jeudi 19 juillet 2018



هواجس الأسئلة بعد الهزيمة 
بدرالدين عرودكي 
درعا، آخر الأخبار ولن يكون أخيرها. ويكاد ما يتراءى عبر توافق ترامب/بوتين الأخير ينبئ  بأن الأسوأ هو الموعد القادم في سورية. أفلا يكون من قبيل التلاعب بالألفاظ والحالة هذه نكران ما نراه اليوم جميعًا وما لا يمكن تسميته باسم آخر غير الهزيمة؟
الهزيمة، نعم. وإنما الحديث هنا عن هزيمة مختلف الهيئات والجماعات والفصائل والتجمعات السورية، السياسية منها والعسكرية، التي تصدّت ــ من حيث المبدأ ــ لتمثيل جيل شاب من السوريين أنكروا ما عاش عليه آباؤهم، واستنكروا مكابدتهم له، فخرجوا يطالبون بإسقاط نظام الاستبداد، دون حساب لما كان ينتظرهم فور خروجهم: الاعتقال والتعذيب والقتل في السجون، أو الموت تحت وابل البراميل أو السلاح الكيمياوي، أو الهجرة إن استطاعوا في أرجاء الأرض الأربع. الهزيمة، لا أمام هذا النظام الذي قبِلَ وأعلن هزيمته هو أولًا، حين سارع إلى الاستجارة بإيران وذيولها العسكرية، وبروسيا وذيولها من السياسيين المحليين، من أجل بقائه، بل أمام هذه القوى الإقليمية والدولية مجتمعة، أكانت تلك التي ناصبت الشعب السوري العداء منذ البداية أو تلك التي زعمت صداقته وحمايته والدفاع عن حريته، فسارعت إلى احتواء تدريجي وخبيث لزخم ثورته وبراءتها، كي تطفىء ألقها وتحيلها فوضى يمكن لكل من حاربوها منذ اليوم الأول، وحسب موقعهم في المشهد، أن يطلقوا عليها "مؤامرة كونية"، أو"حربًا أهلية"، أو "حربًا ضد الإرهاب"؛ ثم لتلقي بسورية لقمة سائغة لروسيا/بوتين التي وجدت فيها وبها فرصتها المنشودة لاستعادة حضورها على الساحة الدولية قوة فاعلة ومؤثرة.
طوال سبع سنوات لم تتغير المعادلة التي تنبأ بها النظام الذي كان ــ بحكم خبرة اكتسبها طوال أربعين عامًا ــ  يعرف موقعه تمام المعرفة على الساحة الإقليمية، مستعدًا لدفع الثمن الضروري لبقائه: النظام وحماته الإيرانيون الذين سارعوا منذ اليوم الأول لوضع خبراتهم اللوجستية والفنية والأمنية من أجل مواجهة الكارثة التي ستطالهم إن سقط؛ والشعب السوري، الذي أدرك، منذ مواجهة النظام لمظاهراته بالرصاص الحي، فداحة الثمن الذي سيدفعه، وممثلو هذه الثورة الذين سرعان ما فرحوا باعتراف القوى الكبرى بهم بوصفهم "معارضة"، دون انتباه إلى أن هذه الصفة كانت تقول ــ من حيث لم يكونوا يدرون ــ في آن واحد، اعترافهم الآلي بـ"شرعية" نظام لم يكن يقبل وجودهم من قبل، وما كان له أن يعترف بهم الآن وقد بات وجوده المادي مهدَدًا، وخلل مطالبتهم إسقاط النظام الذي يقومون بـ"معارضته"! وكانت أول نتائج ذلك على الصعيد العملي رفض جميع القوى الدولية الفاعلة، منذ أول حديث عن الحل السياسي، لاعتماد مبدأ إسقاط النظام، مادام التفاوض يقوم بين "نظام" قائم و"معارضة" أتوا على الاعترف بها مؤخرًا.
لكن ذلك لم يكن إلا أحد عناوين فصول "معارضة" النظام طوال السنوات السبع التي مارسها المجلس الوطني ثم الائتلاف ثم الهيئة العليا للمفاوضات بوجه خاص، دون نسيان عشرات الجماعات العسكرية التي اتخذ بعضها أسماء لها تقول انتماءاتها بل وخذلانها لثورة السوريين الأولى، ولا العديد من الهيئات أو البنى الأخرى التي نشأت معارضة أو منافسة للبنى الأولى المذكورة. ليس الغرض هنا سرد الأخطاء القاتلة، أو الفرص الضائعة، أو الحديث عن غياب الأهلية أو الفاعلية السياسية لدى من تصدوا لقيادة "المعارضة" أو لتمثيلها أو للعمل في هيئاتها، ولا كذلك توجيه الاتهامات لهم بالخيانة أو الاستزلام أو الخضوع لرغبات الممولين ولأجنداتهم، بل ولا أقل من ذلك كله: أي استعادة تفاصيل الفصول المضحكة والمحزنة التي أداها العديد منهم، أو حتى التشكيك بمقاصدهم. بل الغاية الأساس، الآن، هي محاولة حملهم على الإجابة عن الأسئلة التي تطرق رؤوس السوريين الذين دفعوا ولا يزالون يدفعون الثمن غاليًا، والتي تثقل حياتهم اليومية  بما تثيره من هواجس المستقبل الغامض الذي ينتظرهم.
ذلك أن الذين تصدوا لهذه المسؤولية التي يتضح اليوم مدى ثقلها وآثار ممارستها على الراهن السوري ومستقبله القريب، هم أجدر الناس بالإجابة عن هذه الأسئلة الملحة في أجواء الهزيمة التي نعيشها اليوم. وهي خطوة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها بحجة الاهتمام بالأحرى بتعميق الحوارات والسجالات من أجل بناء المشروع البديل لمستقبل سورية.
من الواضح أن روسيا عملت، منذ دخولها سورية بقواها العسكرية، وبتواطؤ خفي مع الولايات المتحدة الأمريكية، على التمهيد بالتدريج لما نراه اليوم: تفريغ القرارات الأممية، بدءًا بمؤتمرات جنيف، من مضامينها، ثم مقررات مؤتمر فيينا وما تلاها من قرارت للأمم المتحدة حول "الحل السياسي"، والاستعاضة عن كل ذلك باجتماعات أستانة ومؤتمر سوتشي وما رافق الاثنين من اتفاقات "خفض التصعيد" و"الدول الضامنة" له، وصولًا إلى إقصاء  المعارضة العسكرية من هذه المناطق واحدة بعد الأخرى وبمباركة جميع القوى الدولية، مما أدى إلى تجريد هيئات المعارضة السياسية من صفتها التمثيلية، بعد أن فرضت روسيا هذا الأمر الواقع. ومن الواضح أيضًا، أن أحدًا من قوى المعارضة العسكرية أو السياسية، لم يكن قادرًا على الوقوف في وجه هذه الخطة التي وضحت نتائجها اليوم، واتفق ترامب وبوتين قبل أيام على مآلاتها المنطقية والكارثية المنتظرة.
هذا يعني أن وضع الهزيمة يفرض على الجميع العمل في اتجاهات ثلاث  في آن معًا: الأول مواجهة مآلات هذا الجهد الروسي الذي سيؤدي إلى إنشاء نظام استبدادي بلباس وبإخراج جديديْن، وربما أيضًا بوجوه جديدة لا تقل دموية عن الوجوه الراهنة: من يقوم بالمواجهة؟ وكيف تتم؟ وما هي الوسائل التي يمكن حشدها من أجل ذلك؟  والثاني، وبالتوازي مع المسار الأول، القيام بمشروع نقد ذاتي، على الصعيدين، الفردي والجماعي،  يشارك فيه الجميع بلا استثناء، تستعاد فيه المسارات والقرارات والتحالفات وضروب القصور على صعيد التحليل السياسي وفي رسم استراتيجيات العمل وحول الجهد الإعلامي سواء في العلاقات داخليًا مع الحواضن الشعبية أومع الفصائل العسكرية، أو خارجيًا مع القوى الإقليمية، العربية منها والأجنبية، وسرد الأخطاء الاستراتيجية المرتكبة على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي، في ضوء النتائج التي أدت إليها اليوم. والثالث، وهو الجهد الأساس الذي يجب أن يعزز العمل في الاتجاهين المذكورين، أي وضع حدٍّ للشرذمة القائمة منذ البداية بتوحيد القوى القائمة اعتمادًا على مشروع عمل ذي أهداف وطنية جامعة، لمواجهة مآلات الوضع الحالي وكيفيه التأثير عليها بما يمهد في الوقت نفسه لوضع مشروع سورية الجديدة موضع التنفيذ.
مثل هذا العمل الذي رأينا عددًا من المبادرات الجماعية تتبناه لا يزال في بداياته. فالوثيقة الفكرية السياسية التي أصدرتها مجموعة من السوريين "حول واقع سورية ومستقبلها"وشاركت في تحريرها نخبة من المفكرين والكتاب السوريين (أحمد برقاوي، حازم نهار، خضر زكريا، زكي اللبابيدي، عبد الباسط سيدا، عبد الله تركماني، ماجد كيالي، محمود حمزة، ميشيل كيلو، يوسف سلامة) تدخل في هذا الإطار، لا لأنها صادرة عن مثقفين أحرار بكل ما تعنيه نهذه الكلمة فحسب، بل لأنها بدأت، نظرًا لأهميتها، تستثير النقاش حول مضمونها. وهنا لابد من الإشارة إلى الجهد الذي تبذله في هذا المجال "منظمة مسار" من خلال ندواتها الأسبوعية عبر الأنترنيت حول الحدث السوري والذي يستجيب في الحقيقة إلى الضرورات التي كان مساره يفرضها يومًا بعد يوم. ولأنها منظمة مستقلة، فإن بوسعها العمل في المسارات الثلاث بما تمليه عليها، في المقام الأول، المصلحة السورية الأساس، كما يفهمها ويحددها ويتفق حولها أو يختلف السوريون أنفسهم، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية أو الأيديولوجية.
سوى أن الأمل الأكبر يبقى ماثلًا في ما يمكن للقوى السورية المؤمنة بالدولة الديمقراطية، دولة المواطنين لا دولة الرعايا، من أن تحققه في مجال توسيع بيئتها الاجتماعية والشعبية والفكرية، ودعوة الجميع إلى فضاءاتها الرحبة التي لا يمكن لبلد أو لمجتمع أن يكون سليمًا من دونها.  
لعلَّ الهزيمة تستحيل نصرًا ولو كره المحتلون.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 19 تموز/يوليو 2018.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire