بدرالدين عرودكي
يبدو
أن المفارقات لا تنتهي حين تتعلق بشخصيات اجتمعت من حولها وإزاءها مختلف التناقضات
التي لا تكف عن الاستفحال مع مرور الزمن، شأنها شأن جهلنا بتاريخ شعب لا يزال باطن
الأرض التي عاش عليها يخفي أسرار تفاصيل حياته ووجوه هويته.
وتلك
هي حال أحد كبار مؤسسي المسرح العربي، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق: السوري الذي
أنجبته دمشق: أبو خليل القباني.
فقد
بقيت منجزات هذا المبدع الرائد حبيسة ذاكرة الجمهور الذي رآها رأي العين بدمشق
والقاهرة والإسكندرية وبيروت، ثم تلاشت
ذكراها مع حملوها، ولم تبق إلا النصوص التي كان كتبها والتي لم تكن تقول في ذاتها
ولا في صنعتها إلا أقل القليل من هذه المنجزات. ولم يكن بوسع من كتبوا عنها أن
ينصفوها ماداموا لا يعرفون منها إلا هذا الأقل من القليل، وكانوا، على عادة معظم
من يكتبون التاريخ في عالمنا العربي، أقرب إلى القطع والجزم منهم إلى التنسيب
والشك. فما كانوا يجهلونه كان أكثر وأوسع مما يعرفونه لكنهم كانوا حتى ذلك يجهلون.
وكان
لابد من صدفة على غير ميعاد من أجل الاكتشاف، كما حدث ويحدث غالبًا في الكشوف
الأثرية الهامة. كان لابد لباحث وروائي، لم يكن أبو خليل القباني ذات يوم غايته في
البحث ولم يكن يستهدف التأريخ للمسرح أو لرواده، أن يجد نفسه فجأة أمام كنز من
المعلومات والمعطيات تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هو أو غيره يعلم
بوجودها تتعلق بالمسرح السوري في بدايات وجوده الخلاقة والتأسيسية للمسرح العربي،
وشهادات فيه وحوله وحول العاملين فيه لم تخطر لأحد ممن كتبوا عن هذا الرائد الكبير
أو حتى في ذهن من حاولوا استعادته على طريقتهم بعد ما يقارب سبعين عامًا على
رحيله، وهم يكادون يجهلون عن حقيقة مسرحه أهم عناصره. هكذا وجد الروائي والباحث
السوري تيسير خلف نفسه فجأة، وهو يباشر كتابة روايته الأخيرة "عصافير
داروين" والبحث عن وثائق تاريخية تتعلق بموضوعها، أمام اكتشاف كبير حمله
على أن يكتب جنبًا إلى جنب، رواية أخرى حملت عنوان من دمشق إلى شيكاغو، رحلة
أبي خليل القباني إلى أمريكا عام 1893، تتابع هذه الرحلة العجيبة في تفاصيلها
المختلفة التي كانت حتى صدور الكتاب مجهولة في معظمها وكان العلم بها، في العالم
العربي على الأقل، يقتصر على عنوانها حصرًا!
هي
رواية تسجيلية إذن، لكنها لا تقوم على تحقيق نص محدد يروي وقائع الرحلة بل على مجموعة
من النصوص والأخبار والشهادات كانت نتيجة بحث مضن في مظانه من الكتب والصحف التي
كان لابد لتيسير خلف من العمل على العثور عليها في مكتبات جامعية أو وطنية أو خاصة،
متناثرة في ما بين الخليج العربي مشرقًا والولايات المتحدة الأمريكية مغربًا.
رواية رحلة يكتبها تيسير خلف من جديد، (أو يصنعها بالأحرى كما كتب على غلاف
الكتاب)، اعتمادًا على الوقائع التي تابع دقائقها، منذ الإعداد لها خصوصًا في
مختلف مدن سورية الطبيعية، ثم بعد ذلك عند تحقيق الغاية منها كما تمثلت في العروض
المسرحية التي أشارت إليها أو علقت عليها أو نقدتها معظم الصحف الأمريكية على
اختلافها، وكذلك الأخبار والشهادات التي كتبت حولها والمنشورة فيها.
قام
أبو خليل القباني برحلته هذه من دمشق إلى شيكاغو على رأس فرقة مسرحية قوامها
ثمانية وخمسين فردًا من النساء والرجال الممثلين والموسيقيين والمغنين والراقصين،
جاؤوا من مدن سورية الطبيعية المختلفة، وكان بعضهم يقف على خشبة المسرح للمرة
الأولى في حياته، لكنه خضعوا جميعًا لتدريب وإعداد دام شهورًا تحت إشراف القباني
نفسه وأمكن أن يعطى نتائجه الباهرة في العروض التي قدِّمَت، طوال ستة أشهر، في تلك
المدينة التي كانت تتعرف للمرة الأولى في تاريخها على نتاج ثقافي قادم إليها من
تركيا، كما كانوا يسمّون في أمريكا
الإمبراطورية العثمانية ، لكنه كان في الحقيقة قادمًا بدءًا من دمشق، من
أرجاء بلاد الشام كلها التي كانت يومئذ
ضمن الإمبراطورية العثمانية.
يسجل
تيسير خلف، باعث رحلة أبي خليل القباني، عنصرًا هامًا، على صعيد تنظيم المهام في
عروض مسرحية بهذا الحجم، كان قد تجسَّد للمرة الأولى في تاريخ المسرح العربي، في
الفصل، على مستوى المسؤولية، ما بين الوظائف الإدارية والمالية والوظائف الفنية، أو
بين المدير الإداري والمالي، وبين مدير الممثلين أو المخرج المسرحي بلغة اليوم.
وكان لهذا الفصل أثر هام على استمرار فرقة مؤلفة من هذا العدد في العمل أربعة شهور
متواصلة بعد أن اضطر مخرج عروضها أن يغادر شيكاغو بعد شهرين من بدء العروض؛ وما
كان بوسعه أن يغامر بالمغادرة لو كان يقوم في الوقت نفسه بالمهام الإدارية كما كان
يفعل قبل ذلك. لكن الأهم في هذا الكتاب/الكشّاف،
هي الإضاءات التي أمكن لتيسير خلف الحصول في مظانها على كل ما يتعلق بمضمون وطبيعة
وعناصر هذه العروض المسرحية، وتفاعل الجمهور الأمريكي معها، ومعظمها، كما يبدو،
كانت مجهولة لكل من كتب من العرب من قبل عن أبي خليل القباني وعن مسرحه وعن
إنجازاته.
بعد
أن سجل تيسير خلف تفاصيل الإعداد للرحلة بدءًا من بيروت والكيفية التي استقبلت بها
الصحف الأمريكية خبر العروض القادمة من الشرق، قدم عرضًا لمضمون المسرحيات أو
العروض التي قدمتها الفرقة والتي بلغ عددها ثمانية عروض (الدراما الكردية، الدراما
القلمونية، المروءة والوفاء، عرس دمشقي، عنتر بن شداد، هارون الرشيد،العروس
التركية، الإبن الضال). وقد أضاف إلى عرضه تعليقات الصحف الأمريكية عليها وبعض
تفاصيل ما أثاره بعضها من دهشة واستغراب حين كان النقاد أو المراسلون الصحفيون
مثلًا يشيرون إلى امتلاء المسرح الذي يتسع لألفي شخص عن بكرة أبيه.
