vendredi 27 juillet 2018




في  ثقافة المطلق أو اليقين 
بدرالدين عرودكي 
لا بد لكل من يقرأ بعناية ما ينشر بالعربية، سواء في كتب البحث الفكرية على اختلافها، أو في ضروب الصحافة عمومًا، أن تدهشه درجة اليقين التي تسِمُ الأفكار المطروحة، أيًا كان مجالها، في العلوم الإنسانية على اختلافها بل وكذلك في العلوم الاجتماعية، إلا ما ندر. وهو يقين يصعب العثور عليه في الكتابات المحررة بغير اللغة العربية، كما لو أنه سمتها المميزة أو أنه أحد مقوماتها!
كان الكثير من الكتاب العرب الكلاسيكيون يضيفون في نهاية مقالاتهم العلمية أو الفقهية أو الأدبية عبارة "والله أعلم"؛ وهي جملة يقولون بها حدود علمهم البشري، متيحين بذلك المجال لكل إضافة ممكنة أو تصحيح ضروري في المستقبل. ذلك أنهم، تحت تأثير الثقافة الدينية السائدة في عصورهم، أو بفعل وعيهم المرهف بما يمكن أن ينطوي عليه تعبيرهم من إطلاق لا يملكون من مقوماته شيئًا، كانوا يستدركون الخطأ، أو سوء التحليل، أو خلل النظر فيما كتبوه، ويحملون قارئهم على التفكير مليًا في أن وراء علمهم وقولهم من "وسع علمه كل شيء". كانوا بذلك على وفاق تام في التعبير مع ثقافة عصرهم، ومرهفي الوعي بإمكاناتهم.
ولقد جاء عصر الترجمة في عهد المأمون لكي يتيح لمترجمي الفلسفة اليونانية تطويع اللغة العربية ذات النزعة الإطلاقية إلى لغة تقبل التساؤل والشك والإشراط. وشيئًا فشيئًا، أخذت لغة الفلاسفة وكبار الكتاب خصوصًا تستوعب هذا التغيير. ومن الممكن الإشارة بوجه خاص وغير حصري إلى لغة أربعة من هؤلاء على اختلاف مجالات اهتماماتهم، الجاحظ والغزالي وابن رشد وابن خلدون. لكن هذه اللغة ظلت وقفًا على نخبة مختارة ولم تتجاوزها إلى عموم الكتاب والمفكرين الذين عرفتهم الثقافة العربية اعتبارًا من القرن الخامس عشر. وكان لابد من انتظار منعطف القرن التاسع عشر والعشرين، وثمرات التفاعل الفكري والاجتماعي والسياسي الذي جرى طوال القرن التاسع عشر بين الحداثة الأوربية والنهضة العربية، لكي نشهد استعادة هذه اللغة النسبية التي كان أول من أعاد لها ألقها علي عبد الرازق، في كتابه الإسلام وأصول الحكم، ومعاصره وصديقه طه حسين، في كتابه في الشعر الجاهلي.
سوى أن ثقافة المطلق عادت لتفرض نفسها منذ أن تمكن سدنتها من تجريد علي عبد الرازق من صفة العالم وتسريحه من عمله كقاض شرعي، وبعد ذلك، من إرغام طه حسين على المثول أمام المحكمة بسبب كتابه؛ وانتظر الساسة آنئذ الفرصة الملائمة لإبعاده عن عمادة كلية الآداب. وكان أن أدّى كل ذلك إلى هيمنة هذه الثقافة على كل أشكال التعبير الفكري والسياسي والأدبي والفني طوال القرن العشرين وحتى يومنا هذا، مؤكدة، حتى بعد أكثر من خمسين عامًا على محنة علي عبد الرازق وطه حسين، على استمرارها في الهيمنة حين اضطرت نصر حامد أبو زيد إلى مغادرة مصر بسبب مواقفه الفكرية التي تندرج في سياق التيار العقلاني الذي عوقب على استخدامه سلفيْه في بداية القرن الماضي.
ولعل الملاحظة التاريخية واليومية تسمح باستنتاج أن ثقافة المطلق لا تزال هي المهيمنة إذن. وأنها لا تنحصر، بوصفها ثقافة اليقين، في الحياة اليومية، ضمن المجال الديني، أو المجال السياسي، بل تكاد تعمُّ كافة فضاءات الحياة الثقافية بلا استثناء، وأنها تتجلى مجسَّدة بوجه خاص على صعيد الخطابات لغة ومضمونًا، ومن ورائها المواقف التي تعكس ضروب انسداد وجمود  تعاني منها المجتمعات العربية اليوم على الصُّعد كلها.
أول مجال يمكن أن نشير إليه، هو أن التعبير والخطاب الدينييْن السائدين اتخذا من اليقين بداية الطريق لا منتهاه، في حين أن من المتاح ــ بل ومن المباح أيضًا ــ وضع اليقين في المجال الديني غاية يمكن أن تدرك بعد البحث والتفكير. وهو ما يعنى أن أي تساؤل في مجال الفكر الديني لا يزال محصورًا ضمن هيئات أشخاص تعيش على وبنى فكرية تستمد من جهود فقهية هائلة استجابت لعصرها ولأسئلته وضروراته، لكنها لم تعد في معظمها قابلة للاستجابة لأسئلة العصر أو للتعايش معه.
