jeudi 24 mai 2018



المرأة التي كانت رصينة 


بدرالدين عرودكي 
أكان على سيمون دو بوفوار (1908 ـ 1986) أن تنتظر اثنين وثلاثين عامًا بعد وفاتها قبل أن تستقبلها، أعرق دار نشر فرنسية، دار غاليمار، في السلسلة المخصصة لمبدعات كبار الكتاب العالميين، مكتبة لابلياد، وتتلقى التكريس الذي حظي به فيها، من قبل، رفيق عمرها جان بول سارتر؟ ما مردّ هذا التأخير؟ ألأنها امرأة يصعب استقبالها في حرم يحفل بأكثر من مائتي رجل (مائتان وتسعة على وجه التدقيق!)، في حين لا يتجاوز عدد النساء فيه، بعد دخولها الآن، أربعة عشر امرأة؟ أم لأن مُبْدَعها كان لا يزال يحمل آثار الخلافات والخصومات التي أثارها يوم عرفها الجمهور في فرنسا ثم في باقي أنحاء العالم امرأة استثنائية، مثقفة وحرة، عبر هذا المُبدع بالذات، وفي ما جسّدته مع منتصف القرن الماضي من معايير وقيم جريئة وغير مسبوقة للمرأة قبل سبعين عامًا؟
ربما عثرنا على قدر من الإجابة في طبيعة الكتب التي ضمَّها جزءا هذه الطبعة النقدية والتي امتلأت بها ثلاثة آلاف ومائتي صفحة تحت عنوان: المذكرات. كما لو أن أهم عمل أنجزته في حياتها كان تفاصيل حياتها التي كانت في ذاتها روايتها الكبرى التي عاشتها حقيقة وكتابة، رواية المرأة الكاتبة والعاشقة والصديقة والمناضلة. لاسيما وأن شهرتها تدين في آن واحد إلى كتاباتها بقدر ما تدين إلى الأسطورة التي نسجتها من حولها خياراتها في حياتها كامرأة حرّة وكشريكة حياة أشهر فلاسفة القرن العشرين: سارتر.
لم يكونا قد خرجا بعد إلى الفضاء العام حين أبرمت مع زميلها في سنوات الدراسة، سارتر، وهي في الحادية والعشرين من عمرها، ميثاقًا غير مسبوق في العلاقات العاطفية قوامه ما أطلقا عليه "الحبٌّ الضروريٌّ" بينهما الذي لا يستبعد أو يمنع ضروب حب "محتملة" يمكن أن يعيشها كل واحدٍ منهما! ميثاقٌ أبرم لسنتيْن؛ لكنه دام حتى وفاة سارتر عام 1980. كان هذا الميثاق قيد التطبيق إذن حين بدأ الجمهور يتعرف إليهما مع بداية الحرب العالمية الثانية التي وضع سارتر خلالها كتبه الأساس في الفلسفة (الوجود والعدم) وفي الرواية (الغثيان، ثلاثية دروب الحرية)؛ والتي أصدرت من ناحيتها في الفترة نفسها أولى رواياتها: المدعوة. هكذا حين عرف الجمهور هذا الزوج الأسطوري الذي ستطبق شهرته العالم بوصفه ثورة غير مسبوقة في عالم العلاقات العاطفية، وفي ممارسة الحرية إزاء كل المواضعات الاجتماعية ومؤسساتها وقيمها، كانت سيمون دو بوفوار لا تزال في ظل سارتر. لكنها سرعان ما ستعثر على بداية الطريق خلال نقاش مع رفيقها ذات يوم من عام 1947. فمن فكرة كتاب اعترافات شخصية كانت قد بدأت في تسجيل عناصره، إلى مشروع كتاب يحاول، وهو يعالج الشرط النسائي بصورة عامة، أن يجيب عن سؤال أساس كان يؤرقها كما كتبت في الجزء الثالث من مذكراتها، قوة الأشياء، فيما بعد: "ما الذي كان قد عناه في نظري أن أكون امرأة؟"؛ وهو كتاب أنجزته خلال سنتيْن ونشرته في جزءيْن عام 1949 تحت عنوان: الجنس الثاني (Le Deuxième sexe) (وليس "الجنس الآخر" كما عنونته ترجماته السيئة العديدة إلى العربية!)، يعرض بصورة جريئة وغير مسبوقة القمع الذي كابدته، ولا تزال تكابده، المرأة على يد الرجل في كل مجال من مجالات الحياة، الخاصة والعامة، مسلحًا لا بتأملات صاغتها التجربة الشخصية فحسب، بل كذلك وخصوصًا باستخدام أدوات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلسفة والتاريخ المنهجية، والذي باتت الصيغة التي أطلقتها فيه شعاره وموجزه البليغ: "لا تولد المرأة امرأة، بل تصيرها".
قبل أن يصدر الجزء الأول من الكتاب، نشرت سيمون دو بوفوار بين شهري أيار/مايو وتموز/يوليو 1948 في مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يديرها جان بول سارتر ثلاثة أبحاث من الكتاب تحمل عنوان "المرأة والأساطير، مقتطفات من كتاب حول وضع المرأة، سيصدر قريبًا". لم تتأخر ردود الفعل العدوانية بالطبع. لكن هذه الأخيرة تجاوزت كل الحدود التقليدية عند صدور الكتاب في السنة التالية، الذي سبق صدوره، مرة أخرى، نشر مقتطف آخر منه في مقدمة عدد الأزمنة الحديثة في شهر أيار/مايو 1949 تحت عنوان "التلقين الجنسي للمرأة". كتب فرنسوا مورياك في صحيفة الفيجارو الصادرة يوم  30 أيار: "لقد بلغنا حرفيًا حدود النذالة (..)؛ هل يتواجد الموضوع الذي عالجته السيدة سيمون دو بوفوار (...) في مكانه على فهرس مجلة فلسفية وأدبية خطيرة؟". لا بل إنه يصر على المبالغة حين يكتب إلى أحد محرري مجلة الأزمنة الحديثة: "لقد صرنا نعرف كل شيء عن مهبل ربة عملك!". أما ألبير كامو فلم يتوانَ عن أن يكتب أن هذا الكتاب "يفضح الذكر الفرنسي"، وأنه "شتيمة للذكر اللاتيني". أما ضروب البذاءات التي صار من الممكن اليوم أن يعاقب عليها قانونًا والتي حفلت بها يومئذ صحف اليمين واليسار، فقد تجاوزت كل الحدود. لكن التي سبق أن كتبت: "سأبني لنفسي قوة ألجأ إليها إلى الأبد" واجهت بشجاعة منقطعة النظير هذه "الجحافل" التي أفلتت من عقالها وفقدت كل قدرة على التفكير!
سوى أن الكتاب سرعان ما وجد طريقه، عند صدوره،  إلى القراء فبيع منه في الأسبوع الأول 22000 نسخة كي يتجاوز العدد خلال سنوات قليلة إثر صدوره وبعد ترجمته إلى العديد من لغات العالم إلى مليون ومائتي ألف نسخة. كتاب فاصل في حياة المرأة والكاتبة سيمون دو بوفوار التي صارت تعيش إلى جانب ومع جان بول سارتر، لا في ظله، كما بدت قبل بلوغها الثلاثين من عمرها. وهو ما سيتيح لها أن تعيش الحياة التي سبق أن اختارتها وأن تكتبها.


ستكتب روايتها الكبرى، المثقفون،  بعد عشر سنوات من نشرها أول رواية لها، المدعوة، وستنال عليها جائزة الغونكور التي كرستها روائية، هي التي كانت تنظر إلى الرواية بوصفها أداة، أو على أنها، كما كتبت، "نوع من آلة نصنعها كي نضيء بها معنى وجودنا في العالم". سوى أن الكتاب الذي ستبدأ به سلسلة المذكرات الرئيسة التي تروي فيها حياتها منذ البداية، والذي كانت ستبدؤه، وإن بطريقة أخرى، قبل أن تنعطف نحو الجنس الثاني بإيحاء من سارتر: كان الثلاثية التي ضمت مذكراتها الرئيسة: مذكرات فتاة رصينة، قوة العمر، قوة الأشياء. لم يكن همّها فيها أن تنجز عملًا فنيًا، بل ولم تكن تزعم ذلك أصلًا بصريح العبارة: "لا أدّعي أنه أثر فني (...) وقليلًا ما يهمني إذا رفض منح مذكراتي تلك الصفة. لا، إنها ليست أثرًا فنيًا، ولكنها حياتي، في اندفاعاتها، في أحزانها، في اضطراباتها، حياتي التي تحاول أن تتحدث عن ذاتها.."
ذلك ما يؤكد على أن الكتابة في نظرها، أيًا كان الشكل الذي تندرج ضمنه، كانت هي الأساس فعالية وحياة. ومن هنا، لا يمكن أن يؤخذ على سيمون دو بوفوار أنها لم تقل كل شيء في ثلاثية مذكراتها.. فقد قالت الكثير أيضًا من قبل في كتابها الأيقونة: الجنس الثاني، مثلما قالته  في رواياتها، وفي كتبها الفلسفية أو الأيديولوجية الأخرى، بما في ذلك رسائلها التي نشرت (وكانت تعلم أنها ستنشر) بعد وفاتها إلى عشيقها الأمريكي والتي حملت البعض على أن يتسرع في أن يستخلص منها "بؤس" ما كانت وسارتر يطلقا عليه الحب الضروري. إلا أنه لابد من الاعتراف بأنها كانت بكتاباتها كما بسلوكها، لم تكن قد خلخلت الكثير من المعايير والأفكار الموروثة والسائدة فحسب، بل قدمت نموذج امرأة استطاعت بحريتها المنتزعة أن تصير المرأة التي تريد مادامت تمارس قدرًا من الحرية لا يمكن لأي رجل أن يضع له حدودًا يفرضها.
كان دخولها مكتبة البلياد سيسعدها، هي التي كانت الكتابة بالنسبة لها صنو حياتها التي تبقى، بعد كل شيء، حياة امرأة استثنائية لم يكن شيء في أصولها الاجتماعية أو في تربيتها يعد بها. تلك هي الصيرورة التي أرادتها جنبًا إلى جنب مع الحب الضروري!
صيرورة تليق بها.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 24 أيار/مايو 2018.


jeudi 17 mai 2018



مجلس الأمن أو مسرح التنفيس! 
بدرالدين عرودكي 
مثلما قدمت روسيا خلال السنوات السبع الماضية برهانًا بليغًا عن عجز مجلس الأمن وعبثية قراراته بصدد كل ما كان يعني ثورة الشعب السوري ضد حكم الاستبداد الجاثم على سورية منذ خمسين عامًا، من خلال تعطيل كل قرار يصدر عنه بتجريم النظام الأسدي وحلفائه، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى ــ ولم تكن المرة الأولى بالطبع ــ البرهان الأبلغ على الأمر نفسه خلال الاجتماع الأخير لمجلس الأمن بمناسبة ارتكاب إسرائيل جريمة قتل أكثر من ستين فلسطينيًا كانوا يشاركون في المظاهرة السلمية، قرب حدودها مع قطاع غزة، بمناسبة مرور سبعين عامًا على النكبة، مؤكدة على صورة وظيفته التي باتت في السنوات الأخيرة بليغة في قولها طبيعة هذا المجلس، وفي مدى عجزه عن حلِّ المشكلات الدولية المناط به حلها، وفي تأكيدها وجود هذه الشراكة القائمة بين روسيا وأمريكا لتبديد كل أمل في تحقيق الحدِّ الأدنى من أهداف هذه المنظمة الدولية.
يعلم كل من يتابع أمور السياسة الدولية وتاريخها كيف أنشئت منظمة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم في نهاية الحرب العالمية الثانية، وكيف تولت أمرها الدول الكبرى الخمس المنتصرة فيها، باستحواذها على حقيْن رئيسيْن: العضوية الدائمة في هيئتها التنفيذية، ولنقل القيادية، التي تتمثل في مجلس الأمن المؤلف من خمسة عشر عضوًا، وحق النقض الذي تستطيع به إحدى هذه الدول تعطيل أي قرار يتخذه المجلس ولو بلغ عدد المصوتين بالموافقة عليه أربعة عشر عضوًا. فهي التي تستطيع من ثمَّ، منفردة أو مجتمعة، أن تسبغ الشرعية على هذه الدولة أو تلك أو تسحبها منها؛ وهي التي تقرر طبيعة ومستوى العقوبات التي يمكن أن تنزلها بهذه الدولة أو تلك، أو أن ترفض بكل بساطة إنزالها. سوى أن هاتيْن الميزتيْن اللتين اختصت هذه الدول الخمس نفسها بهما تتويجًا لكل الامتيازات الأخرى التي تتمتع بها، تخرج عن كل القواعد التي أرادت هذه الدول نفسها أن تتميز بها منظمة الأمم المتحدة ومختلف الهيئات التابعة لها.
لن نستغرب والحالة هذه، ولاسيما حين نعلم عدد المرات التي استخدمت بها كلُّ واحدة من الدول الخمس هذا الحق منذ البداية، أن تحتل القوتين الرئيستين في مجلس الأمن، روسيا اليوم بعد الاتحاد السوفياتي أمس (حوالي 120 مرة) والولايات المتحدة الأمريكية (حوالي 80 مرة) مكان الصدارة في استخدام هذا الحق. كان واضحًا على الدوام أن استخدامه يعني في كل مرة تقديم مصلحة الدولة التي تستخدمه على مصالح الدول الأخرى جميعًا، وفي مقدمتها تلك التي يفترض أن القرار المعطل كان لصالحها. لكن الاستخدام المتكرر الذي تميزت به الولايات المتحدة الأمريكية في كل مرة يمس القرار المقترح إسرائيل منذ قيامها حتى اليوم، والآخر الذي تميزت به روسيا الاتحادية خلال السنوات السبع الأخيرة، خصوصًا، في كل مرة كان القرار يمس نظام الأسد، كان يسجل واقعًا باتت اليوم صفاقته تفقأ العيون وتصمّ الآذان!
فإسرائيل، المدينة بوجودها كدولة إلى منظمة الأمم المتحدة، تكاد تكون الدولة الوحيدة التي صدرت بحقها عشرات القرارت التي عطلتها الولايات المتحدة باستخدامها حق النقض. أما قرارات الجمعية العامة غير القابلة للإبطال والتي صدرت أيضًا بحقها، فقد بقيت حبرًا على ورق في سجلات المنظمة الدولية، وشاهدًا تاريخيًا لا على "الديمقراطية" المزعومة في هذه المنظمة فحسب بل كذلك على شلِّ قدرتها على تحقيق الآمال التي عقدت عليها حين قيامها.
أما النظام الأسدي، الذي بقيت هذه المنظمة تمنحه شرعية لم يكن شعبه قد منحها له في الأصل، فإنه في الوقت الذي كان يفقد توازنه بالتدريج شعبيًا وعسكريًا وسياسيًا على الصعيد المحلي والعربي، هرعت روسيا لإنقاذه ولكي تقدم له منبره الوحيد في هذه الهيئة الدولية، يعرض فيها أكاذيبه وتلفيقاته تحت دعمها وحمايتها في الوقت الذي كان يمارس جرائمه يوميًا ضد شعب بأكمله، سجنًا وقتلًا وتهجيرًا.
هذا التناوب في استخدام حق النقض بين روسيا دفاعًا عن الطغمة الأسدية، والولايات المتحدة حماية لدولة الاحتلال والتمييز العنصري إسرائيل، يقول ما آل إليه مجلس الأمن بعد نيف وسبعين عامًا على تأسيس المنظمة التي يقوم بدور هيئتها التنفيذية: مسرحًا يتبادل فيه ممثلو الدول الأعضاء، الدائمة والمؤقتة، فضلًا عن الدول المعنية بموضوع النقاش والتي تدعى بصفة المدّعى عليه خصوصًا، ممثل الطغمة الأسدية أو ممثل الطغمة الإسرائيلية، عرض حججهم، وتبريراتهم، وتلفيقاتهم، وأكاذيبهم، كي ينتهي الأمر إلى التصويت على القرار بأكثرية تجيز اعتماده لولا رفع الممثل الروسي أو الأمريكي يده معترضًا وناقضًا.
من قريب، أو داخل أروقة مجلس الأمن أو قاعة الجمعية العمومية، يحول ما يراه المرء، من انهماك الدبلوماسيين والموظفين الأمميين وممثلي الدول الأعضاء في اجتماعاتهم ومشاوراتهم والرسائل المتبادلة فيما بينهم، دون أن يرى العبثية وراء كل ذلك أو خلاله. فالإجماع على ضرورة هذا العمل أو على نجوعه بهذا القدر أو ذاك، يكاد يعمي الأبصار عن الحقيقة المرة التي كان قلق الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كيمون، الذي حفلت تعبيرًا عنه تصريحاته، يقولها صراحة: ذلك هو أقصى ما يستطيع رأس المنظمة الأممية أن يفعله. وقد سبق لأحد أسلافه، بطرس بطرس غالي، أن دفع الثمن حين جرؤ، بمناسبة مجزرة قانا على حدود لبنان الجنوبية على ممارسة صلاحياته كاملة، مخالفًا ما طلبه منه المندوب الأمريكي آنذاك؛ وكان هذا الثمن رفض الولايات المتحدة التجديد له عند انتهاء ولايته الأولى.
أما من بعيد، فتبدو لنا العبثية طابع هذه النشاطات المحمومة والاجتماعات التي تتوالى عددًا من الأيام وتتخللها مناقشات أو مفاوضات جانبية وسرية لتعديل هذا القرار أو ذلك في محاولة للحمل على قبوله واعتماده، كي تنتهي، كلما تعلق الأمر بفلسطين والفلسطينيين، أو بإدانة الطغمة الأسدية، إلى الفشل ومن ثمَّ إلى استخدام حق النقض الذي يعدم القرار الذي أصرّ مقدموه على التصويت عليه. هكذا لا يبقى من كل هذه الجلسات سوى الخطابات بما انطوت عليه من استعراض للقوة لدى الدول الكبرى أو من تنفيس عبر محاولات في المحاججة لا تقنع أحدًا بما في ذلك من يقوم بها!
هكذا نتساءل اليوم: ما قيمة النصوص والقرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة  التي تعتبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل باطلًا كأنه لم يكن أمام تجاهل مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن لها حين كان الجميع يذكرها بها، والتي راحت بدلًا من تفنيدها أو تكذيبها، تتحدث عن "واقع تاريخي" يعود إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام، ومصدره الوحيد كتاب العهد القديم؟ وما الذي يمكن انتظاره من هيئة باتت بفعل الصراع بين الكبار مشلولة كليًا وعاجزة عن القيام بمهماتها، وصارت أشبه بالمخدّر الذي تزرق به الشعوب التي لا تزال تناضل من أجل حريتها وكرامتها كالفلسطينيين والسوريين، بما أنها تسمح ــ أحيانًا ــ لممثلي حماتهم أو أنصارهم من الدول التي تدعمهم، أن يقولوا كلمتهم خلال نصف ساعة في مواجهة دفق خطابات العداء والعنصرية والتلفيق السياسي والتاريخي؟ لاشك أن مثل هذه الخطابات، كذلك الذي ألقاه مندوب بوليفيا في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن، والذي ذكر فيه أسماء عدد الفلسطينيين من المراهقين والشباب الذين قتلتهم الجيش الإسرائيلي قبل أيام، مسميًا الأشياء بأسمائها (إسرائيل دولة احتلال)، ومعترفًا في الوقت نفسه بالعجز الكامل عن تحقيق آمال الفلسطينيين، تبدو ذروة في التعبير عن المأساة الأخلاقية والإنسانية التي وقع فيها مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة على أيدي روسيا  بالنسبة للسوريين، وعلى أيدي والولايات المتحدة بالنسبة إلى الفلسطينيين والسوريين معًا،  خلال الأعوام الماضية.
هكذا تعيش دول العالم وشعوبها تحت هيمنة وسلطة وإرادة القوتيْن العظميين، روسيا والولايات المتحدة،  اللتين تمارسان أبشع صور الديكتاتورية على صعيد العالم كله. ذلك ما يفسر أن كلًا منهما باتت ملجأ النظم الاستبدادية في مختلف أرجاء العالم كي تبقى مستمرة في عنتها وجرائمها تحت حماية إحدى هاتيْن القوتين وفي خدمة مصالحهما معًا.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 17 أيار/مايو 2018.


jeudi 10 mai 2018



الذي كسر الجدار الرابع! 

بدرالدين عرودكي 
يبدو أن المفارقات لا تنتهي حين تتعلق بشخصيات اجتمعت من حولها وإزاءها مختلف التناقضات التي لا تكف عن الاستفحال مع مرور الزمن، شأنها شأن جهلنا بتاريخ شعب لا يزال باطن الأرض التي عاش عليها يخفي أسرار تفاصيل حياته ووجوه هويته.
وتلك هي حال أحد كبار مؤسسي المسرح العربي، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق: السوري الذي أنجبته دمشق: أبو خليل القباني.
فقد بقيت منجزات هذا المبدع الرائد حبيسة ذاكرة الجمهور الذي رآها رأي العين بدمشق والقاهرة والإسكندرية  وبيروت، ثم تلاشت ذكراها مع حملوها، ولم تبق إلا النصوص التي كان كتبها والتي لم تكن تقول في ذاتها ولا في صنعتها إلا أقل القليل من هذه المنجزات. ولم يكن بوسع من كتبوا عنها أن ينصفوها ماداموا لا يعرفون منها إلا هذا الأقل من القليل، وكانوا، على عادة معظم من يكتبون التاريخ في عالمنا العربي، أقرب إلى القطع والجزم منهم إلى التنسيب والشك. فما كانوا يجهلونه كان أكثر وأوسع مما يعرفونه لكنهم كانوا حتى ذلك يجهلون.
وكان لابد من صدفة على غير ميعاد من أجل الاكتشاف، كما حدث ويحدث غالبًا في الكشوف الأثرية الهامة. كان لابد لباحث وروائي، لم يكن أبو خليل القباني ذات يوم غايته في البحث ولم يكن يستهدف التأريخ للمسرح أو لرواده، أن يجد نفسه فجأة أمام كنز من المعلومات والمعطيات تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هو أو غيره يعلم بوجودها تتعلق بالمسرح السوري في بدايات وجوده الخلاقة والتأسيسية للمسرح العربي، وشهادات فيه وحوله وحول العاملين فيه لم تخطر لأحد ممن كتبوا عن هذا الرائد الكبير أو حتى في ذهن من حاولوا استعادته على طريقتهم بعد ما يقارب سبعين عامًا على رحيله، وهم يكادون يجهلون عن حقيقة مسرحه أهم عناصره. هكذا وجد الروائي والباحث السوري تيسير خلف نفسه فجأة، وهو يباشر كتابة روايته الأخيرة "عصافير داروين" والبحث عن وثائق تاريخية تتعلق بموضوعها، أمام اكتشاف كبير حمله على أن يكتب جنبًا إلى جنب، رواية أخرى حملت عنوان من دمشق إلى شيكاغو، رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا عام 1893، تتابع هذه الرحلة العجيبة في تفاصيلها المختلفة التي كانت حتى صدور الكتاب مجهولة في معظمها وكان العلم بها، في العالم العربي على الأقل، يقتصر على عنوانها حصرًا!
هي رواية تسجيلية إذن، لكنها لا تقوم على تحقيق نص محدد يروي وقائع الرحلة بل على مجموعة من النصوص والأخبار والشهادات كانت نتيجة بحث مضن في مظانه من الكتب والصحف التي كان لابد لتيسير خلف من العمل على العثور عليها في مكتبات جامعية أو وطنية أو خاصة، متناثرة في ما بين الخليج العربي مشرقًا والولايات المتحدة الأمريكية مغربًا. رواية رحلة يكتبها تيسير خلف من جديد، (أو يصنعها بالأحرى كما كتب على غلاف الكتاب)، اعتمادًا على الوقائع التي تابع دقائقها، منذ الإعداد لها خصوصًا في مختلف مدن سورية الطبيعية، ثم بعد ذلك عند تحقيق الغاية منها كما تمثلت في العروض المسرحية التي أشارت إليها أو علقت عليها أو نقدتها معظم الصحف الأمريكية على اختلافها، وكذلك الأخبار والشهادات التي كتبت حولها والمنشورة فيها.
قام أبو خليل القباني برحلته هذه من دمشق إلى شيكاغو على رأس فرقة مسرحية قوامها ثمانية وخمسين فردًا من النساء والرجال الممثلين والموسيقيين والمغنين والراقصين، جاؤوا من مدن سورية الطبيعية المختلفة، وكان بعضهم يقف على خشبة المسرح للمرة الأولى في حياته، لكنه خضعوا جميعًا لتدريب وإعداد دام شهورًا تحت إشراف القباني نفسه وأمكن أن يعطى نتائجه الباهرة في العروض التي قدِّمَت، طوال ستة أشهر، في تلك المدينة التي كانت تتعرف للمرة الأولى في تاريخها على نتاج ثقافي قادم إليها من تركيا، كما كانوا يسمّون في أمريكا  الإمبراطورية العثمانية ، لكنه كان في الحقيقة قادمًا بدءًا من دمشق، من أرجاء بلاد الشام  كلها التي كانت يومئذ ضمن الإمبراطورية العثمانية.  
يسجل تيسير خلف، باعث رحلة أبي خليل القباني، عنصرًا هامًا، على صعيد تنظيم المهام في عروض مسرحية بهذا الحجم، كان قد تجسَّد للمرة الأولى في تاريخ المسرح العربي، في الفصل، على مستوى المسؤولية، ما بين الوظائف الإدارية والمالية والوظائف الفنية، أو بين المدير الإداري والمالي، وبين مدير الممثلين أو المخرج المسرحي بلغة اليوم. وكان لهذا الفصل أثر هام على استمرار فرقة مؤلفة من هذا العدد في العمل أربعة شهور متواصلة بعد أن اضطر مخرج عروضها أن يغادر شيكاغو بعد شهرين من بدء العروض؛ وما كان بوسعه أن يغامر بالمغادرة لو كان يقوم في الوقت نفسه بالمهام الإدارية كما كان يفعل قبل ذلك.  لكن الأهم في هذا الكتاب/الكشّاف، هي الإضاءات التي أمكن لتيسير خلف الحصول في مظانها على كل ما يتعلق بمضمون وطبيعة وعناصر هذه العروض المسرحية، وتفاعل الجمهور الأمريكي معها، ومعظمها، كما يبدو، كانت مجهولة لكل من كتب من العرب من قبل عن أبي خليل القباني وعن مسرحه وعن إنجازاته.
بعد أن سجل تيسير خلف تفاصيل الإعداد للرحلة بدءًا من بيروت والكيفية التي استقبلت بها الصحف الأمريكية خبر العروض القادمة من الشرق، قدم عرضًا لمضمون المسرحيات أو العروض التي قدمتها الفرقة والتي بلغ عددها ثمانية عروض (الدراما الكردية، الدراما القلمونية، المروءة والوفاء، عرس دمشقي، عنتر بن شداد، هارون الرشيد،العروس التركية، الإبن الضال). وقد أضاف إلى عرضه تعليقات الصحف الأمريكية عليها وبعض تفاصيل ما أثاره بعضها من دهشة واستغراب حين كان النقاد أو المراسلون الصحفيون مثلًا يشيرون إلى امتلاء المسرح الذي يتسع لألفي شخص عن بكرة أبيه.
لكن الفضول لم يكن وحده ما كان يدفع هذا العدد الكبير إلى حضور مختلف العروض الثمانية طوال ستة أشهر. ذلك أن النقاد سجلوا، أيضًا، إعجابهم بالمستوى الفني الرفيع لهذه العروض وكذلك، كما كتب تيسير خلف، بامتلاك القائمين على هذه العروض "لأدواتهم الفنية" و"الاحترافية العالية" لهذه التجربة، و "الأداء الرفيع المتقن للممثلين". ويبدو أن الجمهور الذي حضر هذه العروض كان يضمُّ معظم الفئات الاجتماعية، بما فيها نخبة المثقفين والسياسيين الأمريكيين وكان منهم أعضاء الكونغرس الأمريكي الذين دفعهم حماسهم للعروض إلى أن شجعوا مراسل صحيفة "نيويورك تريبيون" على زيارة "المسرح التركي"!
لكن ما يمكن (أو يجب) أن يهم مؤرخ المسرح العربي من ذلك كله هو من ناحية، ما اعتمده أبو خليل القباني في عروضه المسرحية من تقنيات حديثة مستفيدًا من خبرة "مساعده وابن مدينته إسكندر فرح، والذي تخبرنا سيرته أنه  (...) كان ذا ثقافة فرنسية رفيعة تحدث عنها جميع من كتبوا عنه" والذي كان على ما يبدو "مطلًا بشكل وثيق على نظرية ديلسارت حول أداء الممثل" ما دام اختصاصه حين عمل مع أبي خليل القباني كان تدريب الممثلين؛ ومن ناحية أخرى، ما كرسه من عناصر "الفرجة" في عروضه اعتمادًا على الإبهار البصري والموسيقى والرقص والغناء والأزياء في انسجام مذهل جعل من النص المسرحي مجرد عنصر بين عناصر أخرى لا تقل أهمية في أي تقويم للعرض المسرحي؛ ومن ناحية ثالثة، ما ابتكره في العروض المسرحية والذي لم يكن معروفًا في نهاية القرن التاسع عشر في أوربا أو في أمريكا، ولاسيما التفاعل بين الممثلين على خشبة المسرح والجمهور في القاعة. وقد بدا ذلك لعدد من النقاد الأمريكيين مستهجنًا نظرًا لتمسكهم بالمسرح الإيطالي الذي كسر أبو خليل القباني كما هو واضح جداره الرابع، متقدِّمًا على خلفَه برتولد بريخت، بحوالي نصف قرن. سوى أن من الواضح أيضًا ــ وهو الأهم هنا ــ أن مؤرخي المسرح العربي عامة، والمسرحيين العرب بوجه خاص، لم ينتبهوا إلى هذا الابتكار الذي صار عنصرًا شديد الاستخدام منذ منتصف القرن الماضي في المسرح المعاصر، ولم يعملوا على تطويره نظرًا لجهلهم حقيقة واتساع منجزات أبي خليل القباني الذي يبدو أنه قدم ذروة إمكاناته الفنية والمسرحية في هذه العروض الثمانية التي شهدتها مدينة شيكاغو قبيل نهاية القرن التاسع عشر.
دفع أبو خليل القباني في حياته ثمن جرأته وعبقريته: ينتقل من بلد إلى آخر طريد الرقابة والوشاة وعملاء أجهزة "الخفية" العثمانية، ويضطر لهذا السبب بالذات إلى أن يغادر شيكاغو بعد شهرين من وصوله إليها بسبب الوشاة والتقارير المغرضة أو الكاذبة المرسلة إلى العاصمة العثمانية. ودفع ذلك بعد مماته وفي مدينته بوجه خاص: فلا وجود لشارع يحمل اسمه، ولا وجود لأدنى اهتمام بمسرحه الذي أسسه في مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
لاشك أن تيسير خلف قد صنع هذه الرحلة، لكنه كان، وهو يصنعها، يعيد بعث رائد المسرح العربي الحديث الذي انطلق في ومن مدينته دمشق التي أنجبته وأنكرته من خلال أبنائها أو الطارئين عليها!

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 10 أيار/مايو 2018.


jeudi 3 mai 2018



ثوابت المشهد  السوري ومتغيراته 
بدرالدين عرودكي 
ما الذي تغيَّر اليوم في المشهد السوري منذ خروج السوريين يطالبون بالحرية وبالكرامة، ويدفعون، فورًا ونقدًا، ثمن مطلبهم أرواحَهم ودمار بيوتهم ومدنهم وقراهم في كل أرجاء سورية؟ وهل انتصر النظام الأسدي على "المؤامرة الكونية" بقيادة الولايات المتحدة حتى يأمر أتباعه بالخروج إلى الساحات يرقصون في ساحة الأمويين احتفالًا بهذا النصر "المجيد"، مثلما كان يأمرهم بالخروج في مسيرات لا نهاية لها ليقول للعالم شعبيته الكاسحة؟  
لا توحي المظاهر، من الوهلة الأولى، بتغير هذا المشهد. كأنما بقيَ، في جوهره الأساس، على ما كان عليه في البدء قبل نيِّفٍ وسبع سنوات: إذ لا يزال "الرئيس المنتخب"، حسب تعبير أدونيس، أو "الرئيس الشرعي"، حسب تعريف الروسي بوتين ووزير خارجيته ومعاونيه لافروف، أو الرئيس الإيراني روحاني ووزير خارجيته ظريف، يردُّ بمختلف الوسائل التي يراها "ناجعة"، بدعم ومشاركة حليفيْه الرئيسيْن، وبإجازة ما يسمى المجتمع الدولي، على ثورة الشعب السوري ضده وضد نظامه التي قرر تسميتها "المؤامرة الكونية" التي اتهم بها هذا "المجتمع الدولي" بالذات كما روجت لذلك أبواقه ووسائل إعلامه؛ ولا تزال الجرائم التي يرتكبها النظام الأسدي تمارس يوميًا بحق السوريين جميعًا قصفًا بكل ضروب الأسلحة، المباح منها أو المحرَّم دوليًا، وبحق المعتقلين خصوصًا منهم، مادام السوريون لا يزالون يتلقون كل يوم أخبار مقتل هذا الشاب أو تلك الفتاة ممن كانوا في علم الجميع إلى أمد قريب قيد الاعتقال؛ ولا يزال هواة الرقص من أنصار هذا "الرئيس" في الساحات على أشلاء من هم مواطنون، مثلهم، أو على ما تبقى من بلدهم المدمَّر، يرقصون احتفالًا بـ"نصر" بات يحتاج إلى وضع تعريف موسع كي يضمَّ المعاني الجديدة التي أضفاها على هذه الكلمة روّاد "المقاومة والممانعة" منذ عام 2006  في لبنان وسورية؛ ولا تزال مؤسسات المعارضة وممثليها ينتظرون "الفَرَجَ" من الولايات المتحدة  ومن الأوربيين لعلهم يقتلعون هذا النظام دفعة واحدة، فيتاح لهم تحقيق أحلام ممثليها الخاصة التي حلَّت محلَّ مطالب الشعب الذي يزعمون تمثيله.
تلك ولاشك ثوابت المشهد السوري القائمة والمرئيّة والمرويّة: ثورة السوريين ضد نظام القمع والاستملاك الأبدي، وجرائم النظام الأسدي في الردّ على هذه الثورة قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، مع اتهام "الجماعات المسلحة" بذلك كله، و"كفاح" مؤسسات المعارضة التي تزعم تمثيلهم من أجل إسقاط النظام والحلول محله.
سوى أن المتغيرات تكاثرت حتى كادت، بطغيان وجوهها المتعددة، لا أن تحجب الثوابت عن الأنظار فحسب، بل، وهو الأنكى، أن تحيلها إلى مجرد عناصر ثانوية فيه.
كان أول هذه المتغيرات الذي كان النظام الأسدي قد سعى إلى تحقيقه، تدخل حزب الله لدعمه في قمع ثورة الشعب السوري بحجة "حماية المقدسات"، تدخلٌ جسَّد قرار إيران المتخذ منذ اللحظة الأولى، بعدَ ورغم إعلان تأييدها الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر، والخاص بحماية النظام الأسدي من ثورة الشعب السوري عليه، مهما كان الثمن، ودعمه تمهيدًا لاحتلالٍ لا يقول اسمه. وكان المتغير الثاني فرْضًا نظريًّا، في أول مؤتمر يعقد في جنيف حول الحدث السوري، لمصطلح "الحلِّ السياسي" القائم على مفاوضات تجري بين النظام والمعارضة كان النظام قد رفضها من قبل حين كانت مقاليد الأمور كلها بين يديه، وكان إمكان نجاحها، لو صدق النظام، متاحًا وممكنًا. وكان المتغير الثالث معاصرًا للأول، حين سمع السوريون الثائرون بوجود أصدقاء يتداعون لعقد أول مؤتمر لهم بتونس من أجل دعم ثورتهم ومطالبهم، كي يكتشفوا سريعًا أن هؤلاء الأصدقاء لا يختلفون كثيرًا إلا في نبرة الخطاب عن الخصوم أو الأعداء. ثم جاء المتغير الرابع والحاسم، إلى حين، في المشهد السوري، أي دخول روسيا ميدان المعركة عسكريًا، بعد أن كانت مشاركتها تقتصر على الميدان الدبلوماسي، وذلك لكي تحلَّ شيئًا فشيئًا محل الحكومة السورية في تقرير كل ما يجري على الأرض عسكريًا ودبلوماسيًا. على أن المتغير الذي قلبَ المعادلات جميعًا ولا يقل أهمية عن الأخير، كان دخول ترامب البيت الأبيض وانقلابه على سياسة سلفه أوباما الذي لم يكن التواطؤ أو التوافق غير المعلن بينه وبين بوتين حول السياسة المتبعة في سورية وإيران سرًّا. ففي كل خطوة كان ترامب، ووراءه المؤسسة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية يخطوها في سورية، كانت روسيا هي المستهدفة أساسًا، لا الأسد ولا نظامه. وكان هذا المتغير هو الذي طغى على سواه من المتغيرات وأخضعها لمعاييره.
كان من بعض نتائج هذه المتغيرات ما جرى ولا يزال يجري على الأرض على صعيد التغيير السكاني الهائل الذي يمارس منذ سنوات في مختلف المناطق السورية. فبالإضافة إلى خروج ما لا يقل عن خمسة ملايين لاجئ تفرقوا في أرجاء المعمورة كلها بدءأ بتركيا والأردن ولبنان وليس انتهاءً بأستراليا، كان التغيير السكاني عن طريق التهجير القسري قد بدأ في حمص والقصير ومناطق الجزيرة، ثم امتد إلى مختلف المناطق السورية بلا استثناء، ولم ينته مؤخرًا بكل تأكيد في الغوطة الشرقية. ومن الممكن إلحاق المرسوم 10 الذي يستهدف الاستيلاء على الأملاك العقارية للسوريين الغائبين، بيوتًا وأراضٍ، بهذه التغييرات السكانية التي يعمل الإيرانيون من وراء النظام على تحقيقها. كما أن من نتائجها أيضًا ما أبرمه النظام من اتفاقيات مع داعميْه والتي تدعم ترسيخ الوجود الإيراني والروسي على الأرض السورية للعقود القادمة.
من الواضح أن هذه المتغيرات طغت على الثوابت الأولى. لم تستطع بالطبع محوها، ومن المؤكد أنها لن تتمكن من ذلك. لكنها استطاعت إلغاءها من التداول بالتدريج، حتى بات الحديث عنها يبدو أقرب إلى السذاجة منه إلى الواقعية في توصيف الحدث السوري اليوم. ومما لاشك فيه أن هذه الواقعية تقتضي الإقرار بما بات يفقأ العيون جميعًا: أن نظام الأسد لم يعد يملك من أمره شيئًا مهما هلل البعض لـ"انتصاره" أو لإمكان "استمراره" أو استمرار "تمسك" الدولتيْن المحتلتيْن به؛ وأن سورية اليوم باتت في مهب رياح التنازع بين القوى الكبرى أولًا والإقليمية ثانيًا؛ وأن دول العالم العربي التي كانت قادرة على التأثير فقدت اليوم هذه القدرة كليًا وباتت غائبة أو مُغيَّبة عن المشهد؛ وأن روسيا استطاعت بالتدريج أن تنجح في إزاحة المعارضة السياسية والمسلحة كليًّا من المشهد السوري؛ وأن الشعب السوري الرافض للنظام الأسدي، يجد نفسه، بعد أن هُزم من زعموا وأساؤوا تمثيله، بأمسِّ الحاجة اليوم إلى من يمثله فعلًا وحقيقة، ويعبر عنه ويفرض على الساحة الدولية كلمته الأصل.
لا يفتقر الشعب السوري إلى النساء والرجال القادرين على تمثيله. فهم آلاف مؤلفة من الأفراد يتواجدون مشتتين في جهات الأرض الأربع. ولن يكون بالوسع جمعهم ما لم تتوافر لدى عدد قليل من المخضرمين منهم، ممن لم تلوثهم المطامح أو المكاسب الشخصية، الإرادة والعزيمة والقوة والصبر والعناد فضلًا عن المهارة التي اكتسبوها بالتجربة من أجل وصل ما انقطع، وبعث الحلم الذي يحاول الجميع دفنه أو الحضّ على نسيانه.
تغير المشهد السوري دون أي شك. ولكن هل انتصر النظام الأسدي؟
ربما كان أفضل جواب هو رقص أنصاره في ساحة الأمويين احتفالًا بالنصر على "العدوان الثلاثي"!

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 3 أيار/مايو 2018.