بدرالدين عرودكي
بين
ما يجري اليوم على الأرض السورية من كوارث إنسانية ومادية مستمرة منذ سبع سنوات،
وما يدور على صعيد التصريحات المتناقضة التي تتناقلها الأجهزة الإعلامية العالمية
لهذا الزعيم أو ذاك ممن تتواجد بلادهم وقواتهم على هذه الأرض السورية ذاتها أيضًا،
وبوجه خاص روسيا والولايات المتحدة، أو إيران وتركيا، وما سمعناه أو قرأناه من وعن
قرارات مجلس الأمن، مسافات لا تقاس بالأمتار أو بأضعافها بقدر ما تقاس بعدد السنين
الضوئية. العالم العربي غائب كليًا أو عديم الصوت، ولا حاجة بنا بالطبع إلى ذكر
الجامعة العربية، فهي تقدم، على غرار أمينها العام، صدى صمت البلدان التي تمثلها. كل
ذلك نجد ترجمته أو صداه في تصريحات أو تحليلات المندوب الرسمي لمحتلي سورية الذي
لا يزال يحمل ــ لأسباب عديدة أهمها "الشرعية" المزعومة ــ صفة رئيس
الجمهورية العربية السورية، التي تقول سورية مخياله القادر بصفاقة على تجاهل أكثر
من مليون إنسان بين قتيل وجريح أو معاق بفعل قنابله وبراميله وتهجير أكثر من نصف
سكان البلد، من أجل الوصول إلى شعب يحقق التجانس الذي يتطلع إليه، بوصفه حلًا
لتأبيد وجوده على الكرسي. فإذا ما أضيف إلى كل من سبق أول المعنيين بما يجري، أي
هيئات ومنصات المعارضة ومعها الجماعات المسلحة على اختلاف ألوانها وانتماءاتها
وأسمائها ــ وقد كانت أعداد الأخيرة منها تتجاوز المئات ثم تقلصت إلى العشرات ولا
تزال مستمرة في التقلص ــ لرأينا أن الصمت هو الآخر قد عقد ألسنتهم وألزمهم أضعف
الإيمان: محاولة الإبقاء على أوراق التوت التي يسترون بها سوآتهم.
لا
يعكس ذلك كله سوى حقيقة ملموسة ماثلة للعيان: لم يعد هناك اليوم في سورية يملك
سلطة القرار أو الفعل بخصوص مصيرها. فالنظام الكيمياوي، من ناحيته، ورغم كميات
الرماد الذي يذرُّها في العيون عبر تصريحات رئيسه وأكاذيبه الواعية أو غير الواعية
ومراسيمه وقراراته (كمرسوم التنظيم العقاري الأخير الذي يستهدف استملاك عقارات
المهاجرين والنازحين واللاجئين خارج سورية) والتي تملأ عناوين صحفه وكأن الأمور
عادت في سورية إلى مجراها الطبيعي، فقد كل اعتبار رسمي من حلفائه قبل خصومه. لا
يختلف عنه في ذلك كل هؤلاء الذين فرحوا بإماراتهم ومحاكمهم وسجونهم واستعراضاتهم
العسكرية، أو الذين اتخذوا من معارضة النظام أو محاربته مهنة وتجارة، بعد أن شوهوا
أهداف الثورة ومعانيها، لا من خلال زعم تمثيلها براياتهم أو هيئاتهم
"الشرعية" التي كانت تعكس جهلهم وتكشف حقائق انتماءاتهم وهوية أسيادهم
ومموليهم فحسب، بل كذلك من خلال سلوكهم وممارساتهم التي كانت تعيد إنتاج أشد أشكال
سلوك وممارسات النظام صفاقة وحقارة.
لابد
من الاعتراف مع ذلك بأن النظام الكيمياوي، بخلاف كل معارضيه ومقاتليه، وبحكم ما
أداه من خدمات وما راكمه من خبرات خلال نصف قرن في المجاليْن الإقليمي والدولي، حين
قال كلمته على لسان رئيسه في مآل الثورة التي أرادت اقتلاعه من الأرض ومن التاريخ،
مهدّدًا بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى "حرب عالمية"، لم يكن يبالغ في وصفه
ما بقدر ما كان يعني بكل وضوح أن سورية كانت منذ عهد الأب وبمعرفته، واستمرارًا في
عهد الإبن، قد باتت رهينة لدى عدد كبير من الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا، والتي سرعان
ما تهافتت عليها، حين امتلأت شوارع المدن السورية بمئات الآلاف من السوريين قبل
سبع سنوات، للحصول على موطئ قدم لها ما إن أدرك كلٌّ منها خطورة مآلات الثورة، إن
نجحت، عليها وعلى مصالحها، مقدِّمة خدماتها الاستخباراتية والإلكترونية ثم
العسكرية والتموينية والمالية للحفاظ على النظام ورأسه، بعد أن وجدت فيه استعدادًا
للقبول بكل الشروط مادامت تضمن له بقاءه. لم تكن إيران وحدها بالطبع، بل كانت
معها، وربما قبلها، روسيا التي باتت اليوم سيدة الموقف بعد أن استنفرت طوال سنوات
سبع دعمها العسكري وامتيازاتها الدبلوماسية من أجل المحافظة على النظام وعلى رأسه
خصوصًا، في تواطؤ صريح تارة وضمني تارة أخرى مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لا
يمكن الظن بأن ما سبق قوله خافٍ على أحد اليوم، وخصوصًا على الذين تصدوا دون تكليف
من أحد لتمثيل من خرجوا يواجهون بصدورهم رصاص النظام الذي كانوا ينادون بإسقاطه.
إلا أن من الواضح أن أحدًا منهم لم ينتبه إلى خطورة كل ذلك قبل أن تتم إزاحة
الجميع تقريبًا من المشهد، واحدًا بعد الآخر، وبمختلف الطرق التي أتاحت لروسيا أن
تفرض رؤيتها لما تعتبره الحل السياسي منذ طرحه لأول مرة بجنيف في عام 2012: بقاء
النظام ورئيسه، وإخضاع كل من حمل السلاح ضده بطريقة أو بأخرى.
هكذا،
لم يكن التزامن مؤخرًا بين عمليتي الغوطة الشرقية وعفرين مجرد صدفة بالطبع. لكنه
برهن دون أي شك على أن مصير سورية بات يُصمَّم ويناقش ويتم التفاوض عليه لا في
غياب السوريين، وهم أصحاب القضية المعنيين، فحسب، بل حتى في غياب النظام السوري
نفسه الذي تزعم روسيا وإيران "شرعيته" (مادام يستجيب لمطلب تحقيق
مصالحهما، ومن دون خلاف حولها مع الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أرغمت تركيا
على الكف عن الاعتراض عليها)، ومن ثمَّ، فرأس
النظام لم يعد طرفًا بقدر ما صار منفذًا: لا يفعل سوى أن ينصاع لما يتلقاه من
توجيهات إن في تصريحاته أو في أفعاله سواء بسواء. ولسوف نعيش من الآن فصاعدًا،
ماديًا وواقعيًا، وطأة الاحتلال وتقاسم المناطق السورية بين المحتلين الدوليين
والإقليميين بعد أن نجحت روسيا في الاستفادة من التجزئة القائمة بين القوى
المسلحة، بوجه خاص تلك التي أعلنت هدفها الأول إسقاط النظام الأسدي، ولم تفعل خلال
سبع سنوات شيئًا على الصعيد السياسي في سبيل هذا الهدف.
لم
تكن التكوينات السياسية أفضل حالاً من الجماعات العسكرية في كل هذه المجالات. فهي طبق
الأصل في شرذمتها، وفي مزاعمها، وفي خضوعها لأجندات متباينة لم تكن مصالحها بالضرورة مطابقة لمزاعمها في تمثيل مطالب
السوريين الحقيقية التي دفعوا أبهظ الأثمان بسببها وفي سبيلها. هي الأخرى لم تستطع
أن تجتمع فيما بينها ضمن تكوين واحد، و لا أن تجتمع، ولو على الحد الأدنى: إسقاط
النظام. هي الأخرى، أيضًأ، أعادت إنتاج النظام في سلوكها وفي ممارساتها وفي مزاعمها.
ألم
يكن للنظام الأسدي يدٌ في صنع هذه التكوينات العسكرية والسياسية التي كانت بما
نراه من نتائج عملها خلال السنوات السبع الماضية هي من غدر بالثورة؟
ربما
نعثر على الإجابة الأقرب إلى الواقع عبر مراجعة تحليلية لسلوك هذا النظام عبر
تصريحات مسؤوليه على اختلافهم منذ بدء الثورة، أي منذ أن أعلن عن الإمارات
الإسلامية قبل وجودها، ومنذ أن فتح أبواب سجونه محررًا كل الذين تزعموا هذه
الجماعات المسلحة التي سرعان ما وسمها بالإرهاب كي يقدم نفسه ضحية له، وكذلك منذ
أن قبل التفاوض في جنيف حول حل سياسي لم يعترف به يومًا مثلما لم يعترف بمن
يفاوضهم طرفًا في أي حل.
لم
يكن النظام الكيمياوي من غدر بالثورة مادام قد واجهها ومنذ يومها الأول بكل
الوسائل وبلا حدود. لكنه بلا شك قد استخدم أخبث هذه الوسائل على وجه الدقة كي يمهد
للغدر بالثورة على أيدي ذات الكيانات العسكرية والسياسية التي زعمت أو تصدت
لتمثيلها حين وقعت كلها، ولاسيما تلك التي لم يكن له يد في صنعها، في الشراك التي
نصبها لها.
** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 5 آذار/مارس 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire