البازار الإيراني والحسابات الأميركية
بدرالدين عرودكي
وكأنما
كان الخميني يدرك، حين شرب السم إذ سمح بوقف نزيف بلاده في حربها مع العراق، أنه
لن يموت بما شربه على كره منه. فها هو يدخل العراق بعد أن فتحت له الولايات
المتحدة الأميركية أبوابه كلها على إثر ارتكاب إحدى كبرى الحماقات السياسية
العربية في القرن العشرين: احتلال العراق لدولة الكويت، أو بالأحرى، أي بعبارة أشد
دلالة: محاولة الهيمنة على أكبر نسبة احتياطي للنفط في العالم: العراق والكويت
معًا! ! إذ حوصر العراق ثم قضي عليه جيشًا ودولة بعد عقد من ذلك، ووضع على إثر
الغزو الأميركي عام 2003، تحت الهيمنة ألإيرانية باعتراف أمريكي غير معلن. وهو ما
سمح لإيران أن تستعيد عافيتها بعد حربها مع العراق التي استنفذت قواها وكادت أن
تضع حدًا لأحلامها الإمبراطورية التي تطلعت إلى تحقيقها من جديد.
أتاحت
هذه الهيمنة العلنية مع بداية الألفية الثالثة لإيران على العراق فعليًا اعتمادًا
على حفنة من السياسيين العراقيين، يدينون لها بوجودهم وباستمرارهم، ويعملون على
تجييش العدد الأكبر من أنصارهم وأتباعهم لصالح تثبيت سياستها والدفاع عن مصالحها
والعمل لحسابها، أن يستعيد وريث الشاه، الولي الفقيه، البدء بمحاولة تحقيق حلم الشاه
الإمبراطوري شيئًا فشيئًا من خلال تثبيت التمدد في لبنان عن طريق
حزب الله، وتعزيز العلاقة مع النظام الأسدي، وزرع بذور الوجود الإيراني في البلدان
العربية الأخرى، من دول الخليج الذي ترفض أن يحمل، ولو مشاركة، صفة العربي، وصولًا،
قدر المستطاع، حتى المغرب الأقصى. ذلك كله ضمن استراتيجية كانت تستهدف على المدى
المتوسط والبعيد وضع اليد تدريجيًا على مراكز القوة في العالم العربي كي تحتل موقع
القوة الإقليمية الأولى في منطقة الشرق الأوسط، مستفيدة من متغيّرين كبيريْن على
التوالي: أولهما انهيار المنظومة السياسية العربية منذ توقيع مصر اتفاقية كامب
دافيد التي كان من أهم نتائجها الحدّ من دورها الإقليمي المركزي الذي لعبته بين
خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، لا على صعيد العالم العربي فحسب، بل على صعيد
القارات الثلاث، وبوجه خاص أفريقيا والعالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط في مجملها؛
وثانيهما انهيار المنظومة الشيوعية مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
لكن
متغيِّرًا ثالثًا جاء على غير انتظار كي يتيح لإيران كل التسهيلات الضرورية لتنفيذ
مشروعها: ثورات الربيع العربي والثورات المضادة التي عملت ولا تزال تعمل على
القضاء عليه وعلى آثاره. إذ بعد أن اتخذت على الفور موقف التأييد لما جرى في تونس
وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وفي البحرين بزعم دعم الشعوب العربية في ثوراتها، سرعان
ما انقلبت على عقبيها حين انتفض الشعب السوري ضد نظام الأسد، حليفها الاستراتيجي،
واقفة بكل قواها ضد الانتفاضة السورية، إعلاميًّا وماليَّا وتقنيًا وعسكريّا، حاشدة
قوى وكيلها اللبناني الأقرب، حزب الله، كي يرسل ميليشياته لدعم جيش النظام الأسدي
في المناطق التي كان يزداد يومًا بعد يوم اضطراره إلى التراجع أو التخلي عنها، قبل
أن تدعم هذا الأخير بخبراء حرسها الثوري ومن كان يجندهم للغرض نفسه في الدول
المجاورة لها. أما بضاعتها التي كانت ــ ولا زالت ــ تسوق لها بينما كانت تتمدد في
نُسُج المجتمع السوري والعمراني والسكاني فضلًا على مراكز القرار فيه، فقد كانت
قضية فلسطين التي تعلمنا، منذ ذلك الحين، أن تحرير القدس فيها يمر عن طريق مختلف
المدن السورية شرقًا وشمالًا وجنوبًا، وانه لابد لتحقيق ذلك من تهجير الشعب السوري
أو إرغامه على النزوح من مدنه وقراه.
ومن
سورية إلى البحرين والسعودية، ثم اليمن بوجه خاص، حيث وجدت في الحوثيين، على غرار
لبنان، نظير حزب الله، فباشرت استغلالهم وتجنيدهم وتوظيفهم وصوغ استراتيجيتهم بما
يتلاءم وسياستها إزاء دول الخليج عمومًا والسعودية بوجه خاص. وهو ما بات يتيح
الفرصة لبعض مسؤوليها أن يعلنوا بشيء من الفخر لا يخلو من الوقاحة الصفيقة أن
القرار في أربعة عواصم عربية صار ينطلق من طهران.
كان
ذلك كله يتزامن مع ما عرف بمفاوضات النووي الإيراني. إذ تمكنت إيران من استثمار
تنازلاتها في الملف المذكور لقاء حرية في العمل إقليميًّا تغض الولايات المتحدة
النظر عن مآلاتها ولا تقف روسيا ضدها، ولاسيما في سورية، حين اعترفت بها قوة
إقليمية إلى جانب تركيا، لها كلمتها في تقرير مصير بلد كامل على سبيل المثال من
دون أي اعتبار لإرادة شعبه.
هكذا
بدت المنطقة العربية، في غياب المنظومة السياسية العربية، موضع نزاع بين قوتين
كبيرتين إقليميًا، تحاول كل منهما الهيمنة عليها: إسرائيل وإيران. لكنه نزاع لا
يستبعد تبادل الخدمات أو الاستفادة من وضع الطرف الآخر لتحقيق مصالحه. فكما أن
إيران، باسم النضال ضد إسرائيل واستعادة القدس المحتلة، بنت سياستها العربية وجندت
ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن للدفاع عن مصالحها وسياساتها، كذلك لم تكن
إسرائيل ترى في تمدد إيران وقيامها بالدور المحوري في تفكيك الدول العربية الثلاث
شمالًا وفي تهديد دول الخليج انطلاقًا من اليمن جنوبأ ما يهدد أمنها طالما لم
تقترب ميليشياتها من حدودها، بعد أن ضمنت وضع مشروعاتها النووية تحت الرقابة
الدولية..
ولعل
ذهاب إيران بعيدًا في تطوير قوتها وتثبيت هيمنتها الإقليمية بما لا يتناسب وتقاسم
الأدوار الإقليمية في المنطقة، هو ما حفز ترامب على إعلان انسحاب الولايات المتحدة
من الاتفاق النووي، وعلى التدرج في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران ما لم تقبل
العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد من اجل تعديل الاتفاق ولاسيما حول نقطتين
جوهريتيْن: الصواريخ البالستية ودور إيران الإقليمي عبر أذرعها في سورية ولبنان
واليمن خصوصًا.
ترفض
إيران في البداية العودة إلى طاولة المفاوضات وتحاول الضغط على الطرف الأوربي في
الاتفاق النووي كي لا يطبق العقوبات المفروضة
تحت طائلة العودة إلى تخصيب اليورانيوم. فتزداد العقوبات الاقتصادية
الأميركية شدة وصولًا إلى منعها بيع نفطها. ولما كانت أوربا بفعل ارتباطاتها
الاقتصادية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة ا|لأمريكية لا تملك سوى الطرق
الدبلوماسية للضغط على الطرفين للعودة إلى التفاوض مجددًا، ورغم تأثير العقوبات
الذي بدأت آثاره في الظهور على الاقتصاد الإيراني، فقد عمدت إيران إلى المساومة
مجدَّدًا بالرد على مستويات عدّة وبطرق مختلفة: قبول العودة لمفاوضات جديدة شريطة
رفع العقوبات، والتهديد بحروب شاملة في المنطقة إن تعرضت لاعتداء عسكري أميركي، وإغلاق
مضيق هرمز. وفي الوقت نفسه عمدت إلى القيام ببعض المناوشات في الخليج مستهدفة
ناقلات النفط الأوربية، وقامت عامدة متعمدة بتسيير ناقلة نفط من موانئها باتجاه
سورية، فضلًا عن قيامها بتغيير نوعي في تسليح الحوثيين باليمن عن طريق تزويدهم بالطائرات
المُسيّرة (الدرون) والسماح لهم باستهداف عمق الأراضي السعودية ومنشآتها الحيوية
وصولًا إلى قصف البنية النفطية التحتية السعودية مؤخرًا، الذي تحاول إيران التنصل
من مسؤولية القيام به، في الوقت الذي لا يخفى على أحد دورها في تسليح الحوثيين
وتدريبهم بل وفي توجيه استراتيجيتهم العسكرية بما يخدم في الوقت نفسه سياساتها
إزاء السعودية وسواها من دول الخليج.
لا
يمكن اعتبار ذلك كله أكثر من مناوشات تستهدف استمرار وضع الاضطراب في المنطقة، من
دون الوصول إلى حرب حقيقية. تعلم إيران أن ترامب لن يدخل في حرب معها، وأنه لن
يتراجع عن العقوبات التي فرضها عليها، لكنها تراهن في الوقت نفسه على إمكان عدم
نجاحه لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومن ثم فهي تمضي، بانتظار
ذلك، في مفاوضات بازار من نوع آخر، قوامها تلك الضغوط التي تمارسها على السعودية،
حليف الولايات المتحدة في المنطقة، عبر تعديل هجمات الحوثيين وتشديدها من ناحية، وتهديد
مصادر النفط الأساس في العالم فيها، وذلك في ردٍّ مباشر على حرمانها من تصدير
نفطها، من ناحية أخرى.
تثبيت
هذا الوضع المضطرب بانتظار تغيير ما. هوذا الهدف الآني.
إذ
تطمح إيران إلى المحافظة على موقعها ودورها الإقليمييْن اللذيْن قضت ما يقارب
عقدين من الزمن من أجل فرض الاعتراف بهما دوليًّا. ولئن كانت الولايات المتحدة لا
تستهدف إلغاء هذا الدور أو الإطاحة بموقع إيران الإقليمي، إلا أن حساباتها لا يمكن
أن تساير رغبات إيران إلا ضمن حدود تأخذ في الحسبان دور إسرائيل وموقعها الإقليمي
اليوم، ولاسيما بعد انهيار المنظومة السياسية العربية على معظم الصعد. وبعبارة
اخرى، وضع حدّ للشبق التوسعي الإيراني بحيث يفرغ من قدرات ووسائل الهيمنة التي
يمتلكها اليوم كي يستحيل قوة إقليمية معترفًا بها لكنها تحت الرقابة والسيطرة
الدولية الدائمتيْن.
تغامر
إيران ولا شك بالرهان على سقوط ترامب من أجل الحفاظ على مكتسباتها خلال العقديْن
الأخيريْن. لكن مغادرة بولتون البيت الأبيض لن تقدم ضمانًا كافيًا لها لإمكان
تحقيق هدفها هذا. ذلك أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي كان يستهدف
الوصول على وجه الدقة إلى إعادة توزيع الأدوار في منطقة الشرق الأوسط وكذلك إعادة
تحديد مواقع القوى الفاعلة دوليًا وإقليميًا على اختلافها. ومثل هذا القرار لا
يمكن أن يكون قرارًا ينفرد الرئيس باتخاذه من دون موافقة الم
لا
تتطابق في الوقت الحاضر فرضيات البازار الإيراني أو أوهامه مع الحسابات الأميركية.
وربما سينقضي وقت طويل قبل أن تصحو إيران من أوهامها وتستأنف مرغمة إعادة النظر ..
على
أن ذلك كله لن يكون، على كل حال، إلا على حساب شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب
السوري.
** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 26 أيلول/سبتمبر 2019.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire