jeudi 26 avril 2018



الجاحظ والتَّرجُمَان 
بدرالدين عرودكي 
من الصعب مقاومة إغراء هذا النص القصير البليغ الذي كتبَه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (776 ـ 868 م.) في القرن التاسع الميلادي، أي قبل تسعة قرون، والذي عثرتُ عليه بمحض الصدفة، ولاسيما حين أقرأ فيه: "(...) لابُدّ للتَّرْجُمَان مِنْ أن يكونَ بيانُهُ في نفْسِ الترجمة، في وَزْنِ عِلْمِهِ في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناسِ باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيها سواءً وغايةً."
كما لو أنه، بعد أن قرأ ما ينشر اليوم من ترجمات في عالمنا العربي، قد كتب لنا هذا النصَّ النقدي في الترجمة، نظرية وتطبيقًا، والذي يكاد يكون لا نادرًا فحسب بل فريدًا في التراث العربي القديم حول الترجمة. لكنه كان في الواقع يكتب، وعلى وجه الدقة، حول ما كان يصل إليه ويقرؤه من ترجمات المترجمين في عصره آنئذ، مثل إبن البطريق، وابن ناعمة، وابن فهريز، وابن المقفع، وابن قرة.. إلخ. إذ أنه  يذكرهم بالأسماء في نصِّه هذا الذي يمكن أن نقرؤه في كتابه الموسوعي، كتاب الحيوان، بوصفه نصًا نقديًا يعالج مختلف جوانب مشكلة الترجمة السائدة في عصره، سواء على صعيد النص الأصلي أو على صعيد النص المترجم. وأعترف أنني لا أدري إلى أيّ مدىً حظي هذا النص من اهتمام المؤرخين المختصين في ميدان النصوص اليونانية التي ترجمت إلى العربية في ذلك العصر وتناولها الجاحظ بالنقد في هذا النص.
إذ يبدو أنَّ ما كان القارئ العربي يعانيه في قراءة وفي فهم ما كان يترجم عن التراث الهندي أو الفارسي أو اليوناني في عصر الجاحظ، وقد كان عصر الترجمة الذهبي في الثقافة العربية، هو نفسه ما يعانيه القارئ العربي اليوم في قراءته معظم ترجمات النصوص الغربية أو الشرقية، في العلم وفي الفكر وفي الأدب سواء بسواء. فالمشكلة التي يحدد الجاحظ عناصرها في هذا النص، تتمثل في شروط ومتطلبات الترجمة في ذاتها من ناحية، وفي مستوى المترجم، من ناحية أخرى، من حيث قدراته ومعارفه وسعة إحاطته، لغة ومعنى، بأداء الكلمات وتجليات معانيها في اللغتين، المنقول منها والمنقول إليها. وحين يتساءل الجاحظ شبه ساخر في جملة من هذا النص: "..فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، و (...) مثل أرسطاطاليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟"، فإنه يرفع سقف ما هو مطلوب في نظره من المترجم، فيما وراء معرفته الواسعة باللغتين، وبدلالات الكلمات، وفهمه دقة معانيها في اختلاف السياقات، إلى مستوى التعادل أو التماثل، كي لا نقول التماهي، على صعيد الثقافة المعرفية، مع المؤلف الذي يترجم عنه. وهو ما يوضحه على نحو دقيق لا لبْسَ فيه: "(...) إن التَّرْجُمانَ لا يؤدّي أبدًا ما قاله الحكيم، على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخَفِيَّاتِ حُدُودِه، ولا يقدر أن يُوفّيها حُقوقَها ويؤدي الأمانة فيها ويقوم بما يَلزَمُ الوكيل ويجبُ على الجَرِيِّ؛ وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه."!
من الواضح أن المشكلة لا تزال، جوهريًا، في هذا المجال، على ما كانت عليه قبل تسعة قرون. فإذا كان الجاحظ يتساءل بقدر كبير من الشك عن "التعادل" بل و"التماثل" على صعيد القدرات المعرفية، على الأقل، بين من ترجموا أعمال أرسطو وأفلاطون وبين هذيْن الأخيريْن، فما الذي يمكن قوله اليوم عن مستوى وسعة ثقافة معظم من يتصدون للترجمة ونحن نرى جميعًا نتائج عملهم في ما تلفظه المطابع العربية، من أقصى العالم العربي إلى أقصاه، يوميًا، مما يكاد لا يُقرأ، لا من سوء الترجمة التي تمس حتى عناوين الكتب ودلالاتها فحسب بل وكذلك نتيجة سوء فهم النصوص والصور البلاغية والمفاهيم الفكرية الذي يتكشف لنا واضحًا في محاولاتهم التعبير عنها، فضلًا عن ضروب مختلفة من القفز على كل ما يصعب عليهم فهمه ومن ثمَّ ترجمته؟ فرق كبير بين أن تترجم عنوان كتاب ميلان كونديرا: "خيانة الوصايا"، في حين أن المراد هو: "الوصايا المغدورة". أو أن تترجم عنوانًا آخر له: "حفل التفاهة"، في حين أن المراد هو: "عيد اللامعنى". أو أن تترجم عنوان كتاب برنار لويس: "الإسلام وأزمة العصر" في حين أن العنوان هو: "أزمة الإسلام"!
هكذا يستمد العمل المترجم نقصه من قصور ثقافة المترجم نفسه. إذ كما كتب الجاحظ: "...إذا كان المترجم الذي قد ترجَمَ لا يَكْمُلُ لذلك، أخطأ على قدْرِ نُقصَانِهِ من الكمال. وما عِلْمُ المترجم بالدليل عن شِبْهِ الدليل، وما عِلمُهُ بالأخبار النجومية؟ وما عِلمُهُ بالحدود الخفية؟ وما علمه بإصلاح سَقَطاتِ الكلام، وإسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمه ببعض الخَطْرَفَةِ لبعض المقدمات، وقد علمنا أن المقدمات لابد أن تكون اضطرارية، ولا بد أن تكون مرتبة وكالخيط الممدود. وابن البطريق وابن قُرَّة لا يفهمان هذا موصوفًا  مُنَزَّلًا ومُرَتَّبًا مُفَصَّلًا من مُعَلِّمٍ رفيق ومن حاذقٍ طَبٍّ؛ فكيف بكتاب قد تداولته اللغات واختلاف الأقلام وأجناس خطوط الملل والأمم؟"!
أكثر من ذلك. ليست المشكلة حقيقة كما يرى الجاحظ في نقل البلاغة التي يتميز بها النص الأصلي والتي تبقى عسيرة المنال،  بقدر ما هي أداء المعاني في دقائقها. فلو كان "الحاذق بلسان اليونانيين يرمي إلى الحاذق بلسان العربية ثم كان العربي مقصرًا عن مقدار بلاغة اليوناني، لم يجد المعنيّ والناقل التقصير، ولم يجد اليوناني الذي لم يرض بمقدار بلاغته في لسان العربية بدًّا من الاغتفار والتجاوز.."
لا يزال نص الجاحظ كما نرى راهنا رغم مرور تسعة قرون على كتابته، لاسيما وأن الترجمة باتت مهنة يتصدى لها كل من ظن أنها لا تحتاج إلى أكثر من إتقان لغتين، وهو إتقان نرى نسبيته الفاضحة في كثير من الترجمات التي تقذف بها المطابع العربية إلى السوق بلا حسيب ولا رقيب. ولعل هذا ما يجعل الدعوة إلى ممارسة نقد الترجمات التي تصدر في عالمنا العربي ملحة أكثر من أي وقت مضى. إذ أن هذا النقد ــ حين يقوم به من هم أهل لذلك بالطبع ــ سيفتح المجال واسعًا لتبادل الخبرات على صعد الاجتهاد في ترجمة المفاهيم وتصحيح مسارات الترجمة والمترجمين؛ وهو تبادل يمكن أن يسهم على نطاق واسع في وضع حركة الترجمة على الطريق الذي يجعل منها حركة تفاعل وتبادل حقيقة وفعّالة مع الثقافات الأخرى، قديمها وحديثها.

** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 26 نيسان 2018.


samedi 21 avril 2018



لوعة الديمقراطية حلمًا! 
بدرالدين  عرودكي  
في  العلاقة بين سلطتين، التنفيذية والصحافية، لم تكن ليلة منتصف الشهر الحالي في فرنسا ليلة عادية. فقد خرجت كليًّا عما يمكن اعتباره في الدول الغربية، ومن ضمنها فرنسا بالطبع، من تقاليد العلاقة التي تقوم أثناء المقابلات التي يجريها صحافيون مع رئيس الجمهورية. سوى أن هذه "المقابلة"، كما جرت تلك الليلة وبالطريقة التي نظمت، كانت جديدة كل الجدّة على ما عرفته الجمهورية الخامسة في هذا المجال منذ ولادتها قبل ستين عامًا وحتى اليوم. لا لاختلافها عن التقاليد المتبعة في هذا النوع من المقابلات بالضرورة، بل كذلك فيما أثارته لدى ملايين متابعيها من ناحية، ومن ردود أفعال ممثلي مختلف القوى السياسية التي تنصبّ في معظمها على مسألة الديموقراطية نظرًا وفهمًا وممارسة. إذ بدت "المقابلة" التي دامت ساعتين وثمانية وثلاثين دقيقة كما لو أنها معركة أضفى عليها سلوك الصحافيين في نبرة صوتهما، وطريقة صوغ وطرح أسئلتهما، طابعًا من العنف غير مسبوق في عالم الصحافة السياسية.  
الصحافيان هما جان جاك بوردان، رئيس تحرير إذاعة مونت كارلو وصاحب برنامج اللقاءات السياسية اليومي الذي يحمل اسمه على قناة تلفزيونية إخبارية خاصة (ب ف م ت ف)، وإدوي بلينيل، مؤسس ورئيس تحرير الموقع الإعلامي ميديا بارت. كانا هما من وجها الدعوة إلى رئيس الجمهورية، إمانويل ماكرون، لحوار بعد سنة من انتخابه. وقد قبل الأخير الدعوة في لحظة سياسية حرجة بالنسبة له على صعيدي السياسة الدولية (مواجهة استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام الأسدي) والسياسة الداخلية حول ردود أفعال مختلف الفئات الاجتماعية على القرارات الخاصة بالوضع الضريبي، والشركة الوطنية للسكك الحديدية وموظفي المستشفيات والمراكز الصحية العامة وسواها، والتي جعلت نسبة شعبيته لدى الرأي العام تهبط إلى درجة تنبئ عن غليان اجتماعي حقيقي يمكن أن يهدد كل مشروعاته الإصلاحية.  
لم يكن قبول إمانويل ماكرون إجراء "المقابلة" مفاجئًا. فقد خطط لها كي تجري ضمن إطار حملته الإعلامية التي أراد بها أن "ينزل" من قصره كي يشرح قراراته التي اتخذها أو هو في سبيله إلى اتخاذها في المجالات المشار إليها، والتي أثارت ردود فعل غاضبة لدى قطاعات شعبية واجتماعية واسعة، فضلًا عن اجتماع أقصى اليسار واليمين في موقفهما المعادي لمشاركة فرنسا مع الولايات المتحدة وبريطانيا في معاقبة النظام الأسدي. لكن المفاجآت العديدة تجلت في مجالات أخرى: أولاها كان مكان اللقاء: قصر شايو، الذي عقدت فيه منظمة الأمم المتحدة اجتماعين لجمعيتها العامة وتبنت في أحدهما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. مكان حيادي، لم يتوان الصحافيان، مع ذلك، عن استغلال دلالته السياسية، ولاسيما في مجال المساواة التي أرادا أن تكون قائمة بينهما كصحفييْن وبين رئيس الجمهورية، ما داموا جميعًا "متساوين في المقام وفي الانتماء"، كما قال بوردان في تبريره ذلك.  أما الثانية فقد جاءت من الصحافيين إذ، بمعزل عن حضورهما بلا ربطة عنق (وهو تفصيل أثار الكثير من التعليقات!)، وباستثناء إلقاء التحية إلى "السيد الرئيس" في بداية "المقابلة"، سرعان ما طفقا يتوجهان في مخاطبتهما الرئيس باسمه  الكامل مباشرة ومن دون صفته: إمانويل ماكرون! لم يفاجئ ذلك، كما بدا واضحًا، هذا الأخير الذي تعامل مع الأمر بصورة طبيعية ومن دون ظهور أية علامة رفض أو استنكار. وإذا كان آخرون، من سياسيين وغير سياسيين، قد استنكروا ذلك، فإن بوردان قد ردّ بقوله إنه اعتاد "أن يدعو كل من يقابلهم في الإذاعة وفي التلفزيون بأسمائهم أيًا كانت صفتهم". لم يكن الهدف كما برر الصحافيان سوى "إنزال جوبيتر عن عرشه"، أو أيضًا، "نزع القدسية عن الوظيفة الرئاسية". وهو ما كان واضحًا في رفضهما إجراء المقابلة في قصر الإليزيه. لكن هذا الأخير كان، كما اتضح، يتطلع بقبوله الدعوة إلى استثارة مقابلة مختلفة، تثير الدهشة عبر المفاجأة بما هو غير عادي، وتتيح في الوقت نفسه للرئيس بث ما يريد عبرها من رسائل. لكن ثالثة المفاجآت تجلت، تارة في النبرة، وتارة في طريقة صوغ الأسئلة. سبق لماكرون أن عرف الصحافييْن على نحو كاف من قبل، بما أنه سبق أن التقى كلًا منهما على حدة، في مناسبات عدة، عندما كان وزيرًا في عهد سلفه فرنسوا أولاند، أو، خصوصًا، خلال حملته الانتخابية لمنصب الرئاسة. ولذلك لم يفاجأ بلهجة السؤال الذي بدأ به إدوي بلينيل المقابلة، لكنه اعترض على طريقة صوغ السؤال: هل هو مرافعة أم سؤال؟ يدرك المشاهد بسرعة أنه إذا كانت موضوعات الأسئلة معروفة من قبل بما أن الأحداث الداخلية والخارجية تفرضها، فإن الأسئلة ذاتها لم تكن معروفة من قبل الرئيس، كما جرت العادة أيضًا في المقابلات الرسمية، وكما أعلن ذلك بوردان في بداية "المقابلة". وهذه "العفوية" التي طبعت الأسئلة في صيغتها وفي نبرة طرحها هي التي أضفت على "المقابلة" طابع معركة بين طرفين. يؤكد كل من الصحافيين حريتهما في طرح الأسئلة التي يريدانها لأنهما "ليسا في خدمة من يسألانه"، من ناحية، ولأنهما يريدان، كلٌّ على طريقته، إعادة طرح تلك التي يطرحها الناس في بيوتهم أو في أمكنة عملهم أو لقاءاتهم.
أما النبرة فقد كانت هي إحدى المفاجآت. فنبرة الصحافييْن، ولاسيما تلك التي استخدمها بوردان، لم تكن تخلو من صرامة تكاد تبلغ حدّ العدوانية حين تدعمها نظرات مثبتة على المُخاطَب وملامح وجه غاضب كما لو أنها تعكس غضب الشارع كله. يمكن لمن لم يتابع هذه "المقابلة" الفريدة أن يتخيل هذا الصحافي وهو يبدأ مخاطبة رئيس الجمهورية بقوله: "إمانويل ماكرون! عديد من الفرنسيين يشكون بك، وبخياراتك، ويفقدون صبرهم. هل أنت مشعوذ برز في قلب التاريخ؟ إلى أين تذهب؟ وإلى أين تقودنا؟".  وبهدوء يجيبه: "ربما وضَّحَتْ إجاباتي الأمور، وسوف يحكم التاريخ فيما وراء ذلك".
 قد توافق الرئيس أو لا توافقه على ما قدمه من إجابات. وقد تعجب به أو لا تعجب. لكنك إذا لاحظت أنه استخدم من أجل مواجهة أسئلة الصحافييْن الدقيقة والمحرجة والمُتَحَدّية، كل الوسائل في طرق المحاججة التي تتيحها له لا ثقافته الواسعة فحسب، بل معرفته الدقيقة بكل الملفات التي تعالجها حكومته، إلا أنك لن تستطيع اتهامه بالكذب.
هنا يشعر العربي الذي أتيحت له متابعة اللقاء بين رئيس جمهورية فرنسا وصحفيين محترفين بلوعة الديمقراطية التي يحلم بها.
إذ من العسير عليه ألا يرده هذا اللقاء إلى ما يمكن أن يماثله في بلدان العالم العربي على اختلاف نظمها السياسية. فما أكثر المرات التي كان أمله فيها يخيب كلما سمع رئيسًا أو ملكًا عربيًا يجيب عن أسئلة الصحفيين في المناسبات النادرة التي يقبل أحدهم فيها استقبال صحفي، نادرًا مايكون مواطنًا، وغالبًا ما يكون أجنبيًا، يريد إجراء مقابلة معه. يسأل هذا الصحفي الكثير من الأسئلة، باستثناء تلك التي كان هذا العربي/المواطن يود لو طرحها الصحافي عليه، كي نعلم بعدئذ أن هذه الأسئلة التي سمعها تطرح، قد وضعت من قبل، وعرضت على الرئيس أو الملك، فوافق عليها بعد تعديلها أو حذف البعض منها. قد يخرج الصحفي الأجنبي عن النص أثناء المقابلة مستفيدًا من حصانته المهنية فيسأل السؤال المحرج الذي سبق حذفه، كالسؤال الذي طرحته ذات يوم صحفية أمريكية على بشار الأسد حول إبراهيم قاشوش الذي قتل وانتزعت حنجرته بسبب الأغنية التي رددها وراءه مئات الآلاف بحماه في أوائل أشهر الثورة السورية. هنا يفرض الكذب نفسه على الرئيس. فالقاشوش الذي وصل اسمه إلى أرجاء الدنيا يومها لم يكن قد وصل بعد إلى أسماع بشار الأسد.
لن يختلف الزعماء الآخرون في عالمنا العربي لو خرج سائلهم عن النص المُقرَّر. فالإفلات من الإجابة عن طريق النفي أو الإنكار أو التجاهل في مثل هذه الحالات، لن يتيح أي مجال بعد ذلك للصحافي كي يجرؤ على إعادة طرح السؤال.

 ** نشر على موقع جيرون، يوم السبت 21 نيسان 2018.



dimanche 15 avril 2018



شرف الكلمة المهدور 
بدرالدين عرودكي 
في الحياة الثقافية التي تعرفها المجتمعات الديمقراطية، تتجلى كلمة "لا" ــ وهي تقال فيها على مقامات مختلفة، وتستخدم بمعان عدة في ميادين شديدة التباين فضلًا عن مختلف الظروف والأحوال ــ بوصفها صنو المثقف، كاتبًا أوفنانًا، لا يمكن تصوّره بمعزل عنها. لكن نظم الاستبداد، التي أطبقت منذ ما يقارب سبعين عامًا على صدور البشر والحجر في العالم العربي، حرّمت وجودها شكلًا ومضمونًا في مجتمعاتها، وكان السجن أو القتل نصيب كلِّ من يقترفها بصورة أو بأخرى. ومن ثمَّ فقد دفع من تجرَّأ ــ أو تهوَّرَ في عرف البعض ــ وقالها  ثمنًا باهظًا: سنوات من السجن والإذلال، وربما أيضًا أقصى ما يمكن أن يدفعه: حياته.
كان الصمت في سورية وفي بعض البلدان العربية أحيانًا، وفي هذه الظروف، ملجًا أو منفى. حذرًا وخوفًا من بطش نظم لا رادّ لحُكْمِها أو عن فعلها. وكان هذا الموقف تعبيرًا عن احترامهم لكلمة لا يستطيعون قولها ويأنفون من تشويهها. أو كانوا يقولون الكلام الدقيق بلا حرج معتمدين على مراوغة اللغة، في الشعر أو في القص، يتوسلون بها إلى نقل رؤاهم بلا تنازل ولا تزييف. ذلك ما فعله الكثير منهم حين تغولت الأجهزة الأمنية في العديد من البلدان العربية في رقابتها على كل مكتوب أو منطوق. وكان لابد لكل كاتب من أن يشق طريقه لقول كلمته دون تنازل عن هذه الـ"لا" التي تعبر عن رفضه لكل ما يجري من حوله.
ضمن هذا الإطار وبهذه الطريقة، كتب زكريا تامر قصصه الكابوسية منذ أوائل مجموعاته القصصية التي تلت مجموعته الأولى "صهيل الجواد الأبيض"، مثل "الرعد" و "ربيع في الرماد" "دمشق الحرائق" و"النمور في اليوم العاشر" وسواها، فضلًا عن مقالاته القصيرة التي لم تكن تقل إبداعًا في شراستها النقدية الغاضبة عن قصصه. وضمن هذا الإطار أيضًا، أحال عبد السلام العجيلي ــ وهو غيض من فيض مما فعله طوال مساره كاتبًا قصصيًا ــ هزيمة حزيران إلى هزيمة عرب الأندلس في قصته التي حملت مجموعته عنوانها الدّال: فارس مدينة القنطرة، والتي صدرت على إثر هزيمة حزيران 1967 وسقوط مدينة القنيطرة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وضمن هذا الإطار، بصورة أو بأخرى، أيضًا، وبعد أن كتب التاريخ الروائي للمجتمع المصري خلال النصف الأول من القرن الماضي، كان على نجيب محفوظ وهو يعيش حقبته بكل ما عرفته من تطلعات وآمال وخيبات، أن يكتب بحرية الفنان أهم رواياته التي أفلتت من عين الرقيب بصورة أو بأخرى مع سنوات الستينيات من القرن الماضي ولاسيما في روائعه "القاهرة الجديدة" و"ملحمة الحرافيش" دون نسيان تحفته "أولاد حارتنا" التي، وإن نشرت مسلسلة في صحيفة الأهرام، لم تنشر بعد ذلك ضمن دفتي كتاب في القاهرة. ولو حاولنا إعادة قراءة صلاح عبد الصبور أو أمل دنقل على سبيل المثال لا الحصر، لوجدنا أن الشعراء لا يختلفون في ذلك عن الروائيين لا في رفضهم ولا في تمسكهم بشرف الكلمة التي  كانت لديهم بهذه الصفة، وكما برهنوا بالفعل، أساس وجودهم.
لكن آخرين، من الذين اتخذوا الثقافة مهنة، وقدموا أنفسهم على أنهم يؤدون رسالة، استطاعوا أن يعثروا على تسوية يقولون عبرها الكلمة المعنية بصورة مراوغة على مقام آخر، مختلف، بحيث تسمح لهم بكل ضروب المزاودة في مختلف المجالات: الحداثة، والعلمانية، والثورية. وفي ظل السلطة الذي يتفيأون به، كانوا يزينون للناس أنهم استطاعوا بفضل حنكتهم إقناع السلطة، التي يعيشون في ظلها ويتمتعون بما تسبغه عليهم من فتات نعمها، وحملها على أن تتبنى المعاني التي يضفونها على هذا المفهوم أو ذاك. وهو ما يجيز لهم، من ثمَّ، أن يتماهوا في هذه السلطة التي كانت قد تبنتهم بعد أن روّضتهم وجعلت منهم محامييها ومعارضيها في الوقت نفسه. يستوي في هذا المجال صغار المثقفين وكبارهم، وخصوصًا حين تلتقي نوازعهم الأيديولوجية أيًا كانت طبيعيتها ومرجعيتها، مع شعارات هذه السلطة التي تسوّق بها لنفسها أمام شعبها.
لدى كبارهم بوجه خاص. إذ من المضحكات المبكيات مثلًا، أننا وقد عزفنا عن قراءة نقدية معمقة لكتابه الأساس "الثابت والمتحول، لم ننتبه إلى ما كان ينطوي عليه شعر صاحبه من أبعاد فكرية ودينية وسياسية تضمنها كتابه النثري هذا. وكان لابد من الثورة السورية كي ترغم على وضع الأمور في نصابها بعد أن كشفت المستور. ألم نكن أمام فضيحة فكرية وثقافية وسياسية حين قرأنا للمرة الأولى شاعرًا سوري الأصل، ملأ دنيا خمسينيات وستينيات القرن الماضي ثم انصرف إلى العناية بخلود اسمه في مختلف اللغات الأخرى دون أن ينسى قوت يومه بالطبع وقد صار شديد الغلاء، يكتب رسالة مفتوحة إلى "الرئيس المنتخب" في بلد مهبط رأسه سورية، في الوقت الذي كان يعلم، كما يعلم جمهور قارئيه أو مستمعيه، أنه كان بذلك يزيف أمام الملأ جميعًا معنى "الانتخاب" لغويًا وواقعيًا وسياسيًا؟ أليس غريبًا أن يتحدث الشاعر نفسه عن القطيعة المعرفية الكاملة كضرورة حاسمة للدخول في الحداثة في الوقت الذي كان يجعل من الإمام محمد بن عبد الوهاب أحد رواد التنوير في عصر العرب الحديث، أو أن يصلي للثورة الإيرانية بعد هيمنة آيات الله عليها إثر فعل سرقة موصوفة، شعرًا، عبر قصيدة كشفت في محتواها ودلالاتها ومناسبتها عن كل مخزونه العاطفي والديني والفكري؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما سبق وبين قيامه، أمام جمهوره الغربي ــ على قلته ــ  بمهاجمة النظم الديكتاتورية العربية، وعجز العالم العربي عن النهوض بفعل هيمنة الدين في مسامات مجتمعاته؟
لسنا أمام مثقف حذر أو خائف لكي يعبر عن مثل هذه الآراء التي أثارت سخط قطاع كبير من الرأي العام العربي. بل أمام مثقف يتخذ موقفًا ينسجم كل الانسجام مع طروحاته التي عبر عنها دومًا في نثره وفي شعره ولم تحظ في وقتها بمن يفككها ويبين مدى تهافتها فكريًا وتاريخيًا. وهي مواقف وضحت دلالاتها منذ انطلاق الثورة السورية عندما اتهمها بالسلفية لمجرد خروج الناس في مظاهراتهم من المساجد، متناسيًا أو متجاهلًا ــ على غرار النظام الذي كان ينادي رئيسه بالمنتخب ــ كل العوامل التي جعلت من المتظاهرين ــ مسلمين ومسيحيين معًا ــ يختارون المساجد نقطة تجمع لهم.
هذا الموقف ينبئ أيضًا عن مثيل له في اختيار السلطة لا خوفًا منها ولا حذرًا، بل يعبر عن تماه كامل في خياراتها وشعاراتها، بل وفي أكاذيبها ومبالغاتها؛ ذلك الموقف، عبر عنه مثقف آخر، شاعر وفنان تشكيلي، لا يمكن أن يُقرًا مثيله بقلم كاتب يدرك معنى الحرية وشرف الكلمة. إذ كيف يمكن فهم جمل من هذا القبيل: "الآن الجيش السوري لا يخوض حربًا... إنه يقوم بمحاكمة مجرمين ودول مجرمة. الجيش السوري، الآن، هو المرجع."؟ كطيف يمكن أن يكتبها شاعر وفنان تشكيلي في الوقت الذي يطلق فيه من يسميه هذا "الجيش"، نفسه، قنابله وبراميله وغازاته الكيمياوية لا على الدول المجرمة ومجرميها بل على الأطفال والنساء والمدنيين العزل؛ في الوقت الذي كان هذا الجيش نفسه يقتل المدنيين في البيوت والمستشفيات وأمام المخابز وفي الأسواق؟  هل يعلم ذلك أو يتجاهله؟ هل يعلم ذلك أم يرى أن كل ما يقال على هذا النحو ما هو إلا  تلفيق من قبل "المجرمين والدول المجرمة"؟
موقفان يعكسان اليوم مواقف العديد من مثقفي النظام الأسدي اليوم في سورية، سواء في قفزهم على الحقائق العيانية المؤلمة التي تستصرخ العقل والوجدان، أو في إعادتهم تدويرها كي تصير على ألسنتهم وفي كتاباتهم أكاذيب لا طائل من ورائها.
هنا، لا وجود لدى هؤلاء لكلمة "لا".
و من الواضح أيضًا أن لا معنى أيضًا، لديهم، لشرف الكلمة حين يهدروه بصفاقة واعية.

** نشر على موقع جيرون، يوم الأحد 15 نيسان 2018.



jeudi 5 avril 2018



من غدر بالثورة السورية؟ 

بدرالدين عرودكي 
بين ما يجري اليوم على الأرض السورية من كوارث إنسانية ومادية مستمرة منذ سبع سنوات، وما يدور على صعيد التصريحات المتناقضة التي تتناقلها الأجهزة الإعلامية العالمية لهذا الزعيم أو ذاك ممن تتواجد بلادهم وقواتهم على هذه الأرض السورية ذاتها أيضًا، وبوجه خاص روسيا والولايات المتحدة، أو إيران وتركيا، وما سمعناه أو قرأناه من وعن قرارات مجلس الأمن، مسافات لا تقاس بالأمتار أو بأضعافها بقدر ما تقاس بعدد السنين الضوئية. العالم العربي غائب كليًا أو عديم الصوت، ولا حاجة بنا بالطبع إلى ذكر الجامعة العربية، فهي تقدم، على غرار أمينها العام، صدى صمت البلدان التي تمثلها. كل ذلك نجد ترجمته أو صداه في تصريحات أو تحليلات المندوب الرسمي لمحتلي سورية الذي لا يزال يحمل ــ لأسباب عديدة أهمها "الشرعية" المزعومة ــ صفة رئيس الجمهورية العربية السورية، التي تقول سورية مخياله القادر بصفاقة على تجاهل أكثر من مليون إنسان بين قتيل وجريح أو معاق بفعل قنابله وبراميله وتهجير أكثر من نصف سكان البلد، من أجل الوصول إلى شعب يحقق التجانس الذي يتطلع إليه، بوصفه حلًا لتأبيد وجوده على الكرسي. فإذا ما أضيف إلى كل من سبق أول المعنيين بما يجري، أي هيئات ومنصات المعارضة ومعها الجماعات المسلحة على اختلاف ألوانها وانتماءاتها وأسمائها ــ وقد كانت أعداد الأخيرة منها تتجاوز المئات ثم تقلصت إلى العشرات ولا تزال مستمرة في التقلص ــ لرأينا أن الصمت هو الآخر قد عقد ألسنتهم وألزمهم أضعف الإيمان: محاولة الإبقاء على أوراق التوت التي يسترون بها سوآتهم.
لا يعكس ذلك كله سوى حقيقة ملموسة ماثلة للعيان: لم يعد هناك اليوم في سورية يملك سلطة القرار أو الفعل بخصوص مصيرها. فالنظام الكيمياوي، من ناحيته، ورغم كميات الرماد الذي يذرُّها في العيون عبر تصريحات رئيسه وأكاذيبه الواعية أو غير الواعية ومراسيمه وقراراته (كمرسوم التنظيم العقاري الأخير الذي يستهدف استملاك عقارات المهاجرين والنازحين واللاجئين خارج سورية) والتي تملأ عناوين صحفه وكأن الأمور عادت في سورية إلى مجراها الطبيعي، فقد كل اعتبار رسمي من حلفائه قبل خصومه. لا يختلف عنه في ذلك كل هؤلاء الذين فرحوا بإماراتهم ومحاكمهم وسجونهم واستعراضاتهم العسكرية، أو الذين اتخذوا من معارضة النظام أو محاربته مهنة وتجارة، بعد أن شوهوا أهداف الثورة ومعانيها، لا من خلال زعم تمثيلها براياتهم أو هيئاتهم "الشرعية" التي كانت تعكس جهلهم وتكشف حقائق انتماءاتهم وهوية أسيادهم ومموليهم فحسب، بل كذلك من خلال سلوكهم وممارساتهم التي كانت تعيد إنتاج أشد أشكال سلوك وممارسات النظام صفاقة وحقارة.
لابد من الاعتراف مع ذلك بأن النظام الكيمياوي، بخلاف كل معارضيه ومقاتليه، وبحكم ما أداه من خدمات وما راكمه من خبرات خلال نصف قرن في المجاليْن الإقليمي والدولي، حين قال كلمته على لسان رئيسه في مآل الثورة التي أرادت اقتلاعه من الأرض ومن التاريخ، مهدّدًا بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى "حرب عالمية"، لم يكن يبالغ في وصفه ما بقدر ما كان يعني بكل وضوح أن سورية كانت منذ عهد الأب وبمعرفته، واستمرارًا في عهد الإبن، قد باتت رهينة لدى عدد كبير من الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا، والتي سرعان ما تهافتت عليها، حين امتلأت شوارع المدن السورية بمئات الآلاف من السوريين قبل سبع سنوات، للحصول على موطئ قدم لها ما إن أدرك كلٌّ منها خطورة مآلات الثورة، إن نجحت، عليها وعلى مصالحها، مقدِّمة خدماتها الاستخباراتية والإلكترونية ثم العسكرية والتموينية والمالية للحفاظ على النظام ورأسه، بعد أن وجدت فيه استعدادًا للقبول بكل الشروط مادامت تضمن له بقاءه. لم تكن إيران وحدها بالطبع، بل كانت معها، وربما قبلها، روسيا التي باتت اليوم سيدة الموقف بعد أن استنفرت طوال سنوات سبع دعمها العسكري وامتيازاتها الدبلوماسية من أجل المحافظة على النظام وعلى رأسه خصوصًا، في تواطؤ صريح تارة وضمني تارة أخرى مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يمكن الظن بأن ما سبق قوله خافٍ على أحد اليوم، وخصوصًا على الذين تصدوا دون تكليف من أحد لتمثيل من خرجوا يواجهون بصدورهم رصاص النظام الذي كانوا ينادون بإسقاطه. إلا أن من الواضح أن أحدًا منهم لم ينتبه إلى خطورة كل ذلك قبل أن تتم إزاحة الجميع تقريبًا من المشهد، واحدًا بعد الآخر، وبمختلف الطرق التي أتاحت لروسيا أن تفرض رؤيتها لما تعتبره الحل السياسي منذ طرحه لأول مرة بجنيف في عام 2012: بقاء النظام ورئيسه، وإخضاع كل من حمل السلاح ضده بطريقة أو بأخرى.
هكذا، لم يكن التزامن مؤخرًا بين عمليتي الغوطة الشرقية وعفرين مجرد صدفة بالطبع. لكنه برهن دون أي شك على أن مصير سورية بات يُصمَّم ويناقش ويتم التفاوض عليه لا في غياب السوريين، وهم أصحاب القضية المعنيين، فحسب، بل حتى في غياب النظام السوري نفسه الذي تزعم روسيا وإيران "شرعيته" (مادام يستجيب لمطلب تحقيق مصالحهما، ومن دون خلاف حولها مع الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أرغمت تركيا على الكف عن الاعتراض عليها)، ومن ثمَّ،  فرأس النظام لم يعد طرفًا بقدر ما صار منفذًا: لا يفعل سوى أن ينصاع لما يتلقاه من توجيهات إن في تصريحاته أو في أفعاله سواء بسواء. ولسوف نعيش من الآن فصاعدًا، ماديًا وواقعيًا، وطأة الاحتلال وتقاسم المناطق السورية بين المحتلين الدوليين والإقليميين بعد أن نجحت روسيا في الاستفادة من التجزئة القائمة بين القوى المسلحة، بوجه خاص تلك التي أعلنت هدفها الأول إسقاط النظام الأسدي، ولم تفعل خلال سبع سنوات شيئًا على الصعيد السياسي في سبيل هذا الهدف.
لم تكن التكوينات السياسية أفضل حالاً من الجماعات العسكرية في كل هذه المجالات. فهي طبق الأصل في شرذمتها، وفي مزاعمها، وفي خضوعها لأجندات متباينة لم تكن مصالحها  بالضرورة مطابقة لمزاعمها في تمثيل مطالب السوريين الحقيقية التي دفعوا أبهظ الأثمان بسببها وفي سبيلها. هي الأخرى لم تستطع أن تجتمع فيما بينها ضمن تكوين واحد، و لا أن تجتمع، ولو على الحد الأدنى: إسقاط النظام. هي الأخرى، أيضًأ، أعادت إنتاج النظام في سلوكها وفي ممارساتها وفي مزاعمها.
ألم يكن للنظام الأسدي يدٌ في صنع هذه التكوينات العسكرية والسياسية التي كانت بما نراه من نتائج عملها خلال السنوات السبع الماضية هي من غدر بالثورة؟
ربما نعثر على الإجابة الأقرب إلى الواقع عبر مراجعة تحليلية لسلوك هذا النظام عبر تصريحات مسؤوليه على اختلافهم منذ بدء الثورة، أي منذ أن أعلن عن الإمارات الإسلامية قبل وجودها، ومنذ أن فتح أبواب سجونه محررًا كل الذين تزعموا هذه الجماعات المسلحة التي سرعان ما وسمها بالإرهاب كي يقدم نفسه ضحية له، وكذلك منذ أن قبل التفاوض في جنيف حول حل سياسي لم يعترف به يومًا مثلما لم يعترف بمن يفاوضهم طرفًا في أي حل.
لم يكن النظام الكيمياوي من غدر بالثورة مادام قد واجهها ومنذ يومها الأول بكل الوسائل وبلا حدود. لكنه بلا شك قد استخدم أخبث هذه الوسائل على وجه الدقة كي يمهد للغدر بالثورة على أيدي ذات الكيانات العسكرية والسياسية التي زعمت أو تصدت لتمثيلها حين وقعت كلها، ولاسيما تلك التي لم يكن له يد في صنعها، في الشراك التي نصبها لها.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 5 آذار/مارس 2018.