلى "تفاعل سورية مع محيطها العربي وإبراز مكانتها التاريخية وتمايزها بين باقي أمم العالم العربي الأخرى"[29]. لكن دفاعه عن قومية سورية محضة وأمة سورية متميزة بالنسبة إلى محيطها العربي وضعه على القطب المعارض لدعاة الانتماء العربي الذي تمثل خلال المرحلة ذاتها في عصبة العمل القومي.

إلى جانب هذين المفهومين للانتماء القومي العربي أو للأمة السورية، سيتطور داخل سورية تدريجيًا مفهوم آخر للانتماء يتجاوز مختلف الانتماءات القومية أو الوطنية في العالم العربي. فقد أسست في مصر عام 1928 جمعية الإخوان المسلمين التي انطلقت من اعتبار نفسها "هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام" كما جاء في المادة الثانية عشر من نظامها الأساسي، وأن تحقيق أهدافها يكون ببناء جيل مؤمن بأن الإسلام دين ودولة. وحققت منذ تأسيسها انتشارًا واسعًا ونفوذًا كبيرًا، ولا سيما بين الشباب والطلبة، وصل صداه إلى سورية، فبدأ تأسيس الجمعيات الدينية ابتداء من عام 1937 "بأسماء مختلفة في حلب ودمشق وحمص وحماه ثم اجتمعت هذه الجمعيات باسم واحد هو جمعية شباب محمد التي استمرت حتى انعقاد مؤتمر عام 1944 الذي اتخذ قرارًا بتأليف لجنة مركزية عليا في دمشق لها مكتب دائم برئاسة مراقب عام هو الشيخ مصطفى السباعي، وأصبح اسم الجمعية الإخوان المسلمون"[30].

على الرغم من إعلان أهدافها ومفاهيمها العامة التي لا تختلف في شيء عن أهداف الجمعية الأم بمصر ومفاهيمها، فقد كان نشاطها حتى نهاية الانتداب الفرنسي مقتصرًا على الجوانب الاجتماعية والتربوية والثقافية والإعلامية. ولم تبدأ نشاطها السياسي الفعلي إلا بعد المؤتمر السادس الذي عقدته عام 1946 الذي حددت فيه أهدافها التي خاضت من أجلها أول معركة سياسية بمشاركتها في انتخابات عام 1947 التي فاز فيها عدد من مرشحيها[31].

الهوية الوطنية السورية مشروعًا؟

ألا يمكن القول اليوم إن من حمل على ترسيخ مفهوم سورية الجديدة وطنًا وانتماءً كانت سلطات الحليفيْن الرئيسيْن، فرنسا وإنكلترا، خلال الحرب العالمية الأولى عبر اتفاقية سايكس/بيكو؟ وأنه، مع استقلال سورية ضمن حدودها التي قررتها فرنسا وبريطانيا معًا في اتفاقيتهما المذكورة، كان على النخبة السياسية التي ستتولى مسؤولية الحكومة في سورية المستقلة أن تعمل ضمن هذا الإطار ووفقه؟ وما الذي تستطيع فعله القوى السياسية والفكرية الأخرى في هذا المجال معارضة، أو مقاومة؟

سوف تكون "الهوية الوطنية السورية"،على صعد مختلفة، تساؤلًا وهاجسًا حاضرًا على الدوام، بصورة أو بأخرى، خلال العقد الأول من السنوات التي تلت الاستقلال على الأقل. ذلك أن الإجماع الوطني على هذه "الهوية" لم يتحقق خلال ربع قرن من الانتداب الفرنسي إلا بصورة عابرة ومؤقتة، حين تجلى في الوحدة الوطنية خلال سنتيْ الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي. لكن بروز الأحزاب السياسية الجديدة خلال المرحلة نفسها، واختلافها في رؤيتها لمفهوم الأمة ومآله في تحديد الهوية الوطنية، كان مؤشرًا على ما ستواجهه دولة الاستقلال، لا على صعيد الاعتراف بها فحسب، بل كذلك على صعيد شرعيتها التاريخية أساسًا.

من هنا نمت إشكالية الهوية والانتماء في سورية من خلال توزعها بين هويات عدّة. كان هناك، من جهة، محاولة ترسيخ هوية سورية اعتمادًا على استمرارية تاريخية عرفتها بلاد الشام أو "البلاد السورية" طوال قرون عدة، وهي التي كادت أن تجد طريقها كما سبقت الإشارة مع إعلان المملكة السورية العربية؛ وكانت هناك، من جهة ثانية، هوية جديدة فرضها واقع الانتداب الفرنسي على سورية الجديدة التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس بيكو؛ وكانت هناك، من جهة ثالثة، هوية الانتماء العربي، كما تبين ذلك من خلال تأسيس عصبة العمل القومي؛ من دون نسيان المحاولة الوليدة مع جماعة "الإخوان المسلمون" التي كانت تدعو إلى الأمة الإسلامية وتقول صراحة بالانتماء إليها، ومن ثم إلى هوية إسلامية عابرة للقوميات.

هو ذا وضع التباس مفهوم الهوية الوطنية السورية وإشكالها غداة استقلال سورية "الجديدة" أي سورية سايكس بيكو. إذ لم تكن النخب السورية عشية إعلان استقلالها في السابع عشر من نيسان/أبريل 1946، بعد أن اقتطع منها بالقوة لبنان وفلسطين والأردن، ولا القوى السياسية القائمة آنئذ، مجتمعة على هوية واحدة، بل كانت، فعليًّا، موزعة بين هويات عدة، العربية، والسورية العربية (سورية الطبيعية)، والسورية الجديدة (سورية سايكس بيكو) والإسلامية الأممية والأممية الشيوعية.

سورية الجديدة (1946 - 1958)

لم يكن هناك في الواقع الحي إذن وجود بالفعل للأمة السورية، ومن ثم لـ"الهوية الوطنية السورية" يوم جلاء قوات الاحتلال الفرنسي عن سورية الجديدة وإعلان استقلالها عام 1946 إلا بوصفها مفهومًا يمكن ويجب البناء عليه في أدبيات الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكان على حكومة "الجمهورية السورية" في سورية الجديدة التي فقدت أكثر من ثلث مساحتها خلال خمسة وعشرين عامًا (لم تتعدّ مساحة سورية عشية استقلالها 186000 كم2 بعد أن كانت مساحتها لا تقل عن 300000 كم2 عشية الانتداب الفرنسي)[32]، أن تعمل، كما كتب نشوان الأتاسي، على "مواجهة كثير من الندوب والآفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي خلفتها مرحلة الانتداب"، وكان أهمها، على صعيد وحدة البلد، تثبيت وحدته وترسيخها في المناطق الثلاث التي عرفت الحركات الانفصالية خلال ربع القرن السابق على الاستقلال، أي محافظات اللاذقية وجبل الدروز ومنطقة الجزيرة، وكذلك العمل على ترميم الانقسام السياسي والاقتصادي والمناطقي بين وطنيي حلب ودمشق الذي كان يعبر عنه إلى حدٍّ ما الحزبان اللذان أسسا على أيدي أعضاء الكتلة الوطنية السابقين، الحزب الوطني الذي أسسه الأعضاء الدمشقيون، وحزب الشعب الذي أسسه الأعضاء الحلبيون[33].

لكن سياسة هذين الحزبيْن اللذين هيمنا على الحياة السياسية في سنوات الاستقلال الأولى ومصالحهما أدت على صعيد السياسة الخارجية،وفي غياب أي خلاف بينهما في سياستهما الداخلية، إلى أن يسعى حزب الشعب إلى إقامة "نوع من الرابطة الاقتصادية بين سورية والعراق الهاشمي، وأن يسعى الحزب الوطني من ناحيته إلى محور مصري ـ سعودي. وهما الاتجاهان اللذان سيتجاذبان أيضًا مسؤولي الانقلابات المتعاقبة في سورية، بدءًا من عام 1949 وانتهاء بعودة النظام الديمقراطي عام 1954، ويحولان دون سير الحكومات المتوالية على طريق بناء الوحدة الوطنية والمجتمعية في سورية المستقلة التي فرضت القوى الكبرى يومئذ جغرافيتها السياسية.[34]

لم يكن ذلك شأن الحكومات المتعاقبة وحدها. إذ كما يكتب نشوان الأتاسي، كانت الأحزاب السياسية الأربعة الصاعدة التي تأسس بعضها في ظل الانتداب كالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وجماعة الإخوان المسلمين وتأسس الأخير عقب الاستقلال، حزب البعث (عام 1947) الذي صار بعد اندماجه مع الحزب الاشتراكي (عام 1952) حزب البعث العربي الاشتراكي، قد احتلت "كامل المساحة السياسية السورية"، ورسمت "الخط العريض للحياة السياسية في سورية"، طوال خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم فقد كانت هي التي أجمعت - باستثناء الحزب الشيوعي - في أدبياتها، على الرغم من التنافر بين غاياتها وأهدافها وأيديولوجياتها، على أمر واحد: عدم اعتبار الكيان السوري الذي جلت عنه فرنسا عام 1946 بوصفه مآلًا نهائيًا، إما بالتطلع إلى استعادة سورية الطبيعية، أو إلى تحقيق الوحدة العربية فيما وراء هذه الأخيرة. كان ذلك يعني تلافي العمل على ترسيخ هوية وطنية سورية ذات مقومات موجودة بالقوة في الواقع العملي لكنها كانت تحتاج إلى تحقق الشرط الضروري للتعبير عنها من خلال عقد اجتماعي تقوم سلطة مركزية بوضعه موضع التنفيذ، وهو ما لم تتوافق عليه القوى السياسية الممثلة للسوريين.

كانت هناك إذن، في غياب إرادة ترسيخ وتجسيد هوية وطنية سورية جديدة جامعة لم تعمل الحكومات التي تعاقبت في سورية بعد استقلالها على ترسيخها والجمع من حولها، هويتان منتشرتان في أوساط واسعة من الشعب السوري بحسب الأحزاب التي مثَّلَ كلٌّ منها قطاعًا ذا دلالة منه: الهوية العربية التي لم يخبُ جذوها بفعل تجزئة سورية الطبيعية، والهوية الإسلامية التي أخذت في الانتشار في إثر تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. ذلك أن نخبة السوريين، مع ذلك أو بفعل ذلك، لم يجتمعوا على هوية جامعة بعد الاستقلال مثلما سبق لهم واجتمعوا على الهوية العربية كما فعلوا يوم قامت على أساسها المملكة العربية السورية عام 1920. وإذا كانت عصبة العمل القومي قد نهضت مجدَّدًا بمهمة النضال من أجلها في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي حل مكانها في نهاية الأربعينيات ودعا إلى انتماء شامل إلى "أمة عربية واحدة" لا مكان للقطرية فيها. وقد ساعدت ظروف الخمسينيات السياسية ولا سيما حلف بغداد الذي رفضت الحكومة السورية الانضمام إليه، ثم تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، في إتاحة الفرصة أمامه كي يحتل مقدمة المشهد السياسي ولا سيما حين بدأت محادثات الوحدة السورية/المصرية في إثر مبادرة قامت بها مجموعة من ضباط الجيش السوري وطالبت بإقامة وحدة فورية بين البلدين.

سورية في ظل الوحدة مع مصر

قامت الوحدة في شباط/فبراير 1958 واستمرت حتى 28 أيلول/سبتمبر 1961. خلالها، صارت كلٌّ من مصر وسورية إقليمين في ظل الجمهورية العربية المتحدة. وتجسد الانتماء القومي العربي لدى السوريين في دعمٍ شعبيٍّ واسع لهذه الخطوة في سورية غير مسبوق،على الرغم من أنها بدت عملية نُفِّذت بين عشية وضحاها في الوقت الذي كانت فيه على كل شفة ولسان في سورية منذ عام 1955. وقد كان فشل هذه العملية السياسية التاريخية، إذا ما نظر إليها ضمن سياق الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالمنطقة العربية يومئذ، منذرة بإمكان الفشل في معركة متعددة الوجوه. إذ إن "كسر احتكار السلاح ومعركة قناة السويس أعطيا لمشروع الوحدة السورية المصرية الذي طرح منذ عام 1955 معناه المادي والواقعي ضمن مجموعة هذه المعارك المتزامنة على الجبهات المختلفة: المحلية والعربية والدولية، ضد الغرب، ومنها بالطبع معركة حلف بغداد التي استطاع الحكم القومي في سورية وعبد الناصر معًا أن يحدّا من آثارها. وكان لابدَّ، بعد أن فشلت محاولة ضرب عبد الناصر والخط التحرري الذي كان يمثله مباشرة في العدوان الثلاثي، من محاولة الالتفاف عليه عن طريق ضرب الاتجاه القومي في سورية الذي كان بتضامنه الفاعل مع مبادرته يمنحها بعدها العربي وتأثيرها الدولي. وقد كان عبد الناصر واعيًا لذلك بعمق شديد، ومن هنا إرساله القوات المصرية للدفاع عن حدود سورية، مردِّدًا أنه على استعداد للذهاب في الوحدة إلى الحدود التي يختارها الشعب في سورية. لم يكن شكل الوحدة في الحقيقة مهمًا بقدر ما كان مضمونها، في ذلك الوقت، بوصفها معركة ضمن معارك عدة خاضتها القوى القومية من أجل تثبيت الاستقلال الحقيقي. ولم يكن البعث يهرب إلى الأمام عندما كان يعمل لتحقيق هذه الوحدة، شأن القوى القومية الأخرى التي لم تكن مع البعث تحاول التغلب على أزمة سياسية باللجوء إلى حل الوحدة مع مصر بوصفه البديل الوحيد. ذلك أن هذه الأزمة السياسية لم تكن بين القوى السياسية الأقوى في ذلك الحين من خلال امتداداتها في الجيش، أي القوى القومية التقليدية وما يسمى بالمستقلين والبعث، بقدر ماكانت بين هذه القوى من طرف، والقوى التي تحاول جر سورية إلى المعسكر الغربي، من طرف آخر. وككل معركة بهذا الحجم، كانت معركة الوحدة، قبل الإقدام عليها، تثير المخاوف، وبشكل خاص لدى عبد الناصر. نعلم أن عبد الناصر لم يعبِّر أمام الجماهير مرة واحدة عن هذه المخاوف، بل كان يثيرها أمام السياسيين السوريين الذين كانوا يعبرون عن رغبة سورية بتحقيق الوحدة. وإذا كان قد قبل بالوحدة الفورية والاندماجية فذلك لأنه لم يكن يملك، من أجل حماية الخط التحرري القومي في مصر، أي خيار آخر. فمن دونها، أو بالتريث في تحقيقها، يمكن للقوى الغربية أن تنجح في تحويل سورية عن خطها التحرري ومن ثم في عزل مصر، نتيجة لذلك، تمهيدًا لضربها من جديد"[35].

كان ذلك يشير بوضوح، ولا سيما بعد أن حملت الجمهورية الجديدة اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، لا إلى مجرَّد غياب طارئ بل إلى تلاشي موضوع "الهوية السورية" بصورة شبه كاملة، سواء على الصعيد السياسي الرسمي، أو على الصعيد الشعبي في سورية. ذلك أنه ما كان للهوية المصرية الراسخة كما سبق وأشير إلى ذلك هنا أن تغيب أو أن تتلاشى بين ليلة وضحاها بقرار سياسي أو بفعل قانون جديد. بخلاف الهوية السورية التي لم تتمكن النخب السورية أو القوى السياسية التي تصدّت للحكم بعد الاستقلال، على اختلافها في سورية حتى ذلك الحين، من أن تؤكد أو أن تعمل على تظهير هوية سورية وطنية جامعة ترسخ خصوصيتها والانتماء إليها من دون إنكار الإطار العربي الأعم على صعد السياسة والثقافة والمصالح الاقتصادية المشتركة. لقدبدا الانتماء العربي عشية إعلان الوحدة السورية المصرية طاغيًا على الانتماء السوري كما لو أن الهوية الوطنية العربية كانت أكثر رسوخًا لدى السوريين من أي هوية أخرى. أما الذين كانوا يعملون في سورية "الجديدة" أو في البلدان التي اقتطعت منها قبل تقسيمها، من أجل تكريس الهوية الوطنية والعمل على تثبيت دعائم الدولة الجديدة تحت سلطة الانتداب ثم من بعد الاستقلال، ولكن في إطار أممي كالحزب الشيوعي أو على أسس الانتماء إلى أمة سورية راسخة في التاريخ وفي الجغرافيا كالحزب السوري القومي الاجتماعي، أو على اسس الانتماء إلى أمة إسلامية انطلاقًا من أن الإسلام دين ودولة كجماعة "الإخوان المسلمون"، فقد خرجوا يوم إعلان الوحدة رسميًا من الفضاء السياسي طوعًا أو كرهًا. هكذا صار الحديث عن "القومية العربية" والانتماء العربي هو الحديث السائد والمشروع، كشعار جماهيري، عاطفي وحماسي، لا كعقد اجتماعي واضح العناصر والمعالم توافقت عليه مكونات الشعبين في مصر وفي سورية.