وثاني المجالات هو التعبير والخطاب السياسيين العربيين، حيث يجد اليقين فضاءه بامتياز. إذ، بسبب غياب الحرية الكامل، لا وجود للفرد، بل للجماعة ــ القطيع. ومن ثمَّ لا وجود لأي مساحة للشك، ولا للإمكان، ولا للتساؤل، ولا للنقد، ولا للاعتراض. كل إمكان ممارسة ذلك ينحصر في دائرة صغيرة مغلقة على نفسها، هي غالبًا الجماعة الحاكمة أيًا كانت طبيعتها وتكوينها، وحاشيتها من حولها. أما اللغة فتتنوع بين خشبية بلا رنين أو حديدية مع إيقاع الوعد والوعيد. ولقد أمكن لهذه الدائرة أن تتناسخ دوائر أخرى كان من الممكن رؤيتها وهي تعيد إنتاج سلوك وأفعال الدائرة الأم، دائرة السلطة المركزية، في الوقت الذي تدّعي فيه قيامها نقيضا لهذه الأخيرة أو ثورة عليها.
ثالث المجالات هو التعبير والخطاب الأدبي. ومن المؤسف أن هذا المجال، الذي كان يمكن أن يؤلف في مجمل نتاجه ــ لا من خلال بعض الأعمال الاستثنائية التي تبقى مع ذلك قليلة ــ القطب المقابل، حتى لا نقول المضاد، للمطلق ولليقين بما يملكه من أدوات لا حصر لها، كان هو الآخر، وربما بالتبعية أو تحت وطأة السلطة السياسية، حقل المطلق واليقين. لكن السلطة السياسية كانت أشد خبثًا حين مارست المراوغة وسمحت بهامش طفيف من الحرية يتيح التساؤل والنقد بمقدار. أطلق على ذلك يومئذ "أدب التنفيس"، وتجلى في أبهى حلله في أعمال مسرحية هزلية، معظمها ميلودرامية، بل وكذلك في عدد من الأعمال التي بدت للوهلة الأولى شديدة الاختلاف ــ ولم تكن للأسف كذلك ــ عن سواها من الأعمال "الطيِّعة". لا شك أن بعض الأصوات، في الرواية وفي القصة وفي الشعر، كانت تحاول، من ناحيتها، مراوغة معاكسة من أجل الخروج على هذه القاعدة التي كانت السلطة السياسية تفرضها وتسهر رقابتُها على احترامها. سوى أن أصحابها اضطروا إلى الهجرة، وإلى أن يعيشوا بعيدًا عن الأرض التي كانت تغذي أعمالهم، بعد  أن منعت أعمالهم من النشر أو من العرض دون إبداء الأسباب!
 من بعض أهم نتائج ذلك كله في المجالات الثلاثة المذكورة: غياب الرأي والرأي الآخر في حضور وحدانية الرأي الذي هو، دومًا، رأي السلطة الحاكمة؛ غياب دلالة "الإمكان" أو ما يمكن أن نطلق عليه "الفعل الشرطي" الذي يحتمل أكثر من وجه، من الكتابات العربية  عمومًا، بل وحتى في المحادثات الشفهية؛ ظهور فئة من الدجالين (زعماءً، وأولياءً، وكتابًا، وفنانين..) يزعم كل واحدٍ من أفرادها تمثيل أمة بأكملها دون أن يرف له جفن!
ألا يمكن أن يفسر هذا ــ لو صحَّ ــ بعض أسباب نكوص الثورات العربية التي انطلقت في العالم العربي قبل سبع سنوات وقصورها؟

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 27 تموز 2018.


jeudi 19 juillet 2018



هواجس الأسئلة بعد الهزيمة 
بدرالدين عرودكي 
درعا، آخر الأخبار ولن يكون أخيرها. ويكاد ما يتراءى عبر توافق ترامب/بوتين الأخير ينبئ  بأن الأسوأ هو الموعد القادم في سورية. أفلا يكون من قبيل التلاعب بالألفاظ والحالة هذه نكران ما نراه اليوم جميعًا وما لا يمكن تسميته باسم آخر غير الهزيمة؟
الهزيمة، نعم. وإنما الحديث هنا عن هزيمة مختلف الهيئات والجماعات والفصائل والتجمعات السورية، السياسية منها والعسكرية، التي تصدّت ــ من حيث المبدأ ــ لتمثيل جيل شاب من السوريين أنكروا ما عاش عليه آباؤهم، واستنكروا مكابدتهم له، فخرجوا يطالبون بإسقاط نظام الاستبداد، دون حساب لما كان ينتظرهم فور خروجهم: الاعتقال والتعذيب والقتل في السجون، أو الموت تحت وابل البراميل أو السلاح الكيمياوي، أو الهجرة إن استطاعوا في أرجاء الأرض الأربع. الهزيمة، لا أمام هذا النظام الذي قبِلَ وأعلن هزيمته هو أولًا، حين سارع إلى الاستجارة بإيران وذيولها العسكرية، وبروسيا وذيولها من السياسيين المحليين، من أجل بقائه، بل أمام هذه القوى الإقليمية والدولية مجتمعة، أكانت تلك التي ناصبت الشعب السوري العداء منذ البداية أو تلك التي زعمت صداقته وحمايته والدفاع عن حريته، فسارعت إلى احتواء تدريجي وخبيث لزخم ثورته وبراءتها، كي تطفىء ألقها وتحيلها فوضى يمكن لكل من حاربوها منذ اليوم الأول، وحسب موقعهم في المشهد، أن يطلقوا عليها "مؤامرة كونية"، أو"حربًا أهلية"، أو "حربًا ضد الإرهاب"؛ ثم لتلقي بسورية لقمة سائغة لروسيا/بوتين التي وجدت فيها وبها فرصتها المنشودة لاستعادة حضورها على الساحة الدولية قوة فاعلة ومؤثرة.
طوال سبع سنوات لم تتغير المعادلة التي تنبأ بها النظام الذي كان ــ بحكم خبرة اكتسبها طوال أربعين عامًا ــ  يعرف موقعه تمام المعرفة على الساحة الإقليمية، مستعدًا لدفع الثمن الضروري لبقائه: النظام وحماته الإيرانيون الذين سارعوا منذ اليوم الأول لوضع خبراتهم اللوجستية والفنية والأمنية من أجل مواجهة الكارثة التي ستطالهم إن سقط؛ والشعب السوري، الذي أدرك، منذ مواجهة النظام لمظاهراته بالرصاص الحي، فداحة الثمن الذي سيدفعه، وممثلو هذه الثورة الذين سرعان ما فرحوا باعتراف القوى الكبرى بهم بوصفهم "معارضة"، دون انتباه إلى أن هذه الصفة كانت تقول ــ من حيث لم يكونوا يدرون ــ في آن واحد، اعترافهم الآلي بـ"شرعية" نظام لم يكن يقبل وجودهم من قبل، وما كان له أن يعترف بهم الآن وقد بات وجوده المادي مهدَدًا، وخلل مطالبتهم إسقاط النظام الذي يقومون بـ"معارضته"! وكانت أول نتائج ذلك على الصعيد العملي رفض جميع القوى الدولية الفاعلة، منذ أول حديث عن الحل السياسي، لاعتماد مبدأ إسقاط النظام، مادام التفاوض يقوم بين "نظام" قائم و"معارضة" أتوا على الاعترف بها مؤخرًا.
لكن ذلك لم يكن إلا أحد عناوين فصول "معارضة" النظام طوال السنوات السبع التي مارسها المجلس الوطني ثم الائتلاف ثم الهيئة العليا للمفاوضات بوجه خاص، دون نسيان عشرات الجماعات العسكرية التي اتخذ بعضها أسماء لها تقول انتماءاتها بل وخذلانها لثورة السوريين الأولى، ولا العديد من الهيئات أو البنى الأخرى التي نشأت معارضة أو منافسة للبنى الأولى المذكورة. ليس الغرض هنا سرد الأخطاء القاتلة، أو الفرص الضائعة، أو الحديث عن غياب الأهلية أو الفاعلية السياسية لدى من تصدوا لقيادة "المعارضة" أو لتمثيلها أو للعمل في هيئاتها، ولا كذلك توجيه الاتهامات لهم بالخيانة أو الاستزلام أو الخضوع لرغبات الممولين ولأجنداتهم، بل ولا أقل من ذلك كله: أي استعادة تفاصيل الفصول المضحكة والمحزنة التي أداها العديد منهم، أو حتى التشكيك بمقاصدهم. بل الغاية الأساس، الآن، هي محاولة حملهم على الإجابة عن الأسئلة التي تطرق رؤوس السوريين الذين دفعوا ولا يزالون يدفعون الثمن غاليًا، والتي تثقل حياتهم اليومية  بما تثيره من هواجس المستقبل الغامض الذي ينتظرهم.
ذلك أن الذين تصدوا لهذه المسؤولية التي يتضح اليوم مدى ثقلها وآثار ممارستها على الراهن السوري ومستقبله القريب، هم أجدر الناس بالإجابة عن هذه الأسئلة الملحة في أجواء الهزيمة التي نعيشها اليوم. وهي خطوة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها بحجة الاهتمام بالأحرى بتعميق الحوارات والسجالات من أجل بناء المشروع البديل لمستقبل سورية.
من الواضح أن روسيا عملت، منذ دخولها سورية بقواها العسكرية، وبتواطؤ خفي مع الولايات المتحدة الأمريكية، على التمهيد بالتدريج لما نراه اليوم: تفريغ القرارات الأممية، بدءًا بمؤتمرات جنيف، من مضامينها، ثم مقررات مؤتمر فيينا وما تلاها من قرارت للأمم المتحدة حول "الحل السياسي"، والاستعاضة عن كل ذلك باجتماعات أستانة ومؤتمر سوتشي وما رافق الاثنين من اتفاقات "خفض التصعيد" و"الدول الضامنة" له، وصولًا إلى إقصاء  المعارضة العسكرية من هذه المناطق واحدة بعد الأخرى وبمباركة جميع القوى الدولية، مما أدى إلى تجريد هيئات المعارضة السياسية من صفتها التمثيلية، بعد أن فرضت روسيا هذا الأمر الواقع. ومن الواضح أيضًا، أن أحدًا من قوى المعارضة العسكرية أو السياسية، لم يكن قادرًا على الوقوف في وجه هذه الخطة التي وضحت نتائجها اليوم، واتفق ترامب وبوتين قبل أيام على مآلاتها المنطقية والكارثية المنتظرة.