لكن
الفضول لم يكن وحده ما كان يدفع هذا العدد الكبير إلى حضور مختلف العروض الثمانية
طوال ستة أشهر. ذلك أن النقاد سجلوا، أيضًا، إعجابهم بالمستوى الفني الرفيع لهذه
العروض وكذلك، كما كتب تيسير خلف، بامتلاك القائمين على هذه العروض "لأدواتهم
الفنية" و"الاحترافية العالية" لهذه التجربة، و "الأداء
الرفيع المتقن للممثلين". ويبدو أن الجمهور الذي حضر هذه العروض كان يضمُّ معظم
الفئات الاجتماعية، بما فيها نخبة المثقفين والسياسيين الأمريكيين وكان منهم أعضاء
الكونغرس الأمريكي الذين دفعهم حماسهم للعروض إلى أن شجعوا مراسل صحيفة
"نيويورك تريبيون" على زيارة "المسرح التركي"!
لكن
ما يمكن (أو يجب) أن يهم مؤرخ المسرح العربي من ذلك كله هو من ناحية، ما اعتمده
أبو خليل القباني في عروضه المسرحية من تقنيات حديثة مستفيدًا من خبرة "مساعده
وابن مدينته إسكندر فرح، والذي تخبرنا سيرته أنه
(...) كان ذا ثقافة فرنسية رفيعة تحدث عنها جميع من كتبوا عنه" والذي
كان على ما يبدو "مطلًا بشكل وثيق على نظرية ديلسارت حول أداء الممثل"
ما دام اختصاصه حين عمل مع أبي خليل القباني كان تدريب الممثلين؛ ومن ناحية أخرى،
ما كرسه من عناصر "الفرجة" في عروضه اعتمادًا على الإبهار البصري
والموسيقى والرقص والغناء والأزياء في انسجام مذهل جعل من النص المسرحي مجرد عنصر
بين عناصر أخرى لا تقل أهمية في أي تقويم للعرض المسرحي؛ ومن ناحية ثالثة، ما
ابتكره في العروض المسرحية والذي لم يكن معروفًا في نهاية القرن التاسع عشر في
أوربا أو في أمريكا، ولاسيما التفاعل بين الممثلين على خشبة المسرح والجمهور في
القاعة. وقد بدا ذلك لعدد من النقاد الأمريكيين مستهجنًا نظرًا لتمسكهم بالمسرح
الإيطالي الذي كسر أبو خليل القباني كما هو واضح جداره الرابع، متقدِّمًا على
خلفَه برتولد بريخت، بحوالي نصف قرن. سوى أن من الواضح أيضًا ــ وهو الأهم هنا ــ أن
مؤرخي المسرح العربي عامة، والمسرحيين العرب بوجه خاص، لم ينتبهوا إلى هذا الابتكار
الذي صار عنصرًا شديد الاستخدام منذ منتصف القرن الماضي في المسرح المعاصر، ولم
يعملوا على تطويره نظرًا لجهلهم حقيقة واتساع منجزات أبي خليل القباني الذي يبدو
أنه قدم ذروة إمكاناته الفنية والمسرحية في هذه العروض الثمانية التي شهدتها مدينة
شيكاغو قبيل نهاية القرن التاسع عشر.
دفع
أبو خليل القباني في حياته ثمن جرأته وعبقريته: ينتقل من بلد إلى آخر طريد الرقابة
والوشاة وعملاء أجهزة "الخفية" العثمانية، ويضطر لهذا السبب بالذات إلى
أن يغادر شيكاغو بعد شهرين من وصوله إليها بسبب الوشاة والتقارير المغرضة أو
الكاذبة المرسلة إلى العاصمة العثمانية. ودفع ذلك بعد مماته وفي مدينته بوجه خاص: فلا
وجود لشارع يحمل اسمه، ولا وجود لأدنى اهتمام بمسرحه الذي أسسه في مطلع الربع
الأخير من القرن التاسع عشر.
لاشك
أن تيسير خلف قد صنع هذه الرحلة، لكنه كان، وهو يصنعها، يعيد بعث رائد المسرح العربي
الحديث الذي انطلق في ومن مدينته دمشق التي أنجبته وأنكرته من خلال أبنائها أو الطارئين
عليها!
** نشر على موقع جيرون، يوم
الخميس 10 أيار/مايو 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire