jeudi 26 septembre 2019



البازار الإيراني والحسابات الأميركية 
بدرالدين عرودكي
وكأنما كان الخميني يدرك، حين شرب السم إذ سمح بوقف نزيف بلاده في حربها مع العراق، أنه لن يموت بما شربه على كره منه. فها هو يدخل العراق بعد أن فتحت له الولايات المتحدة الأميركية أبوابه كلها على إثر ارتكاب إحدى كبرى الحماقات السياسية العربية في القرن العشرين: احتلال العراق لدولة الكويت، أو بالأحرى، أي بعبارة أشد دلالة: محاولة الهيمنة على أكبر نسبة احتياطي للنفط في العالم: العراق والكويت معًا! ! إذ حوصر العراق ثم قضي عليه جيشًا ودولة بعد عقد من ذلك، ووضع على إثر الغزو الأميركي عام 2003، تحت الهيمنة ألإيرانية باعتراف أمريكي غير معلن. وهو ما سمح لإيران أن تستعيد عافيتها بعد حربها مع العراق التي استنفذت قواها وكادت أن تضع حدًا لأحلامها الإمبراطورية التي تطلعت إلى تحقيقها من جديد.
أتاحت هذه الهيمنة العلنية مع بداية الألفية الثالثة لإيران على العراق فعليًا اعتمادًا على حفنة من السياسيين العراقيين، يدينون لها بوجودهم وباستمرارهم، ويعملون على تجييش العدد الأكبر من أنصارهم وأتباعهم لصالح تثبيت سياستها والدفاع عن مصالحها والعمل لحسابها، أن يستعيد وريث الشاه، الولي الفقيه، البدء بمحاولة تحقيق حلم الشاه الإمبراطوري شيئًا  فشيئًا من خلال تثبيت التمدد في لبنان عن طريق حزب الله، وتعزيز العلاقة مع النظام الأسدي، وزرع بذور الوجود الإيراني في البلدان العربية الأخرى، من دول الخليج الذي ترفض أن يحمل، ولو مشاركة، صفة العربي، وصولًا، قدر المستطاع، حتى المغرب الأقصى. ذلك كله ضمن استراتيجية كانت تستهدف على المدى المتوسط والبعيد وضع اليد تدريجيًا على مراكز القوة في العالم العربي كي تحتل موقع القوة الإقليمية الأولى في منطقة الشرق الأوسط، مستفيدة من متغيّرين كبيريْن على التوالي: أولهما انهيار المنظومة السياسية العربية منذ توقيع مصر اتفاقية كامب دافيد التي كان من أهم نتائجها الحدّ من دورها الإقليمي المركزي الذي لعبته بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، لا على صعيد العالم العربي فحسب، بل على صعيد القارات الثلاث، وبوجه خاص أفريقيا والعالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط في مجملها؛ وثانيهما انهيار المنظومة الشيوعية مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
لكن متغيِّرًا ثالثًا جاء على غير انتظار كي يتيح لإيران كل التسهيلات الضرورية لتنفيذ مشروعها: ثورات الربيع العربي والثورات المضادة التي عملت ولا تزال تعمل على القضاء عليه وعلى آثاره. إذ بعد أن اتخذت على الفور موقف التأييد لما جرى في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وفي البحرين بزعم دعم الشعوب العربية في ثوراتها، سرعان ما انقلبت على عقبيها حين انتفض الشعب السوري ضد نظام الأسد، حليفها الاستراتيجي، واقفة بكل قواها ضد الانتفاضة السورية، إعلاميًّا وماليَّا وتقنيًا وعسكريّا، حاشدة قوى وكيلها اللبناني الأقرب، حزب الله، كي يرسل ميليشياته لدعم جيش النظام الأسدي في المناطق التي كان يزداد يومًا بعد يوم اضطراره إلى التراجع أو التخلي عنها، قبل أن تدعم هذا الأخير بخبراء حرسها الثوري ومن كان يجندهم للغرض نفسه في الدول المجاورة لها. أما بضاعتها التي كانت ــ ولا زالت ــ تسوق لها بينما كانت تتمدد في نُسُج المجتمع السوري والعمراني والسكاني فضلًا على مراكز القرار فيه، فقد كانت قضية فلسطين التي تعلمنا، منذ ذلك الحين، أن تحرير القدس فيها يمر عن طريق مختلف المدن السورية شرقًا وشمالًا وجنوبًا، وانه لابد لتحقيق ذلك من تهجير الشعب السوري أو إرغامه على النزوح من مدنه وقراه.
ومن سورية إلى البحرين والسعودية، ثم اليمن بوجه خاص، حيث وجدت في الحوثيين، على غرار لبنان، نظير حزب الله، فباشرت استغلالهم وتجنيدهم وتوظيفهم وصوغ استراتيجيتهم بما يتلاءم وسياستها إزاء دول الخليج عمومًا والسعودية بوجه خاص. وهو ما بات يتيح الفرصة لبعض مسؤوليها أن يعلنوا بشيء من الفخر لا يخلو من الوقاحة الصفيقة أن القرار في أربعة عواصم عربية صار ينطلق من طهران.
كان ذلك كله يتزامن مع ما عرف بمفاوضات النووي الإيراني. إذ تمكنت إيران من استثمار تنازلاتها في الملف المذكور لقاء حرية في العمل إقليميًّا تغض الولايات المتحدة النظر عن مآلاتها ولا تقف روسيا ضدها، ولاسيما في سورية، حين اعترفت بها قوة إقليمية إلى جانب تركيا، لها كلمتها في تقرير مصير بلد كامل على سبيل المثال من دون أي اعتبار لإرادة شعبه.
هكذا بدت المنطقة العربية، في غياب المنظومة السياسية العربية، موضع نزاع بين قوتين كبيرتين إقليميًا، تحاول كل منهما الهيمنة عليها: إسرائيل وإيران. لكنه نزاع لا يستبعد تبادل الخدمات أو الاستفادة من وضع الطرف الآخر لتحقيق مصالحه. فكما أن إيران، باسم النضال ضد إسرائيل واستعادة القدس المحتلة، بنت سياستها العربية وجندت ميليشياتها في العراق ولبنان واليمن للدفاع عن مصالحها وسياساتها، كذلك لم تكن إسرائيل ترى في تمدد إيران وقيامها بالدور المحوري في تفكيك الدول العربية الثلاث شمالًا وفي تهديد دول الخليج انطلاقًا من اليمن جنوبأ ما يهدد أمنها طالما لم تقترب ميليشياتها من حدودها، بعد أن ضمنت وضع مشروعاتها النووية تحت الرقابة الدولية..
ولعل ذهاب إيران بعيدًا في تطوير قوتها وتثبيت هيمنتها الإقليمية بما لا يتناسب وتقاسم الأدوار الإقليمية في المنطقة، هو ما حفز ترامب على إعلان انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وعلى التدرج في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران ما لم تقبل العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد من اجل تعديل الاتفاق ولاسيما حول نقطتين جوهريتيْن: الصواريخ البالستية ودور إيران الإقليمي عبر أذرعها في سورية ولبنان واليمن خصوصًا.
ترفض إيران في البداية العودة إلى طاولة المفاوضات وتحاول الضغط على الطرف الأوربي في الاتفاق النووي كي لا يطبق العقوبات المفروضة  تحت طائلة العودة إلى تخصيب اليورانيوم. فتزداد العقوبات الاقتصادية الأميركية شدة وصولًا إلى منعها بيع نفطها. ولما كانت أوربا بفعل ارتباطاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة ا|لأمريكية لا تملك سوى الطرق الدبلوماسية للضغط على الطرفين للعودة إلى التفاوض مجددًا، ورغم تأثير العقوبات الذي بدأت آثاره في الظهور على الاقتصاد الإيراني، فقد عمدت إيران إلى المساومة مجدَّدًا بالرد على مستويات عدّة وبطرق مختلفة: قبول العودة لمفاوضات جديدة شريطة رفع العقوبات، والتهديد بحروب شاملة في المنطقة إن تعرضت لاعتداء عسكري أميركي، وإغلاق مضيق هرمز. وفي الوقت نفسه عمدت إلى القيام ببعض المناوشات في الخليج مستهدفة ناقلات النفط الأوربية، وقامت عامدة متعمدة بتسيير ناقلة نفط من موانئها باتجاه سورية، فضلًا عن قيامها بتغيير نوعي في تسليح الحوثيين باليمن عن طريق تزويدهم بالطائرات المُسيّرة (الدرون) والسماح لهم باستهداف عمق الأراضي السعودية ومنشآتها الحيوية وصولًا إلى قصف البنية النفطية التحتية السعودية مؤخرًا، الذي تحاول إيران التنصل من مسؤولية القيام به، في الوقت الذي لا يخفى على أحد دورها في تسليح الحوثيين وتدريبهم بل وفي توجيه استراتيجيتهم العسكرية بما يخدم في الوقت نفسه سياساتها إزاء السعودية وسواها من دول الخليج.
لا يمكن اعتبار ذلك كله أكثر من مناوشات تستهدف استمرار وضع الاضطراب في المنطقة، من دون الوصول إلى حرب حقيقية. تعلم إيران أن ترامب لن يدخل في حرب معها، وأنه لن يتراجع عن العقوبات التي فرضها عليها، لكنها تراهن في الوقت نفسه على إمكان عدم نجاحه لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومن ثم فهي تمضي، بانتظار ذلك، في مفاوضات بازار من نوع آخر، قوامها تلك الضغوط التي تمارسها على السعودية، حليف الولايات المتحدة في المنطقة، عبر تعديل هجمات الحوثيين وتشديدها من ناحية، وتهديد مصادر النفط الأساس في العالم فيها، وذلك في ردٍّ مباشر على حرمانها من تصدير نفطها، من ناحية أخرى.
تثبيت هذا الوضع المضطرب بانتظار تغيير ما. هوذا الهدف الآني.
إذ تطمح إيران إلى المحافظة على موقعها ودورها الإقليمييْن اللذيْن قضت ما يقارب عقدين من الزمن من أجل فرض الاعتراف بهما دوليًّا. ولئن كانت الولايات المتحدة لا تستهدف إلغاء هذا الدور أو الإطاحة بموقع إيران الإقليمي، إلا أن حساباتها لا يمكن أن تساير رغبات إيران إلا ضمن حدود تأخذ في الحسبان دور إسرائيل وموقعها الإقليمي اليوم، ولاسيما بعد انهيار المنظومة السياسية العربية على معظم الصعد. وبعبارة اخرى، وضع حدّ للشبق التوسعي الإيراني بحيث يفرغ من قدرات ووسائل الهيمنة التي يمتلكها اليوم كي يستحيل قوة إقليمية معترفًا بها لكنها تحت الرقابة والسيطرة الدولية الدائمتيْن.
تغامر إيران ولا شك بالرهان على سقوط ترامب من أجل الحفاظ على مكتسباتها خلال العقديْن الأخيريْن. لكن مغادرة بولتون البيت الأبيض لن تقدم ضمانًا كافيًا لها لإمكان تحقيق هدفها هذا. ذلك أن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي كان يستهدف الوصول على وجه الدقة إلى إعادة توزيع الأدوار في منطقة الشرق الأوسط وكذلك إعادة تحديد مواقع القوى الفاعلة دوليًا وإقليميًا على اختلافها. ومثل هذا القرار لا يمكن أن يكون قرارًا ينفرد الرئيس باتخاذه من دون موافقة الم
لا تتطابق في الوقت الحاضر فرضيات البازار الإيراني أو أوهامه مع الحسابات الأميركية. وربما سينقضي وقت طويل قبل أن تصحو إيران من أوهامها وتستأنف مرغمة إعادة النظر ..
على أن ذلك كله لن يكون، على كل حال، إلا على حساب شعوب المنطقة وفي مقدمتها الشعب السوري. 

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 26 أيلول/سبتمبر 2019.



jeudi 12 septembre 2019



متى سيطلقون ألسنتهم من عقالها؟ 
بدرالدين عرودكي 
يعلن البعض أن الثورة السورية لا تزال قائمة، في حين يعلن البعض الآخر انتهاءها، ويلجأ بعض ثالث إلى سوابق تاريخية كي يَطمَئِنَّ ويُطَمْئِن بأنها لن تختلف عن سواها من الثورات في بلاد أخرى عبر التاريخ عرفت مراحل متتالية من التألق والخمود ثم الانطلاق مجدَّدًا، وبأن ثورة يطلقها شعبٌ بأكمله ليست انقلابًا عسكريًا سُمِّيَ ثورة كما اعتاد بعض السوريين على هذه التسمية منذ عام 1963، ينجح أو يفشل..بل هي عملية معقدة، متعددة الأبعاد على كل صعيد من صُعُدِ التاريخ والاجتماع والسياسة، ومن ثمَّ فإن الثورة السورية، التي انطلقت في آذار 2011، لم تمت، ولن تموت ما دامت قد حققت هدفها الحاسم الأول: تحطيم جدران الخوف والصمت، ورفض الاستبداد بكل تمثيلاته العائلية والفردية والسياسية التي طغت في سورية خلال نيِّفٍ ونصف قرن. لكن أحدًا من هؤلاء وأولئك لا ينكر على كل حال أن مرحلة أساسًا في هذه الثورة قد اختتمت، وأن ختامها قد بات واضحًا للعيان منذ نهاية عام 2012 ، أي بعد ما يقارب سنتين من انطلاقها.
 مرحلة أساس، لأن كل ما جرى فيها كان مقدمة ونذيرًا بما سيجري من بعدها. وهي، لهذا على وجه التدقيق، تحتاج اليوم إلى استعادة سردية وتحليلية لوقائعها جملة وتفصيلًا، سواء على الصعيد المحلي داخل سورية، أو على الصعيد الإقليمي، أي البلدان العربية والقوى الإقليمية، وتحديدًا إيران وتركيا، أو على الصعيد الدولي، روسيا والصين من جهة، وأوربا والولايات المتحدة من جهة أخرى.
كُتِبَ الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث في تحليل هذه الوقائع خلال السنوات الثماني الماضية. كما صدر عدد من الكتب الهامة بأقلام عدد من كبار الباحثين السوريين والعرب في الفكر السياسي/الاجتماعي، نذكر من أهمها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب سلامة كيلة، الثورة السورية، واقعها وصيرورتها وآفاقها (2013)، وكتاب عزمي بشارة، سورية، درب الآلام نحو الحرية (2013)، وكتاب زياد ماجد الثورة اليتيمة (1015)، وكتاب ياسين الحاج صالح الثورة المستحيلة (2017)، وكتاب حازم صاغية، قصّة مكان– قصّة إنسان: بدايات الثورة السوريّة 2011- 2015. لكن هذه الكتب، على أهميتها البالغة، لا تغني عن كتب وشهادة من انخرطوا في قيادات العمل السياسي عبر مؤسسات أنشئت بهدف تمثيل المعارضة والثورة خلال هذه المرحلة الرئيسة في تاريخ سورية، والتي كان الكتاب الوحيد، حتى اليوم، الذي  قدم سردية متكاملة لوقائعها بوصف مؤلفه مسؤولًا وشاهدًا وفاعلًا، هو كتاب برهان غليون، عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 1011ـ2102 ، الذي صدر قبل نيف وستة أشهر.
ثمة جملة في عنوان هذا الكتاب، "ثورة لم تكتمل، سورية 2011 ـ 2012" توضح ببساطة أن ما حدث في السنوات التالية على 2012 لم يكن امتدادًا أو استمرارًا لهذه الثورة بقدر ما كان حصيلة ومآلات ممارسات وخيارات وضروب من السلوك والفعل شديدة التباين على الصُّعُد الفردية والجماعية، الشخصية منها والمؤسساتية.  لقد أمكن لنا خلال السنوات الماضية، بل وبوجه خاص خلال السنتيْن المشار إليهما، أن نقرأ الكثير من ضروب النقد الموجه لمن تصدوا لقيادات مؤسسات المعارضة سلوكًا وممارسة وخيارات، ولاسيما منها المجلس الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية، ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ثم، من بعد، الهيئة العليا للمفاوضات، دون نسيان ما أطلق عليه منصات المعارضة على اختلافها من القاهرة إلى موسكو. لكن أحدًا ممن كان يتناولها بالنقد لم يكن في موقع المسؤولية ضمن واحدة من هذه المؤسسات بحيث يستطيع تقديم رؤيته أو سرديته للحدث السوري من الموقع الذي كان يشغله. والوحيد الذي فعل ذلك بصورة شمولية، كان برهان غليون في كتابه المشار إليه. فما الذي لا يزال يحول بين هؤلاء القادة الذين احتلوا طوال سنتيْ الثورة المذكورتين، وتابع العديد منهم في احتلال شاشات الفضائيات، ومقاعد التمثيل في مختلف الهيئات والمنصات التي عرفناها بوصفها "ممثلة للمعارضة أو للثورة"، وبين أن يتقدموا إلى الشعب السوري المنكوب بسرديتهم، وبتشخيصهم لما جرى، وتثبيت أو نقض أو إغناء السردية الوحيدة الموجودة  الآن بين يدي السوريين والتي يمثل الكثير من مضامينها والآراء المبثوثة فيها تحديًّا كبيرًا لهم في أن يفعلوا؟
كان الذين تصدوا للحديث باسم الثورة أو لتمثيلها يعلنون هدفًا واحدًا: إسقاط النظام الأسدي؛ ومع أنهم كانوا، هم أنفسهم، يعلنون يومئذ أنهم ضد التدخل الخارجي، وضد حمل السلاح، وضد الطائفية، فإنهم لم ينجحوا في أن يتجاوزوا خلافاتهم التي لم نكن ندري عن طبيعتها أو عن تفاصيلها الحقيقية شيئًا. والآن، بعد أن باتت سورية دولة محتلة من قبل أربع قوى، إقليمية ودولية، تقرر مصيرها وترسم مستقبلها وفقًا لمصالحها المتناقضة على كل حال، ألا يرى من باتت مشاهد فشلهم اليومية على الصعد كلها تفقأ العيون أنه قد آن الآوان لكي يطلقوا ألسنتهم فيسردوا لنا رؤيتهم وفهمهم وأسباب عجزهم عن تحقيق الحدِّ الأدنى مما كانت تستدعيه حركة لم يكن أحدٌ منهم  وراء انطلاقها ولا استمرارها أشهرًا تواجه عنف النظام الأسدي وجبروته وتصميمه على القضاء عليها بأي ثمن؟
أليس من الطبيعي أن نفهم منهم مثلًا السبب الاستراتيجي أو السياسي الذي دفع إحدى القوى المؤسسة إلى الحيلولة دون دعم أول هيئة أمكنها أن تحظى بتأييدٍ عبَّرَ عنه من كانوا  قوام المظاهرات التي كانت تعم المدن السورية، فاشترطت أن تكون مثلًا مدة ولاية رئيسها شهرًا ثم تنازلت لتجعل منها ثلاثة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة، وما الذي دفعها إلى التنازل وإلغاء هذا الشرط ما إن فقد المجلس الوطني موقعه الذي كان يحتله في مقدمة المشهد السياسي بعد تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ؟
او ما الذي حمل بعض من تصدوا للقيادة وهم يتطلعون إلى احتلال المقعد الأول (نظرًا إلى ما يعتبرونه حقهم المكتسب بفعل سنوات السجن التي قضوها بسبب نضالهم ومعارضته للنظام الأسدي)، إلى تقديم مطامحهم الشخصية على ضرورات تحقيق وحدة الصف والهدف بين مختلف القوى كشرط أولي في اكتساب مصداقية أمام من يزعمون تمثيلهم من السوريين وأمام القوى الإقليمية والدولية التي كانوا يحاورونها من أجل دعمهم في حصار النظام الأسدي؟
أو، أيضًا، ما طبيعة الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون في هذا المجلس الوطني، سواء من خلال ممثلي تنظيمهم مباشرة أو ممثلي الجماعات المنشقة عنه لكنها لا تزال تدور في فلكه وتتبنى مواقفه داخل المجلس؟ وما طبيعة العلاقة التي كانت تربطهم بتركيا التي أرادوا منذ أول اجتماع للأمانة العامة للمجلس الوطني أن يحضر ممثل عن وزير خارجيتها هذا الاجتماع، لاسيما وأن من نقل هذا الطلب إلى رئيس المجلس كان المراقب العام لتنظيمهم، كما روى برهان غليون ذلك في كتابه، مثلما روى رفضه لذلك تحت طائلة نقل مقر المجلس إلى القاهرة بدلًا من إسطنبول؟     
ثم، كيف أمكن لخيار السلاح وفوضى العسكرة أن يفرضا نفسيهما، وكيف أفلتت إدارة السلاح وتوجيهه من قبل هؤلاء القادة الذين كانوا يهيئون أنفسهم لاستلام السلطة بعد أشهر من انطلاق الثورة، فبات المقاتلون في واد والسياسيون في واد آخر، وصارت فصائل الطرف العسكري، وهيئات أو منصات الطرف المدني، تسير على هدي أجندات خارجية فرضتها الدول الممولة هنا وهناك؟
بل وكذلك، ما السر في عجز القوى العلمانية، مدنية، بل وحتى عسكرية على قلتها، عن أداء دور أساس ومحوري بدا أن شباب الثورة قد أناطوه بها منذ البداية؟
تلك جملة من أسئلة بين أخرى كثيرة لم يعمل على الإجابة عنها بجرأة حتى الآن إلا برهان غليون. لكنها مع ذلك لا تزال تنتظر من كل واحدٍ ممن تصدوا بجرأة منقطعة النظير لقيادة المؤسسات التي كان يفترض بها أن تمثل الثوار في الداخل أن يقدم إجاباته هو الآخر عنها.
فهل سيطلقون جميعًا ألسنتهم من عقالها احترامًا، على الأقل، لكل من قتلوا واعتقلوا وهُجِّروا؟

** نشر على موقع جيرون يوم 12 أيلول 2019.