هذا يعني أن وضع الهزيمة يفرض على الجميع العمل في اتجاهات ثلاث  في آن معًا: الأول مواجهة مآلات هذا الجهد الروسي الذي سيؤدي إلى إنشاء نظام استبدادي بلباس وبإخراج جديديْن، وربما أيضًا بوجوه جديدة لا تقل دموية عن الوجوه الراهنة: من يقوم بالمواجهة؟ وكيف تتم؟ وما هي الوسائل التي يمكن حشدها من أجل ذلك؟  والثاني، وبالتوازي مع المسار الأول، القيام بمشروع نقد ذاتي، على الصعيدين، الفردي والجماعي،  يشارك فيه الجميع بلا استثناء، تستعاد فيه المسارات والقرارات والتحالفات وضروب القصور على صعيد التحليل السياسي وفي رسم استراتيجيات العمل وحول الجهد الإعلامي سواء في العلاقات داخليًا مع الحواضن الشعبية أومع الفصائل العسكرية، أو خارجيًا مع القوى الإقليمية، العربية منها والأجنبية، وسرد الأخطاء الاستراتيجية المرتكبة على الصعيد الفردي أو على الصعيد الجماعي، في ضوء النتائج التي أدت إليها اليوم. والثالث، وهو الجهد الأساس الذي يجب أن يعزز العمل في الاتجاهين المذكورين، أي وضع حدٍّ للشرذمة القائمة منذ البداية بتوحيد القوى القائمة اعتمادًا على مشروع عمل ذي أهداف وطنية جامعة، لمواجهة مآلات الوضع الحالي وكيفيه التأثير عليها بما يمهد في الوقت نفسه لوضع مشروع سورية الجديدة موضع التنفيذ.
مثل هذا العمل الذي رأينا عددًا من المبادرات الجماعية تتبناه لا يزال في بداياته. فالوثيقة الفكرية السياسية التي أصدرتها مجموعة من السوريين "حول واقع سورية ومستقبلها"وشاركت في تحريرها نخبة من المفكرين والكتاب السوريين (أحمد برقاوي، حازم نهار، خضر زكريا، زكي اللبابيدي، عبد الباسط سيدا، عبد الله تركماني، ماجد كيالي، محمود حمزة، ميشيل كيلو، يوسف سلامة) تدخل في هذا الإطار، لا لأنها صادرة عن مثقفين أحرار بكل ما تعنيه نهذه الكلمة فحسب، بل لأنها بدأت، نظرًا لأهميتها، تستثير النقاش حول مضمونها. وهنا لابد من الإشارة إلى الجهد الذي تبذله في هذا المجال "منظمة مسار" من خلال ندواتها الأسبوعية عبر الأنترنيت حول الحدث السوري والذي يستجيب في الحقيقة إلى الضرورات التي كان مساره يفرضها يومًا بعد يوم. ولأنها منظمة مستقلة، فإن بوسعها العمل في المسارات الثلاث بما تمليه عليها، في المقام الأول، المصلحة السورية الأساس، كما يفهمها ويحددها ويتفق حولها أو يختلف السوريون أنفسهم، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية أو الأيديولوجية.
سوى أن الأمل الأكبر يبقى ماثلًا في ما يمكن للقوى السورية المؤمنة بالدولة الديمقراطية، دولة المواطنين لا دولة الرعايا، من أن تحققه في مجال توسيع بيئتها الاجتماعية والشعبية والفكرية، ودعوة الجميع إلى فضاءاتها الرحبة التي لا يمكن لبلد أو لمجتمع أن يكون سليمًا من دونها.  
لعلَّ الهزيمة تستحيل نصرًا ولو كره المحتلون.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 19 تموز/يوليو 2018.


jeudi 12 juillet 2018




القوائم الذهبية  والسوداء 
تنويعات على كونديرا


بدرالدين عرودكي
الموسيقى والرواية
قبل أن ينعطف نحو الرواية، بدأ ميلان كونديرا حياته موسيقيًا. لا عازفًا على البيانو فحسب، بل ومؤلفًا موسيقيًا، وذلك تحت تأثير والده، الموسيقي لودوفيغ كونديرا، أو، الأصح، بسبب إعجابه العميق به. وعلى أنه تخلى عن مساره الموسيقي مبكرًا وانصرف كليًا إلى الكتابة الروائية، إلا أن الموسيقى التي تمثلها شابًا، بنية وإيقاعًا وأزمنة، بقيت حاضرة كل الحضور في نسيج بناء رواياته التي يمكن القول إنها عنصر مقوم وربما حاسم في فرادة وخصوصية رواياته بالمقارنة مع المُبدعات الروائية الأوربية الأخرى التي تلت، في القرن العشرين، الرواية البروستية الكبرى، البحث عن الزمن المفقود. ولعلنا نحظى، ذات يوم، بناقد أدبي يملك في آنٍ معًا أدوات التحليل الموسيقي والروائي، كي يقدم قراءة موسيقية  لروايات كونديرا، لاسيما وأنه سيجد في كتابات كونديرا نفسه عن فن الرواية، مدخلًا إلى مثل هذه القراءة ودليلًا.
وحين تقترن السخرية بوصفها هي الأخرى عنصرًا مقوما في الرواية الغربية بالموسيقى لدى أحد كبار معلميها المعاصرين، ميلان كونديرا، تصير الرواية رؤية تخترق الحجب أيًا كانت. نلقاها في رواياته الأساس مثلما نلقاها أيضًا في قراءاته لروايات أسلافه بدءًا من رابليه، وليس انتهاء بكارلوس فوينتس. ذلك أن هذه القراءات التي ضمتها كتبه الأربعة عن الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، لقاء) ــ وقد كنت شديد السعادة أنني ترجمت الثلاثة الأولى منها ــ  أتاحت له أن يبين كيف كان "حلم الميراث الكامل"، كما يسميه في حديثه، يتحقق على أيدي بعض الروائيين مثل فرانتز كافكا أو هيرمان بروخ أوكارلوس فوينتس؛ وعلى أيدي بعض الموسيقيين مثل بيتهوفن. لكنه يجد أيضًا، لا غياب "حلم الميراث الكامل" لدى البعض، ولاسيما في الموسيقا، بل "رفض كامل للميراث" كما رآه لدى الموسيقي اليوناني يانيس كزيناكيس.
حلم الميراث الكامل في الإبداع الروائي أو الفني: تمثل ثم استعادة كل ما حققه المعلمون الأوائل، وإعادة صوغه استجابة لهموم وتساؤلات الحاضر.
القوائم السوداء
وجد كونديرا نفسه ذات يوم، وهو يستقبل في مدينته الأولى، براغ، أصدقاء فرنسيين، مضطرًا لتغذية حديث مع سيدة منهم كانت إلى جانبه في السيارة. سألها عن أكثر مؤلف موسيقي فرنسي تحبه؟ جاء جوابها فوريًا وعفويًا وقويًا: "ليس سان سانس على الأخص". فاته أن يسألها إن كانت سمعت شيئًا من أعماله. لكنه كان على يقين من أنها ستجيبه بنبرة الاستنكار ذاتها: لاشيء خصوصًا! ذلك أن استنكارها، كما بدا له، لم يكن نفورًا من موسيقاه، بل لسبب أخطر: ألا ترتبط ذائقتها باسمٍ مسجل على قائمة سوداء.
كانت القوائم السوداء، كما يروي كونديرا في كتابه لقاء، غواية الطلائع الأدبية والفنية قبل الحرب العالمية الأولى. وقد اكتشف بالصدفة وجودها حين كان، في الخامسة والثلاثين من عمره، يترجم إلى لغته الأم شعر الشاعر الفرنسي غيّوم أبولينير. فقد عثرَ على بيان وجيز كتبه أبولينير عام 1913، كان يوزع فيه "الورود" أو "القذارات" على  الكتاب والشعراء والفنانين والموسيقيين. وضع على قائمة الحائزين على "القذارة" دانتي وشكسبير وتولستوي وإدغار آلا ن بو وويتمان وبودلير! أما على قائمة الحائزين على "الوردة" فقد وضع اسمه هو، أبولينير، وبيكاسو، وسترافنسكي. ما فتن كونديرا، كان إهداء أبولينير وردة إلى أبولينير!
القوائم الذهبية
يسأل شاب فرنسي من دون مقدمات كونديرا ذات يوم: هل تحب بارت؟ أدرك كونديرا أن المقصود هو الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت، وأن هذا الأخير يتواجد على رؤوس القوائم الذهبية. لكن كونديرا أجاب الشاب: بالطبع  أحبه. وكيف لا أحبه! أظنك تتحدث عن كارل بارت! مخترع اللاهوت السلبي! إنه عبقري! لا يمكن تصور مُبدع كافكا من دونه! لم يكن الشاب قد سمع من قبل باسم كارل بارت، ولكن بما أن كونديرا ربط اسم الأخير بكافكا، وهو فوق كل نقد،  لم يجد لديه ما يقوله أو يجيب به!
الانتقال بين القوائم
في يوم آخر لم يكن كونديرا هو من طرح السؤال. بل طرحه عليه أحدهم: من هو أفضل المؤلفين الموسيقيين الفرنسيين في نظره؟ وبدلًا من أن يجيب: ليس سان سانس خصوصًا!، استعاد واحدة من ذكرياته عن أبيه، حين عاد من فرنسا في العشرينات من القرن الماضي حاملًا معه قطعًا للبيانو من تأليف موسيقي حديث يدعى داريوس ميلو، وقام أبوه بعزفها كموسيقى حديثة أمام جمهور متناثر. ألقى إلى محدثه بهذا الاسم. لكن الأصدقاء الحاضرين الذين أصغوا إليه بلطف لم يتوانوا عن إفهامه، بلطف مماثل، أن من يعتبره موسيقيًا حديثًا كفوا منذ زمن بعيد، هم وسواهم، عن أن يعتبروه كذلك! هكذا انتقل داريوس ميلو من قائمة موسيقيي الحداثة إلى قائمة أخرى، ربما تكون القائمة السوداء أو قائمة المنسيين! ذلك أن  الانتقال من قائمة إلى أخرى يحدث على مرِّ السنين بلا توقف. لم يكن أبولينير،  الذي وضع سترافينسكي في قائمة الحائزين منه على وردة، يعلم أو يتوقع أن تيودور أدورنو سوف يضع سترافينسكي نفسه في قائمة الحائزين على القذارة، مانحًا الوردة إلى مؤلف موسيقي آخر، شوينبرغ!
أناتول فرانس روائيًا
حين ذكر ميلان كونديرا اسم أناتول فرانس أمام الفيلسوف والكاتب الروماني الذي صار فرنسيًا، سيوران، همس هذا الأخير في أذنه وهو يضحك بخبث: "لا تتلفظ أبدًا باسمه بصوت عال، إذ سيسخر منك كل الناس!".   
حين توفي أناتول فرانس، كان طول موكب جنازته يقاس بعدة آلاف من الأمتار. ولكن، بعد أيام عدّة من ذلك، ألقى بول فاليري الذي احتلَّ كرسيِّه في الأكاديمية الفرنسية، خطاب الثناء الرسمي والتقليدي على سلفه الفقيد، وهو الخطاب الذي صار من بعد أسطوريًا، نجح فيه أن يتحدث عن سلفه في الأكاديمية من دون أن يذكر اسمه مرة واحدة !
 لكن ميلان كونديرا معجب بأناتول فرنس، أو لنقل، بالأحرى، إنه معجب بأناتول فرانس الذي قرأ له خصوصًا روايتين، إحداهما رواية الآلهة عطشى.
قرأ كونديرا هذه الرواية حين كان في التاسعة عشر من عمره؛ وكان له آنئذ صديق يكبره بخمس سنوات، كان شيوعيًا، مثله. أسرَّ له هذا الصديق أنه ينوي نشر نسخة جديدة من لعبة الورق، لكنه سيستبدل فيها صور الستاخانوفيين والأنصار ولينين بصور السيدات الملوك والخدم. كان كونديرا على ثقة من أن صديقه لم يكن قد قرأ رواية أناتول فرانس المشار إليها. ولمزيد من اليقين طرح عليه السؤال فجاء جواب صديقه مؤكدًا له ظنه. ذلك  أن بطل "الآلهة عطشى"، غاملان، الرسام، فكر هو الآخر بابتكار ونشر نسخة جديدة من لعبة أوراق يضع فيها مكان صور الملوك والملكات والخدم، صور الحرية والإخاء والمساواة!
ذهل كونديرا وهو يفكر: كما لو أن التاريخ سلسلة من التنويعات! ربما كان غاملان، أول نموذج شخصية "الفنان الملتزم". ذلك أنه في بداية شبابه شيوعيًا، كان كلُّ من يراهم حوله على مثال غاملان. سوى أن ما استوقفه في الرواية ليس قيام غاملان بالوشاية على الناس من حوله، بل ما أطلق عليه كونديرا" سرّ غاملان".
إذ كان يمكن لهذا الرجل، الذي انتهى إلى إرسال عشرات من الأشخاص إلى المقصلة، أن يكون في حقبة أخرى جارًا لطيفًا، أو زميلًا طيبًا، أو فنانًا موهوبًا. والسؤال الملحُّ هنا: كيف يمكن لرجل شريف، بلا شك، أن يخفي في أعماقه وحشًا؟ هل سيكون الوحش في أزمنة هادئة سياسيًا حاضرًا فيه؟ ألا يمكن أن نحزره؟ أم هل يمكن رؤيته؟
رواية أناتول فرانس، الآلهة عطشى، رواية فرنسية. ومن كان يقرأها في التاسعة عشر من عمره، كان كونديرا التشيكي؛ ومن يستعيدها كان أيضًا كونديرا بعد عقود عدة من السنين: "نحن الذين عرفنا أمثال غاملان المرعبين، هل نحن قادرون على أن نلمح الوحش النائم في أمثال غاملان اللطفاء الذين يحيطون بنا الآن؟"
ــ وأراني أقول لكونديرا: ها هم السوريون، يعيشون التجربة نفسها بعد استيقاظ الوحوش النائمة في أعماق الألوف من اللطفاء الذين كانوا يتقاسمون معهم خبز يومهم.. ــ
في البلد الذي كان فيه الناس يتخلصون من الأوهام الأيديولوجية، كفَّ سر غاملان عن إثارة اهتمامهم. القذر يبقى قذرًا، فأين السر؟؟هكذا يكسِفُ اليقينُ السياسي اللغزَ الوجودي؛ فاليقينيات لا تهتم بالألغاز. يخلص كونديرا إلى أنه "رغم ثراء تجارب الناس المعيشة، فإنهم يخرجون من المحن التاريخية أغبياء مثلما دخلوها".
لم تكن إدانه أناتول فرنس طوال قرن كامل إلا من قبل الشعراء، وقبل أن ينعطف بعضهم نحو الرواية. لكنهم برروا إدانتهم، جميعًا، للصفة التي أضفوها عليه: ساخر. وكانوا على حق في ذلك..السخرية هي العنصر المقوم الأساس في الرواية الغربية ومنذ بدايتها: رابليه..
ذلك أن السخرية في الرواية، هي الأداة التي تجعل من بصرنا بصيرة تخترق الأشياء والمكان والزمان؛ هي التي تجعل من رواية كتبت في عام 1912 في قارة أخرى وفي لغة أخرى تبدو كما لو أنها كتبت اليوم بلغات الأرض كلها.
كان مجرد ذكر اسم أناتول فرانس، مع ذلك، يثير في نظر البعض سخرية الآخرين..

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 12 تموز/يوليو 2018.


jeudi 5 juillet 2018



شَّعْوَذَات السلفيين الجدد 
بدرالدين عرودكي 
عرف النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين في العالم العربي عددًا من التطلعات التنويرية في قراءة التراث الديني والفكري والأدبي تنوعت بين محاولات نزع شوائب ما تراكم عليه عبر العصور من خرافات وتلفيقات، تمثلت، بوجه خاص، في التفسير الحديث للقرآن الذي قام به جمال الدين القاسمي في سورية وفي أعمال الشيخ محمد عبده في مصر؛ وبين أخرى كان رائداها الشيخ علي عبد الرازق من جهة وطه حسين من جهة أخرى، محاولات حاولت كلها قراءة تضع النصوص في سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية من أجل غربلة كانت تنذر بثورة فكرية عميقة. سوى أن المحاولات الأولى بقيت قاصرة على فضاءات اجتماعية محدودة، لم تتمكن من تجاوزها إلى المؤسسات الدينية التقليدية القائمة التي كانت هدفها، ولا إلى الجامعية الحديثة التي بدأت آنئذ بالتواجد في الفضاء الثقافي العربي؛ أما الثانية فقد وئدت في مهدها حين جُرِّدَ علي عبد الرازق من منصبه قاضيًا وصفته عالمًا، وجُرَّ طه حسين إلى المحاكمة، وسط حملة إعلامية شعواء قام بها سدنة التقاليد السلفية الذين كانت سلطتهم تهيمن على الفضاء الاجتماعي الشعبي بما يحول بين أكثر الزعماء السياسيين وطنية وبين الوقوف في وجه هيمنتهم، كما حدث لسعد زغلول الذي كان رئيسًا للبرلمان المصري آنئذ واتخذ موقفًا ممالئًا لجمهور حزب الوفد ذي الغالبية العظمى المحافظة.
أدّى ذلك كله إلى استمرار هيمنة السلفية التقليدية في مصر كما في سواها من البلدان العربية، وإلى قطع الطريق على كل المحاولات التالية الأخرى (نصر حامد أبو زيد أو فرج فودة أو سواهما)، أي تلك التي ستتخذ العقل منهجًا والبحث الحر وسيلة. ولسوف تعمل السلفية التقليدية هذه على تجديد نفسها من خلال محاولتها احتلال فضاءات اجتماعية وثقافية ما كان لها أن تستمر في الوصول إليها بواسطة خطاباتها التقليدية. هكذا ولد ما يمكن وصفه، ومن ثمَّ تسميته، بتيار الشعوذة الدينية التي اعتمدتها السلفية التقليدية طريقة لكسر التأثير الحاسم للحداثة، في تجلياتها الفكرية والعلمية والسياسية، على الأجيال الصاعدة.  
نعلم أن الشعوذة، كما يعرفها لسان العرب، "هي خفة في اليد وأُخذٌ كالسحر يُري الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين"؛ والشعوذة أيضًا، "السرعة، وقيل: هي الخفة في كل أمر". والشعوذة التي استخدمتها السلفية التقليدية كي تجدد نفسها، بعد مغادرتها طريقتها المعتادة في الرجوع إلى النصوص والوقوف عند حرفيتها دون أي اعتبار للزمان وللمكان، ستتجلى، بالفعل، في محاولتها القفز على طبيعة المفاهيم العلمية الحديثة في سياقاتها التاريخية، وعلى مناهج البحث العقلانية التي عرفها واستخدمها الإغريق ومن بعدهم العرب قديمًا، وصولًا إلى الغرب حديثًا، بل وفي إنكار أو تجاهل كليٍّ للقاعدة الأساس في أمور الدنيا، تلك التي استحدثها واعتمدها رواد الفقه الإسلامي في عصره الذهبي، أي تلك التي كانت سبب الإبداع في الاجتهاد: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".
لا يتوجه خطاب السلفيين في الأصل إلى جمهور يعرف مسبقًا استحالة الوصول إليه، أي جمهور النخبة الاجتماعية، الواعية ثقافيًا وفكريًا. بل يكتفي بجمهوره المعتاد، الذي يؤلف، تحت تأثير التطور الاجتماعي والاقتصادي الرديء طوال عهود الاستعمار التي ورثتها عهود الاستبداد، جمهوره من الأكثرية السكانية التي كانت تعتبر حاضنتة الطبيعية، بفعل الجهل والفقر ونقص التعليم. ولهذا حاذر السلفيون الجدد ولا يزالون يحاذرون مقاربة المشكلات الأساس التي تشغل المواطن العربي المعاصر، مسلمًا أو غير مسلم. بل يطرحون ما يعتبروه هم، السلفيون، المشكلات الأساس التي "يجب" أن تشغل هذا المواطن بوصفها "أولوية"، ويجدون في "نهج" الشعوذة أفضل طريقة لتحقيق غرضيْن: إقناع  جمهورهم بها من جهة، وصرف أنظار الجمهور الآخر عن المشكلات الأساس حين ينشغل بمساجلتهم، أو في الردِّ على طروحاتهم، أو في تفنيدها، من جهة أخرى.
وهذه المشكلات التي يرون "وجوب" فرضها كأولوية ملحة وعاجلة، تتناول على سبيل المثال "الإعجاز القرآني"، بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا على جمع القرآن وانتشاره في الآفاق؛ لا من خلال عناصر البلاغة والتصوير الفني التي حفلت بها خطابات ومؤلفات اللغويين والبلاغيين وبعض الفقهاء على مرِّ العصور، بل لإثبات هذا الإعجاز على صعيد العلوم المختلفة، والدقيقة منها بوجه خاص، وذلك من خلال ردِّ الاكتشافات العلمية الحديثة إلى القرآن، أيًا كانت مادتها وطبيعتها وجدتها ومجالاتها. هكذا، وقبل انتشار الوسائل السمعية البصرية، والرقمية منها مؤخرًا بوجه خاص، ثم الشبكات العنكبوتية، ووسائل التواصل الاجتماعي، نشرت مئات الكتب حول الكيفية التي سبق بها القرآن كل الاكتشافات الفلكية، والجيولوجية، والكيميائية، والطبية. ثم استعيد مضمون هذه الكتب اليوم على الشبكات العنكبوتية المعاصرة من خلال مواقع أنشئت لهذا الغرض، أو عبر شاشات القنوات الفضائية الرقمية، تقدم فيها المنجزات العلمية عبر الآيات القرآنية بلغة تنوس بين التعقيد كتابة والتبسيط الشديد في التسجيلات الصوتية التي تستهدف، بطبيعة الحال، الشرائح الأوسع من المجتمعات العربية التي سبقت الإشارة إليها.
لكن الأمر يتخذ منحى آخر في مجال السياسة والتأويل السياسي للقرآن وللسنة النبوية باعتبارهما النصوص المؤسِّسَة للتشريع الإسلامي. وهو منحى بدا واضحًا أن الظروف التي واجهها الإسلام السياسي بفصائله المختلفة، أي من أكثرها تطرفًا إلى أكثرها اعتدالًا، تفرضه من أجل استعادة مصداقية فقدها بضروب السلوك المختلفة التي سلكتها فصائله جميعًا. ولن يكون غريبًا ألا تحظى النصوص التي تكتب اليوم في هذا المجال بأي استقبال يضمن لها ولو حدًا أدنى من القبول به بله النقاش والمحاججة فيه أو حوله. إذ أنها هي الأخرى، وعلى غرار استخدام الاكتشافات العلمية بوصفها كانت معروفة من قبلُ في القرآن أو في الأحاديث النبوية، أي إظهار الأشياء على غير حقيقتها في الأصل أو في رأي العين، أو الخفة في التفسير وفي تحميل النصوص ما لا يمكن أن تحمله إلا في ذهن من يقسرها على حمل ما يريد، تحاول صرف الأنظار عن المسألة الأساس، أو القفز عليها بطرح مسألة أخرى بهدف جعل الأولى مسألة فرعية قابلة للإهمال إن لم يكن للإلغاء.
إذ بعد هذا الخراب الاستثنائي الذي تعاني منه اليوم سورية بفعل نظام الاستبداد وحلفائه الموضوعيين من الجماعات الإسلامية التي رفعت علمها الأسود وألقت بعلم الثورة أرضًا، ما الذي يمكن أن يضيفه إلى وعي المواطن السوري الحديث عن "ديمقراطية الإسلام" أو عن "النبي الديمقراطي" وهو يبحث عن الخيار الأفضل في مجال استعادة سورية وبنائها؟ وما الذي يعنيه هذا الطرح سوى العودة به إلى زمن مضى واندثر من أجل إعادة لوك كل الصيغ الجاهزة التي ما أكثر ما كررت ونوقشت وقبلت أو رفضت لكنها لم تقدم شيئًا قمينًا بالتحول إلى واقع عملي حقيقي يمكن أن يقبله الجميع؟ وبالتالي، ما السؤال الملح، أو الأولوي، الواجب طرحه في هذه الحالة؟ هل هو هو سؤال العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، ومن ثمَّ  قبول الإسلام أو عدم قبوله للديمقراطية؟ أم هو بالأحرى السؤال الذي يطرح إمكان أن يكون خيار الدولة المدنية الديمقراطية  هو الخيار الأول والأساس مقابل نظام الاستبداد والتسلط؟
من الواضح أن خيار السؤال هو خيار المستقبل.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 5 تموز/يوليو 2018.