من الممكن القول اليوم إن سنوات الوحدة السورية المصرية التي مثلت أوج انتشار الخطاب والمدِّ القوميين وضعت حدًا لمحاولات بعض القوى السياسية السورية تظهير الهوية الوطنية بعد استقلال سورية "الجديدة" التي كانت الخيبة من تقطيع أوصالها الطبيعية والتاريخية طاغية لدى السوريين الذين استمروا، كما سبقت الإشارة، بالاحتفال بذكرى إعلان قيام المملكة السورية العربية في الثامن من آذار/ مارس عام 1920 حتى عام 1948[36]. وقد كان حل الأحزاب السياسية في سورية الذي كان شرطًا لقبول عبد الناصر إقامة الوحدة مع سورية سببًا رئيسًا لا في غياب أي صوت كان ينادي بإحياء مشروع سوريا الكبرى الذي كان حزب الشعب أكبر المنادين به، ومن ثم تظهير الهوية الوطنية السورية فحسب، بل في دعم غير مباشر لأيديولوجية حزب البعث الذي كان ينادي بالانتماء العربي وحده: "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وهي الأيديولوجية التي ستهيمن على الخطاب السياسي في سورية بعد سنة ونصف من انهيار الوحدة السورية المصرية.

إذ حين جرى الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1961، لم يكن هناك مَنْ زَعَمَ بين الانقلابيين أو بين الأحزاب السياسية التي دعمت الانفصال الحديث باسم هوية وطنية سورية ما أو نزعة سورية خصوصية. فالخطاب العام والرسمي لدى هؤلاء وأولئك كان يقول إن الانقلاب كان ضروريًّا من أجل "تصحيح مسار الوحدة" لا من أجل الانفصال، ولا كذلك من أجل استعادة سورية. الأمر الذي يؤكد في النهاية لا غياب أي مطلب سوري باسم هوية وطنية سورية ما فحسب، بل على غياب الوعي بوجود مثل هذه الهوية على صعيد الانتماء الوطني السوري في ما وراء الانتماء القومي العربي أو على صعيد هوية كان من الممكن للجغرافيا على صعيد التاريخ أن تساهم بوضوح في تأكيدها أو في تسويغ رسوخها لو وجدت سلطة في دولة مركزية عملت على تمثيلها. ولا يمكن بالطبع اعتماد ما تداوله فريقا الحكم يومئذ من اتهامات او أسباب دارت حول "الهيمنة المصرية" مثلًا على سورية، أو غياب المساواة بين المنتمين إلى الإقليمين في مجال تقاسم السلطة في كل منهما، وذلك نظرًا إلى أنها حجج أقرب إلى تسويغ الفعل الانقلابي منها إلى تفسيره أو وضعه في سياق تاريخي مقبول.

مرحلة الانفصال (28 أيلول/سبتمبر 1961 - 8 آذار/مارس 1963)

من الواضح أن النخبة المدنية التي تصدت لممارسة السلطة السياسية في إثر الانقلاب حاولت منذ البداية العمل كما لو أن السنوات الثلاث ونصف السنة (مدة الوحدة السورية المصرية) لم تكن. والحقيقة أن مهمتها في هذا المجال لم تكن صعبة التحقيق مادامت الأوضاع الناظمة لشؤون المجتمع والدولة قد بقيت على ما هي عليه، بما في ذلك على صعيد طبيعة الانتماء إلى الجمهورية الوليدة كما نصت المادة 2 من الباب الأول من الدستور المؤقت في الجمهورية العربية المتحدة الوليدة التي يحمل جنسيتها كل "من يحمل الجنسية السورية أو المصرية"[37]. فالقوى والأحزاب السياسية التي كانت قائمة قبل الوحدة عادت إلى المشهد السياسي واستعادت نشاطها، ولا سيما في محاولات بعضها التركيز على الخصوصية السورية، ثم إن القوانين الرئيسة التي كان معمولًا بها قبل الوحدة ولم يجر إلغاؤها أو تعديلها خلال السنوات التي دامتها، (كالقانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات خصوصًا) استمر العمل بها. لكن هذه القوى سرعان ما واجهت على الصعيد السياسي انقسامات بين كتلها المختلفة،السياسية والحزبية، التي استعادت القدرة على النشاط. وما كان لهذه الانقسامات أن تشجع أو تسمح - طوال مرحلة الانفصال كلها - بالسير على طريق محاولة بناء هوية وطنية سورية، لا سيما وأن من قاموا بالحركة الانقلابية ضد الوحدة، وكذلك من أيدهم من الكتل السياسية أو الأحزاب، لم يرفعوا - أو لم يجرؤوا على رفع- أي شعار مضادٍّ للوحدة. أما معاني هذه الأخيرة، فقداحتلت المشهد السياسي في سورية على الصعد كافة، الشعبية منها والحكومية. إذ انقلب قسم من قواعد حزب البعث العربي الاشتراكي ضد قادته التاريخيين الذين أيد بعضهم حركة الانفصال وأسسوا حركة "الوحدويين الاشتراكيين"، تمييزًا لهم عن البعث الاشتراكي، مثلما مضى آخرون منهم نحو تأسيس الاتحاد الاشتراكي الذي كان يرفض شكلًا وموضوعًا الحجج التي كانت تقدم لتسويغ حركة الانفصال كلها، مطالبًا بعودة الوحدة بلا قيد أو شرط. هكذا استخدمت لأول مرة صفتا "الناصرية، أو الناصريون" لكل من كان يومئذ يدعو إلى عودة الوحدة السورية المصرية من دون قيد أو شرط وبرئاسة جمال عبد الناصر. وقد جمعت هاتان الصفتان في إطارهما، وعلى ما بينهما من تباينات في المواقف المبدئية، كلًّا من "حركة الوحدويين الاشتراكيين" و "الاتحاد الاشتراكي"، فضلًا على مجموعة من الضباط في الجيش ممن كانوا من أنصار إحدى هاتين الجماعتيْن والذين لعبوا دورًا فاعلًا في انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 الذي وضع حدّا لما أطلق عليه عهد الانفصال.

المرحلة البعثية

شهدت سورية في إثر الانقلاب العسكري في الثامن من آذار/ مارس 1963 مرحلتيْن جرى فيهما الحكم باسم حزب البعث: المرحلة الأولى أو مرحلة عهد البعث الأولى بين 8 آذار/مارس1963و 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1970؛ والمرحلة الثانية عهد البعث الثاني أو المرحلة الأسدية بين 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 حتى عام 2011.

عهد البعث (1) 1963 -1970

لابدّ من الحديث بادئ ذي بدء عن الموقف النظري لحزب البعث العربي الاشتراكي من مفهوم الأمة أساسًا والهوية تاليًا في سورية وهو الذي استطاع، بفضل الانقلاب العسكري، أن يصل إلى الإمساك بزمام السلطة كاملًا في البلد الذي ولد فيه حزبًا وشعارًا وطموحًا قبل ستة عشر عامًا من ذلك.

لن نعثر في أدبيات حزب البعث، وخصوصًا في الأجزاء الخمسة التي تضمنت مجموع كتابات القائد المؤسس لحزب البعث وأمينه العام، ميشيل عفلق، على أي ذكر لاسم سورية إلا في المقالات التي كتبها حول الوحدة السورية المصرية التي نشرت في الجزأين الأول والثاني[38]. وما دامت قاعدة الفكر البعثي تقوم على مفهوم أمة عربية واحدة لا تعترف بالتجزئة "الاستعمارية" التي قامت على أساسها دول العالم العربي على امتداد القرن العشرين، وتقفز على معطيات التاريخ والجغرافيا على الأقل في مجال خصوصيات المناطق الأربع في العالم العربي التي سبقت الإشارة إليها. ومن ثم فهي على طرفي نقيض مع مفهوم أمة سورية بأي معنى من المعاني، أي سواء أكانت ضمن إطار سوريا الطبيعية أم في إطار سورية الجديدة. وما كان من الممكن أن يمضي الحزب في أي سياسة مغايرة على الصعيد الإعلامي أو على الصعيد التعليمي والتربوي ولا سيما في إثر انفصال أول تجسيد للوحدة العربية شارك في صنعه وخلال السنوات الثمانية التي تلت هيمنته على مفاتيح الحكم في سورية لأول مرة في تاريخه، بخلاف الصعيد السياسي. ذلك أن انقلاب الضباط البعثيين،المجتمعين ضمن "اللجنة العسكرية" البعثية وشركائها، لم يلغِ الانفصال على الصعيد العملي بل ترك للحزب وللسلطة المدنية التي أقامها العسكر الانقلابيون تحت رقابتهم من خلال ماسمّيَ "المجلس الوطني للثورة" أن يضع نظريًّا نصب أهدافه تحقيق الوحدة العربية، بل أن يباشر بعد أسبوع من الانقلاب محادثات مشروع وحدة ثلاثية تضم مصر وسورية والعراق، من ناحية، وأن يباشر عمليًا لترسيخ سلطته وتوطيدها بـ"تطهير" الجيش من الضباط المشكوك في ولائهم. هكذا كُرس، منذ هيمنة "اللجنة العسكرية"ميدانيًّا وحزب البعث مدنيًّا على السلطة في سورية، طابع الالتباس، لا في مفهوم الهوية الوطنية السورية فحسب، بل في مفهوم الدولة الوطنية ذاتها وفي طبيعة الانتماء الوطني على الصعيد الرسمي بدءًا بتسمية "القطر السوري" "الجمهورية العربية السورية"، ثم في نوسانه بين "القطر السوري" و"الشعب العربي في سورية"، وانتهاءً بالإيمان بـ"الوحدة" العربية والنضال "في سبيل تحقيقها"، كما جاء في المادتين 1 و 2من الدستور المؤقت للجمهورية العربية السورية الذي صدر في 25 نيسان/أبريل 1964[39]، ومن ثم العمل بالوسائل السياسية كلها التي تتيحها المفاوضات للحيلولة دون تحقيق أي مشروع من مشروعات الوحدة التي طرحت آنئذ.

والواقع أن قراءة الممارسة السياسية في ظل السلطة البعثية الأولى (آذار/مارس 1963 ـ شباط/فبراير 1966)، تبين بوضوح كيف تجذر هذا الالتباس نظريًا وعمليًّا. ذلك أن هذه السلطة العسكرية فعليًّا، التي كانت بحاجة إلى واجهة مدنية كي تواجه التيار المؤيد لعودة الوحدة مع مصر سواء داخل الجيش أم في الأوساط الشعبية، واجهة كان يمثلها مؤسسا الحزب الذي ينتمي إليه معظم أعضائها، كانت مضطرة إلى تسويغ ما تعلنه من أهداف، ولا سيما الوحدة العربية، على صعيد الفعل باتخاذها موقف الدعوة إلى إعادة الوحدة السورية المصرية على "أسس مدروسة"، في مواجهة الخارجين من الحزب وعليه بسبب مواقف بعض قادته من الانفصال. وكانت الطريقة الوحيدة أمام البعث السوري لمواجهة هذا الضغط الناصري داخليًا، لا سيما أن حزب البعث قد نجح في الوصول إلى السلطة في العراق قبل شهر من إنجاز انقلاب آذار/مارس بدمشق، هي إعادة بحث الوحدة من جديد ولكن "على أساس مشروع "وحدة ثلاثية تضم مصر وسورية والعراق، شرط أن تتمتع الدول الثلاث بحقوق متساوية في دولة الاتحاد، فتحتفظ سورية بسيادتها ويصبح العراق حليف سورية سندًا لها في وجه الهيمنة المصرية"[40]. لم يكن هدف اللجنة العسكرية وحزب البعث في الواقع، تحقيق الوحدة الثلاثية فعليًا بقدر ما كان الوصول إلى أن يرفض عبد الناصر المشروع المقترح كي يُحَمِّلَه البعثُ مسؤولية فشل تحقيق الوحدة. على أن النتيجة لم تكن في مصلحة البعثين السوري والعراقي معًا، إذ إن عبد الناصر أذاع تسجيلات مباحثات الوحدة خلال شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل 1963 كي تتضح أمام الرأي العام العربي عمومًا والسوري خصوصًا، لا ضحالة الحجج البعثية في تفسير فشل الوحدة السورية المصرية فحسب، بل كذلك الهدف من وراء رغبة السلطة البعثية الفعلية في تحقيق هذه الوحدة مجدّدًا بمشاركة العراق.

في إثر فشل محادثات الوحدة الثلاثية المرسوم، سرّحت اللجنة العسكرية في نيسان/أبريل 1963 عددًا كبيرًا من الضباط الناصريين الذين شاركوا في انقلاب آذار/ مارس من الجيش، وعزلت زياد الحريري، رئيس الأركان، من منصبه، ثم استكملت ذلك باستبعاد الناصريين جميعًا من الجيش بعد فشل محاولة الانقلاب التي قام بها الناصريون من خلال العقيد جاسم علوان في 18 تموز/ يوليو 1963.

تفاقم الالتباس في مفهوم الهوية الوطنية السورية عمقًا في إثر الانقلاب العسكري البعثي الثاني - ومن ثم السلطة البعثية الثانية - الذي تمثل بما عرف بحركة 23 شباط/فبراير 1966. ذلك أن إزاحة مؤسسي حزب البعث تدريجيًّا عن هيئاته القيادية كافة (القيادية القومية والقيادة القطرية) أدى عمليًّا إلى حصر الحزب "القومي" ضمن مجاله السوري "القطري"، أي كفُّ الحزب، واقعيًّا، عن الوجود في الساحة القومية كما كان شأنه منذ تأسيسه عام 1947، واقتصاره على الساحة السورية وحدها تقريبًا[41]. لكن ذلك لم يؤدِّ إلى تأكيد انتماء "سوري" محض ما دامت سورية ما تزال معترفًا بها دستوريًّا ورسميًّا بوصفها جزءًا من "الوطن العربي" وما دام الشعب السوري جزءًا من "الأمة العربية" ويسعى إلى تحقيق وحدتها وما دامت قيادة البعث تعتمد على قيادتين، قيادة قومية، عربية، وقيادة قطرية، سورية؛ ولم يؤكد انتماءً عربيًا محضًا، ما دام اسم سورية مثبتًا في اسم الجمهورية وفي دستورها الذي صدر في صيغة معدلة عام 1969. إذ إن ما طبع هذه المرحلة من الحكم البعثي هو غياب أي سياسة يمكن البناء عليها لو أنها اعتمدت اتجاهًا ما في تظهير الهوية الوطنية السورية. ولعل الاعتراف بالحزب السوري القومي الاجتماعي تدريجيًا، بدءًا من تحرير سجنائه في السجون السورية في إثر محاولة اغتيال العقيد عدنان المالكي عام 1955 في عهد حافظ الأسد، وانتهاء بالسماح له بممارسة نشاطه في سورية في عهد ابنه بشار، يمكن أن يقول كثيرًا، لا عن القناعة العميقة لدى السلطة البعثية الوريثة على صعيد فهمها للدولة الوطنية، بل بالأحرى، على تخبط هذه السلطة في تعاملها مع هذا الإشكال التاريخي الذي عاشه السوريون حتى وصولها إلى الحكم، والذي صار التباسًا شبه معتمد في أدبيات السلطة مثلما هو دائم الوضوح في ممارساتها اليومية. هل هي مصادفة عابرة؟ هل هو غياب الوعي بأهمية تظهير موضوع الهوية الوطنية أيًّا كانت صفتها ما دامت خيارًا جماعيًّا واعيًا تدعمه في الواقع وفي التاريخ عناصر اللغة والتاريخ والثقافة والإرادة الحرة؟ أم هي سياسة واعية لدى بعض أعضاء "اللجنة العسكرية" من الذين كانوا يعدّون العدّة للإمساك بزمام السلطة في سورية على الصعد كلها؟

تلك هي الأسئلة التي تطرحها أي قراءة استرجاعية لتلك المرحلة بحثًا عن الأسباب العميقة التي حالت دون أي محاولة واعية لبناء عقد اجتماعي يؤسس للدولة الوطنية، ويحدد هويتها، وانتماء شعبها، وطبيعة هويتها. ولعل المرحلة التي بدأت في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 التي تمثلت في انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في الجيش وفي الحزب والزج بمعظمهم في السجن أو العمل على تصفية الآخرين اغتيالًا في منافيهم، وعرفت بالاسم الذي أطلقه عليها صاحب الانقلاب، "الحركة التصحيحية"، هي التي يمكن أن تقدم الإجابات عن هذه الأسئلة بعد استمرارها أربعين عامًا قبل أن تنفجر في وجه قادتها ثورة ما تزال مفاعيلها وآثارها قائمة حتى كتابة هذه السطور.

عهد البعث (2) الأسرة الأسدية (1970-2011)

حين نقرأ مقدمةَ الدستور وأولى مواده،الذي ثبتته القيادة القطرية بتاريخ 19 شباط/فبراير 1971، أي بعد أربعة أشهر من الانقلاب الأسدي، اعتمادًا على الدستور المعدل عام 1969، وبعد إدخال التعديلات عليه بالتاريخ نفسه الذي جرى إقراره بتاريخ 20 شباط/فبراير 1973، ومن ثمَّ أمر حافظ الأسد بتاريخ 13 آذار/مارس 1973 بنشره في الجريدة الرسمية والاستفتاء عليه، نرى فيه أن اللازمة البعثية في العروبة والوحدة العربية تبدوفي أجلى حللها، مضافًا إليها عضوية القطر السوري الذي بات جمهورية عربية سورية في دولة اتحاد الجمهوريات العربية[42]، وأن القطر العربي السوري "جزء من الوطن العربي" و"جزء من الأمة العربية، يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشاملة"[43]. ذلك يعني أن استهلال العهد الأسدي كان، على صعيد الخطاب الدستوري والتوجه السياسي، مبدئيًّا، بعيدًا البعد كله عن التركيز على تظهير هوية وطنية سورية في إطار الجغرافيا التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو ورسمت فرنسا حدودها النهائية قبل جلائها عنها وانتهاء انتدابها عليها. هي إذن هوية سورية ذات طابع عربي قائم في الاسم الذي حملته الجمهورية وفي عضويتها في اتحاد الجمهوريات العربية وفي هدفها العمل على تحقيق الوحدة العربية الشاملة.

بعبارة أخرى، كانت فاتحة العهد الأسدي استمرار الاعتماد على موقف البعث المبدئي في رفض قطعي كان في حقيقة الأمر متجذرًا طوال العقود الماضية "لدى كل الاتجاهات الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية والسياسية في سورية لتظهير هوية سورية وطنية في سورية التي فرضتها القوى الكبرى كجغرافيا سياسية عشية الاستقلال"[44]. على الصعيد النظري، ليس هناك ما يمكن أن ينقض هذا الواقع في أدبيات النظام الأسدي الأول وذلك على الرغم مما تردد كما يذكر كمال ديب عن أن حافظ الأسد كان قوميًا سوريًا لأسباب متعددة أهمها أنه كان أول رئيس سوري يعيد الاعتبار للحزب السوري القومي في السبعينيات بعدما كان محظورًا منذ عام 1955، وأنه ساهم في إطلاق سراح قوميين سوريين ضلعوا في اغتيال المالكي، ومنهم - كما يكتب كمال ديب - شقيق زوجته محمد مخلوف"[45]. إذ قد يكون الأسد قد ردَّد بعض عبارات ترتد إلى أدبيات الحزب القومي السوري، كتأكيد سوريا الطبيعية أو أن فلسطين هي "جنوب سورية"، لكنه لم يتحدث نهائيًا عن "أمة سورية" ولا عن محاولة استعادة "سوريا الطبيعية" أو تحقيق "وحدة بلاد الشام" التي قيل أيضًا إنه تلقى وعدًا أميركيًا بإطلاق يده من أجل تحقيقها "كتعويض لسورية عن الجولان والقبول بصلح مع إسرائيل"[46].

غير أن واقع الممارسة يختلف عن المواقف والإعلانات العقائدية حتى وإن تضمنها دستور الدولة الذي بقي في حقيقة الأمر مجرد وثيقة للتاريخ وإن كانت خلبية لأنه لم يكن لها أثر في التطبيق على الناس أو الأرض طوال ثلاثين عامًا دامها حكم الأسد الأب. كان طبيعيًا أن يعتمد حافظ الأسد فور هيمنته على مقاليد السلطة في سورية مبادئ البعث ورؤيته في مفهوم الأمة والوحدة لا سيما وأنه كان، عند قيامه بحركته، في أمسِّ الحاجة إلى دعم قاعدة شعبية منظمة، كان خصمه اللدود صلاح جديد يمسك بمفاتيحها ويسيطر على مفاصلها. ولهذا لم يكن له مناص من أن يستمر، هو الآخر بعد رفاقه خلال الستينيات، في العمل نظريًا على "تحقيق الوحدة العربية" وبالشروع تدريجيًا في تنفيذ مشروعه الشخصي الذي ظهرت معالمه وغاياته فيما بعد، عن طريق البدء بتثبيت سلطته الشخصية وهيمنته على المجتمع في المجالات كافة: بدءًا من التربية والتعليم وإنشاء منظمات خاصة بالشبيبة 1979 كاتحاد شبيبة الثورة الذي أنشئ بمرسوم رئاسي عام 1970، وهي "منظمة تربوية سياسية غايتها تكريس التربية على الاستبداد في الجانبيْن الفكري والسلوكي، في تمجيد القائد الرمز، وصنع الولاء له"[47]، ومنظمة طلائع البعث التي أنشئت بقرار من القيادة القطرية لحزب البعث عام 1974، "هدفها الرئيس هو العمل على تربية النشء تربية قومية اشتراكية مستمدة مضامينها الفكرية والعقائدية من فكر البعث ومقررات مؤتمراته القطرية والقومية"[48].

إلا أن من الممكن القول إن حافظ الأسد، فيما وراء الأيديولوجية العروبية وشعاراتها المعلنة، كان قد أدرك موقع سورية الحسَّاس جغرافيًا على منعطف قارات ثلاث عرَّضها تاريخيًا، كما يقول رايموند هينبوش، لتنقلات وغزوات وتعددية ثقافية اجتماعية أدت إلى استمرار وجود مجتمع مجزّأ "ولم تولد نظامًا شاملًا موحَّدًا (...) ولم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا"[49]. ولهذا كان هدفه الأول والأساس، قبل أي هدف أيديولوجي، بعثي أو قومي سوري، تثبيت نظام حديدي بقيادته قادر على الاستمرار والحيلولة دون أي محاولة لتنفيذ مثيل الانقلابات العسكرية التي عرفتها سورية بعد استقلالها طوال نيف وعشرين عامًا، بما في ذلك مثيل الانقلابات التي شارك هو شخصيًّا بإعدادها وتنفيذها خلال ستينيات القرن الماضي. سلك في سبيل تحقيق ذلك طرقًا عدة بدأت بتثبيت مهماته نفسها رئيسًا للبلاد وقائدًا للحزب بوصفه أمينه العام وقائدًا للجيش الذي كان قد سهر على إعادة تنظيمه حين كان وزيرًا للدفاع طوال خمس سنوات (1966-1970). تلا ذلك تنفيذ خطة تقوم على جعل مصلحة كل فرد من الذين يختارهم ويضعهم في مختلف المواقع الرئيسة في الدولة تتركز - بفعل ما يتيحه لهم من المنافع بحكم مواقعهم هذه - في أن يدافع عن النظام ومصالحه كما لو كان يدافع عن نفسه وعن مصالحه شخصيًا. على هذا النحو استقطب السنَّة بين كبار ضباط الجيش وأعضاء الحزب من السياسيين إما بتسميتهم في مناصب مهمة في الجيش أو في ضمهم إلى الحكومة. وفي الوقت نفسه، قام بتسمية شخصيات علوية على رأس مختلف الأجهزة الأمنية والشرطة وكذلك في الجيش فضلًا عن فرق الحرس الخاص. بذلك استطاع أن يربط كل هؤلاء الذين عهد إليهم بالمناصب الرئيسة المختلفة في الدولة، أو بمشاركتهم بصورة ما في النظام، به شخصيًا. كان ذلك هو التدشين الرسمي لعهد السيطرة الحديدية على الحكم من جهة، ولعهد الفساد الذي استشرى في الدولة في مستوياتها كلها، من جهة أخرى. بهذه الطريقة، تمكن حافظ الأسد من أي يجعل من كل واحد من هؤلاء، أيًا كان انتماؤه الطائفي، خفيرًا للنظام، يذود عنه كما لو كان يذود عن نفسه. واستحالت مبادئ العروبة والوحدوية التي اعتمدها النظام على هذا النحو محض شعارات جوفاء، مثلها مثل كلمة الأسد نفسه التي مُلِئت شوارع المدن السورية بها: "لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير"، الضمير الذي عرف السوريون أنه كان مجسَّدًا في أربعة أجهزة أمنية رئيسة وستة عشر فرع لها بدمشق وحدها، يسجل عليهم أقوالهم وأفعالهم ويسعه مؤاخذتهم بها كلما اقتضت ضرورة أمنه ذلك..

إذا كان نهج حافظ الأسد قد استهدف في المقام الأول ضمان استمرار النظام الذي كان يتطلع إلى توطيده وترسيخه، فإن قراءة استرجاعية لهذا النهج على صعيدي النظرية والتطبيق تبين طبيعة رؤيته لمعنى الدولة الوطنية التي عمل على تكريسها في سورية ابتداء من نهاية عام 1970، وكذلك وظيفة المؤسسات المختلفة التي حدّد موقعها في هرم السلطة مثلما وضع أطر وظائفها فيه، بدءًا من رئيس الجمهورية: الحزب القائد في المجتمع والدولة الذي يقود أيضًا الجبهة الوطنية التقدمية، ومؤسسة الجيش ومجلس الشعب والمؤسسات الأمنية وفروعها في مختلف المحافظات السورية، والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية. كان قد أبدى في الأشهر الأولى التي تلت إنجاز انقلابه ضروبًا من الانفتاح على مكونات المجتمع السوري المختلفة، طائفيًا ومناطقيًا، قبليًا وعشائريًّا، كي يتمكن من ضمان التأييد لحركته على نطاق شعبي واسع، قبل أن يسير على خطين متوازيين من أجل تحقيق "الاستقرار" و"الاستمرارية" مع رفع شعار النضال من أجل الوحدة العربية، بعيدًا عن أي مشروع حقيقي لإبرام عقد اجتماعي حقيقي يساهم في تظهير أسس هوية وطنية سورية وتوطيدها جامعة وجماعية.

ذلك أن سورية شهدت، ابتداء من بداية عقد السبعينيات، ولادة دولتيْن متوازيتيْن يشرف رئيس الجمهورية عليهما مباشرة: الأولى،الدولة العلنية، أو الواجهة، وهي التي كانت تتجلى عبر الدستور ومختلف المؤسسات الرئيسة الشاملة للسلطات الثلاث التي توجد في أي دولة حديثة: سلطات مستقلة على الصعيد النظري، سرعان ما يبدو أن استقلالها شكليٌّ محض، حين يتضح في جانب شديد الأهمية، على الأقل، تعبر عنه المادة 132 من دستور عام 1973 التي تنصُّ على أن رئيس الجمهورية (أي رئيس السلطة التنفيذية) هو من يرأس مجلس القضاء الأعلى الذي يشرف على بنى السلطة القضائية. والثاني، الدولة الخفية، مجسَّدة في المؤسسات الأمنية التي كونت مع حزب البعث، بوصفه القائد في المجتمع والدولة، دولة فعلية كاملة الأوصاف والتي تراقب سير عمل مؤسسات الدولة الأولى وتعمل على توجيهه من خلال موظفيها المنتشرين فيها والذين يعملون لحسابها. أما الجيش، وهو القوة الضاربة لحماية النظام، فهو تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية بوصفه أيضًا القائد الأعلى للقوات المسلحة.

قام هذا التنظيم "العملي" الذي اتبعه رئيس النظام، حافظ الأسد، لإدارة المجتمع والدولة، وكان أول أهدافه وأهمّها كما سبق القول حماية النظام وضمان استمراره، على عدد من القواعد غير المعلنة في نصوص ذات طابع قانوني أو إداري، تعامى عن رؤيتها - على وضوحها - أو تجاهلها الذين ساروا وراءه لتحقيق مصالحهم، من مناضلين انتهازيين وسياسيين محترفين أو تجار أو رجال دين أو زعماء طوائف. ذلك أنه بعد أن حدَّدَ الدستور بموافقته صلاحيات رئيس الجمهورية التي شملت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كلها، نظّم الأدوات والطرائق التي تسمح له بتنفيذ ذلك بالوسائل المتاحة كافة ما دام غير خاضع لأي نصٍّ يعرقل حركته، لا سيما بعد أن أطلق أتباعه حملات إعلامية هائلة تؤيده وتكاد تؤلهه.

على هذا النحو، وكما فعل في الإعداد للحركة التي قام بها طوال عمله وزيرًا للدفاع عن طريق استبعاد العناصر غير الموالية كافة والدفع بتلك المؤيدة له تدريجيًّا إلى المواقع الحساسة أو إلى مواقع القيادة في الجيش خصوصًا، حيث استطاع أن يجمع بين المخلصين له ممن كانوا ينتمون إلى الطوائف الدينية المختلفة، مسلمين ومسيحيين، مثلما جمع العدد الأكبر من القياديين المنتمين إلى الطائفة العلوية في المؤسسات الأمنية التي كانت توجد في مؤسسات الدولة كلها ومنظماتها وأحزابها وبوجه خاص في الجيش النظامي أو في القوى الرديفة التي شجع في بداية حكمه على نشاطها، كسرايا الدفاع حتى عام 1984 حين جرت إعادة تنظيمها وتوجيهها بل تسميتها، أو كالوحدات الخاصة والحرس الجمهوري وسواها. وقد تفاقم السير على هذا النهج شيئًا فشيئًا طوال العقد الأول من حكمه، واستقر نهجًا شبه علني ابتداء من عام 1984، في إثر الخلاف بين حافظ الأسد وأخيه رفعت الذي انتهى بتسمية الأخير نائبًا للرئيس وإبعاده عن سرايا الدفاع، ثم إلى خروجه من سورية بصورة نهائية وتجريده من لقبه عام 1998 تمهيدًا للتوريث الذي سيجعل من سورية جمهورية وراثية تكاد تكون صورة، لكنها شاحبة، عن كوريا الشمالية.

ما كان لهاتين الدولتيْن، دولة الواجهة المكرسة للخارج، دولًا وإعلامًا بوصفها دولة ديمقراطية كاملة الأوصاف في مؤسساتها وسلطاتها الثلاث المستقل بعضها عن البعض الآخر وفي وجود الأحزاب والنقابات، والدولة الخفية المكرسة للهيمنة على الداخل تكريسًا لديمومة النظام ولبقائه، والوسائل التي استخدمت من أجل إدارتهما لتحقيق الغرضين المذكورين، أن تضعا ضمن أهدافهما هدف تحقيق وحدة وطنية حقيقية أيًا كانت هويتها، سورية أو عربية. فمحاولة التحالف مع مصر السادات من أجل "استعادة الأرض المحتلة" وخوض حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 التي باءت بالفشل الذريع على الرغم من تظهيرها انتصارًا لم يؤدِّ إلا إلى بقاء الجولان محتلًا مع ضمان هدوء الجبهة الجنوبية مع إسرائيل طوال العقود الأربعة الماضية، لم تحمل لحافظ الأسد ما كان يتوخاه منها. مثلما أنه لم يستطع - أو يرغب - إنكارًا أو عجزًا أو كلاهما معًا، في العثور على حلٍّ توافقي لمئات الآلاف من الأكراد في الجزيرة الذين كان عليهم أن يعانوا منذ بدايات القرن الماضي سياسات الإنكار من الجميع، دوليًا، وإقليميًا على وجه الخصوص، أي تركيا وإيران وسورية.

بعد وفاة حافظ الأسد والمسارعة إلى تعديل الدستور كي يرث الابن أباه، حاول بشار الأسد بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية، في إطار التغطية على عملية التوريث، أن يسير على طريق أبيه حين قام بانقلابه عام 1970. إذ سرعان ما أعلن عزمه على النهوض بالاقتصاد وإطلاق حريات الرأي العام ومتابعة السياسة الخارجية السورية في مجال تحرير الجولان والقضية الفلسطينية. فبادر إلى إطلاق عدد من السجناء السياسيين وإلى تجميد العمل بقانون الطوارئ[50]، مما أدى إلى ما عرف بـ"ربيع دمشق" الذي شهد نشاط عشرات من المنتديات السياسية مارست قدرًا كبيرًا من الحرية. إلا أن الربيع لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما أغلقت المنتديات واعتقل عدد من ناشطي المجتمع المدني، وعاد نشاط المؤسسات الأمنية إلى سابق عهده، بعد أن تراجعت "محاولات" القضاء على الفساد ووعود الإصلاح الإداري والاقتصادي؛ كما استعاد الهدف الأساس، استمرار النظام، حضوره في الممارسة اليومية وفي الوسيلة الصالحة لذلك، العنف الأمني. وعلى أن شعارات العروبة والقومية قد تراجعت لمصلحة تمجيدٍ لا يقول اسمه لشخص "الرئيس الشاب" و"العصري"، وعلى أنه سمح للحزب القومي السوري أن ينشط علنًا من دون هدف معلن من وراء هذا القرار، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى أي محاولة لصوغ عقد اجتماعي حقيقي، ولا إلى محاولة بناء هوية وطنية سورية، حتى حين أصبح النظام السوري وحيدًا في الميدان في إثر إخراجه المذلِّ من لبنان واتهامه باغتيال رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005.

******

منذ أن فرض الانتداب الفرنسي حدودَ سورية الجديدة بعد محاولات التقسيمات السياسية والمناطقية على أسس طائفية، وطوال السنوات التي تلت الاستقلال وتوالت خلالها على حكمها مختلف الحكومات المدنية والعسكرية، لم تنجح أي منها طوال المرحلة السابقة على الانقلاب البعثي وهيمنته على السلطة (1946 -1963) داخل هذه الحدود في بناء دولة وطنية سورية قائمة على عقد اجتماعي وهوية جامعة. كان بوسع حافظ الأسد خلال مرحلة حكمه التي امتدت ثلاثين عامًاأن يفعل، لو كان ذلك هدفه فعلًا في تحقيق هذا العقد الاجتماعي المأمول عمادًا للدولة الوطنية التي تجمع السوريين بانتظار تحقيق ما زعمه هدفًا نضاليًّا وضعه في الدستور وكرره في الخطابات. إلا أنه لم يكن من الممكن في ظل حكم قام مشروعه الحقيقي الوحيد على ترسيخ نظام سلطوي عائلي ووراثي أن يضع ضمن جدول مهماته تظهير هوية وطنية جامعة من القوة إلى الفعل تضع حدًّا للالتباس في انتماء السوريين إلى هوية واحدة تحت سقف سورية الجديدة بكل ما ميّزها طوال تاريخها من تعددية عرقية ودينية ولغوية، مستفيدًا من الخصائص كلها التي جمعت السوريين طوال قرون من التاريخ سواء في حياتهم اليومية أم في عاداتهم. وما كان لهذه الهوية لو جرى تظهيرها وترسيخها أن تتنافى مع الانتماء إلى مجموع أكبر، العالم العربي، تفرضه في عصرنا الراهن المصالح السياسية والاقتصادية المشتركة، في إطار مؤسسات عصرية تقترب من تلك التي عملت دول أوروبا - وما زالت تعمل - على تطويرها في إطار الاتحاد الأوروبي. كما لم يكن أيضًا هدف وريثه الذي سار على خطاه وتجاوزه سواء في مشروعه لتثبيت حكمه وهيمنته، أو في القمع والبطش والاستمرار في تفريغ المجتمع السوري من السياسة ومن السياسيين خلال السنوات العشر التي حكم فيها قبل أن يثور عليه السوريون في آذار/مارس 2011 ويحاولون إسقاط نظامه.

عهد الأسرة الأسدية في ظل الثورة وتحت وطأتها (2011 - 2020)

حين حاول النظام في بداية ثورة السوريين أن يثير النعرات الطائفية التي اعتاد استخدامها خلال أربعين عامًا، رفع مئات آلاف المتظاهرين الذين ملؤوا شوارع المدن السورية على الفور شعارًا عمدوا إلى ترداده في كل واحدة من تظاهراتهم التي عمت معظم مدن سورية "واحد، واحد، واحد... الشعب السوري واحد". لم يكن ذلك مصادفة بالطبع. لكنه لم يكن أيضًا برهانًا على أن الشعب السوري كان واحدًا، بل كان ما يتطلع السوريون الثائرون إلى تحقيقه من ثورتهم ضد النظام وما يريدون تثبيته وتأكيده حول طبيعة ثورتهم وانتماء القائمين بها: الشعب السوري الواحد بإثنياته وأديانه وطوائفه. ذلك أن الهوية التي بدا ثوار آذار/مارس 2011 على وعي كامل بأهميتها، بل وبحاجة إلى تأكيدها، والتي لا تُطرَحُ سؤالًا أو تأكيدًا إلا في أثناء - أو بسبب - مواجهة الأزمات الفاصلة التي تهدد ضياعها مشروعًا لم يتحقق، كتلك التي مثلتها الثورة السورية بعد أربعين عامًا من استبداد لا شبيه له في المنطقة العربية كلها حتى في أحلك حقبها. لم يسبق لمسألة الهوية الوطنية السورية في إطار سورية الجديدة هذه أن طرحت مباشرة وحصرًا في الأدبيات السياسية السورية حتى ذلك الحين. ولم يكن معظم ما كتب عنها من بعدُ، أي في إثر ثورة السوريين وطرح الثوار مسألة الهوية الوطنية عبر شعار بسيط، في واقع الأمر، يستجيب للضرورة التي فرضتها الثورة، لاسيما أن السوريين أنفسهم لم يتمكنوا، لا عبر نخبهم ولا عبر سياسييهم، أن يصوغوا عناصر هذه الهوية التي بدت صنيعة استعمار رفضوه منذ اللحظة الأولى ما دام قد بدأ بتمزيق الجغرافيا التي كانت بلادهم، إلى دول لم يعد بوسعهم العيش فيها بحرية كما كانوا يفعلون من قبل. كما لو أن هذا الرفض قد حال بين السوريين وأن يعملوا على صوغ هويتهم الجديدة مقارنة ببقية أجزاء سورية التي حرموا من الانتماء إليها. ولعل هذا الرفض بالذات هو الذي جعل من مسألة الهوية الوطنية في سورية في التباس دائم ساهم في تعميقه حافظ الأسد حين استخدم الانتماء العربي والهوية العربية أداة بين أدوات عدة لتثبيت نظامه الاستبدادي وضمان استمراره بل وتوريثه.

كان لا بد إذن في بداية الثورة، وقد فطن الثوار الذين خرجوا يتظاهرون، بدءًا من آذار/مارس 2011، في بقاع سوريةالمختلفة إلى ضرورة أن يؤكدوا- بالشعار الذي رفعوه - وحدة الشعب السوري؛ شعارٌ بدا كما لو أنه صرخة تستهدف تثبيت وعي السوريين بضرورة وحدتهم والتحذير من الانقسام، ومن الشرذمة، ومن صراع المكونات البشرية في سورية التي زرع النظام الأسدي بذور شقاقها واختلافها من أجل تثبيت واستمرار هيمنته. على أن الأمر لم يكن محض شعار للهتاف فحسب، بل إنه تجسَّد إرادة ووعيًا في التنسيقيات التي عمل على تكوينها خلال أشهر الثورة الأولى وفي المدن السورية المختلفة، شبابٌ ينتمون إلى ألوان الفسيفساء السورية. سوى أن ردة فعل النظام الأسدي،وقد أدرك خطورة الوضع، سرعان ما جاء عاصفًا باستهدافه هؤلاء الشباب على وجه الدقة قتلًا في التظاهرات أو اعتقالًا ثم قتلًا تحت التعذيب، أو ملاحقة لإرغام من لم يستطع اعتقاله منهم على وقف النشاط العلني أو على مغادرة بلدهم نحو البلدان المجاورة. ذلك أن النظام الأسدي كان يستهدف بالدرجة الأولى فرضَ رؤيته وتفسيره لحدث ثورة السوريين، من أجل الاستهلاك الداخلي حين عدّها "مؤامرة كونية"، ولتسويقهما في الخارج (أوروبا والولايات المتحدة الأميركية) حين عمل على ترويج الثورة بوصفها مؤامرة ينفذها سلفيون إرهابيون وأنه من أجل القضاء عليها يشن حربًا لا هوادة فيها ضد الإرهاب والإرهابيين.

ولهذا كانت وسائل إعلامه المكتوبة منها أوالسمعية والبصرية، وكذلك تصريحات وفود ممثليه في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وخطاباتهم، تردُّ ضروب القتل والمذابح الرهيبة التي اقترفت في أنحاء مختلفة من سورية إلى "الجماعات المسلحة"، في محاولة لتسويغ قمعه غير المسبوق للمتظاهرين السلميين، وذلك بعد فرضه مواجهة مسلحة مع متظاهرين سلميين كانوا يواجهونه بصدور عارية، أدت إلى تحول الثورة بالتدريج إلى حرب بين قوات النظام وحلفائه من الإيرانيين ومن استنفروهم من ميليشياتهم المحلية من خلال ممثله الفعلي في لبنان، حزب الله، ومن جنَّدوهم في كتائب حملت أسماءً مستعارة من التراث الشيعي الإيراني.

حرب كادت تؤدي مع ذلك إلى سقوط النظام الأسدي ميدانيًا بعد أربع سنوات ونصف من بدء الثورة لولا أن سارعت روسيا في 30 أيلول/سبتمبر 2015إلى إرسال قواتها وإنقاذه من انهيار محقق والعمل على مساعدته على استعادة سيطرته تدريجيًا على جزء كبير من الأراضي التي كان قد فقد سلطته عليها خلال تلك السنوات المذكورة.

طوال هذه السنوات، كان همُّ النظام الأسدي ينصب على قتال شعبه بعنف غير مسبوق لإنقاذ نفسه. ومن ثمَّ لم تكن مسألة الهوية الوطنية على جدول أعماله إلا من خلال كسر مقوماتها الطبيعية القائمة بالقوة أو إنكارها حين بدأ يسوِّق لنفسه بوصفه حامي الأقليات، ويستمر في العمل على بث الضغينة والعداوة بين مكونات السوريين الطائفية من خلال المجازر التي كانت ميليشياته وميليشيات حلفائه من المرتزقة تقوم بها وكان يضع مسؤوليتها كالعادة على الإرهابيين ممثلين في "الجماعات المسلحة"، مستهدفُا إثارة ردات فعل طائفية تصدر عن الجانب المقابل، كي يقوم بتظهيرها وتقديمها في الداخل السوري وإلى الخارج في الغرب بوصفها دليلًا واضحًا على المؤامرة وعلى أن معركته هي ضد الإرهاب لا ضد شعب ثائر. على أنه شعر منذ التدخل الروسي بضرب من الأمان، وزيَّنت له استعادة المواقع التي فقدها بالتدريج آنئذ وهم انتصار كبير ظن أنه آت لا محالة منذ أن بدأت محاولات حذرة قامت بها بعض الدول العربية والمحاولات الصريحة التي قامت بها قوى اليمين المتطرف وكذلك قوى اليسار المتطرف في أوروبا من أجل إعادة تأهيله.

على أن الحديث بدأ منذ عام 2017 عن "المجتمع المتجانس" الذي يعمل رأس النظام على تكوينه بعد تشريد ملايين السوريين داخل سورية وخارجها، وسُمح للمرة الأولى في سورية تحت حكم الأسد الأب والابن، بالحديث عن الهوية الوطنية السورية في ظل النظام وبموافقة أركانه الأمنية حين نظم مركز دمشق للأبحاث والدراسات في العاصمة السورية يوميْ 20 ـ 21 كانون الثاني/يناير 2018، كما سبقت الإشارة في بداية هذا البحث، مؤتمرًا بعنوان "الهوية الوطنية: قراءات ومراجعات في ضوء الأزمة السورية".

جرى تنظيم هذا المؤتمر في وقت تشهد فيه الخريطة السورية صراع هويات غير مسبوق في سورية المحتلة من أربع قوى إقليمية ودولية، وميليشيات مرتزقة جُمعت من دول مختلفة إما لدعم النظام الأسدي ضد شعبه، أو خدمة لأجندات إقليمية متضاربة في مصالحها وأهدافها وتؤدي في النهاية إلى خدمة مصالح النظام في تأجيج هذا الصراع الذي يعمل عليه. لقد أراد منظمو المؤتمر، كما كتب د.حسام عيسى عبد الرحمن، في مقدمته لأوراق المؤتمر، "إطلاق شرارة التفكير في موضوع الهوية الوطنية، وافتتاح النقاش حوله من باب الاستجابة الثقافية والفكرية لما يراه مركز دمشق تحدّيًا وجوديًّا لسورية، وليس انطلاقًا من هوية أو أيديولوجية بعينها. ولا يريد من وراء ذلك أن يرسم أو يحدد هوية وطنية لسورية، ولا أن يدفع نحو تقديرات ومدارك هوية بعينها، بل أن يشجع على تكوين رؤية مشتركة بين جميع مكونات الشعب السوري لهوية مستقبلية تؤسس لجدلية التعدد والاختلاف داخل الوطن الجامع"[51].

من الواضح أن منظمي المؤتمر والمشاركين فيه كانوا على وعي بأنها المرة الأولى التي تطرح فيها مسألة الهوية الوطنية للنقاش. ومن دون تحديد هذه الهوية خصوصًا، مادام الهدف هو بناء هوية مستقبلية لسورية. وهو حذر يفسر إن أردنا غياب الاهتمام الكلي بهذه المسألة طوال عهدي الأسرة الأسدية. على أن هذه المسألة، بالمقابل، وجدت منذ بداية الثورة اهتمًامًا واضحًا برز في وعي الأجيال السورية الشابة التي خرجت ثائرة في آذار/مارس 2011 لطبيعة هذه الهوية التي يتطلعون إليها: هوية توحد من دون أن تنكر التعدد، مادامت الأهداف والمصالح مشتركة والمصير واحد. سوى أنه لا بد من الاعتراف بأن النظام الأسدي الذي نجح نسبيًّا على الصعيد الإعلامي في تسويق رؤيته للثورة على أنها عمل إرهابي، استطاع أن يتيح لبذور الخلاف التي زرعها بين مكونات الشعب السوري أن تنمو كي تظهر هنا وهناك وتبدأ بإنتاج ثمارها من خلال دعوات للانفصال أو للاستقلال على أساس اثني تارة أو على أساس طائفيٍّ تارة أخرى، فاتحة المجال لصراع حول مفهوم الهوية الوطنية نفسه حفلت بها المقالات والدراسات التي كتبت حوله خلال السنوات العشر الأخيرة[52].

حول البحث الميداني:

كان هذا البحث يقتضي القيام بمقاربة ميدانية لمعرفة مواقف السوريين من الهوية الوطنية السورية والتغيرات التي طرأت عليها بين عامي 2011 و 2020. وكانت مثل هذه المقاربة تقتضي استقصاء ميدانيًا علميًا انطلاقًا من عيّنة يمكن أن تمثل مكونات الشعب السوري مناطقيًا وإثنيا ودينيًا وطائفيًا من ناحية، مثلما تمثله على صعيد الفروقات الاجتماعية من حيث مستوى التعليم والمهن وشرائح العمر.. إلخ. وكان الهدف منه مقاربة الرأي العام السوري بأكبر قدر من الدقة التي يمكن أن يتيحها استقصاء ميداني يلتزم القواعد العلمية في مجاله بصرامة، بهدف التحقق اعتمادًا على الأسئلة المطروحة من مختلف فرضيات ونتائج التحليل التاريخي لوقائع ونصوص وممارسات الفاعلين في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية خلال سنوات القرن الماضي الذي شهدت بداياته ولادة سورية الجديدة للمرة الأولى في تاريخ المنطقة.

سوى أن القيام بمثل هذا الاستقصاء كان يواجه في الوضع السوري الراهن عقبات تجعل من عملية تنفيذه أقرب إلى الاستحالة. ولذلك استقر الرأي على اللجوء إلى استقصاء أدنى طموحًا ولاشك أقل قدرة على الوصول إلى التعيينات التي كان يمكن لاستقصاءات الرأي التقليدية أن تؤدي إليها. هكذا وقع الخيار على اتباع طريقتين منهجيتين، أولاهما تكوين مجموعات بؤرية تجري فيها مناقشات مركزة تتناول موضوعات الأسئلة المطروحة حول الهوية الوطنية السورية، وثانيتهما إجراء مقابلات معمقة مع مكونات المجتمع السوري وشرائحه المختلفة.

على أنه إذا كان من غير المقبول علميًّا اعتبار نتائج استقصاءات الرأي صورة طبق الأصل عن الواقع الذي تستقصيه، بل تعبيرًا عن اتجاهات الرأي العام المختلفة مع هامش تتفاوت نسبته في الخطأ والصواب بحسب منهجية الاستقصاء وطبيعة الأسئلة المطروحة ودقتها ومهنية من ينفذ الاستقصاء، فمن الأولى بطبيعة الحال ألا تؤخذ نتائج الطريقتيْن المشار إليهما بوصفها حقائق أو نتائج نهائية، بل مؤشرات تقريبية ومؤقتة بانتظار إمكان القيام بمقاربة ميدانية أكثر اتساعًا ودقة.

وقد لجأتُ من أجل ذلك إلى زميل وصديق ذي معرفة وخبرة لا شك فيهما في هذا المجال، هو الزميل الدكتور طلال المصطفى. جرى الاتفاق معه على أن الأسئلة الآتية سيجري طرحها ومناقشتها، سواء في المجموعات البؤرية أو في المقابلات المعمقة، من ناحية، وعلى أن من يطرح هذه الأسئلة على التوالي هو مدير المجموعة أو من يجري المقابلات. وكان المأمول أنه بعد استيفاء الإجابات عليها من كل واحدٍ من أفراد المجموعة، يبدأ آنئذ نقاش عام يمكن أن ينطلق من سؤال يستثير إجابات الجميع لتقديم آرائهم في موضوعه. وفيما يلي الأسئلة التي وضعت انطلاقًا من الدراسة النظرية وتدور حول خمسة محاور:

1)             حول التعريف بالهوية السورية:

                 ـــــــ          كيف تعرِّف نفسك: سوري؟ عربي، كردي، آشوري، شركسي، أرمني؟

-              كيف تقول هويتك الثانية: سوري عربي، أم عربي سوري، أم سوري كردي أم كردي سوري.. إلخ؟

-              ما الصفة الهوياتية الثانية التي تضيفها على الصفة الهوياتية الأولى: هل هي قومية، أم دينية؟

-              هل يمكنك أن تفسر لماذا تعتقد أنك: (عربي سوري، سوري عربي، كردي سوري أو العكس، كردي فقط، أرمني، آشوري... إلخ.

-              ما الذي ستصوت عليه في استفتاء محتمل مقبل يطرح فيه سؤال: الجمهورية العربية السورية؟ الجمهورية السورية العربية؟ الجمهورية السورية؟ اتحاد الجمهوريات السورية؟

2)              ما الإشكالية بين الهوية العربية (القومية) والهوية السورية (الوطنية) وكيف يمكن حل هذه الإشكالية بينهما؟

3)             من وجهة نظرك الشخصية، كيف يمكن معالجة الهويات الفرعية في سورية (الدينية، العرقية، المذهبية، الطائفية)؟ وهل يمكن معالجتها بوساطة إقرار التعددية في سورية؟

4)             ما العلاقة بين الحرب السورية (2012-2019) وتشظي الهوية في سورية؟ هل هي مسؤولة عن هذا التشظي أم أن هناك عوامل مضمرة تقف وراء ذلك؟

5)             كيف يمكن بناء هوية سورية جامعة؟ (اقتراحاتك لذلك)

وكما هو مُفصَّلٌ في الملحق الميداني المرفق لبحث الهوية السورية والتغيرات التي طرأت عليها بين عامي 2011 و2020، جرى تكوين أربع مجموعات بؤرية شملت سوريين من المحافظات السورية كلها ومن الجنسين، وروعي أن يكون أعضاؤها من الاثنيات الرئيسة الموجودة في سورية (عربًا وأكرادًا وتركمانًا) وأجريت 43 مقابلة معمقة، طرحت فيها ونوقشت موضوعات الأسئلة السابقة.

حول نتائج الدراسة الميدانية

كان عدد المشاركين في المجموعات البؤرية وفي الحوارات المعمقة 83 سوريًا من الذكور والإناث، ومن الاثنيات السورية، العرب والأكراد والتركمان بوجه خاص، ومن المناطق السورية المختلفة. والمؤسف أن الفريق الذي أجرى هذا التحقيق الميداني لم يتمكن من تغطية الطوائف الدينية السورية كلها ولا المكونات الاثنية التي تؤلف جميعها الفسيفساء السورية. ومن ثمَّ، فإن عددهم وانتماءاتهم، كما أشير إليها فيه،لا يرقى بطبيعة الحال إلى تكوين عينة تمثيلية للمجتمع السوري الراهن فضلًا عن أنه لم يكن يسعى إلى ذلك. لهذا، فالإجابات والآراء التي تضمنها التحقيق تقدم عددًا من المؤشرات التي تنطوي على بعض الدلالات من دون زعم تغطيتها بصورة دقيقة مواقف المجتمع السوري اليوم.

تضمن المحور الأول حول "التعريف بالهوية السورية"،أسئلة تناولت خمس نقاط: الهوية الأولى، الهوية الثانية، طبيعة الهوية الثانية، سبب الانتماء إلى هذه الهوية أو تلك، اسم الجمهورية الذي ستختاره في استفتاء مقبل.

جاءت الإجابات في ستة اتجاهات يمكن الاستدلال على نسبة كل منها بالنسبة إلى مجموع المشاركين من خلال الإجابات عن السؤال المتعلق باختيار اسم الجمهورية الذي يمكن أن تحمله سورية المستقبل، وتشير في مجملها إلى عناصر الالتباس في مفهوم الهوية لدى السوريين وكذلك إلى الأسباب الكامنة وراءه. فالانتماء: عربي أولًا سوريٌّ ثانيًا، ينوس في تسويغاته بين الأيديولوجية القومية، واللغة، ومكان الولادة، والدافع العاطفي، والتحدي أو مواجهة الآخر. في حين ينوس انتماء: كردي أولًا سوري ثانيًا، بين اللغة في المقام الأول، والعادات والتقاليد، والتطلع إلى أن يستقر هذا الانتماء إلى دولة كردية، وردة الفعل على الاضطهاد، وتشرذم الانتماءات بعد الثورة. أما الانتماء: تركماني أولًا سوريٌ ثانيًا، فقد كانت الإشارة إلى اللغة في التسويغ متضمنة في الإشارة إلى الأصول التركية، والتربية والعادات والبيئة.

يشير التحقيق الميداني إلى أن التمسك بأولوية هذه الهوية الأولى أو تلك، ارتبط لدى قلة أيضًا بمواجهة رفض الآخر المختلف الذي يستثير ردة فعل مقابلة. سوى أن مثل هذا التسويغ يبقى بطبيعته ظرفيًّا ولا يمكن أن ينظر إليه بوصفه انتماءً عقلانيًّا أو عفويًّا. أما مسوغات المواقف بالنسبة إلى أولوية الانتماء السوري على الانتماء العربي مثلًا فقد جاءت شبيهة بتلك التي أعطت الأولوية للانتماء العربي. وباستثناء ما يمكن تسميته بالموقف الظرفي الذي عبر عنه بعضهم (مواقف العرب السيئة تجاه الثورة السورية، مثلًا)، أو الموقف المتطرف ذي الطابع الأيديولوجي (نحن سوريون ولسنا عربًا..)، فإن هذا الانتماء في معظم الإجابات ينوس هو الآخر بين الموقف الأيديولوجي الذي عبَّرَ عنه الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا ينكر عروبة سورية وإن كان يضفي عليها صفة القيادة، وبين الموقف العاطفي والانتماء العربي بعد السوري بوصفه "أمرًا واقعًا" أو بسبب "الثقافة المشتركة". على أن من الملاحظ أن الجيل الجديد من السوريين الذي بلغ سن الرشد بعيدًا عن سورية لا يعرف سوى الانتماء السوري، مثله مثل الذين عبروا صراحة عن انتمائهم السوري أولًا وأضافوا انتماءهم الاثني ثانيًا (سوري أولًا، كردي أو تركماني أو شركسي ثانيًا). ولعل أفراد هذه الفئة معظمهم يعيشون اليوم في المهجر الذي أنشأ بينهم - على اختلاف انتماءاتهم المناطقية أو الاثنية أو حتى الدينية كما يبدو - ضربًا من التضامن في إطار انتمائهم السوري جميعًا. ولعل انتماء "الأمر الواقع" وليد عذاب الهجرة والغربة وآلامها هو الأكثر عفوية والأكثر بعدًا عن كل أيديولوجية ويمكن استثماره في إطار سورية الجديدة. ولا أدلَّ على ذلك من قول أحدهم في تعليله هذا التضامن: "الغربة والتهجير الذي عشناه معًا، والظلم والاضطهاد الذي مارسه النظام علينا، يكفي لأن يذيب الفوارق كلها بين مكونات الشعب السوري".

أما بالنسبة إلى موقع الدين في تحديد الهوية، فقد كانت الآراء تعكس كما يتضح من التحقيق تباينها في المجتمع السوري قبل الثورة، وهو تباين ازداد حدة كما يبدو من الإجابات في أثناء السنوات التسع الأخيرة. فهناك من يضع الدين في المقام الأول ويكرر بكل بساطة مقولات الجماعات الإسلامية التي انتشرت خطاباتها المعتدلة أو المتطرفة خلال السنوات التسع الماضية، وهناك من يفصل الدين عن موضوع الهوية وطنية كانت أو قومية، وعدد قليل من أضاف الهوية الدينية إلى هويته الأولى عربية أو سورية.

وعلى أن الانتماءات الفرعية (طائفية: درزي، مسلم سني، أو مناطقية: شاوي) التي يمكن أن تصنف أيضًا ضمن آراء الأقلية العددية هنا، فإنها لم تكن غائبة في إجابات المشاركين، مثلما كانت أيضًا بعض الآراء التي تقول بالهوية العربية وتنكر الهوية السورية التي كانت"صنيع سايكس بيكو".

ويسعنا أن نرى كيف تجد هذه الآراء جميعًا صداها بقدر ما في النسبة التي حازها الاسم المختار لسورية المستقبل. فقد كان من بين المشاركين الذين اختاروا اسم الجمهورية العربية السورية أو اسم الجمهورية السورية العربية يمثلون على التوالي 30.9 و7.4 في المئة ما مجموعه 38.3، ومن اختاروا اسم الجمهورية السورية أو سورية أو دولة سورية يمثلون على التوالي 27.1 و 7.4  و 6.2 ما مجموعه 40.7. في الوقت الذي توزعت نسبة 11.1 على ثلاث خيارات تراوح بين الجمهورية الإسلامية السورية 4.9 والاتحاد السوري الفدرالي 3.7 وبلاد الشام 2.5، في حين كان من لم يصوتوا يمثلون 9.9.

في مناقشتهم للمحور الثاني حول الإشكالية بين الهوية العربية والهوية السورية، كان مفهومًا بل متوقعًا أن يرى معظم المشاركين في هذا التحقيق، ممن لا ينتمون إلى مكونات المجتمع السوري المتمثلة في الأكراد والتركمان والشركس وجود إشكالية بين الهويتيْن من حيث المبدأ لا سيما أن عددًا منهم تحدث عن تراجع مفهوم المواطنة السورية نظرًا لارتباط اسم سورية باسم عائلة "الأسد". مثلما كان كذلك أيضًا تأكيد وجود الإشكالية بين الهويتيْن قائمة في نظر المكونات السورية الثلاث المشار إليها. الموقفان كلاهما يجسدان آثار غياب سياسة تستهدف بناء علاقة مواطنة متوازنة في إطار عقد اجتماعي جامع يحدد حقوق وواجبات المواطن بمعزل عن انتمائه إلى هذه الأكثرية أو تلك بين الاثنيات في فسيفساء سورية أو إلى تلك الأقلية فيها، ما دام مفهوم الأكثرية نفسه لا يقوم على أساس قومي أو ديني أو طائفي. وكان لا بد من أن تؤدي آلية حل هذه الإشكالية لدى المشاركين إلى آراء متباينة بصورة جذرية: فمن تقسيم سورية على أساس قومي (نظرًا لغياب الروابط التي تجمع بين القوميات المختلفة)، إلى اعتماد الهوية السورية التي تجمع المكونات الاثنية كلها في سورية واستبعاد الهوية العربية (لأن الربط بين الهويتيْن يحرم الاثنيات الأخرى من التعبير عن نفسها بحرية)، بل إلى حلٍّ يقوم على التخلي عن الاثنيات الفرعية (لمصلحة الوطن).

وحين طرح في المحور الثالث حلُّ التعددية في سورية من أجل معالجة الهويات الفرعية، دينية، أم عرقية، أم مذهبية، أم طائفية، في سورية، غلب على الردود الطابع الأيديولوجي، سواء أكان لمصلحة التعددية مع وقف اعتمادها ضمن شروط، أم جاء ضد تطبيقها. إذ إن إنكار أي دور إيجابي لها، أو القول بأن تكون المرجعية هي "القرآن الكريم" لأنه "نظم العلاقة بين الهويات الفرعية" أو "بين المسلمين وغيرهم"، أو أنها "تمهد للتقسيم" ليس إلا نتيجة هيمنة أيديولوجية الفكر الواحد، سواء أكان دينيًا أم غير ديني. ولابد من أخذ قطاع واسع من السوريين ممن يرون في التعددية خطر التقسيم أو ينكرون أي دور إيجابي لها. ومع ذلك فثمة أمل يبدو جليًا لدى شريحة اجتماعية مهمة في فهم معنى وظيفة التعددية وصلاحيتها لمعالجة قضية الهويات، بما أنها لا يمكن إلا أن تعتمد مفهوم المواطنة في دولة مدنية وديمقراطية.

كان سؤال المحور الرابع عن"العلاقة بين الحرب في سورية خلال السنوات التسع الماضية وتشظي الهوية السورية" يستهدف استقراء واقع مفهوم الهوية الوطنية السورية الذي نشأ عن ثورة السوريين الذين بدا أنهم استبقوا الأمور في تظاهراتهم خلال السنة الأولى حين رفعوا شعار "الشعب السوري واحد، واحد، واحد". سوى أن أحدًا من المشاركين في التحقيق لم يذكر هذا الشعار، وإن كانت أكثريتهم اعتبرت أن الثورة لم تلعب أي دور في تشظي المجتمع السوري، بل لعلها كانت كاشفًا عن التشظي الذي كان "موجودًا تحت الرماد"، بدليل الأمثلة الشعبية التي ذكرها أحد المشاركين حول النعرات الطائفية والعرقية الموجودة في سورية قبل 2011، وسرعان ما انفجرت بفعل عوامل عدة، داخلية وخارجية، ابتداء من السنة الثانية للثورة. لم يكن غريبًا في ضوء مختلف الإجابات أن يرى بعض المشاركين في التحقيق أن النظام السوري يبقى "المسؤول الأول عن تشظي الهوية السورية قبل الثورة وبعدها"، وهو ما ستلخصه المقترحات التي قدمها المشاركون من أجل بناء هوية سورية جامعة، موضوع المحور الخامس في هذا التحقيق.

وفي حين انصب نصف المقترحات على موضوع نظام الحكم، تناول النصف الآخر منها سبل الوصول إلى بناء الهوية الجامعة في المجتمع السوري. فيما وراء الإجماع على رحيل نظام الأسد "بشكل كامل"، تباينت الآراء حول طبيعة النظام المنتظر بحيث يمكن أن تمثل نسبيًا آراء عدد من شرائح المجتمع السوري بعد تحررها من هيمنة النظام الأسدي. فمن اقتراح حكم عادل يقوم على الشريعة الإسلامية ويعطي الحقوق لمكونات الشعب السوري كافة، إلى ضرورة "حصر الحكم بالأكثرية السنية، كي يذهب الحقد الطائفي بالتدريج"، ومن "تقسيم سورية إلى دولتين، شرق الفرات وغرب الفرات" إلى إقامة نظام فدرالي يعطي المحافظات السورية الاستقلالية في إدارة شؤونها الداخلية". ومع ذلك فثمة شبه إجماع هنا، أيًّا كانت منطلقات هذه المقترحات، على أهمية احترام حقوق المكونات السورية كافة، إثنية كانت أم دينية، أم مذهبية. وهو إجماع لا يمكن تعليله بالأيديولوجية البعثية أو الأسدية بقدر ما يمكن ردّه إلى الخلفية الثقافية الجديدة التي كانت تتكون بالتدريج لدى جيل الثورة، اعتمادًا على الموروث الذي بقي راسخًا في الوعي الجمعي لشريحة واسعة من السوريين، أو على كل ما اكتسبته شريحة أخرى من السجالات التي احتدمت بين السوريين على مستقبل سورية المأمول.

مستقبل الهوية الوطنية السورية

لقد تجلت إشكالية الهوية الوطنية السورية في غياب أي حسم لتحديد طبيعة الهوية الوطنية في سورية سايكس بيكو ثم سورية المستقلة: هل هي سورية عربية، أم عربية سورية؟ هل الهوية السورية مرحلة انتقالية نحو الهوية العربية الأوسع؟ وما هي حدود الأولى: سورية الطبيعية، أي سورية المملكة السورية العربية التي أعلنها الملك فيصل عام 1920، أم سورية سايكس بيكو أم سورية التي نادى بها الحزب القومي السوري الاجتماعي؟ وما هي حدود الهوية العربية: هل تقتصر على المشرق العربي كما كانت تطمح إليها ثورة الشريف حسين أم تشمل مشرق العالم العربي ومغربه كما نادت بها عصبة العمل القومي ومن بعدها حزب البعث؟ وهل أمكن خلال قرن كامل من ولادة سورية الجديدة وثلاثة أرباع القرن من وجودها دولة مستقلة وضع طبيعة الانتماء وهويته على جدول أعمال أو في برنامج أي حكومة من تلك التي توالت على سورية خلال مرحلة الانتداب أو منذ الاستقلال، ومن ثمَّ العمل حثيثًا على إبرام عقد اجتماعي قوامه هذا الانتماء أو مشروع تظهيره ثم تجذيره فيما وراء الشعارات النظرية أو الخطابات الأيديولوجية لمختلف الأحزاب والنظم والحكومات التي عرفتها سورية منذ الاستقلال حتى اليوم؟ ألم يواجه التباس الانتماء - وما يزال يواجه - واقعًا فسيفسائيًا، تارة يأخذ ألوان المناطق، وتارة طبيعة الأصول الاثنية، وأخرى طبيعة المعتقدات الدينية أو الطائفية؟ وما العمل من أجل بناء هوية وطنية في سورية المستقبل تستجيب لمكوناتها جميعًا بلا استثناء، على غرار دول أخرى في عالمنا اليوم، ويمكن أن تستقرعليها سورية كسواها من الدول العربية الأخرى التي ولدت خلال القرن العشرين؟

هو ذا، في واقع الأمر اليوم، السؤال/المشروع الذي يطرح نفسه على السوريين الذين يتطلعون اليوم إلى استعادة بلدهم من أجل إعادة بنائه وطنًا وانتماءً وموئلًا.

قد يُنظر إلى هذا السؤال على أنه شديد الطوباوية إن لم يكن مشوبًا بقدر كبير من السذاجة نظرًا لطرحه في ظروف الانهيار السياسي والنفسي والاجتماعي الواسع الذي عاشته سورية خلال خمسين عامًا، وتفاقم خلال العقد الأخير بدمار المدن والبنى التحتية المختلفة فيها فضلًا على وجود نصف الشعب السوري مشتتًا داخل سورية وفي البلدان المحيطة بها، إضافة إلى أعداد كبيرة منهم توجد الآن في بلدان أوروبا والأميركتين وأستراليا. لكن ضرورة هذا المشروع وأهميته وأولويته لا تقل عن سواه من المهمات الأخرى التي تفرض نفسها على كل من يتصدى لحمل مسؤولية استعادة سورية بلدًا ووطنًا وإعادة بنائها. ذلك أن بناء هذه الهوية لا بد من أن يرافق كل خطوة من خطوات المشروع الأكبر، بدءًا من وضع الدستور الجديد وصوغه، وصولًا إلى المناهج التربوية والدراسية في المدارس السورية وفي المدارس الخاصة بالسوريين في بلدان اللجوء، ومرورًا بالمواقع الإعلامية السورية وببرامج التجمعات أو الأحزاب السياسية.

سبقت الإشارة إلى طرح الثوار السوريين في مستهل ثورتهم في آذار/مارس 2011 وفي تظاهراتهم كلها مسألة الهوية السورية. كان شعار "الشعب السوري واحد، واحد، واحد" الذي هتفوا به يعلن وحدة الشعب التي لا تنفي ولا تنكر التعدد داخله. ذلك أنه ينطوي على وعي حاد بأن الوحدة هنا هي في الموقف وفي الأمل وفي الهدف الذي حمل هؤلاء الثوار على مواجهة استبداد النظام وعنفه مطالبًا بإسقاطه.

تلك هي نقطة البداية: الشعب السوري، شعب واحد في تعدده، الاثني والديني والطائفي والمناطقي واللغوي. وربما كان هذا العنصر هو أحد الخصائص التي تميّز سورية، سورية الطبيعية أو سورية الجديدة، عن عدد كبير من الدول العربية التي نشأ معظمها خلال القرن العشرين في إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية.

ذلك يتطلب التمهيد منذ الآن، عن طريق الاهتمام بالبحث في مقومات الهوية الوطنية في سورية المستقبل، بطرح موضوعها للنقاش على الباحثين المهتمين بالحدث السوري والناشطين السياسيين ومسؤولي الأحزاب الجديدة الفاعلة على الساحة السورية. ومن الضرورة بمكان أن تبدأ الخطوة الأولى في هذا المجال بنقد الرؤى والمفاهيم المقترحة في كتابات السوريين خلال العقد الأخير للهوية الوطنية السوريةفي ضوء ما يتطلبه بناء سورية المستقبل وهي تتحرر من محنتها وتعمل على استعادة كيانها. من الطبيعي أن ينطلق هذا النقد من مشروع رؤية للهوية الوطنية السورية يعتمد العناصر التاريخية على صعيد الإدارة والحكم والمصالح الاقتصادية المشتركة التي أخذت في التكون منذ بداية العقد الرابع من القرن السابع الميلادي مع الفتح العربي لبلاد الشام التي كانت جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية، والاجتماعية التي تجلت وما تزال في تعددية انتماء السوريين الاثني والقبلي والديني والطائفي، والثقافية التي تتميز هي الأخرى بتعدديتها عبر العصور وإن غلب فيها الطابع العربي بفعل اللغة العربية التي اعتمدت منذ بداية الحكم الأموي والتي يجب أن يسلط الضوء عليها بحيث تستجيب لما تتطلع إليه مكونات المجتمع السورية كلها، آخذًا بعين الاعتبار كل ما عانته إشكالية هذه الهوية الوطنية طوال تاريخ سورية الجديدة في نوسانها بين الهوية السورية والعربية خصوصًا والهوية السورية والإسلامية عمومًا[53].

هوية جامعة، توافقية، يجري تحديد عناصرها في عقد اجتماعي لم تتح للسوريين خلال قرن كامل فرصة إنجازه مع أي نظام توالى على حكمهم. لا بد لملامح هذه الهوية وعناصرها أن تكون جزءًا من مواد دستور سوري جديد يقوم على أسس مجتمع مدني يتبنى معايير المواطنة والمساواة في الحقوق وفي الواجبات ويؤسس لتظهير هوية وطنية سورية معيارها الأول الانتماء إلى الوطن السوري بمعزل عن الانتماء إلى دين أو طائفة أو قبيلة أو عشيرة، ومعيارها الثاني احترام التعددية الاثنية والثقافية واللغوية، ومعيارها الثالث الإرادة الحرة التي تعبر عن نفسها على صعد السياسة من خلال ممارسة حقوق المواطن في اختيار ممثليه في مختلف مؤسسات الحكم، والمجتمع إذ يحتل مكانه فيه فاعلًا ومؤثرًا، والثقافة إذ يساهم في إثرائها في جوٍّ من حرية التعبير والنقد لا رقابة عليه سوى رقابة الدستور الذي توافق عليه المواطنون؛ على أن تجري بعد ذلك عملية توعية على نطاق واسع بمفهوم هذه الهوية التي يجب أن يرى السوريون فضيلة انتمائهم إليها بما سيتمتعون به في دستورهم وفي القوانين التي سيَسنُّها ممثلوهم المنتخبون باسمهم ولمصلحتهم منعكِسًا ومُجَسَّدًا في حياتهم اليومية.

لا شك في أن تاريخ الهوية الوطنية السورية خلال مئة عام، والسنوات التي توالت منذ انتفاضة السوريين في ربيع 2011، حافل بما يشي بالعقبات التي ستعرقل مثل هذا المشروع المأمول. لقد تضمن التحقيق الميداني[54] حول الهوية السورية إشارات عدة إلى طبيعة بعض هذه العقبات التي نشأت خلال السنوات الأربعين من حكم البعث والعائلة الأسدية اللذين تجاهلا واقع المجتمع الذي تصدوا لحكمه وعملوا فيه إما على تسويق هوية عربية كانا يعملان بالفعل على كسر أي مشروع لتحقيقها كما سبق القول، وإما على تغييبها كليًّا لمصلحة المشروع الأول والأساس في نظر العائلة الأسدية الذي استهدف تثبيت قواعد الحكم وتأبيده التي تفاقمت خلال السنوات التسع الأخيرة بفعل التدخلات الخارجية إقليميًا ودوليًّا، من دون إهمال ما أدت إليه ممارسات نصف قرن من الحكم الفردي الاستبدادي. إذ لا يمكن تجاهل صراع الهويات الذي برز واضحًا خلال السنوات الأخيرة وأججته أربعة عقود من الإنكار والتجاهل بل الاضطهاد، أو استثمرته وغذَّته بعض القوى العربية والإقليمية، سواء على صعيد الانتماء الاثني (العرب والأكراد) أم على صعيد الانتماء الديني (مسلمين ومسيحيين) أم الانتماء الطائفي (السنة والشيعة والعلوية..). ولذلك، فإن أي خطة تستهدف العمل على المحافظة على الهوية الوطنية السورية التي تراكمت مكوناتها، على اختلافها على الرغم من كل شيء، في الوعي السوري عمومًا والعمل على تظهير وترسيخ تلك التي تستجيب لما يتطلبه المستقبل السوري بعد تحرره من الاستبداد ومن الاحتلال ومن ضروب الوصاية الأجنبية أيًا كانت جنسيتها ودعاواها، من خلال العمل على فرض أولوية بحثها ومناقشتها وتبنيها ضرورة وجودية أولى في مختلف برامج الهيئات السياسية التي تتطلع، أيًا كانت وظيفتها، إلى التصدي إلى حمل مسؤولية سورية المستقبل.

ذلك يفترض بطبيعة الحال عملًا فكريًّا وتربويًّا وميدانيًّا لا في صوغ مفهوم الهوية الوطنية السورية في سورية المستقبل فحسب، بل في تحرير هذا المفهوم من كل ما كان يحول بينه وبين التجذر في ضمير السوريين، أي كل ما كان يهدد بعض مكوناتهم، أو يعني إقصاء بعضها الآخر. ولا يمكن لهذا العمل أن يكون ناجعًا إلا إذا اعتمد السير في آن واحد في اتجاهات أربعة: الفكري، من أجل وضع المفهوم ومقوماته في صيغة تتوافق عليها مكونات الشعب السوري كافة من خلال ممثليها المنتخبين أصولًا، والدستوري، من أجل تأطير مفهوم الهوية الوطنية السورية وتعزيز أسسه بنصوص دستورية مرجعية لكل سلطة تتوالى على حكم سورية ويكون من مهماتها الأساس أن تقوم بترسيخه في المجتمع السوري،والتربوي، من أجل تعميق الوعي (ولا سيما لدى الأجيال الجديدة) بالهوية الوطنية التي ينتمون إليها والقضاء في الوقت نفسه على مختلف ضروب سوء الفهم أو التفاهم حول معاني الهوية الوطنية الجامعة ومقتضياتها في الحقوق وفي الواجبات، وأخيرًا، الميداني، للوصول إلى مختلف شرائح الشعب السوري بمكوناته كلها لأنها هي من سيقرر يومًا ما مصير هذه الهوية.

خاتمة: من أجل حلِّ إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها

من الممكن أن نتوصل مما سبق إلى أن إشكالية الهوية الوطنية السورية ولدت مع محاولة ظهور مشروعها بفعل تضافر العوامل التاريخية التي استُعْرضَت في الصفحات السابقة، ولا سيما منها فشل الثورة العربية الكبرى في أو الحيلولة دونها ودون بناء الدولة العربية المنشودة منها، وتقلص المطمح لإنشاء هذه الدولة بفعل التحالف البريطاني الفرنسي إلى محاولة إنشاء المملكة السوريةالعربية، وانتهاء باستئثار فرنسا بحصتها الشمالية من سوريا الطبيعية بموافقة بريطانيا التي استأثرت بحصتها الجنوبية. وكما يتبين من تاريخ مئة عام عاشته سورية "الجديدة"، لم يكن موضوع بناء دولة وطنية سورية، أي مقتصرة على سورية ضمن حدودها الراهنة، على جدول أعمال أي حكومة توالت على حكم سورية منذ استقلالها حتى اليوم. ولذلك بقيت النزعات الاثنية والطائفية والمناطقية موجودة في تلافيف المجتمع السوري ولا تظهر إلى السطح إلا في وقت الأزمات، كما كان ذلك يحدث صراحة طوال مرحلة الانتداب بين دول أقيمت على أساس المناطق تارة (بين دولتي حلب ودمشق)، أو على أساس الانتماء الطائفي تارة أخرى (بين دولة العلويين ودولة الدروز)، أو حين تعبر عن نفسها من خلال النزاعات الحزبية كانقسام الكتلة الوطنية إلى حزبين، كما أشير إلى ذلك هنا من قبل. ولم يكن شعار السوريين الثائرين في ربيع عام 2011 إلا شعار أمل ورجاء نبيل من أجل تشييد دولة وطنية جامعة على أنقاض دولة الاستبداد والإقصاء.

ذلك يعني أن العناصر المقومة لإشكالية الهوية السورية الوطنية هي التي تغلبت طوال عشرات السنين، ولا سيما منذ الانقلاب العسكري البعثي في آذار/مارس 1963،على أي مقومات ممكنة لمثل هذه الهوية وفي مقدمتها وجود دولة مركزية مدنية وديمقراطية في أول بند من برنامجها التعبير عن إرادة شعبية حقيقية في العيش المشترك الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون، أيًا كانت انتماءاتهم المناطقية أو القبلية أو العشائرية، أو معتقداتهم، وصوغ عقد اجتماعي يقول ذلك كله. ولأن أي نزعة وطنية سورية محضة كانت مرفوضة، رسميًا، مثلما كانت النزعة العروبية واجهة لا وجود واقعيًا لها لا في إنجاز وحدوي حقيقي ولا في برنامج لمثل هذا الإنجاز، كانت الهوية السورية محض مفهوم نظري لم يكن يرد بحثه إلا بصورة عابرة.

سوى أن ثورة السوريين، التي فتحت أمامهم إمكان استعادة حقوقهم السياسية الطبيعية والأولية، حَملَتهم منذ البداية على طرح مسألة الهوية السورية الوطنية شعارًا أساسًا هتف به المتظاهرون كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ثم على معالجة مفهوم هذه الهوية في كتابات السوريين الفكرية والسياسية التي ازدهرت بوجه خاص خلال السنوات التسع التالية على 2011، كتابات عكست في عدد كبير منها مدى القصور في وعي هوية قائمة بالقوة وتكونت على مدى القرون وكانت بحاجة ماسة إلى التظهير كي تقوم بالفعل مُوَحِّدة وجامعة. وهي كتابات لا بد من العودة إليها دراسة ونقدًا في دراسة مقبلة[55].



[1]"مؤتمر الهوية الوطنية، قراءات ومراجعات في ضوء الأزمة السورية" نظمه مركز مداد للأبحاث والدراسات بدمشق (20 ــ 21 كانون الثاني/يناير 2018).

[2] صحيفة تشرين، 21 كانون الثاني/ يناير 2018: http://tishreen.news.sy/?p=133274.

[3] Ernest Renan, Qu’est-ce qu’une Nation, conférence faites à la Sorbonne, 11 mars 1882.

[4]Comment la notion d’identité nationale s’est elle construite, in Savoir/agir, numéro 2, décembre 2007, Grand entretien avec Anne-Marie Thiesse.

[5] Ibid.

[6]McCrone (David)et Surridge (Paula): "National Identity and National Pride". In Roger Jowell, et al. :"British and European Social Attitudes, the Fifteenth Report", Ashgate, Aldershot, (1998)

[7] Edgar Morin, La francisation à lépreuve, Le Monde dju 5 juillet 1991.

[8] Dans : Hubert Peres, Identité nationale et sociologie de la connaissance, Pôle sud, N° 14,mai 2001, p. 57-71

[9] انظر: الهوية الوطنية الفلسطينية، خصوصية التشكل والإطار الناظم، عبد الفتاح القلقيلي وأحمد أبو غوش، مركز بديل ـ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة والإنسان، ورقة عمل، بيت لحم، فلسطين 2012.

[10] مما لا شك فيه أن عددًا من العناصر المقومة لهذه الهوية قد تطورت وتغيرت مع توالي العصور، إذ ما كان يؤلف العناصر المقومة للأمة/الهوية المصرية في عصر الفراعنة يختلف بطبيعة الحال عن تلك التي صارت لها في عصر البطالسة أو في عصر الرومان ثم في العصر العربي/ الإسلامي الذي تلاه، أو في العصر الحديث. سوى أن استمرار الدولة المركزية هو ما سمح بوجود هذه الهوية بالفعل لا بالقوة، مثلما أتاح إمكانات تطورها وتكيفها مع التغيرات التي مست السلطة السياسية المركزية. وتبين كثرة من الدراسات التاريخية والجغرافية والأنثروبولوجية والاجتماعية استمرارية كثير من العادات وضروب السلوك سواء في الحياة اليومية أم في طبيعة العلاقة مع رأس السلطة السياسية. وربما كان كتاب جمال حمدان بأجزائه الأربعة، شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان (دار الهلال، القاهرة)، أحد أهم المراجع عن مصر عبر تاريخها الطويل.

[11] نجد ذلك في السردية التاريخية التي كتبها الدكتور سلطان محيسن، مدير الآثار والمتاحف السورية سابقًا وبإيجاز شديد، لكنه حافلٌ بالدلالات التي تضمنتها مقدمة الكتاب الذي أعده وأصدره معهد العالم العربي عام 1993 بمناسبة المعرض التاريخي الكبير الذي حمل عنوان: "سورية، ذاكرة وحضارة"، وبمشاركة خمسة وثلاثين عالمًا أثريًّا، من جنسيات مختلفة، مختصين بالتاريخ السوري الذي قدم ثمرات التاريخ السوري ــ كما يفصلها هذا الكتاب ــ منذ ما يقرب من مليون سنة من التاريخ بناء على الآثار التي اكتشفت في مناطق مختلفة من سورية. انظر:

Syrie, mémoire et civilisation, Flamarion, Paris 1993, pp. 8-10.

[12] عن: أمين محمد سعيد، الثورة العربية الكبرى: تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن، 3 ج )القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي، من دون تاريخ) ج 2 ــ 3. انظر أيضًا محمد جمال باروت، المؤتمر السوري 1919 ــ1920، تبيّن، العدد 3، شتاء 2013، ص. 23 ــ 48.

[13] Edmond Rabbath, La Formation historique du Liban politique et constitutionnel: Essai de synthèse, publications deL’Université libanaise, Section des études juridiques, politiques et administratives; I, nouvelle édition (Beyrouth: Librairieorientale, 1986), p. 139.

[14] البلاد السورية هي سورية الطبيعية أو ما يعرف ببلاد الشام التي تشمل سورية الحالية ولبنان والأردن وفلسطين. كان العثمانيون قد وضعوا بلاد الشام منذ انتصارهم على جيش المماليك في معركة مرج دابق، في عام 1516، ضمن تقسيم إداري واحد بقي على حاله أربعة قرون، أي حتى انسحابهم منها في نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.

[15] محمد جمال باروت، المؤتمر السوري 1919 ــ1920، تبيّن، العدد 3، شتاء 2013، ص 24.،

[16] انظر محمد جمال باروت، مرجع سبق ذكره؛ وانظر أيضًا نجيب الريس، سورية: الجلاء (1946 ــ 1951)، اختارها وأعدها زكريا تامر، قدم لها وعلق على حواشيها جوزيف الياس، الأعمال المختارة، مئوية نجيب الريس، 4 (لندن، ليماسول، بيروت" رياض نجيب الريس للكتب والنشر، 1994)، ص 195ـ 196. ولعل في استعادة الاحتفال مستقبلًا بذكرى هذا اليوم، 8 آذار، الذي صار منذ الانقلاب البعثي عام 1963 وبسببه يومًا مشؤومًا لدى السوريين، تكريمًا ليوم كرس فيه السوريون قبل مائة عام هويتهم بإعلان دولتهم الديمقراطية ودستورها الذي يكرسها دولة حديثة بكل معاني الكلمة.

[17] كان الأمير فيصل يعمل من أجل أن ينال ثقة السوريين كي يمثلهم ويدافع عن مطالبهم في استقلال سورية الطبيعية وفي رفض أي صلة مع فرنسا. ففي الاجتماع الذي دعا إليه فيصل وجهاء سورية ونخبها بعد عودته من مؤتمر الصلح بتاريخ 9 أيار/مايو 1919، أعلمهم بطلبه من المؤتمر الاستقلال لكل من سورية الطبيعية والحجاز والعراق كدول مستقلة على أن يقوم بينها اتحاد جمركي واقتصادي من دون "معاونة أو حماية"، قائلًا: "نحن لا نرضى في سورية أن نبيع استقلالنا بما تحتاج إليه من المعونات في بداية تكويننا، بل إن الأمة السورية هي تريد أن تستقل وتأخذ ما تحتاجه من المعاونة بثمنه، أي بدراهم معدودات". "دافعت عن سورية بحدودها الطبيعية، وقلت إن السوريين يطلبون استقلال بلادهم الطبيعية، ولا يريدون أن يشاركهم فيه شريك، وقد توفقنا والحمد لله، والعراق بلاد مستقلة بلا علاقة مع سورية، كما أن سورية لا علاقة لها بسائر البلدان العربية، مع أن العرب أمة واحدة". انظر: محمد جمال باروت، مرجع سبق ذكره، ص. 26، مع الهامش رقم 19.

[18] من خطاب الأمير فيصل في حلب بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، انظر وثيقة تاريخية، 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، خطاب الأمير فيصل بن الحسين الذي ألقاه عند دخوله حلب:

https://www.facebook.com/naseershaher/photos/a.1463307103708042/1193114160727339/?type=3&theater

[19] انظر محمد حرب فرزت، الحياة الحزبية في سوريا 1908ــ1955، منشورات دار الرواد، دمشق 1955، ص 28؛ وكذلك جورج أنطونيوس، يقظة العرب، علي حيدر (مترجم) الركابي، دمشق 146، ص. 79.

[20] محمد حرب فرزت، المرجع نفسه، ص. 30ــ32.

[21] نجيب الأرمنازي، محاضرات عن سوريا من الاحتلال حتى الجلاء، معهد الدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، مطابع دار الكتاب العربي بمصر، القاهرة 1954، ص. 1.

[22] نجيب الأرمنازي، المرجع نفسه، ص. 30 و 31.

[23] خطار بو سعيد، عصبة العمل القومي ودورها في لبنان وسوريا 1933ــ1939، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نيسان/أبريل 2004. ص. ص. 58 و 65.

[24]المرجع نفسه، ص. 91. انظر أيضًا: محمد حرب فرزت، الحياة الحزبية في سوريا 1908ــ1955، مرجع سبق ذكره، ص. 188.

[25] خطار بو سعيد، مرجع سبق ذكره، ص. 107؛ انظر أيضًا: بيان المؤتمر التأسيسي لعصبة العمل القومي المنعقد في قرنايل في 24 آب/أغسطس 1933، دمشق، المطبعة العصرية، 1933، ص. 8.

[26] كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، دار النهار، الطبعة الثانية، بيروت 2012، ص.82ـ83.

[27]المرجع نفسه، ص. 83.

[28]المرجع نفسه، ص. 83ـ84.

[29] انظر: أنطون سعادة، الآثار الكاملة، المكتبة السورية، موقع الحزب السوري القومي الاجتماعي،

http://antoun-saadeh.com/

وانظر أيضًا: (روجع الموقعان بتاريخ 25 نيسان/أبريل 2020):

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A_%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A#%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A9

[30] محمد حرب فرزت، مرجع سبق ذكره، ص. 246ـ247.

[31] محمد حرب فرزت، مرجع سبق ذكره، ص 247ـ248.

[32] نشوان الأتاسي، تطور المجتمع السوري 1831ـ2011، أطلس للنشر والترجمة والإنتاج الثقافي: بيروت 2015، ص. 187.

[33]المرجع نفسه، ص. 197.

[34]المرجع نفسه، ص. 201ـ202.

[35] بدرالدين عرودكي، هل كانت الوحدة السورية ـ المصرية تجربة؟، انظر: الوحدة العربية، تجاربها وتوقعاتها، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1989، ص. 252.

[36] كان صاحب أول انقلاب يجري في سورية، حسني الزعيم، من المنادين بدعم مشروع سورية الكبرى، وعند قيامه بالانقلاب، حمل ملك الأردن، عبد الله، على التحذير من أي مشروع يتعلق بسوريا الكبرى" وحشد قواته على الحدود السورية الأردنية، لكن حسني الزعيم تخلى عن دعمه المشروع في إثر تحالفه مع مصر والسعودية، وهو ما دفع حزب الشعب في سورية إلى رفض المشاركة في الحكومة التي كلف بتشكيلها في إثر الانقلاب فيضي الأتاسي. (انظر ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، مادة حسني الزعيم).

[37] يحيى سليمان قسام، موسوعة سورية، البنية والبناة" المجلد الثاني، الجزء الثاني، الفصل الرابع، دستور الجمهورية العربية المتحدة، دمشق 2007، ص. 222.

[38] انظر: في سبيل البعث، الجزء الأول، وحدة مصر وسوريا، ص. 257؛ حول وحدة مصر وسورية، اتجاه طريقها وعقبات على هذه الطريق، الجزء الثاني ص 187؛ حول وحدة الشعب العربي في سورية ومصر، ص. 190؛ ملامح الوحدة العربية في اتحاد مصر وسورية، ص. 193؛ اتحاد مصر وسورية ثمرة النضال العربي التحرري، ص. 196؛ اتحاد مصر وسورية، ص, 199؛ اتحاد مصر وسورية دعم للاتجاه الثوري، ص. 216.

[39]المرجع نفسه، ص. 228.

[40] كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، دار النهار، بيروت 2011، ص 242.

41 أي بصورة رئيسة فضلًا عن عدد من السنوات على الساحة العراقية مع تراجع مضطرد في البلدان العربية الأخرى، كاليمن والسودان وتونس والأردن ولبنان، وإلى حدٍّ ما في مصر.

[42] كانت مصر وليبيا والسودان قد أعلنت عزمها على الاتحاد حين كان حافظ الأسد يتهيأ لتثبيت حركته ضد رفاقه في الحزب وتلقى تأييد زعماء البلاد الثلاثة في حركته على لسان القذافي الذي حضر إلى دمشق يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 ليبلغ الأسد دعم البلدان الثلاثة لحركته، وهو ما دفع الأسد إلى أن يصدر مساء اليوم نفسه بيان استلامه للسلطة. كمال ديب، مرجع سبق ذكره، ص. 373.

[43] موسوعة سورية، البنية والبناة" المجلد الثالث، الجزء الثاني، الفصل الرابع، ص. 238.

[44] نشوان الأتاسي، تطور المجتمع السوري، مرجع سبق ذكره، ص. 202.

[45] كمال ديب، مرجع سبق ذكره، ص. 494-ـ495.

[46]المرجع نفسه، ص. 494.

[47] محمد نور النمر، بإشراف د. يوسف سلامة، المواطنة في المناهج الدراسية السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، غازي عنتاب، تركيا 2018، ص. 47.

[48]المرجع نفسه، ص. 46.

[49]رايموند هينبوش، تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث، حازم نهار (مترجم)، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2014 ، ص. 51-ـ52.

[50] يعود تاريخ صدور وتطبيق قانون الطوارئ المشار إليه إلى 22 كانون الأول/ديسمبر 1963، وقد تعزز بمرسوم صدر في 7 تموز/يوليو 1965 نصَّ على عقوبة الإعدام لكل من يعارض النظام قولًا وكتابةً وعملًا. وهو ما فسح المجال واسعًا للمؤسسات الأمنية التي حلت في هذا المجال فعليًّا محل القضاء. انظر كمال ديب، تاريخ سورية المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص. 725.

[51] انظر: د. حسام عيسى عبد الرحمن، أوراق مؤتمر الهوية الوطنية، الدولة والبناء الوطني السوري، جدلية الدولة والهوية بين التفكيك والاندماج، مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، دمشق 2018.

[52] انظر خاتمة هذه الدراسة: من أجل حل إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها.

[53] في بحث مقدم إلى ندوة “التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تحتاج إليه سورية المستقبل” التي عُقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 19 و20 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعنوان "ركائز الهوية السورية"، حدد الباحث مكونات هوية سورية المستقبل الوطنية بثلاثة عناصر: الدين واللغة والتاريخ. وفي عرضه لمكون الدين، حدد الدين الإسلامي والمسلمين السنة خصوصًا، بوصفهم الأكثرية "المضطهدة". من الواضح في هذه الحالة أن إدخال الدين بوصفه عنصرًا مقوّمًا لهوية وطنية ينطوي على إقصاء كل من لا يدين بدين الأكثرية. انظر:

https://www.harmoon.org/reports/%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A6%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/

[54] انظر الملحق الميداني، الهوية السورية والتغيرات التي طرأت عليها من عام 2011 ولغاية 2020، إشراف طلال المصطفى.

[55] لابد من الإشارة هنا إلى الدراسة المهمّة التي صدرت حديثًا، وكانت مسألة الهوية موضوعها الأساس، بعنوان: سورية الدولة والهوية، قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946ـ1963)، خلود الزغير، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2020.


الهوية الوطنية (السورية) بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل (حوار مع بدر الدين عرودكي)*

حسام الدين درويش

 

غالبًا ما تضعف السمة الوطنية حيثما/ حينما يكثر الحديث عنها، وبالعكس. ويعني العكس هنا، من ناحيةٍ أولى، أن الوطنية غالبًا ما تكون أقوى حيثما/ حينما يقلّ الحديث عنها، وتنتفي الحاجة إلى مثل هذا الحديث؛ ويعني العكس المذكور، من ناحيةٍ ثانيةٍ، أن خطابات الوطنية تقلّ غالبًا حيثما/ حينما تكون الوطنية في “صحةٍ جيدةٍ”. وفي بحثه الموسوم ﺑالهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس، الصادر عن مركز حرمون، بداية الشهر الماضي تشرين الأول/ أكتوبر 2020، يشير بدر الدين عرودكي إلى أن النقاش حول موضوع “الهوية الوطنية السورية” تصاعد منذ أن صدحت حناجر ثوار 2011 بالهتاف الشهير: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد” (ص 49)([1]). ولا يعني ذلك أن وضع تلك الوطنية كان أفضل قبل ذلك التاريخ، وإنما يعني أن وضع تلك الوطنية كان مأزومًا لدرجة اقتصارها غالبًا على أن تكون موضوع مزاودةٍ شعاراتيةٍ من السلطة الأسدية، مع حظر مناقشتها في المجال السوري العام.

النقاش المتصاعد حول “الهوية الوطنية السورية” تجسَّد في عددٍ متزايدٍ من الندوات والنصوص والأبحاث المخصصة لهذا الموضوع. ويمكن النظر إلى بحث عرودكي المذكور على أنه أحد أهم هذه الأبحاث. وتكمن أهمية هذا البحث، من ناحيةٍ أولى، في كونه يتضمن دراسةً تاريخيةً ومفهوميةً، نظريةً وميدانيةً، في الوقت نفسه. فالبحث يحاول تتبع نشأة/ تطور (مفهوم) الهوية الوطنية السورية خلال المئة العام الأخيرة، 1920-2020، مع محاولة تحليل هذا المفهوم وتحديده وإبراز مقوماته وأبعاده المختلفة. وإضافة إلى ذلك الأساس أو التأسيس النظري، يستند البحث إلى تحقيق ميداني أشرف عليه طلال المصطفى، حول موقف السوريين من الهوية الوطنية والتغيرات التي طرأت عليها بين عامي 2011 و2020. (ص 50-70). وتكمن أهمية البحث، من ناحيةٍ ثانيةٍ، في كونه لا يقدم إجاباتٍ جاهزةً وناجزةً، ولا يفترض الوجود المسبق لمثل هذه الإجابات، بل إنه يؤكد أن مثل تلك الإجابات ليست موجودة (حتى الآن) أصلًا. لذا يشدد البحث، في عنوانه ومتنه وهوامشه، على إشكالية الهوية الوطنية السورية والتباسها، لكنه لا يقتصر على عرض تلك الإشكالية أو ذلك الالتباس، بل يقدّم أيضًا أطروحةً معرفيةً وموقفًا سياسيًّا/ أيديولوجيًّا -بالمعنى الوصفي أو الإيجابي معياريًّا للكلمة- يتمثلان في القول بوجود هوية وطنيةٍ سوريةٍ/ شاميةٍ، وفي السعي إلى إيجاد حلٍّ لإشكالية تلك الهوية والتباسها. وهكذا ينوس نصّ البحث، بين عرضٍ معرفيّ لإشكالية الهوية الوطنية السورية، بوصفها وجودًا بالقوة، من جهةٍ، وسعيٍ سياسيّ أيديولوجيّ، يرى إمكانية تحويلها إلى وجودٍ بالفعل، وضرورة هذا التحويل، من جهةٍ أخرى.

يرى عرودكي، مع أرسطو، أن “الوجود يقال على أنحاء متفرقةٍ أو مختلفةٍ”، وانطلاقًا من ذلك، يستند إلى تمييزه الشهير بين “الوجود بالقوة والوجود بالفعل”، ليقول بأن “الهوية الوطنية السورية موجودة بالقوة فقط، وإنها ليست موجودةً بالفعل، وإنه ينبغي بذل كل الجهود الممكنة لجعلها موجودةً بالفعل. القوة في “الوجود بالقوة” تكون إما فعليةً، بحيث تعني قدرة شيءٍ ما على إحداث تغييرٍ ما، وإحداث الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، أو انفعاليةً بحيث تحيل على قدرة شيءٍ ما على الانتقال من حالٍ إلى حالٍ بتأثيرٍ ما. ووفقًا لبحث عرودكي، تبدو قوة الوجود الحالي للهوية الوطنية السورية أقرب إلى القوة الانفعالية، لأنها غير قادرة بذاتها على أن تكون وجودًا بالفعل، وهذا يعني أنها بحاجةٍ إلى موجودٍ آخر، لكي يكون بالإمكان أن تصبح موجودةً بالفعل. يرى البحث أن الدولة هي ذلك الموجود الآخر الذي يستطيع أن ينقل الهوية الوطنية السورية من حالة الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.

لكن ما الذي تفعله الدولة تحديدًا، في هذا الخصوص؟ هل تكتفي بتجسيد مقومات الهوية الوطنية الموجودة مسبقًا، أم أنها تقوم بخلق هذه المقومات أو بعضٍ منها على الأقل؟ يميل القسم النظري من البحث إلى الخيار الأول، حيث يؤكد مرارًا أن الدولة تجسِّد ما هو موجودٌ بالقوة مسبقًا، بحيث يبدو أن كل مقومات الهوية الوطنية موجودةٌ بالقوة قبل وجود شرط الوجود الفعلي لتلك الهوية، والمتمثل في السلطة/ الدولة التي تجسد “صورة هذه الهوية الوطنية وحصيلتها” ص 10. ولا يعني ما سبق أن إجابة البحث عن السؤال التقليدي الشهير المتعلق بمسألة أسبقية الوجود بين الدولة والأمة/ الهوية الوطنية بسيطةً، بحيث إنه يتبنى إما الأطروحة القائلة إن وجود الأمة/ الهوية الوطنية يسبق وجود الدولة، وإما العكس. فالتمييز بين نوعي الوجود يفقد الإجابة بساطتها وشيئًا من وضوحها. ويمكن صياغة أطروحة البحث في هذا الخصوص بالتالي: (مقومات) الهوية الوطنية/ الأمة توجد بالقوة قبل وجود الدولة، ووجود الدولة فقط هو الذي يجعل المقومات أو الهوية المذكورة موجودة بالفعل. لكن ليس واضحًا تمامًا ما الذي تضيفه الدولة إلى الهوية الوطنية الموجودة بالقوة مسبقًا، غير فعلية ذلك الوجود.

إذا كان الإطار النظري الذي يقدمه البحث لا يقدم إجابةً واضحةً، تمام الوضوح، عن هذا السؤال، فإن الدراسة التاريخية التي يتضمنها البحث تساعد في زيادة جزئيةٍ ونسبيةٍ في درجة وضوح معالم الإجابة المذكورة. ففي حديثه عن التكون التاريخي لهوية سوريا الكبرى/ بلاد الشام، يشير عرودكي إلى أن وجود مركز السلطة السياسية في دمشق كان “عاملًا شديد الأهمية، لا في المساهمة في تكوّن هذه الهوية فحسب، بل في رعايتها وحماية خصوصيتها منذ بدايات تكونها […]” ص 15. ووفقًا لتلك الدراسة لم يفضِ وجود دولة سوريا إلى الوجود الفعلي للهوية الوطنية السورية. وهذا يعني أن وجود الدولة بحد ذاته غير كافٍ لتحويل وجود الهوية الوطنية، من وجودٍ بالقوة إلى وجودٍ بالفعل. فذلك التحويل مشروطٌ، أيضًا، بممارسات تلك الدولة وسياساتها، في هذا الخصوص. فهذه الممارسات والسياسات تكون عقبةً أمام تشكل الهوية الوطنية أكثر من كونها عاملًا مساعدًا على وجودها أو إيجادها الفعلي. وبدا ذلك واضحًا في سلوك القوى التي حكمت سورية منذ استقلالها، لكن ذلك الوضوح بلغ ذروته ونموذجيته مع السلطة الأسدية التي لم تكتفِ بإقصاء الهوية الوطنية السورية والتبني الشكلاني لأيديولوجيا عروبية لا ترى في سورية إلا قطرًا من “وطنٍ عربيٍّ”، بل مارست استبدادًا مضادًّا لكل ممكنات قيام الهوية الوطنية السورية.

تختلف أطروحات البحث، في هذا الخصوص، مع عددٍ من أطروحات عزمي بشارة في كتابه “في المسألة العربية…”. ففي حين أن بشارة يرى ضرورة الانطلاق من القومية العربية، لبناء وحدةٍ وطنيةٍ محليةٍ، في الدولة القطرية العربية، ويجزم بفشل الدول القطرية في تكوين هُويةٍ وطنيةٍ محليةٍ (غير عربيةٍ)، سواء أكان ذلك على أساس إثني محلي، أو على أساس المواطنة، نجد أن عرودكي يقول بنجاح الأردن ولبنان -“بفضل الإرادة الشعبية والتوافق السياسي”- في “ترسيخ هوية وطنية خاصة بكلٍّ منهما”. ص4. وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول مع بشارة بفشل سورية أو نظامها الحاكم في بناء هوية وطنية سورية، لأنه كما يبين عرودكي محقًّا، لم يسعَ النظام الأسدي إلى بناء تلك الهوية أصلًا، وما كان بالإمكان أن يضع ضمن أهدافه “هدف تحقيق وحدة وطنية حقيقية”، نظرًا إلى أن أول أهدافه وأهمّها كان دائمًا “حماية النظام وضمان استمراره”. ص 36. وإذا كان بشارة يرى أن الهوية الوطنية (العربية/ القومية) هي أساس ضروري لقيام نظامٍ ديمقراطي في “الدول العربية”، فإن عرودكي يشدّد على أنّ أهمّ مقومات تجسيد الهوية الوطنية (السورية) بالفعل “يكمن في وجود دولة مركزية مدنية ديمقراطية، في أول بند من برنامجها التعبير عن إرادة شعبية حقيقية في العيش المشترك الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون، أيًا كانت انتماءاتهم المناطقية أو القبلية أو العشائرية، أو معتقداتهم، وصوغ عقد اجتماعي يقول ذلك كله” ص 49. لكن عرودكي نفسه يشير في مواضع عدةٍ إلى أن دور الدولة المدنية الديمقراطية المذكورة لا يقتصر على تجسيد الهوية الوطنية وإرادة العيش المشترك، بل ينبغي لتلك الدولة أيضًا أن تسهم في تعزيز تلك الهوية والإرادة وإثراء الثقافة المرتبطة بها، من خلال إظهار أو إبراز إيجابياتها الكثيرة والكبيرة. ص 47-48.

لكن ما الذي يعنيه مفهوم الهوية الوطنية؟ وما هي مقومات هذه الهوية تحديدًا؟ ينطلق بحث عرودكي من الإقرار بالإشكالية الكبيرة المتصلة بالإجابات عن هذين السؤالين، ومن التشديد على عدم “وجود تعريفٍ جامعٍ مانعٍ مجمعٍ عليه لمفهوم الهوية الوطنية”. ليسوِّغ ضرورة المماهاة أو المطابقة، جزئيًّا على الأقل، بين مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم الأمة أو الدولة القومية/ الدولة-الأمة. وعلى الرغم من المعقولية الجزئية والنسبية لهذه المماهاة أو المطابقة؛ فإنها تثير العديد من الصعوبات النظرية المفاهيمية. المقابل الأجنبي، الفرنسي والإنجليزي لمفهوم الوطني/ الوطنية، لدى عرودكي، هو كلمة national. لكن إذا كان التطابق بين مفهومي الوطنية والقومية مقبولًا ومعقولًا سابقًا، أو حاليًّا لدى الاتجاه اليميني المتطرف في السياسة (ترامب ولوبين مثلًا)، فهناك، في المقابل، أغلبية تشدد على التمايز أو على ضرورة التمييز بين مفهومي الوطنية والقومية في الخطاب السياسي، الأكاديمي وغير الأكاديمي. والتمايز بين المفهومين ليس وصفيًّا فحسب بل هو معياريّ أيضًا؛ ففي حين أن مفهوم القومية nationalism أصبح يحظى بسمعة سيئة (جدًّا) ويتضمن قيمًا معيارية سلبية عمومًا في “العالم الغربي الديمقراطي”، فإن مفهوم الوطنية patriotism يحظى غالبًا بسمعةٍ جيدةٍ ويتضمن قيمًا معياريةً إيجابيةً عمومًا. وقد ظهر ذلك واضحًا، وضوحًا كبيرًا ونموذجيًّا، في قول الرئيس الفرنسي ماكرون: “الوطنية هي نقيض القومية تحديدًا: القومية خيانة للوطنية”. وإذا كان بحث عرودكي يتركز على مفردة/ مفهوم الوطنية، فإن تركيزًا موازيًا على مفهوم القومية يظهر في “الملحق الميداني”، المنشور مع البحث. ففي ذلك الملحق حديثٌ عن وجود هوةٍ في المجتمع السوري، “بين الانتماءات القومية والانتماءات الوطنية”. والمقصود بالانتماءات القومية الانتماءاتُ العربية والكردية والتركمانية والشركسية. وهكذا يتم فصل الانتماء القومي عن الانتماء الوطني وربطه بالانتماء الإثني، وجعل الانتماء القومي أدنى من الانتماء الوطني وفي علاقة متوترة أو متضادة معه، في الوقت نفسه. وثمة إشكالية في الحديث عن وجودٍ (فعليّ) لقوميات، وليس لأقوامٍ، بدون وجود دولة يُفترض أنها ضروريةٌ لإظهار أو تجسيد الوجود الفعلي لتلك القوميات. وليس واضحًا لماذا أو كيف يتطلب الوجود الفعلي للهوية الوطنية وجود دولة تجسده، في حين أن الوجود القومي لشعبٍ أو جماعةٍ ما لا يتطلب وجود مثل تلك الدولة. لهذا السبب، ولأسبابٍ أخرى متصلةٍ به، ثمة ضرورة لتحديد وتوضيح المعاني الإشكالية لمفاهيم/ مصطلحات الوطنية والقومية والأمة والدولة والعلاقات المختلفة التي يمكن أن تنشأ فيما بينها.

ويرى عرودكي أن العناصر المقومة لوجود الهوية الوطنية أو الشعب أو الأمة تتمثل خصوصًا في اللغة والأرض والعادات والثقافة والمصالح المشتركة، لكن تلك العناصر تقتضي “وجود إرادة في العيش المشترك وفي التوافق على عقد اجتماعي”، لكي يتسنى لها أن تكون موجودةً بالفعل في دولةٍ تجسد الوجود الفعلي لتلك العناصر ولتلك الإرادة ولذلك التوافق. وهكذا يحاول عرودكي التوفيق بين مفهومين متمايزين للأمة: مفهوم هردر الألماني الذي ربط مفهوم الأمة بمفهوم النسب اللاإرادي إلى ثقافة/ لغة مشتركة بين أفراد جماعةٍ ثقافيةٍ/ لغويةٍ عضويةٍ؛ ومفهوم رينان الفرنسي الذي يشدد، بالدرجة الأولى، على الانتساب الإرادي الحرّ إلى جماعةٍ سياسيةٍ. ص 8. وفي هذه العلاقة التكاملية بين الإرادي واللاإرادي، بين الانتساب والنسب، بين الفاعلية الإنسانية والبنية، بين الوجود الفعلي، والفاعل إيجابًا، للدولة ووجود مقومات الهوية الوطنية بالقوة، يتجسد الجدل الإيجابي المؤسس للوجود الفعلي للهوية الوطنية، الذي يحاول عرودكي إظهاره في بحثه. فتلك الهوية ليست مجرد مفهومٍ نظريٍ بل هي قائمةٌ على أسس واقعيةٍ من جهةٍ، وخاضعة للقرار والاختيار السياسي/ الأيديولوجي من جهةٍ أخرى.

في شرحه لماهية الوجود بالقوة، ميَّز أرسطو بين قوةٍ قريبةٍ وقوةٍ بعيدةٍ، من حيث إن وجود الأولى لا يحتاج إلى “الكثير” ليصبح وجودًا بالفعل، في حين أن وجود الثانية يحتاج إلى تهيئةٍ وإعدادٍ مطولين نسبيًّا، قبل أن يصبح وجودًا بالفعل. ويبدو أن قوة وجود الهوية الوطنية السورية هي من النوع البعيد، لا من النوع القريب، حيث يرى عرودكي أن انتقال مقومات الهوية الوطنية السورية، من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، يقتضي السير في أربعة اتجاهاتٍفكري، يحيل على توافق سوري حول ماهية الهوية الوطنية السورية ومقوماتها، ودستوريٍّ، يثبت ذلك التوافق ويسمح بالانطلاق لترسيخه في المجتمع السوري، وتربوي يتمثل في تعميق الوعي الصحيح واستبعاد الوعي الزائف في خصوص مضامين الهوية الوطنية السورية، وميدانيِّ يعمل على الوصول إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من أفراد الشعب السوري. ص 48.

لكن قبل ذلك كله، وتمهيدًا له، وسعيًا إلى تحقيقه، يرى عرودكي ضرورة طرح مسألة الهوية الوطنية السورية للنقاش في المجال العام، ويشدد على أن الخطوة الأولى، في هذا الخصوص، ينبغي أن تتخذ صيغة نقد الرؤى والمفاهيم المتعلقة بالهوية الوطنية السورية والمقترحة في كتابات السوريين منذ انطلاق الثورة السورية. ويختتم عرودكي دراسته بوعدٍ ضمنيٍّ أو صريحٍ بالعودة إلى تلك الكتابات، دراسةً ونقدًا، في بحث قادمٍ. ويمكن القول إن بحث عرودكي المنشور في بداية الشهر الماضي يسير مسبقًا في هذا الاتجاه التأسيسي. وما مناقشتي النقدية لبعض الرؤى والمفاهيم التي يتضمنها بحثه إلا استجابة لدعوته للقيام بمثل تلك المناقشة النقدية.

الحديث عن الهوية الوطنية، بوصفها وجودًا بالقوة، يعني أنها خيارٌ بين خياراتٍ متعددةٍ، وإمكان بين إمكاناتٍ متمايزةٍ. وليس هناك ما يضمن تحول ذلك الوجود إلى وجودٍ بالفعل. فاللامتناهي (بالتقسم) عند أرسطو هو نموذجٌ للوجود بالقوة الذي يستحيل تحوله إلى وجودٍ بالفعل. وخلال المئة عام الأخيرة، تجاورت الهوية الوطنية السورية الموجودة بالقوة، وتصارعت مع هويات أخرى موجودةٍ بالقوة أيضًا، كالهوية الإسلامية والهوية العربية والهوية السورية الشامية إلخ. كما تشظى انتماء سوريين كثر، في السنوات الأخيرة، وتفتت، في انتماءاتٍ فرعيةٍ مناطقيةٍ وطائفيةٍ ودينيةٍ ومناطقيةٍ وإثنيةٍ. ولا يتأسس التبني الأيديولوجي السياسي للهوية الوطنية ضمن حدود سورية القانونية على قناعة مبدئية بقيمٍ وطنيةٍ بالضرورة، وإنما قد يتأسس على قناعةٍ مصلحيةٍ بأن تلك الأيديولوجيا هي الوسيلة الوحيدة أو الفضلى لمنع انزلاق السوريين إلى انتماءات ما قبل أو تحت الدولة أو فوق وخارج الدولة، وتنافرهم وتناحرهم على أساس ذلك الانزلاق. ولعلّ أقوى مقومات الهوية الوطنية السورية المنشودة يكمن في أن سورية، بحدودها الرسمية الحالية، هي التي تحظى بالاعتراف القانوني والرسمي من قبل “المجتمع الدولي” والمنظمات الأممية المعنية بالأمر. وانطلاقًا من ذلك، وبالانفصال نسبيًّا عنه، يبدو أن التحقيق الفعلي للهوية الوطنية السورية أكثر سهولةً أو أقل صعوبةً من التحقيق الفعلي للهويات الأخرى المتمثلة في الهويات أو الانتماءات الإسلامية والعروبية والأممية، على سبيل المثال.


* نشر هذا المقال في موقع حرمون بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2020.

([1])لتوثيق بعض الاقتباسات من بحث عرودكي، سأشير إلى رقم الصفحة بعد الاستشهاد الحرفي بنص من ذلك البحث.

  

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire